في الفن١

لا أحاول أن أعالج في هذا الباب بحثًا علميًّا يقوم على نظم الأدلة ومدافعة الشُّبَه، إنما أريد أن أعرض ما سنح لي فيه من الخواطر وما تنَظَّر٢ من الأفكار.
إنك لترى المرأة التامة أو الفتاة الكَعاب فيتداخلك العجب بها فتروح تهتف بجمالها، وإنك لترى طاقةَ الزهر قد ائتلفت وتناسقت أنوارها٣ فتروح تهتف بجمالها، وإنك لتسمع الصوت فيلذ لك جوهرُه، ويُطْرِبُك إيقاعه، وتحلو لنفسك نَبْرَته ولُطْف تنغيمه، فتروح تهتف بجماله، وإنك لترى البيتَ يروقك منظره، ويعجبك حسن نظامه، فتروح تهتف بجماله، وكذلك القول في كل ما يخلبك ويروعك مما يقع لحسك، ولا شك في أن ما يعتريك عند هذا كله من الانفعال إنما هو من أثر الجمال في نفسك، ولو قد أقبلْتَ على نفسك تِيكَ تسائلها: ما الجمال؟ ما استرحت منها إلى جواب!

أما الجمال فموجود حقًّا، وإن محاولة التدليل على وجوده لَضرْب من العبث، وهو مُدْرَك حقًّا، لأننا نحسه ونشعر به كلما تجلى علينا في معنًى من معانيه.

نعم، نحن نحس الجمال في الإنسان، ونحسه في الحيوان، وفي النجوم الآلقة، وفي الآجام الباسقة، وفي اللج القامس،٤ وفي الجبل الشامس،٥ وفي الغدير الناعس، وفي الزهرة تَطَلَّعَتْ من كمها، وعاذت بغصنها عياذ الطفلة بثدي أمها، كما نُحِسُّ الجمال من حلق المغني، ويد العازف، وريشة المصور، وشِعْر الشاعر، ورسم المهندس، وغير أولئك من كل حاذق صَنَّاع.

نُحِسُّ الجمال ونشعر به، وكثرة الناس على الأقل ترتبه في كل مظهر من مظاهره على درجات، فيقولون: هذه الخريدة أجمل من تلك الخريدة، وهذه الطاقة أبهى من تلك الطاقة، وهذا الإناء أظرف من ذلك الإناء، وهذا الصوت أحلى من ذلك الصوت، وهذا المصور أبرع من ذلك المصور، وهذا الشاعر أَرْوَع من ذلك الشاعر إلخ.

ولو قد سألتهم القاعدة التي رَسَمَتْ لهم حدود الجمال، وعرَّفَتْهُم جميع منازله، حتى فَضَّلُوا بعض مظاهره على بعض لأعياهم الجواب، ذلك بأنهم لا يرجعون في حُكْمهم ولا في تقديرهم إلى قواعد محدودة معينة، كما يرجعون بجزئيات النحو والمنطق مثلًا إلى قواعد محدودة معينة، فيقولون هذا التعبير يصح على لغة التميميين دون الحجازيين، أو أنه إنما يجري على لُغَيَّة، أو أنه شاذ، أو أنه لحن صريح، وأن هذه القضية منقوضة، أو أن هذا القياس مُخْتَلٌّ لأن صغرى مقدماته لا تندرج في كبراها، بل إنهم إنما يرجعون في قضية الجمال وترتيبه في كل سبب من أسبابه، وإيثار بعض مظاهره على بعض، إلى ما يروقهم ويخلبهم ويتمشى في نفوسهم من الطرب والإعجاب.

وهنا لا نجد بدًّا من أن نعود فنقول ما الجمال؟ لا أحسب أحدًا من الناس وُفِّق إلى إدراك كُنْه الجمال فحده بذاتياته حدًّا، على تعبير المَنَاطِقة وإن كانوا عرفوه بآثاره، ولعل أدنى تعريفات الجمال إلى الصواب: أنه كل ما يستريح إليه الذوق ويثير الإعجاب في النفس.

ولقد حاول الصدور الأولون أن يضبطوا حدود الذوق، ويدلوا على ما يُرْضِيه وما يَنْشُز عليه، فوضعوا فيما وضعوا في هذا الباب فن الموسيقى، وعلوم البلاغة.٦

وهنا ينبغي أن يفهم النشء حق الفهم أن استمداد مثل هذه الفنون ليس من الأمور الواقعة، ولا هو من أحكام العقل، كاستمداد علوم الكمياء والطبيعة، والحساب والمنطق مثلًا، إنما مادتها الذوق السليم، وتَعَرُّف ما يرضيه، وتقَصِّي ما يُطْربه، وعلى هذا أجْرَوْا قواعدهم، وفي حدوده أطلقوا أمثلتهم وشواهدهم.

وأُحِبُّ بعد هذا، أن تَعْرِفَ فرقًا جليلًا بين شأن العلوم وشأن الفنون، فإنك بمدارسة العلوم والتمرين فيها، تستطيع أن تكون بقدر ما منتِجًا، أي تكون كيميائيًّا أو طبيعيًّا أو حاسبًا، أما في الفنون فإنك في الأكثر، تستطيع أن تكون بصيرًا بالفن ومميِّزًا بين جيد الصنعة ورديئها، كما تستطيع أن ترفع جيدها في التقدير درجات على درجات، وتَحُطَّ رديئها درجات دون درجات، أما أن فن الموسيقى يؤهلك لأن تكون مغنيًا بارعًا أو عازفًا رائعًا، وأن علوم البلاغة تستطيع أن تُخْرِجَ منك كاتبًا لبقًا أو شاعرًا فحلًا، فذلك ما تتحسر دونه تلك الفنون!

ذلك أن البراعة في هذه الفنون الجميلة إنما ترجع أولًا إلى الاستعداد والطبيعة وتهيؤ المَلَكَة، على أن التعليم والتهذيب إنما يصقلان الطبيعة صَقْلًا ولا يخلقانها خلقًا، وإنك وإن غيرك ممن جَرَوْا من أصول الصنعة على عرقٍ، لتقضون بالتفوق والتبريز لهذا المغني على ذلك المغني إذ أنتم كلكم جازمون بأن هذا المسبوقَ أبْلَغ خبرة وأغزر علمًا، كما قد تحكمون بأن هذا الشاعر أبلغ من هذا الشاعر وأحلى كلامًا، وأبرع منزعًا، وأروع مَقْطَعًا، إذ أنتم كلكم قاطعون بأن هذا المبروع أوسع باللغة علمًا، وأكثر لعلوم البلاغة تحصيلًا وأصدق فهمًا!

والوجه في هذا أن العلوم التي تستند قضاياها إلى العقل أو إلى الواقع كالحساب والمنطق والطبيعة، إنما يكون التبريز فيها في العادة على قَدْر ما حَصَّل المرء من قواعدها، وتَفَهَّمَ من قضاياها ومسائلها، أما الفنون التي تستند قضاياها إلى الذوق، فالبراعة فيها إنما تجري على براعة الذوق نفسه، لا على العلم بالقضايا الاصطلاحية التي تحرى بها علماء الفن ضَبْطَ ما يُرْضِي هذا الذوق وما يَنْشُز عليه، وإنك لا تجد في الدنيا رجلًا واحدًا درس فن الطبقة وضروب النغم، وضبط حدودها، وعرف ما يستقيم على الصبا وما يتَّسِق من التناغيم للعراق، ثم أقبل يمط حلقه متأثرًا هذه القواعد الفنية، فانتظم مغنيًا حاذقًا يشيع الطرب ويبعث الأريحية في الناس!

وكذلك قُلْ في سائر هذه الفنون، وإنك لتجد آلافًا من الناس أعلَم مِنْ مِثْل شوقي بمتن اللغة وبأوزان الشعر وما يلحقه من زحاف وعلل، وأفقه في علوم البلاغة وسائر أسباب الكلام، وإذا شوقي يسجع بأعلى الشعر، وإذا أولئك لا يبعثون إلا الفَسْلَ المليخ٧ من المقال.

وإنك لتجد كثيرين من الضراب أعلم من محمد العقاد بالموسيقى، وأحفظ لأصولها، وأضبطَ لقواعدها، فإذا أطلقوا في «القانون» أيديهم لم يحركوا منك ساكنًا، حتى إذا أرسل العقاد فيه بَنَانَه، أخذ منك العجب، وتمشى فيك الطرب، ولربما ارتفع بنفسك وأدخل عليك من الأريحية ما يُخَيِّل إليك أنك أصبحت على المؤمنين أميرًا!

والواقع أن العبقرية في الفن لم تُعْرَف علتها ولا سبيلها للناس ولا للعبقريين أنفسهم، ولقد تسأل العامة وأشباه العامة عن فلان المغني أو القارئ: بماذا كان أبرع أهل فنه حتى ذهب له ما لم يذهب لهم من صِيت وذِكْر، وليس بأنداهم صوتًا ولا بأعرقهم فنًّا؟ فيجيبونك من فورهم «فتوح من الله»، ولقد تسألهم عن العقاد بماذا تَفَرَّدَ «بالقانون» دهرًا طويلًا لم يتعلق بغباره أحد؟ فيجيبونك «حلاوة إصبع» يا سيدي!

ولقد تسأل الخاصة عن الشاعر فلان أو الكاتب فلان، وبماذا بَرَعَا وبَذَّا؟ فيجيبونك: «إنها الموهبة!»، ولا أرى بين مذهب العامة ومذهب الخاصة في هذا فرقًا كبيرًا ولا صغيرًا، فكلاهما يَدُلُّ على تمام العجز عن إدراك ذلك الشيء الذي تتهيأ به العبقرية للمرء في فن من الفنون!

والآن يمكننا أن نحدد الفرقَ بين البراعة في الفن والبراعة في العلم: فالتبريز في العلم أساسه تحصيل قضاياه وحسن تفهمها، والاستعداد والذوق شرطان فيه، أما التبريز في الفن، فأساسه الذوق والاستعداد، وتحصيل قضاياه وحُسْن تفهُّمها شرْطٌ فيه.

ومما يجلو لك هذا المعنى ويُنِير سبيله بين يديك، أنك لا تستطيع أن تحكم بصحة القضية الرياضية، أو المنطقية، أو بفساد النظرية الطبيعية، إلا إذا كان لك إلمامٌ بالعلم وبصيرة فيه، على أنك تقرأ شِعْرَ الشاعر فيروعك ويعجبك، وتسمع غناءَ المُغَنِّي فيهزك ويُطْرِبك، وترى صُورَةَ المُصَوِّر فتروقك وتخلبك، في حين أنك لم تحصل من قضايا تلك الفنون كثيرًا ولا قليلًا؛ ذلك بأن مرجع الحكم فيها كما قلنا، إلى الذوق أولًا، والذوقُ غريزة لا يخلقها الدرسُ ولا التعليم، فإذا كان للتعليم في هذا الباب فضل، فهو مجرد التهذيب والصقل، على ما سلَفَ عليك من الكلام.

ولا يفوتك أن الفن لا يدل على موضع الجمال، اللهم إلا الغافلين ومن تقاصَرَتْ أذواقهم إلى حد بعيد، ولكنه يُسَمِّي مظاهر بأسمائها التي وَقَعَ بها الاصطلاح، كما يدل على مذاهب المفْتَنِّ في ألوان تصرفه، ولقد يكون بهذا أقدر من غيره على إدراك مبلغ الحذق في كيفية التصرف وطريقة الأداء، على أنك مع هذا لو جئت برجلين ذَيِّقَيْن، أحدهما خبير بفن الموسيقى والآخر غير خبير، فإنهما كليهما ليطربان لجيِّد التوقيع، وإن عَرَف أولهما أن اللحن جارٍ في نغمة الرمل مثلًا، وجهل ثانيهما إلى ماذا يُنْسَب اللحن من مذاهب الأنغام، لأن إدراك الجمال والانفعال به لا يحتاجان كما قلنا إلى تعليم ولا تلقين.

وهنا شيء يتصل بهذا الباب ما ينبغي لنا أن نتجاوزه وألا نَدُلَّ عليه، ذلك أن كل ما تُخْرِجُه عبقريةُ العالِم من طريف القضايا ومستحْدَث النظريات في العلوم، لا يعدو أن يكون مجرد استكشاف لأمر موجود في ذاته، وكلُّ الخطب فيه أنه كان مجهولًا حتى تَهَدَّت عبقريةُ العالِم إليه، ودلَّهُ ذهْنُه أو تجاريبُه عليه.

أما ما تَنْتَضِح به عبقرية المُفْتَنُّ من ذاك، فإنشاء وخَلْق من عَدَم، ومن هنا نُدْرك لماذا كانت الفنون أشَدَّ تطورًا من العلوم، وأبلغَ منها قبولًا للتغيير والتحوير؟ ذلك لأن مَرَدَّها كما عَلِمْتَ إلى الذوق، والذوْقُ أسرع تَكَيُّفًا بحكم الزمان والمكان والعادات والأحداث.

•••

وبعد، ففي نفسي أن أَتَحَدَّث عما صَنَعَ العالَمُ قديمه وجديده للفن تعرفًا للجمال، وضبطًا لمذاهبه، وتربية لملكاته، ولكن لقد طال الكلام اليوم، فلندع هذا إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.

١  نُشِرَتْ في «البلاغ الأسبوعي»، في ٤ فبراير سنة ١٩٢٧.
٢  تنظر له: تراءى.
٣  الأنوار هنا جمع نَوْر بفتح النون: الزهر أو الأبيض منه.
٤  الماء البعيد الغور.
٥  النافر.
٦  كانت كثرة العلماء إلى زمن قريب يُخْرجون البلاغة عن الفنون الجميلة، على أن الكثيرين أصبحوا يَعُدُّونها منها.
٧  الفسل بفتح فسكون: الضعيف، والمليخ: الفاسد الزنخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤