في علوم البلاغة

سيداتي، سادتي١

طوينا في الأزهر بضع سنين، مقصورًا جهدنا كله على درس الفقه والنحو، ثم استشرفنا على العادة، لدرْس شيء من علوم البلاغة في أبسط كتبها المعروفة يومئذ لأهل الأزهر، ولم يَرُعْني في تلك الأيام إلا أن هَجَمَ على نفسي سؤال شَغَلَنِي وأهمني، حتى كان في بعض الحين يملك علي مذاهب تفكيري! وإني لأخشى أن أبادي به أشياخي أو لِدَاتي في الطلب، لئلا أُرْمَى بالجهل المُطْبِق بما يعلم الناس جميعًا، بدليل أن أحدًا لم يُرَاجِع فيه من بين الطلاب جميعًا!

هذا السؤال هو أنه ما دامت للبلاغة علوم مقررة، ومعارف واضحة، وقواعد مفصلة مقسومة، وقضايا محدودة مرسومة، فقد أصبح من السهل اليسير على كل من يجيد عِلْمَها، ويحذق فهمها، أن يجيء بالبليغ من القول إذا نَظَمَ أو نَثَر، بل لتهيأ له أن يجيء بأبلغ الكلام، بل بما ينتهي منه إلى حدود الإعجاز! وما له لا يصنع، وقواعد البلاغة تشير بأوضح الإشارة إليه، وتَدُلُّ بأفصح العبارة عليه؟

ماذا على المرء إذا أرسل الكلام أن يُخْرِجَه مطابقًا لمقتضى الحال، ويجريه على أحكام الفصل والوصل، ولا ينحرف به عن مقتضيات الإيجاز والإطناب والمساواة؟ وهذه أحوال التشبيه بين يديه، فما يمنعه أن يصوغ الكلام على غرارها، ويترسم فيه أجلى آثارها؟ وهكذا …

ولكن الواقع … الواقع القاسي يأبى مع الأسف إلا أن يزعجني عن الاستراحة إلى هذا الفكر القويم، والمنطق السليم! فهؤلاء متقدمو الطلاب الذين درسوا علوم البلاغة في أفحل كتبها المقسومة وأعلاها مكانًا، لا حظ لأكثرهم الكثير في فصاحة ولا في بيان! بل هؤلاء أشياخهم الذين اسْتَهْلَكوا الدهرَ الأطولَ في درْس هذه الكتب وتحقيق قضاياها ومسائلها، حتى فَرُّوا أبوابها فَرْيًا، وبَرُّوا فصولها بَرْيًا، هؤلاء كثير منهم لا غَناء لهم في فصاحة لسان، ولا في نصاحة بيان!

هذا طالب كبير يجاورني في خزانة حوائجي في الأزهر، وهو يتلقى علم الأصول في كتاب «جمع الجوامع»، أي أنه فَرَغَ من درس كتاب «السعد»، أي أنه ختم علوم البلاغة، ولم تُبْقِ له بشيء منها أية حاجة، لقد جَمَعَنَا هذا الطالب المنتهي لِيُسْمِعَنَا قصيدة رائعة من نظمه يهجو بها أهل بلدة «كوم زمران» المجاورة لبلده، فأسرعنا إلى الاستواء بين يديه وقد أرهَفْنَا الآذان، وحدَدْنَا الأذهان، وعَلَّقْنا الأنفاس، حِرْصًا على المتاع بما لا يَظْفر بمثله عامة الناس!

ولست أروي لكم أيها السادة، من هذه القصيدة الرائعة حقًّا، والجديرة بمن أتم دروس «السعد» وحواشيه حقًّا، إلا هذه الستة الأبيات.

أما مطلع القصيدة فهو بمشيئة الله تعالى.

دَعْ كوم زمران كي تنجو من العللِ
وتستريح أخي من كثرة الزللِ

ومنها:

إن جاءهم ضَيْفُهُم قَبْلَ العَشَاء إِذَنْ
تراهُمُ يا فتى في غاية المَلَلِ
فالبخل يَشْتَقُّ منهم ما على أحد
منهم ثِيَاب سوى البالي من الحُلَلِ
ما فيهمُ عاقل يا ابن الكرام فَقَدْ
جُنُّوا جميعًا وقاكَ الله مِنْ خَبَلِ

ومنها:

لا يحضرون دُرُوس الفقه إِنَّهُمُ
والله لو تَدْرِيَنْ في غاية الكَسَلِ

أما تمام التمام، ومسك الختام، فهو:

ستون بيت قريض لا تزيد سِوَى
بيت به قد سألت العَفْوَ عن زللي

سيداتي، سادتي

إذا لم يكن لهذه القصيدة من نَظْم ذلك الشيخ كل الفضل، فلا شك في أن لها أبلغ الفضل في أن نبهتني إلى أن درس علوم البلاغة — على هذه الصورة على الأقل — ليس من شأنه أن يعلم البلاغة أو يطبع على ناصع البيان، ولعل لها بعد ذلك شأنًا آخر!

البلاغة

من البين الذي لا يحتاج إلى أي جلاء أن مَقَاويل العرب إنما كانت تجود ببليغ القول فِطَرُهم، وتنتضح ببارع الكلام سلائقهم، لا يَصْدُرون في شيء من هذا عن علم تَعَلَّموه، ولا عن درس تَفَهَّموه، ولا قواعد يَتَحَرَّوْن أحكامها، ولا أقيسة يتَقَرَّوْن حدودها وأعلامها، إنما مَرَدُهم في كل ذلك إلى الفطنة، الفطنة والذوق المرهف السليم، حتى موسيقى الأشكال والهياكل — وأعني أوزان الشعر ومقاطعه — لقد كانت هي الأخرى موصولة بطباعهم، فلم يكونوا في أي حاجة إلى قانون يهديهم موقعَ النبرة من السلك المنظوم.٢

وما يُقال في الخطيب والشاعر، يقال في سائر النَّقَدَة وهم كثرة العرب الغامرة إن لم يكونوا كلهم متذوقين ناقدين.

وبهذا المقياس الفطري كانت تُقْدَر أَقْدَار الشعراء والخطباء، فينزل كلٌّ منزِلَتَهُ في غير ضراع ولا حراب،٣ من الصدور أو المتون أو الأعقاب.

هذه الفطنة النافذة، وهذا الحس المرهف، وهذا الذوق التام، لقد أغْنَتْ جمهرة العرب عن المطالعة بفنون نقد الكلام، والتنبيه إلى ما في مطاويه من المحاسن والعيوب، حتى لكأن هذه الخلال الشائعة فيهم كانت عندهم من أفصح أساليب الخطاب!

ولست أزعم أن العرب كانوا كلهم أصحاب بيان، وأن شعراءهم إنما كانوا يرسلون الشعر من عفو الخاطر، لا! بل إن من أعلامهم لمن كان يجتمع للقريض ويتكلف تجويد النظم، ولقد يُجْهَد ببعضهم كثيرًا في تحرير الكلام وضبطه، والكر عليه بالجندرة والصقل والتهذيب.

ولقد ظل شأن البلاغة العربية كذلك إلى غاية العصر الأموي، فإذا كان قد نَجَمَ في هذا الباب جديد، فإن بعض البصراء بفنون الكلام قد انبعثوا لنقد بعض ما يجلى عليهم من الشعر، وجعلوا يَدُلُّون بوجه عام على ما لعله يَخْفَى من عيوب، ولقد يقارنون بينه وبين شيء من جنسه من أشعار السابقين، ويفطنون إلى ما يضمر من دقة معنًى وإحسان أداء، ومهما يكن من شيء فإن ذلك الضرب من النقد لم يكن جاريًا على أي نهج علمي — إذا صح هذا التعبير — إنما هو الذوق والفطنة والحس العام.

وبالرغم من أن بعض العلماء تقدموا في أعقاب هذا العصر، وفي صدر العصر العباسي الذي وليه، لجمع الحديث واستخراج الأحكام الفقهية، وعَقْد القواعد للنحو والصرف، بل لقد تَعَمَّد الخليل بن أحمد المتوفى سنة (١٧٠) ضروب الشعر وتَقَصِّي أوزانه ومقاييسه، فوضَعَ عِلْمَ العروض، بالرغم من هذا كله فإن أحدًا من العلماء لم يَتَكَلَّف وَضْع قاعدة علمية واضحة المعارِفِ بَيِّنة الحدود لشيء من فنون البلاغة، يُرَدُّ إلى حكمها ما يندرج تحته من الجزئيات.

كيف عُقِدَتْ للبلاغة قواعد وجُرِّدَتْ لها علوم؟

سيداتي، سادتي

إذَنْ فكيف ومتى ضُبِطَتْ للبلاغة قواعد وجُرِّدَتْ لها علوم؟

يقول ابن خلدون: «إن السبب في إطلاق «البيان» على الأصناف الثلاثة أنه أول ما تكلم فيه الأقدمون، ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى، والجاحظ، وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها، ثم لم تَزَلْ مسائل الفن تكمل شيئًا فشيئًا إلى أن مَحَصَ السكاكي زُبْدَتَه وهذب مسائله إلخ»، وهذا الكلام يحتاج إلى قدر كبير من الإيضاح والتفصيل.

أما أن البيان كان أسبق الفنون الثلاثة إلى التدوين، فذلك أن الإمام اللغوي الجليل القدر أبا عبيدة المتوفى سنة (٢٠٩) قد وضع رسالة في البحث عن «المجاز في غريب القرآن»، ولا شك في أن غرضه إنما كان دينيًّا محضًا، فإنَّ تَبَيُّن الحقيقة من المجاز مما تتأثر به الضرورة أحكام الشرع الكريم، فإذا صح أنَّ تَقَصِّي هذه المجازات تقصيًا جزئيًّا دون العناية بنظمها في قواعد كلية تستخرج منها الأحكام العامة — إذا صح أنْ يُدْعَى هذا تدوينًا في علم البيان — فلا نزاع في أن رسالة أبي عبيدة هذه هي أَوَّل ما دُوِّن لا في علم البيان فحسب، بل في علوم البلاغة على الإطلاق.

بعد هذا نعود إلى جعفر بن يحيى والجاحظ، أما جعفر فلم يسقط إلينا مما كَتَبَ في هذا الباب كثير ولا قليل، وأما الجاحظ المتوفى سنة (٢٥٥) فلقد جرى قلمه في كتابه «البيان والتبيين» أكثر ما جرى بأسباب بتراء، وإرشادات عامة لمن يتصدَّوْن لنسج الكلام، ونقول في تعاريف البلاغة عن الأقوام الآخرين، على أنه قد يقع اجتهاده في بعض ما يكتب على أمور يعتبرها العلماء المدوِّنون بعد ذلك — إما بنصها أو بعد تهذيبها وتسويتها — من قواعد علوم البلاغة التي لا يطوف بها ريب ولا يلحقها نزاع.

يقول الجاحظ مثلًا: … ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادَها إلا ببعض استكراه، فمن ذلك قول الشاعر:

وقبْر حَرْب بمكان قَفْر
وليس قُرْبَ قَبْر حَرْب قَبْر

ولا شك أنه بهذا يُعَدُّ واضع شرط من شروط الفصاحة، وهو السلامة من تنافر الكلمات، وقد استشهد مُدَوِّنُو البلاغة على هذا الضرب من التنافر بالبيت نفسه.

ويقول في مقام آخر: «… عن الحسن يرفعه، أن المهاجرين قالوا يا رسول الله: إن الأنصار فضلونا بأنهم آوَوْا ونَصَرُوا وفعلوا وفعلوا قال النبي : «أتعرفون ذاك لهم؟» قالوا: نعم، قال: «فإن ذاك»، يريد أن ذاك شكر ومكافأة».

وهذا أيضًا من بلاغة الإيجاز بالحذف.

وهنالك أمثلة يسيرة أخرى مما نَضَحَ به قلم الجاحظ صادرًا فيها عن اجتهاده أو ناقلًا عن غيره، وكل ذلك لا غناء فيه إذ نحن تحدَّثْنا في شأن علوم البلاغة عن التدوين والتصنيف.

•••

بعد هذا جَعَلَ أميرُ المؤمنين عبد الله بن المعتز المتوفى سنة (٢٩٦) يتفقد ألوان البديع التي أصابها في الكتاب العزيز، وفي كلام من سبقه ومن عاشره من أعلام البيان، فأحصى منها بضعةَ عَشَرَ نوعًا ضَمَّنَهَا رسالة لطيفة، نَشَرَها مَطْبُوعَةً من عَهْدٍ قريبٍ أحدُ كبار المستشرقين.

قدامة بن جعفر

ثم يجيء أبو الفرج قدامة بن جعفر المتوفى سنة (٣٣٧) على أرجح الأقوال فيصنف فيما يصنف كتابيه «نقد الشعر» و«نقد النثر».

ولقد يغنيني عن الإطالة في الإبانة عن أثر هذا الرجل في وضع الأسس الأولى لقواعد علوم البلاغة، ومحاولة إجراء هذه الأسس على نهج علمي — إذا صح هذا التعبير — لقد يغنيني عن هذا تلك الرسالة البديعة التي وَضَعَهَا في الفرنسية صديقي الدكتور طه حسين، وأداها في العربية صديقي الأستاذ عبد الحميد العبادي، وصدر بها كتاب «نقد النثر».

وقد صرح الدكتور طه في رسالته هذه بأن قدامة إنما وضع ما وضع من أسس علوم البلاغة العربية متهدِّيًا بكتب أرسطاطاليس، وهذا حق لا شبهة فيه، ولا يتخالج الشك فيه من يقرأ كتاب «نقد النثر»، بل إن المؤلف نفسه ليصرح في بعض المواطن من كتابه بأن أرسطاطاليس قال في هذا الموضع كذا ونصَّ على كيت.

على أن مِنْ أَظْهَرِ ما يَخْرُج به مُتَصَفِّح هذا الكتاب، أن الرجل في تدوينه لعلوم البلاغة، أو على الصحيح في محاولته تدوين هذه العلوم، إنما كان — برغم ما بين يديه من قضايا أرسطو — كالساري في بيداء مجْهل، فهو لا يفتأ يلتمس الأعلام ويتحرى المسالك والدروب، أو هو كالطائر المهاجر يَسْقُط حيث يلوح له الحب، وتترقرق لعينه صفحة الماء، فما إن تسنح له الجزئية يحسبها مما يتصل بما هو بسبيله إلا تراه قد هجم عليها، ومثل لها بآية من آي القرآن الحكيم، وتارة يتمثل بالبيت أو بالبيتين من الشعر، مترفقًا شديد الترفق في وجوه التعليل والتأويل.

وهو إنما يتصيد أسباب البلاغة نثارًا حتى إنه لم يفصل بين فنونها الثلاثة، فقد يأتي بالمسألة من مسائل البديع في إثر القضية من قضايا المعاني أو البيان.

ثم لقد يميل في بعض الطريق إلى بحث فلسفي، أو يأخذ في شيء من المنطق أو الأصول أو النحو أو الصرف، أو يَعْدل بالحديث إلى قوانين الجدل، وهي التي دُعِيَتْ بَعْدُ بآداب البحث والمناظرة، وللرجل حق العذر في هذا فإنه لم يَعْدُ سُنَّةَ مَنْ نَشَّأُوا العلوم، وخاصة منها ما كان مَرَدُّه إلى الأذواق، وهذا ما نعبر عنه اليوم بالفن الجميل.

وكيفيما كانت الحال، فإن هذا قدامة حتى في القليل من المعاني التي وقع عليها من فنون البيان، لم يَضَعْ لشيء منها قاعدة كلية، إنما جهْدُه كلُّه كما أسلفنا أن يلتمس لما يتمثل له من الجزئيات وُجُوهَ العلل التي تشرف بها رتبة الكلام.

عبد القادر الجرجاني

ومن العجب أن يشب ابن خلدون في تسجيل نشأة علوم البلاغة من قدامة إلى السكاكي، ولا يقف وقفة — ولو قصيرة — برجل له أَثَرُهُ وله خطره، بل لقد عَقَدَ له بَعْضُهم فيما نحن بسبيله أبلغ الآثار وأعظم الأخطار، وذلكم الرجل هو الإمام الجليل عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة (٤٧١).

ألَّف الجرجاني في علوم البلاغة كتابين، هما «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، ولقد جَعَلَ أَجَلَّ هَمِّه في الكتاب الأول إلى «البيان»، فتكلم في التشبيه وأطال، وتَكَثَّرَ من إيراد الشواهد والأمثال، وقسَّمَ المجاز إلى لُغَوِيٍّ وغير لغوي، وأسبغ القول في فنون الاستعارات، وأصاب في أثناء ذلك ألوانًا يسيرة من «البديع» كالسجع، والتجنيس، وحسن التعليل، أما ما أصاب من مسائل المعاني فإن جميعه إنما كان من حظ كتابه الآخر «دلائل الإعجاز»، اللهم إلا سَنَحَات قد تلوح أحيانًا في آفاق الكلام.

وعبد القاهر يعمد إلى المسألة من مسائل العلم فيضفي بين يديها المقدمات، ويسبغ المقالَ في التعليل لها أيما إسباغ، ولا يزال يتيامن بالقول ويتياسر، ويضرب في مجازات الكلام جيئةً وذهوبًا، ولا يبرح يُفَصِّل المعاني تفصيلًا، ويلوِّن الحجج تلوينًا، حتى إذا ظُنَّ أنه أوفى من ذلك على الغاية ووَقَعَ بقارئه على الصميم، راح يُورِد الشاهد في إثر الشاهد، جاهدًا في شَحْذِ فطنتك وإرهاف ذَوْقِكَ، ليتهيأ له أن يتدسس بك إلى أطواء الكلام، فتجُسَّ ما أجنَّتْ من الدقائق جسًّا، وتستشعر ما أَضْمَرَتْ من المحاسن ذوقًا مُحَسًّا، وكل أولئك يصنعه في عبارة جَزْلة فَخْمة، ويجلوه في ديباجة مُشْرِقة اللفظ، متلاحمة النسج، ولا شكَّ أن عبد القاهر بعبارته هذه إنما كان أدنى إلى تعليم البلاغة منه بآثار ما يَخْرُج له من بحْثه وتحقيقه، لولا أنه يتكلف السجع ويجتمع له في كثير مما يُجْرَى من البيان.

وكيفما كان الأمر، فإنه كقدامة لم يُعْنَ بضبط ما اتسق له من نتائج البحوث في قواعد كلية تنتظم ما تحتها من الجزئيات على الأسلوب المعروف، نعم إنه لقد مهَّد لهذا ويسَّره لمن دَوَّنَ بعده من العلماء في هذه الفنون.

ومما تَحْسُنُ الإشارة إليه في هذا المعنى أن التأليف في علوم البلاغة، إلى هذه الغاية لم يَعْدُ في الجملة ألوانًا من أساليب النقد، طلبًا لشحذ الأذواق وإرهاف الإحساس، والاجتهاد في التفطين إلى ما دَقَّ وخَفِي من وجوه المحاسن والعيوب في الكلام، وليته لم يتجاوز هذا القدر، إذن لكان لهذه العلوم من الحظ ومن الأثر غير ما لها الآن؟

السكاكي والقزويني

سيداتي، سادتي

بعد هذا جاء العلَّامة المحقق أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة (٦٢٦)، فاستخلص جملة أحكام البلاغة التي تَهَدَّى إليها مَن تقدَّمه من الباحثين، وضَمَّ كل جنس إلى جنسه، وجمَعَ كل شكل إلى شكله، وجعَل ينظم ما تهيأ له من ذلك في قواعد واضحة الرسوم، مضبوطة الحدود، حتى تكون جامعة مانعة، على اصطلاح جمهرة العلماء، وساق لكل قاعدة ما اجتمع له من الأمثلة والشواهد، ووصل كلَّ ذلك بكتابه «مفتاح العلوم».

ولا ينبغي أن نظن أن السكاكي في مجهوده هذا إنما كان صائغًا فحسب؛ بل إنه كثيرًا ما يكون لاجتهاده في توجيه الأحكام وفي جوهر المادة العلمية الأثر البعيد.

إذن لقد استطاع السكاكي أن يُحِيلَ أحاديث البلاغة من مادة أدب ونقد واحتفال لتفطين الأفهام وشحذ الأذواق، حتى تستطيع النفوذ إلى دقائق البلاغات، لقد استطاع السكاكي أن يحيل أحاديث البلاغة علومًا إنما تخاطب الأفهام، لتَدُلَّها على مبرَم الأحكام!

ثم جاء العلامة الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة (٧٣٩)، فضغط ما استخرج السكاكي ضغطًا شديدًا، وعَصَرَه عَصْرًا «بليغًا»، حتى أصبح ما يطالعك من قواعد كتابه أشبه بالأحكام العسكرية في شدة السطوة والجفاء!

وعلى كل حال فإنه على قدر ما تم لعلوم البلاغة — بمختصر الخطيب القزويني — من التحرير والضبط والدقة في تجلية الأحكام والقواعد، وشدة التحري في إيراد الأمثلة والشواهد، فلقد ذهب من الجهة التعليمية رواؤها، وجَفَّ ماؤها، واقتصر خِطابها على العقل والحافظة، وكانت من قبل تخاطب الإحساس والأذواق!

وإذا كانت علوم البلاغة «الرسمية» قد خُتِمَتْ بمختصر الخطيب القزويني، فتكون قد اسْتَهْلَكَتْ من أول تنشيئها إلى غاية نضجها وإدراكها أربعة قرون سويًّا.

ولا شك أن من الكتب التي استغرقت جليلًا مِنْ هَمِّ الدرَّاسين والباحثين والشارحين والمعلقين هو هذا الكتاب، فلقد شرَحَه وعَلَّق عليه من لا يُحْصَوْن من العلماء كَثْرَةً، وأهَمُّ شروحه وأعظمها كان استدراجًا لعناية أصحاب التحقيق هو المختصر لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة (٧٩٢)، والمطوَّل له كذلك، وأشهر الحواشي على هذا المطوَّل وأشيعها بين أهل العلم تداولًا، حاشية السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة (٨١٦)، وشرْحَا السعد وحاشية الجرجاني لقد كانت من عهد بعيد هي المادة العظمى لتروية علوم البلاغة لمتقدمي الطلاب في الأزهر الشريف.

فوْقَ التعقيد الشديد في عبارات هذه الكتب، أيها السادة، والمبالغة في إيهامها وإغماضها، فإن مِلاكَ البحث فيها إنما هو الجدل اللفظي، والاعتساف في بحوث فلسفية لا غناء لها في صنعة البيان، بل إنني لأزعم أنه لو كان هناك من يريد التخلص من فصاحة اللسان ونصاحة البيان، فليس عليه أكثر من أن يدرس هذه الكتب حَقَّ دَرْسِها، ويديمَ النظر فيها، ويقلب في عباراتها لِسَانَه وفِكْرَه، ليكون له كل ما يحب إن شاء الله!

لتكن هذه الكتب مما يفسح في الملكات العامة، ويطبع الطالب على الصبر على البحث والتحقيق، ويعَوِّده ألا يُسِيغ قصيةً من القضايا إلا بعد أن يَحككها بألوان الاختبار والامتحان — ليكن لها كل هذا، وليكن لها غير هذا أيضًا — ولكنها لا يمكن أن تلقن علوم البلاغة على أي حال، فضلًا عن أن تذيق الطالب البلاغة نفسها، أو تريحه ريحها، اللهم إلا أن تكون بلاغة من طراز:

دع كَوْمَ زمران كي تنجو مِن العِلَلِ
وتستريح أخي من كَثْرة الزَّلَل!

البلاغة فن

سيداتي، سادتي

لقد حَدَّثْتُكُمْ في صدر هذا الخطاب عن عقلية فتًى ناشئ لم يتهيأ له بعدُ أن يُدْرِكَ الفرقَ بين العلوم والفنون، ولم يكن يعرف أن الفن ابنُ الطبع والغريزة والملكة، وإنما تدعو إلى إنشائه ومعالجته الحاجة تبعثها ضرورةٌ أو تبعث إليها مجرد الرغبة في الترفيه والتلذيذ، أما العلم فمُهِمُّهُ بعد ذلك الملاحظة والتقييد والتسجيل.

فالبلاغة باعتبارها فنًّا هي أثر الملكة ومظهر قدرتها من نظم شعر رائع أو إرسال نثر بديع، أما البلاغة باعتبارها علمًا فهي عصارة ما خرج بالاستقراء للإحساس والأذواق من دواعي الحسن والقبح في فنون الكلام، وما يقال في البلاغة من هذه الناحية لا شك يجري حكمه على سائر الفنون والعلوم، والعالِم بالفن غيرُ المفتن على كل حال، وإنما بينهما العموم والخصوص الوجهي على تعبير أصحاب المنطق، فيجوز أن يكون المرء بليغًا وهو غير عالم بقواعد البلاغة، ويجوز العكس، كما يجوز أن يجمع بين الخَلَّتَيْن معًا، وهذه الشواهد ماثلة في الكثيرين ممن عاصرنا ومَنْ لم نعاصر من العلماء والكتاب والشعراء.

إذَنْ ليس العِلْم أيها السادة هو الذي يخلق الفن ويطبع ملكة المرء عليه، إنما الفنون كما زعمنا، وخاصةً هذه الفنون الجميلة، وفن البلاغة منها — وإن نازَعَ بعضهم في هذا — إنما هي من أثر تهيُّؤ الفطرة، أو ما اصطلحوا على تسميته بالموهبة في هذه الأيام، فإذا كان للعلم من هذه الناحية أثر، ففي توضيح المناهج وهداية السبل، وتبصير من يُعَالِج الفن بما استجادت جمهرةُ أصحاب الأفهام والأذواق، أو ما أَنْكَرَتْ من آثار جماعات المفتنين، سواء من السابقين أو من المعاصرين.

ومما ينبغي أن يلاحَظَ في هذا المقام أنَّ أفْحَلَ مَن عاصَرْنا من الشعراء لم يكن أكثرهم من العلم بقواعد البلاغة على حظ جليل ولا ضئيل، إنما هو الطبع والتهيؤ، وكثرة الحفظ، وترديد النظر في آثار البلغاء المجَلِّين!

الفن يتطور

سيداتي، سادتي

إذا كان الفن التقليدي إنما يجري في حدود العلم، أي أنه ينبغي أن يُطابِقَ ما اجتمع عليه رأيُ أصحاب الأفهام والأذواق في الفنون الجميلة بوجه خاص، فلا ينبغي أن يفوتنا أن العِلْم لا يَسْتَحْدِثُ في الفن جديدًا، ولا يَعْدِلُ به من نهج إلى نهج، ولكن الفن هو الذي يغير العلم ويُدْخِل على قضاياه بالتشكيل والتلوين، ما دام يشرع ويتطور ويستحدث، إذ كُلُّ هَمِّ العلم هو كما أسلفنا إلى الملاحظة والتسجيل والتدوين.

ولا شك أن أظهر ما يظهر فيه التطور بالاتساع والدقة هو الفن الجميل، لأن مَرَدَّه في الغاية إلى الأذواق، والأذواق كما تعلمون شديدة التأثر بالكثير من أسباب الحياة، ومن أفعلها مبلغ حظ الجماعات من الحضارة والتثقيف، ولون تِلْكم الحضارة وهذا التثقيف.

نعم، إن للفنون الجميلة عند كل أمة تقاليد تكاد تتصل جذورها بالطباع والفطر، ولكن ذلك لا يمنع من أن يَتَناول الزمان كثيرًا من مظاهرها وصُوَرها بالتشكيل والتلوين.

•••

أرجو أن تَدَعوني بعد هذا أزعم أن البلاغة العربية — باعتبارها فنًّا أولًا، وباعتبارها فنًّا جميلًا ثانيًا — مما يجوز عليه التغيير والتلوين، ومما يتقبل النمو وشدة النفوذ، بحكم اطراد التقدم في أسباب الحضارة، واتساع الأفهام، ورهافة الأذواق باتساع آفاق العلوم والفنون.

وإذا كان مَشْقُ البلاغة العربية هو بلا شك ما أُثِرَ إلينا عن عرب الجاهلية والصدور الأولى في الإسلام، فإنَّ مما لا مِرَاء فيه أنه قد اسْتُحْدِثَتْ بعد ذلك ولا تزال تُسْتَحْدَثُ بلاغات لم تَشُكَّها علوم البلاغة المأثورة بالتقييد والتدوين، ولم تعقد لها قاعدة بين قواعد البيان والتبيين.

بل إن هناك صورًا مما استجاد متقدمو النَّقَدَة وواضعو علوم البلاغة، وساقوها شواهدَ على براعة الكلام، هذه الصور مهما كان من استراحة أذواق السابقين إليها، فإنها مما يَنْفِر منه ذوق العصر الحديث، ويأباه الحس القائم كل الإباء!

ومن هذا الباب ما مَثَّلُوا لحُسْن التعليل بقول الشاعر:

لو لم تكن نية الجوزاء خِدْمَتَهُ
لما رأيْتَ عليها عقد مُنْتَطِقِ

وقول الشاعر:

لم تَحْكِ نائلَكَ السحابُ وإنما
حُمَّتْ به فصبيبها الرحضاءُ

أو قول الشاعر:

ما به قَتْلُ أعاديه ولكِنْ
يتقي إخلافَ ما ترجو الذئابُ

فمن ادعى أنه يسيغ مثل هذا الكلام اليوم، وأن ذَوْقه يستريح به، فإني إلى غيره أُوَجِّه الحديث.

هنالك شيء آخر له خَطَرُه الشديد، وله أثره البعيد: ذلكم أن تقدُّم الحضارة واتساع آفاق العلوم، قد فَطَّنَ النَّقَدَة ومتذوقي الأدب إلى ألوان من البلاغة في مأثور العربية، لا أجرؤُ على أن أقول إنه لم يفطن لها، وإنما أقول إنه لم يحتفل لها متقدمو نَقَدَة الكلام أي احتفال، ومِنْ أظهر ما أغفلوا الحديث عنه في هذا الباب بلاغة الصورة، وبلاغة القصص وما يتضمن من بارع الجدل ورائع الحوار.

انظروا أيها السادة، كيف يجلو الله تعالى علينا بعض خلقه في كتابه الحكيم: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

انظروا، أيها السادة كيف يصور لنا القرآن أهل الكهف في منامهم الطويل: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ ۗ مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا.

الله الله، ما شاء الله! ولا قوة إلا بالله!

حَدِّثُوني بِعَيْشكم: أيُّ مُصَوِّر مهما فَحُلَتْ عبقريته واسْتَمْكَنَتْ سطوة فنه، يستطيع أن يجلو مثل هذه الصورة للعيون! فكيف وقد جلاها عليها القرآن عن طريق الآذان!

حَدِّثُوني بِعَيْشكم: إلى أية قاعدة من قواعد البلاغة «الرسمية» نَرُدُّ هذه «اللوحة» الفنية الرائعة لندرك بها علل كل هذا الإحسان والإبداع؟ أترى هذه الصورة قد انتهت كل هذا المنتهى لأن فيها ألوانًا من الطباق في اليمين والشمال، وفي طلوع الشمس وغروبها، ويقظة الجماعة ورقودهم؟

لا لا يا سادة اللهم إن الخطب لأجل من هذا بكثير وفوق الكثير!

وبعد، فلو قد ذهب ذاهب في سرد أمثال هذه الشواهد من كتاب الله تعالى وحديث الرسول ، وما أُثِرَ عن فحول البلاغة من الخطباء والكُتَّاب والشعراء، لاستهلك في ذلك الزمن الطويل.

وهنا شيء لا أحب أن أتجاوزَ هذا المقام دون أن أشير إليه: ذلكم أن من عِلَل الحُسْن في الفنون الجميلة ما يدق حتى تُعْيِي الترجمةُ عنه على اللسان والقلم جميعًا، وإن تعلقت به الفطن وأصابته الأذواق.

ومما يتصل بهذا الباب ما رُوِيَ من أن بعض الخلفاء العباسيين قال لإسحاق الموصلي ذات يوم: «صف لي جَيِّدَ الغناء» فقال: «يا أمير المؤمنين إن من الأشياء أشياء تصيبها المعرفة، وتعجِزُ عن أدائها الصفة!»٤

ولست أستدل على هذا بأبين من صنيع عبد القادر الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز»، فإنَّا كثيرًا ما نراه يحاول بكل ما أوتي من بسطة عِلْم، ونفوذ فِكْر، وسطوة قَلَم، أن يقع على إحدى دقائق الحُسْن في الآية من الكتاب، فلا يصيب الصميم وإن أجهدته كثرة اللف والدوران، على أنه إذا عجز عن جلو الحقيقة بالنص، فإنه مُحَصِّلها كاملةً في نفس قارئه، وواصلها بذوقه، إذا كان ممن يجرون من الصناعة على عرق، وذلك بالبراعة في التنمية والتفطين.

سيداتي، سادتي

لعل من أظهر ما نُحِسُّه من ضعف النقد الأدبي — أو بعبارة أبْيَنَ، من قصور علوم البلاغة العربية في هذا العصر — أنَّ سَلَفَنَا وَجَّهُوا كل عنايتهم إلى النقد الجزئي، أعني نَقْدَ الكلمة في الجملة، أو نقْدَ الجملة في العبارة، فإذا كان الكلام نظمًا جَرَى النقد للبيت مستقلًّا، وأحيانًا للبيت من حيثُ اتصاله بما قبْله أو بما بعده، أي النقد (بالقطاعي) على تعبير التجار.

أما نقد الكلام مجتمعَ الشمل، وتَنَاوُلُه من حيث استواء الصورة، واتصالُ المعاني، واتساق الأقطار، وتلاحُم الأجزاء، فذلك ما لم يكن له من نَقَدَة البلاغة حظ جليل!

وليس يغيب عنا في هذا المقام أن هذه الحضارة القائمة قد جَلَتْ علينا من صور البلاغة صورتين لم تَلْبَثَا أن ساهمتا في أدبنا العربي بنصيب جليل، وأعني بهما فنَّ القصص، والتصوير البياني، على حين أننا لا نرَى لهما مكانًا واضحًا من عناية علوم البلاغة المأثورة ومضارب النقد القديم!

سيداتي، سادتي

لست ثائرًا فأدعوَ إلى إلغاء علوم البلاغة العربية بتاتًا، كما أَلْغَتْهَا أمم في الغرب بتاتًا، ولكنني أدعو إلى تَلْيِينها وتمرينها، حتى تصبح أشبهَ بالأسلوب النقدي القائم على التفطين والتذويق بحيث تَتَطَوَّر مع تطوُّر الأفهام والأذواق وعلى أن يُوصَلَ تعليمها في المدارس والمعاهد بدرس الأدب نفسه، فالواقع أنه ما نَضِجَتْ موهبة شاعر ولا كاتب قَطُّ بِدَرْس علوم البلاغة؛ ولكن بطول ترديد النظر وتقليب الذهن في المأثور من روائع الآداب، إلى الارتياض بكثرة العلاج والتمرين، فإذا انفسحت مع هذا مَلَكَةُ الكاتب أو الشاعر، ورَهُفَتْ فطنته بِتَرَسُّم مذاهب النقد الفني، فقد تَمَّتْ نعمةُ الله عليه! هذا رأيي في الجملة، وأقول «في الجملة» لأن هناك أسبابًا من القول يضيق عن شرحها هذا المَقام، وبَعْدُ فإذا أبَيْنَا إلا الحرص على بقاء هذه العلوم على تِلْكُم الصورة التي دفعها إلينا السابقون، فلا شك في أن لها في دار الآثار العربية المكان الفسيح!

١  أُلْقِيَتْ هذه المحاضرة في الجامعة الأميركية بالقاهرة، ونشرتْها مجلة الهلال في يناير سنة ١٩٣٦، وجعلت عنوانها: «ثورة على علوم البلاغة».
٢  وهذا ولا شك شأن كل من يجري من أسباب البلاغة على عرق إلى الآن وإلى غاية الزمان.
٣  الحراب هنا: الحرب.
٤  الصفة هنا: الوصف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤