إسماعيل١

لقد نَفَضْنا أيدينا من تُرابه، ورَجَعْنا عنه مُنْهَزِمين بيْن يَدَي القَدَر.

وا رحمتاه! أيدري الناس ماذا صنعوا اليوم؟ لقد كَفَّنوا الجمال كله في بُرْد، وأودَعوا الأدبَ أَجْمَعَه في لَحْد، وراحوا من بعده سُكَارى وما هم بسكارى ولكن الخَطْب فيه جليل.

إسماعيل! أين ذلك العِلْمُ الذي بَرَعْتَ به الأقران، وأين ذلك الفضل الذي أَوْفَيْتَ به على مقدور الزمان، وأين تلك الشمائل، كأنما قُدَّت من الورد والأقاحي، وأين تلك الخلال قد اسْتُعِيرَتْ من نسيم الصباح؛ وأين هذا العقل والذكاء، أين هذا الأدب والحياء، أين هذا الإخلاص والوفاء، أين هذا البر والسخاء، أين تلك الهمة القعساء، أين تلك العزمة التي أنافَتْ على الجوزاء؛ أينَ رجاءٌ للأمة بك مرصود، أين أملٌ للوطن فيك معدود؟ كل هذا كان يَسْتَجِمُّه الدهر للموت يا إسماعيل؟

لقد سَخَتِ الدنيا بِكَ سخاء
لم يُسْمَعْ بمثله في سَالِف الأيام

برَزْتَ يا إسماعيل إلى ميدان الحياة فتيًّا مقدامًا، لم تَنْخَذِل لك فيه ساق، ولم تَصْطَكَّ لك كسائر الناس قَدَم، بل أَبَتْ عليك تلك العزمةُ الهائلةُ الجريئة إلا أن تَقْطَع الشوط كله بوثبة واحدة، فَبَلَغْتَ المدى في مثل طرفة العين، وماذا بعد الحياة إلا الموت يا إسماعيل؟

حَسِبَ الناسُ إذ رأوك أن سُنَّة الحياة قد تَبَدَّلَتْ في الخلق، وأن النبوغ جميعه يمكن أن يتهيأ للمرء في فَجْر العمر، وما درَوْا أن نفسك العبقرية هي التي كانت تطير في العمر حتى تَنَاوَلَتْ آخِرَه، فمُتْ شيخًا وأنت بعد في مَيْعَة الصبا وباكورة الشباب.

لقد قضيت أيامك القِصارَ الطوال، في حرب مع المَنِيَّة ونضال، فما صارَعَتْ في حماك مريضًا إلا صَرَعْتَهَا، ولا قارَعَتْ بين يديك عليلًا إلا قَرَعْتَها، حتى أصابتْكَ من مأمَنِكَ، وعمدَتْ إليك في المعركة وأنت تستخلص من لهوتها نفسًا فرمتك بتلك اليد العسراء، فرُحْتَ الشهيد الكريم شهيد العلم والمروءة والوفاء.

لقد رماك الدهرُ بالأرزاء يافِعًا، فاضْطَلَعْتَ بحِمْلك الثقيل صابرًا، ومَضَيْتَ لِطِلْبَتِك العظيمة في الحياة، تقتحم إليها العقبة بعد العقبة، ضاحك السن، طَيِّبَ النفس، حتى إذا جُزْتَها كُلَّها، وانطلَقَت الآمال تُهَيِّئ لك ذلك المكانَ الرفيعَ الذي يعتليه المقاديم النابغون، إذا بِيَدِ القدر قد سَبَقَت فمَهَّدَت لك هذا المضجع في جوانب القبر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لَهْفِي عليك! أي عين لم تَدْمَع، وأي نفس لم تَجْزَع، وأي كَبِد لم تَتَصَدَّع، وأي يقين لم يَتَزَعْزَع؟

لقد كان يُدْعَى لابِس الصبر حازمًا
فأصبح يُدْعَى حازمًا حين يَجْزَعُ

تلك حيلة الناس في عزائك، لو كان يُلْتَمَس في مثل رزئك السُّلوان، فاللهم أَفِضْ على عيوننا من الدمع بقدر ما يَشِبُّ في قلوبنا من لوعة أسًى، ويذكو في صدورنا من حُرْقَة جَوًى، فتلك على «ضيائي» نعمة الصبر والعزاء.

يا مَنْ خَلَقْتَ الدمع لُطـْ
ـفًا مِنْكَ بالعبد الحَزِينْ
بارِكْ لِعَبْدِكَ في الدُّمُو
عِ فإنها نِعْمَ المُعِينْ
١  هو المرحوم الدكتور إسماعيل ضيائي من قَرابة المؤلف، وقد أُلْقِيَت المرْثِيَّة على قَبْره ساعةَ دَفْنِه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤