في الأغاني المصرية١

لقد شاعت في هذه السنين مقاطيع الغناء المعروفة «بالطقاطيق»، وهي من فاتر القول وساقط الكلام، لا يَرِنُّ في أذنك فيها لَفْظٌ، ولا يَتَشَرَّف على نَفْسك منها معنًى، فأما ما يجري منها على ألسنة الفتيان، فكله خَوَر وتَكَسُّر واستخذاء هيهات أن ينتهض معها للفتى عَزْم، أو يَشْتَدَّ له طَبْعٌ، وأما ما يتصلصل منها في حلوق البنات، فكُلُّه خَنًى وعُهْر، وكله استرسال في الفتنة إلى آخر المدى، وكله تدريب على عصيان الآباء في طاعة الهوى! «أنا لَمَّا اسْتَلْطَفْ ما يهِمِّنِي بابا»! وكله لا يَرْفع الأم عن مكان القيادة، بما يقتضيها أن تفسح في جوانب الحيل لتجمع بنتها بهواها، وتبلغها أَخَسَّ مناها: «هاتي لي حُبِّي يا نينة الليلة!»

وهنالك ما هو أَوْصَلُ من هذا بالتعهر وأعرق في أبواب الفحش، مما إن صُنْتُ عينَكَ عن قراءته، فلا سبيل إلى أن أَصُونَ أُذُنَكَ عن استماعه في الملاهي، وفي الشوارع، وفي أجواف المقاهي، وفي أكسار الدور، ترجعه بنت الشريف على نبرات «البيانو»، وتوقعه بنت الوضيع على نقرات الدف.

وهذا لعمر الله شَرٌّ كثير، وأي شر أبلغ مِنْ أَنْ يُطبِعَ الأبناء على ضَعْف الهمة، وخذلان النفس، وخنث الطبع، وأن نطالِعَ أنْفُسَ البنات في شباب السن، بهذه المعاني الخسيسة، وتُسْتَدْرَجُ أحلامهن إلى تلك الأغراض الوضيعة، إلى ما يجري على ألسنتهن من تهاوُن لأقدار الآباء، وعَبَثْ بوقار الأمهات!

ولقد كانت دور «السينما» تَعْرض من حِيَل اللصوص والقتلة، وأسباب غَدْرِهم وفَتْكِهم ما بَعَثَ الحكومة على مراقبة ألواحها ضنًّا بأحلام الفتيان، عِصْمَة لأخلاقهم من أن يَشِيع فيها الفساد بحكم المحاكاة والتقليد، وهي على كل حال دُورٌ مقصورة لا يغشاها إلا القليل بالقياس إلى سائر الناس، إلى أنها لا تقوم إلا في المدن وحواضر البلاد، فكيف بهذه الأغاني وهي تطير إلى الناس من كل جانب، وتَمْلك عليهم أقطارَهم من جميع المذاهب، وتسلك الأكواخَ وتقتحم القصور، ولا يَسْلَم على أذاها حتى المكفوفات في الخدور، فأنى دَارَت الآذان، سَمِعَتْ صلْصَلَتَها من كل حَلْق وجَلْجَلَتَها على كل لسان!

وإن شططًا تكليفُ الحكومة أن تَنْشُر في الشوارع والدُّور شُرَطَها وعَسَسَها ليقبضوا على أصحاب هذه التلاحين، كما يَقْبضون على المُتَّجِرين في الكوكايين، ويصادروا كُلَّ ما في الأفواه من هذه «الطقاطيق»، كما يصادرون ما في الجيوب من تلك المساحيق، فذلك مما لا يَتَّسِع له الذرع، والمَخْلَص أن يَنْهَضَ جماعة من أئمة الأدب وأعلام الموسيقى، فيدافعوا هذا الوباء، ويُدَاوُوا بالتي كانت هي الداء، فينظم أولئك ما يَخِفُّ على السمع من معانٍ شريفة، في ألفاظ حلوة لطيفة، تَبْعَث الهمم، وتَرْفَع الأنوفَ إلى مَوْضِع الشَّمَم، ويخرجها هؤلاء في تلاحين تُثِير الطَّرَبَ وتهز الأريحية هزًّا!

•••

وبعد، فتالله لو كان لي بعض ثروة «فلان» باشا لَأَجْرَيْتُ على هذه الجماعة من مالي ما يغنيها ويتضمن لها طولَ الحياة، فإذا شَقَّ هذا على النفس، فحسبه أن يفتح الباب، ويبدأ قائمة الاكتتاب، فإذا شَقَّ هذا على النفس أيضًا، فإني أرجوه أن يدعوَ إليه كُلًّا من رُصَفائه «فلان» باشا، و«فلان» بك، والسيد «فلان»، فيقرءوا «العدية»، على هذه النية، فما برحت المشروعات القومية تقوم ببركة أسمائهم، وتنجح بحسن توسلهم ودعائهم، اللهم آمين!

١  نُشِرَتْ في جريدة «السياسة» تحت عنوان «ليالي رمضان» سنة ١٩٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤