مسكين!١

كتب تحت هذا العنوان يُعَزِّي عزيزًا في عزيز:

لست أرى امرءًا أَحَقَّ بالشفقة وأولى بالرحمة من هذا الذي قَدَّر لنفسه طول السلامة ودوامَ الأمن، فلم يُدْخِل قَطُّ في حسابه صروفَ الأقدار، ولا ما عسى أن يجيء به الليل والنهار، حتى إذا امْتَحَنَهُ الدهر في نفسه أو في ولدِهِ، أو في أحبِّ الناس إليه من أهله وغير أهله، انخلع قلبُه، وكاد الهلع يأتي عليه؛ ورأى أنَّ صبْرَه أوْهَنُ من أن يَحْتَمِل الرزيئة، وجَلَدَهُ أرَقُّ من أن يصمد لما حاق به من البلاء!

وطُولُ الجَزَع إذا لم يُوَرِّث العِلَّة ويُخَلِّف الداء، فإنه قَمِينٌ بأن يُكَدِّر العيش ويُخَبِّث النفس، حتى لا يكاد المرء يرى في هذه الدنيا إلا ظلامًا وَوَحْشَة ومنكرًا ومكروهًا، وماذا لعمري وراءَ ذلك من مفسدات الحياة؟

كل هذا من ركون الإنسان إلى مُوَادَعة الدهر، والتفاته عن مواقع مِحَنِه ورزاياه، ولو قَدَّر هذا وأعاره صدرًا مِن لَحْظِه، وأولاه شَطرًا من تقديره، لأخَذَ نَفْسَه بالاستعداد لكل ما عسى أن يكون: فراضها على احتمال المكروه، وطامنها إلى أن الإنسان ما دام قائمًا في هذه الحياة فهو هَدَفٌ لأحداث الزمان، فإذا وَقَعَت الواقعة كان من القوة والجلد والتمنُّع بحيث لا يهدُّه الجزَع، ولا يقوضه الحادث الجسام.

اللهم إنه لا عُذْر لنا في الغفلة عن صروف القدر، والاستراحة إلى موادعة الأيام، وهذا الدهر — من يوم كان الدهر — لا يزال يرمي بسهامه دراكًا عن أيماننا وعن شمائلنا، ومن قدامنا ومن ورائنا؛ فلا يطيش له سهم أبدًا، فلماذا نُقَدِّر لنا نحن السلامةَ والأمنَ والعافيةَ على طول الزمان؟

هذا الموت! ومن ذا الذي سلم على الموت، ومن ذا الذي سيسلم على الموت؟ إليه مصير كل حي، ولا حيلة فيه أبدًا كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ تعالى الله، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ صدق الله العظيم.

ومع هذا فإذا جاء هذا الحق الذي لا ريب فيه، والذي لا مَفَرَّ لأحد منه، فامتحننا في ولد أو في قريب أو في حبيب، تَصَدَّعَتْ كبودنا، وتَفَرَّقَتْ أحشاؤنا وطارَتْ كل مَطَارٍ أحلامُنا، واشتد إنكارنا لهذا الموت كأنه لم يُكْتَب قط علينا، وكأن القدر قد ضَمِنَ لنا السلامة عليه، وكَتَبَنَا دون الخلق جميعًا في سجل الخالدين!

يا ويلنا من غفلتنا! يا ويلنا من إحسان ظنوننا بالأيام!

ليس الزمان هو الذي يَخْدَعُنا، ولكنا نحن الذين يخدعون أنفسهم عن صَرْف الزمان! وإننا لنُجْزَى على هذه الخديعة جزاءنا الأوفى، إذ نُضَاعَف بمصيبة الرَّوْع والهَلَع مصيبة الفقد والحرمان!

•••

لا تجزع يا أخي ولا يُسْرِف فيك الأسى، وما خَيْرُك في أن تَتْلِف وتُتْلِف أَنْفُسًا معك، على حين لا تُجْدي بذاك حَيًّا ولا مَيِّتًا؟

خُذْ نَفْسَك بالصبر، وكَلِّفْها التجلد، وأَلْقِ مصابك بالعزم الشديد؛ فذلك الأخلق بالرجال، لا أسألك يا أخي ألا تحزنَ، ولا أريدك ألا تبكي، فإنني بهذا أُجَشِّمك ما ليس في الطباع، وأريدك على ألا تكون لك عاطفة تَتَرَقْرَق، وكَبِدٌ تَحِنُّ، ولُبٌّ يَسِيل بالذكرى، وعَيْن تَتَبَادر بالدمع على من ذُقْتَ فيهم لوعة الفراق!

بل ابْكِ، فمن الدمع ما أَسْكَنَ مِنْ وَخْز الحَشَا، ومن الدمع ما أَهْدَأَ مِنْ غَمْز الكبد، ومن الدمع ما أَبْرَدَ من لوعة الملتاع.

ابْكِ، ولكن بكاءَ رقة ورحمة، وشَتَّانَ بين عين تَذْرِف الدمع من شدة الهول والهلع، وبين عين تَفِيض بالدمع من الرحمة والحنان!

ولعلك في لوعتك وشدة ولَهِك ذَاكِرٌ قَوْل كُثَيِّر:

فَقُلْتُ لها يا عَزُّ كُلُّ مصيبةٍ
إذا وُطِّنَتْ يومًا لها النفسُ ذَلَّتِ

أعانك الله يا أخي، وشد بالصبر عزمك، وثَبَّتَ بالإيمان قلبك.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

١  نُشِرَت في جريدة «المصري» في نوفمبر سنة ١٩٣٦ في «حديث رمضان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤