في الفن والمفتنين١

لا شك في أن الفن لا يستوي للمرء بمجرد التحصيل والتعليم والتمرين، ولكنه إنما يستوي بهذه إذا كانت للمرء طبيعة، وكانت له موهبة، وعلى قَدْر هذه الموهبة يكون حَظُّه من الفن، ولقد تَصِلُ به، ولو كان في شباب السن، إلى النبوغ والعبقرية، وذلك أن الفن — على ما يظهر لي — قائم في النفس، إنما أعني نفْسَ المُفْتَنِّ، وما التعليم والتحصيل إلا وسيلة إلى نفضه إلى عالم الأعيان الخارجية (على حد تعبير أصحاب المنطق)، ولاختصار الطريق إليه بالاستفادة بتجاريب السابقين، وطول ما فكروا وتدبروا، وتهَدَّت إليه على الزمان أذواقهم فانتضحت به قرائحهم، وما التدريب إلا لتوثيق الصلة بين ما تَعْتَلِج به النفس، وبين الفكر أو اليد أو اللسان.

وهؤلاء النابغون في الفنون، لو حَقَّقْتَ النظر، ليسوا من جنس واحد، بل إنهم لَيُرَدُّون إلى جنسين مختلفَيْن، أو على الأصح إلى ثلاثة أجناس: فأحدها مبتكر مخترع، يَخْلُق الفكرةَ خَلْقًا، ويبتدعها ابتداعًا، ويُخْرِجها للناس على غير سابق مثال، أما الثاني فلا يبتدع ولا يبتكر؛ ولكنه صائغ ماهر يقع على فكرة غيره، ويسطو ببدع سواه، فيخرجه أحسن مخرج، ويصوره أبدع تصوير، وأما الثالث فالذي اجتمعت له الخلتان جميعًا، وهؤلاء في أصحاب الفن هم الأندرون.

ولعلك تظن مع هذا أن المبتكرين أفضل وأجدى على الفن دائمًا من الصاغة الناظمين! والذي لا ريب عندي فيه أنهما كليهما يتساهمان في الجدوى على الفن، أما إذا لم يكن بُدٌّ من فاضل فيهما ومفضول، فإن أرجح الكفتين قد يكون لهؤلاء الصاغة الماهرين، وإليك البيان:

اعلم — وفَّقَني الله ووَفَّقَكَ إلى السداد — أن ذلك العبقري المبتَكِرَ من العدم، والمبدِعَ على غير مثال، قد لا يكون لتفكيره شيء مما يصنع، ولا لعقله دَخْل في شيء مما يُبْدع، إنما هو الطبع والغريزة ينضحان بهذا، ولقد يفعلانه في سر من عقله، وفي غفلة من تقديره، فشأنه في هذا شأن القُمْرِيَّ يشدو أبدع الشدو، ويُرَجِّع أحلى الترجيع، ما يريغ لحنًا، ولا يعتمد تنغيمًا، وكالوردة ينفرج عنها كمها، ما بها أن يملأ أنفك طيب شذاها، ولا أن يُبْهِر عينيك جمال مرآها!

وإني لأزعم لك أبلغ من هذا، أن كثيرًا من هؤلاء المبتدعين قَلَّ أن يَشْعروا بما صنعوا، وقَلَّ أن يُقَدِّروا حق ما أبدعوا، إنما هم قناة بين ما استودع الله تعالى من سر خلقه نُفُوسَهُم، وبين ألسنتهم أو أيديهم.

نعم، إنهم إنما ينتضحون بما يخرجون بمحض الإلهام، أو بتلك الحاسة السادسة التي لم يكشفها العلمُ إلى اليوم، تلك الحاسةُ التي تهتدي وحدها، وفي سِرٍّ من حركة العقل، إلى كثير من حقائق العلم، وإلى كثير من دقائق الفن! هذه الحاسة التي تهدي طبيبًا واحدًا بين عشرة أطباء يختلفون في تشخيص مرض واحد اشتبهت أعراضه بأعراض عشرة أدواء، فيقع هو على حقيقة العلة دونهم جميعًا، إذ هو نفسه لا يدري كيف اهتدى ولا كيف أصاب!

أما الصائغ الماهر، فلست أعني به بالضرورة ذلك الذي يسطو بفكرة غيره فيصوغها في لفظ آخر، أو يجلبها بنفسها في صورة أخرى، واقعةً من الفن حيث وَقَعَتْ، فهذا لِصٌّ لا فَضْل له أبلغ من سُرَّاق الليل وعياري النهار.

وفي هذا المقام يحضرني كلام قرأْتُه من زمان بعيد في شرح الشريشي على مقامات الحريري في السرقات الشعرية، وإني لأذكر أنه قَسَّمَها أو لعله نَقَلَ تقسيمها عن غيره، إلى عشرين: عشْر محمودة مستجادة، وعشْر مذمومة مستقبحة، وإني لأذكر أنه مَثَّل لبعض الأولى بقول الشاعر:

من رَاقَبَ الناس مات غمًّا
وفاز باللذة الجسور

يَسْرِق هذا من قَوْل الآخر:

مَنْ رَاقَبَ الناس لم يَظْفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتكُ اللَّهجُ

أو ما في معنى ذلك، فلعلي نَسِيت بعض ألفاظ البيت، ولعله كما أَوْرَدْتُه.

على أنني لا أعني ببراعة الصياغة هذا القَدْر! فإن الصائغ مهما يُجَوِّد الصنعة ويُحْكِم النسج، فإنما ينادي على نفسه بالسرقة، ويُشْهِد على اختلاس ما ليس له، إذ المعنى ثابت للمبتدِع مهما أَسَفَّ في نَظْمه، وضَعُفَ في صياغته، بل لا أعني كذلك منزلة فوق هذه، وهي التي لا ينقل الصاغة الفكرة فيها نقلًا، وإنما يَلْحَظُونَها من بعض جوانبها أثناء صياغتهم لمعنًى آخَرَ وهذا ما يُعَبِّر عنه نَقَدَة الشعر بقولهم: إن الشاعر في هذا قد لَمَحَ قَوْل فلان، فإن المفتن مهما كان له في هذه الحال من الفضل في جودة النظم وقوة السبك، واستخدام فكرة غيره في أداء غرض آخر، لا يزال عيالًا ولو بِقَدْر ما، على صاحِبِه المبتدِع، في حين لا يزال هذا النبعَ المستقى، والمثالَ المحتذى.

وإنما أعني بالبراعة في الصياغة ما هو أعلى وأدق من هذين الصنيعين، فالمفتن الصنع، حتى الذي لم يُؤْتَ مَلَكَةَ الابتكار، ولم يُرْزَق القوةَ على الإنشاء، ترى له من شدة الفطنة ودقة الحس ما يَتَلَقَّط به المعنى الغريب، ويصيب به النبرة الدقيقة، ويشك به الفكرة الطريفة، في شعر أو نثر، أو موسيقى، أو تصوير أو نحْت، أو غير أولئك من ألوان الفنون — إنه ليتلقطها بذهنه الدقيق إذ قد لمح فيها سانحًا من طريف بديع، لعله لم يَعْهَدْه مِنْ قَبْلُ ولم يَعْهَدْه الناس، وإن كان شخصه لم يَتَبَيَّنْ بَعْدُ كل التبين، وصورته لم تَسْتَوِ حق الاستواء، فلا يزال به يَحْكُكْه بحسه المرهف، ويمخضه في ذَوْقه الرَّحب مَخْضًا، وكلما فَعَلَ ازداد في نفسه تَبَيُّنًا ووضوحًا، وهكذا حتى يتمثل لها خَلْقًا سويًّا، فسرعان ما يجلوه على الناس كما جَلَتْه عليه نَفْسه، ما يصل بينه وبين أصله عندهم نسب، ولا يرتبطه بمنجمه الذي خرج منه أي سبب، فلا يحسبونه، مهما جُهِدَ بهم من حد الذهن وترديد النظر إلا خلقًا جديدًا، أنشأته من القِدَم قُدْرَة هذا المفتن الصناع!

وكثيرًا ما يَعْمِد هذا الحاذق الصنع فيما يفطن إليه من هذه الدقائق الكامنة إلى مطلعها والبسط في خلقها بالتوليد والاشتقاق، وبتداعي المعاني، حتى يبلغ بها في ذلك غاية المدى، وأنت تحسبه كذلك مبتكرًا منشئًا، وتظنه مستحدثًا مبدعًا، إذ هو يعلم كيف فتح عليه في كل هذا، ومن الذي ألهمه إياه!

وبَعْدُ، فإذا كان قد تعاظَمَك بادئ الرأي ما زَعَمْتُ في صدر هذا الحديث من أن أرجح الكفتين قد تكون لهؤلاء الصاغة الماهرين، فلعلك الآن قد تطامَنْتَ واستراح إيمانك إلى هذا الكلام بعد إذ بان لك فضل هؤلاء أولًا في الوقوع على تلك الدقائق المستورة المغمورة، ما يكاد يَفْطِن إليها أحد، ولا يكاد يُقَدِّرها حتى هؤلاء الذين نَبَغَتْ بها في بعض الأحيان سلائقهم عفوًا بلا قَصْد ولا سابق تدبير، وثانيًا في تجليتها على الناس في صورة واضحة الخلق، تُرْهِف شعورهم، وتُمْتِع أذواقهم، وتلذِّذ إحساسهم، وتبعث فيهم ما شاء الله من أريحية ومراح!

•••

ولقد كان المرحوم محمد أفندي عثمان المغني مبدعًا بارعًا، وكان المرحوم عبده أفندي الحامولي صائغًا رائعًا، فكان أوَّلُهما ينشئ الصوت (الدور) إنشاءً٢ ويُلَحِّنه على غير مثال، فيخرج قويًّا بديعًا، لأن عثمان صائغ كما هو مبتكر، ثم يتلقفه عبده فما يزال يهلهله، ويسوي من صورته، ويمره على ذوقه الدقيق، فيعدل من أطرافه، ويشع فيه نفسه، ويولد فيه من النعم فنونًا حتى يخرج أقوى وأبْدَعَ وأفْتَنَ، ثم يقال هذا الصوت لعثمان فيه لحن، ولعبده فيه لحن آخر!

ولشد ما كان ذلك يحفظ عثمان على صاحبه، ويغيظه أشد الغيظ، فيروح يغلظ له القول، ويباديه بما هو أقسى من العتب، ويتهمه بالسطو بصنعته، وعبده يُطامِن من هياجه، ويُلَطِّف من حده، ولا يزال به يُدَلـله ويرفِّه عنه بالكلم الطيب حتى يسكن ويرضى، وكان الحامولي، رحمه الله، من دهاة الرجال!

وليس معنى هذا أن عبده لم يكن مبتكرًا ألبتة، فإن له لَابتكارات عجيبة؛ ولكنه كان صوَّغًا أكثر مما كان منشئًا.

وإذا كان فن التنغيم بآي القرآن الكريم قد بلغ اليوم أَوْجه، فلا شك في أن نهضته الحاضرة مدينة للمرحوم الشيخ حنفي برعي، فهو الذي استَنَّ هذه الطريقة الحديثة، فكانت جَمْهَرة القارئين له فيها تَبَعًا.

ولقد نشأ الشيخ أحمد ندا — أشهر القارئين اليوم — يلحن على أسلوب المرحوم الشيخ حنفي برعي، ويَسْلُك نفس طريقته، ويقلده في إيقاعه، ويحاكيه في ترتيله، فإن الشيخ حنفي كان أعلى سنًّا وأقدم فنًّا، ثم ما زال الشيخ ندا يزيد بالتلوين والصياغة وقوة الافتنان، إلى أن استوت له شخصية خاصة، إن هو استقل بها عن شخصية أستاذه، فما برحَتْ عليها مَسحة منها إلى اليوم.

على أن واجب الإنصاف يقضي علينا في هذا المقام، أن نقرر أنه إذا كان أسلوب الترتيل الحديث من ابتكار الشيخ برعي، فإن الشيخ ندا بما وَلَّدَ وما افْتَنَّ قد زاد ثروة هذا الفن أضعافًا، ولا أحسب أن تاريخ أهل التنغيم «مغنين ومنشدين وقارئين» أحصى لأحد ما أحصى لأحمد ندا من سلْخ أكثر من خمسين عامًا مرتلًا قوي الصوت، رائع الإيقاع، تلوح له «الحركة» في عنان السماء، فلا ينخذل عنها، ولا يتزايل عزمه من دونها، بل إنه ليجمع نفسه، ويحلق إليها بصوته القوي المرن، فلا يزال بها حتى يَصِيدَها، ويُفْرِغَها على السمع في لباقة وقوة إبداع!

ولقد فاتني أن أذكر لك أن الشيخ برعي كثيرًا ما كان يُرى واقفًا برجل من هؤلاء الذين يسألون في الطريق بقراءة القرآن، ذلك أنه تُعْجِبه منه نغمة، أو تهزه نبرة، وسرعان ما يتلقفها، فيهذبها ويصقلها، ويُطْلِقها في سهرته سويةً بديعةً تضاف إلى فَنِّه الكريم.

ولقد أخذ المرحوم الشيخ أبو العلا نفسه بفن عبده الحامولي، وكان يتغنى أغانيه، ويقلده في جميع تناغيمه، حتى لم يَكَدْ يَرِث صنعة عبده سواه، على أن أبا العلا كان لبقًا بارعًا، واسع العلم بالفن، محيطًا به من جميع أقطاره، بقدر ما يتهيأ لمصرِيٍّ مِنْ فَهْمِ أصول الغناء العربي، وكان إلى هذا على حظ من الذوق عظيم، ولكنه لم يُرْزَق من حلاوة الصوت وكَرَم جوهره ما يواتي كل تلك المواهب، فلم يبرع، وإن جاد في غنائه؛ ولكنه برع البراعة كلها في تلحينه.

وإذا لاحظْتَ أن الذوق المصري لا يستريح إلا إذا انتهت النغمة بتكريش الصوت، والزر على الحلق، أو ما يدعوه أصحاب الغناء (بالعفق)، قَدَّرْت براعة أبي العلاء وجراءته في الإقدام على تلحين هذه القوافي الصخرية من نحو:

وحَقِّكَ أنْتَ المنى والطلبْ
وأنْتَ المرادُ وأنت الأرَبْ
ولي فيك يا هاجِرِي صَبْوةٌ
تَحَيَّر في وَصْفِها كُلُّ صَبْ

ونحوه:

والله لا أستطيع صَدَّك
ولا أطيق الحياة بَعْدَك

ولا شك في أن الآنسة أم كلثوم تُعَدُّ اليوم من أفخر المغنيات والمغنين، لا بجمال الصوت وحده: بل بسلامة الذوق وجودة الصنعة أيضًا، ولا أدري لو لم تَقَعْ في أول نشأتها في طريق أستاذها أبي العلا، أو لم يَقَعْ هو في طريقها، كيف كان يكون شأنها في الغناء؟

فأبو العلا، رحمه الله، هو باعث فنِّ عبده بتلحينه هذه القصائدَ والمقطوعات التي تُصَلْصِل بها الآن حلوق أكثر المُغَنِّين، إلى أنه خَدَمَ فَنَّي الأدب والغناء جميعًا بما لحن كثيرًا من متخير الشعر القديم والجديد، على حين لم يُلَحِّن أستاذه عبده في هذا الباب غير قصيدة أبي فراس «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»، فإن كان له سواها فما أحسبه بالشيء الكثير.

ولقد مضى صنيع الشيخ أبي العلا سُنَّة دَرَج عليها الأستاذ المُفْتَن المبتدع محمد عبد الوهاب في بدائع أمير الشعراء، وسيدْرُج عليها غيرُهُ في نهضة الأدب الحديثة إن شاء الله!

تذييل عبده الحامولي

في ٢٣ أبريل سنة ١٩٣٤ نَشَرَتْ مجلة «الرسالة» للكاتب مقالًا طويلًا خَتَمَهُ بحادث شهده بنفسه من عبده الحامولي، ولقد رأينا إثباته في هذا المقام:

لم يكن يتهيأ لفتًى حَدَثٍ مثلي أن يسمع عبده الحامولي في سهولة ويسر، فلقد كان في العادة، لا يُغَنِّي إلا في بيوت الطبقة «الأرستقراطية»، ودون أبوابها لُؤْمُ الحُّجَّاب، وعِصِيُّ الأحراس، فما من سبيل إلا في الغفلة من أعينهم، أو الرشوة في أيديهم، أو في التسلل أعجازَ الليل بعد منصَرَف السادة المدْعُوِّين، وعلى بعض هذا أَذِنَ الله أن أسمعَ مَلِكَ المغَنِّين بضعَ عشرةَ مرة.

وبعد فعبده، وتاريخ عبده، وفن عبده، وصنعة عبده، وبدع عبده، كل أولئك غَنِيٌّ عن التعريف والتبيين، ولكنني أبادر فأقرر أن صَوْت هذا الرجل على جلالته وحلاوته، ووفائه بكل مطالب النَّغم في جميع الطبقات، لم يكن بالموضع الذي يَتَمَثَّل لأوهام من لم يَسْمَعُوه من أهل هذا الجيل، بل إن من القائمين مَنْ لعله يجهره في هذا المعنى من الجمال، ولكن لا يذهب عنك أن من وراء هذا الحس المرهف، والذوق الدقيق، والفن الواسع، والكفاية الكافية، والقدرة القادرة على التصرف في فنون النغم، في يُسْر ولباقة وقوة ابتكار، ورعاية لوجوه المقامات المختلفة، والتوفيق إلى كل ما يغمز على الكبد، ألا لقد جمع الله أحْسَنَ هذا كله لعبده الحامولي، فلم يَنْتَهِ أحد فيه ممن سمعنا منتهاه، إذا اسْتَثْنَيْتَ صاحبه المرحوم محمد عثمان، على اختلاف بَيْنَ فَنَّي الرجلين غَيْرِ قليل.

وإني لأذكر أنني سمعته مرة عند مطالع الفجر، وكان ذلك في دار المرحوم السبكي بك في شارع الطرقة الشرقي، ولعله كان قد مَسَّه طائف من الشجا، فكاد يُحِيل العُرْسَ مناحة من كُثْر ما تَبَادر لنغمه الشَّجِيِّ من دموع الناس!

أما الحادثة التي أوثرها بالرواية، فلقد كانت في دار رجل من خئولتنا أَوْلَمَ لتزويج ابنه، ودارُهُ تَقَعُ في حي الناصرية، وكان صديقًا حميمًا للمرحومين عبده أفندي الحامولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، وكان أثيرًا عندهما كريم المحل منهما، وقد دعاهما كليهما لِيُغَنِّيَا معًا في عُرْس ابنه، فَلَبَّيَا الدعوة خفيفين.

وأنت بَعْدُ خبير بأن «أفراح» أولاد البلد لا يُحْجَب عنها الناس، ولا يدفعهم من دُونِها شُرَطٌ ولا أَحْرَاس، وكذلك اكْتَظَّ السرادق بالمئات، إن لم أَقُلْ بالآلاف من أصناف خلق الله.

ويستوي عبده إلى «التخت»، ويتدلَّى في الميدان يحمي ظَهْرَه الشيخ يوسف وأحمد حسنين، ونصر الحصاوي، عليهم رحمة الله، وشيخ المُغَنِّين الآن الأستاذ محمد أفندي السبع، نَعَّمَه الله بأطيب الحياة، ومعهم السيد أحمد الليثي بعوده (أو الجمركشي لا أذكر)، وأمين أفندي بزري وإبراهيم أفندي سهلون بكمانه، ومحمد أفندي العقاد بقانونه، فغنوا وعزفوا ما شاء الله أن يغنوا ويعزفوا، حتى أتوا على ما يُدْعَى «بالوصلة» الأولى، ولست أَذْكُر ما تغنوا فيه من الأصوات (الأدوار)، ثم استراحوا برهة من الزمن عادوا بعدها إلى شأنهم، وما برح عبده رحمة الله عليه، يَضْطَرِب بين «الليل والعين»، ثم يَنْقَلِبُ إلى المواليا فيرجع فواصله ترجيعًا، حتى إذا فَعَلَ في هذا كله الأفاعيل، وصنع ما لا ترتقي إلى صفته الأقاويل، أقبل يغني، والجماعة معه، «الدور» المشهور وهو من نغمة العراق:٣
لسان الدمع أَفْصَح من بياني
وأنت في الفؤاد لا بد تعلم
هَوِيتَكْ والهوى لَجْلَكْ هواني
ولكن كل ده ما كانْشِ يِلْزَمْ

إلى آخر ما يُدْعَى في عُرْف أصحاب الغناء «بالمذهب»، ثم أَمْسَكَ القوم لحظةً خرج بعدها عبده منفردًا، وقفى العقاد على أَثَرِه بقانونه، وقال الجبار: «أَدِينِي صابر على نَارِي!»

لست بمستطيع يا معشر القراء أن أقول لكم كيف قالها الرجل ولا كيف صنع؟ لأنني أنا نفسي لا أدري، ولا أحسب أحدًا من الخلق درى، كيف قال الرجل ولا كيف صنع؟! ولكنني أستطيع أن أقول لكم إن طائفًا عنيفًا جدًّا من الكهربا سرى في هذا الحشد كله لم يسلم عليه أحد: جمد الناس جميعًا، وتعلقت أنفاسهم، وشل كل مناط للحركة فيهم، فما تحس منهم إلا أبصارًا شاخصة، وأفواهًا مفغورة، لو اطَّلَعْتَ عليهم لَخِلْتَكَ في مَتْحَف يجمع دُمًى منحوتة لا أَنَاسِيَّ يترقرق فيها ماء الحياة! حتى القائمون بالخدمة، لقد مَسَّهُم هذا الطائف فجمدوا وثبتوا! وحتى رِدَاف٤ عبده، لقد جرى عليهم من هذا ما جرى على سائر الناس!

ولقد ظَلَّتْ هذه الحالُ زُهَاءَ عشرين ثانية، أعني قُرَابَة ثلث الدقيقة، وينفجِرُ البركان الأعظم يَتَطَايَرُ عنه الحمم، وترى الخلق يموج بعضهم في بعض، لا يدري والله أحدٌ أين مذهبه، ولا تَسَلْ كيف قُدِّرَت الحناجر من الشهيق، ولا كيف بُرِيَت الأكف بالتصفيق، وخرج الأمر ساعةً عن عُرْسٍ مُقام إلى مستشفى مجانين، رُفِعَت فيه الحوائل وفُتِحَت الأبواب، ونُحِّىَ عنه أحراسُهُ من الشُّرَط والحُجَّاب!

١  نُشِرَتْ بجريدة المساء في يوم ٣ ديسمبر سنة ١٩٣٠.
٢  قرأت في كتاب «الأغاني»: يقال في هذا الصوت دور كثير أي صنعة، ولعل كلمة «الدور» أُطْلِقَتْ من هذه الناحية على هذا الضرب المعروف من ضروب الغناء الآن.
٣  ينسب نظم هذا الدور إلى المرحوم إسماعيل صبري، ولكل من عبده وعثمان فيه لحن.
٤  رداف جمع رديف: المراد بهم معارفه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤