ديمقراطية الفنون!

تُرَى أمن الحق الواقع أن الإنسان، وأعني من الأناسِيِّ من يعالِجُون فنَّ البيان، قد يُعْيِي عليه الفكر ويستصعب عليه الرأي في بعض الأحيان، فلا يرى بدًّا من أن يعود بالقلم يستهديه ويستنديه، ويترسم آثاره، حتى يقع على الرأي، ويبلغ — ولو في تقديره هو — مناط الصواب؟

اللهم إنه لَيُخَيَّل إليَّ أن الأمر هكذا، فلو كان هذا حقًّا لبلَغَ بادئَ الرأي من كل مَنْ يُطَالِع به مَبْلَغ العجب، إذ المُقَدَّر أن ذِهْن الكاتب هو الذي يُصَرِّف القلم، لا أن القلم هو الذي يُصَرِّفه، وأن الذهن هو الذي يوحي إليه، ويُمْلي ما يشاء عليه، إذ كل سداد هذه القصبة إنما هو في الرسم والرقم لا أكثر ولا أقل.

والآن أَتَرَقَّى بالدعوى فأزعم أن الواقع، في بعض الأحيان، هو كذلك، وهو إذا لم يَجْرِ في طباع جميع الكاتبين، فإنه يجري في طباع بعض الكاتبين.

على أن من الخلال التي لا يَنْشز عليها أحد، ولا أظن أن يماري فيها أحد، أن الكاتب مهما يُحِطْ بموضوعه، ويَتَكَشَّف له من قضاياه، ويتمكَّن من ناصية الرأي فيه، ويظن أن ذهنه قد استوفاه، وتَقَرَّى جميع أقسامه ومسائله، حتى يتمثل له في صورة مُتَّسِقة الأعضاء، مُتَلَاحمة الأجزاء، ليس بينه وبين أن يَجْلُوها على الطِّرس كذلك إلا أن يَتَفَصَّد بها عليه اليراع في غير جهد ولا عناء، أقول إن الكاتب مهما يُخَيَّل إليه ذلك، فإنه لا يكاد يجري بتدوين ما يَحْضُره من الفكر يراعه، حتى يرى هذا الفكر يزيد وينقص، ويتلون ويتشكل، وقد يَتَحَرَّف ويَتَحَوَّل، وقد يَتَغَيَّر ويَتَبَدَّل، وقد يميل عن سياقه المقسوم، ويعدل ألبتة عن مذهبه المرسوم، فيخرج في النهاية خلقًا غير الذي هَيَّأ الكاتب وقَدَّر، في صورة غير التي سَوَّى في ذهنه وصَوَّر!

هذا هو الواقع، وما أحسب الأمر فيه حبسًا على الكاتبين وَحْدَهم، بل لعله مُتَنَاوِل سائر من يعانون مختلف الفنون.

وهنا أرجو أن يُفْهَمَ من كلامي أنني إنما أريد النظم والأسلوب والسياق، وألوانًا من التفصيل، ونحو ذلك مما تَتَجَلَّى به صور الكلام.

وتعليل ذلك ليس بالأمر العسير، فإن المُفْتَنَّ مهما يظن أن موضوعه قد أصبح بعد جَوَلَان الفكر وطُول التدبر، تامَّ الخَلْق مُكْتَمِل الصورة، بحيث لا يحتاج في نَفْضها على القرطاس إلى زيادة أو إلى تهذيب، فالواقع أن هذه الصورة مهما يَبْلُغ حظُّها من النصاحة والوضوح، لا تعدو أن تكون إجمالية يعوزها كثير أو قليل من دقاق التفاصيل، حتى إذا اجتمع لنقلها إلى عالم الحقائق الخارجية — على تعبير أصحاب المنطق — جَعَلَتْ تَسْنَح له الفِكَر واحدة بعد أخرى في صور جزئيات، وأحيانًا في صور قضايا كلية، وهذه وهذه لقد يبعثها بين يدي القلم وَصْلُ فِكْرة بفكرة، أو التحول من غَرَض إلى غرض، أو الشعور بحاجة الكلام إلى البسط والتبيين، أو الاستطراد بحكم تداعي المعاني، بما لم يَقَعْ للكاتب من قبْلُ في الحسبان، أو غير أولئك مما تَتَغَيَّر به صور المقال، ويجلوه على غير ما تَمَثَّل الذهنُ له من المثال.

•••

هذه عادة الكاتبين، ما أَحْسَب أنه يُسْتَثْنَى عليها منهم أحد، وإذا كان هذا غيرَ ما زَعَمْتُ في صَدْر هذا الحديث، وإذا كان لا ينتهض دليلًا على صحته كله، فلا ريب في أنه قد يهدي إلى تعليله وجه السبيل: ذلك بأن ما يَصْحَب جولةَ القلم من اتساع آفاق الفكر، والنفوذ إلى بعض الدقائق، وسلوك كثير من الجزئيات، والوقوع على ما لم تَتَبَسَّط له الفطنة من قبل، وأَثَر هذا في طبْع الكلام، ونزوع سياقه إلى غير منزعه، وتجليته في غير الصورة المُقَدَّرة له، أقول: إن ما يكون من هذا في صحبة القلم — أعني ساعة تشمير الكاتب للصياغة وإجراء البيان — من شأنه — مع الزمن وكثرة المعاودة — أن يُدْخِل في وهمه أن القلم مما يُرْفِد ويُمِدُّ ويُعِين!

وفي هذا المقام يَحْسُن بي أن أذكر أنني أملي المقال في بعض الحين، وإني لأقوم على هذا ما دام الكلام هينًا لينًا، حتى إذا تَعَذَّرَ عليَّ القول وتَعَصَّى الكلام، أو إذا قَدَّرْتُ أن المقامَ يحتاج إلى حد الكلام وسطوة البيان، أو إلى تزيين اللفظ وتبهيجه، والتأنق في صياغته ونظمه، أَسْرَعْتُ إلى اختطاف القلم، فاستشعرْتُ القوة وأحسسْتُ المدد، وسرعان ما يواتيني مما أبغي من هذا ما لا يواتيني به الجهد في الإملاء!

هذا إلى أن الذهن، كما أَسْلَفْتُ، قد يعيا بالإحاطة، ويضيق عن انتظام جميع جزئيات الموضوع جملة، وربما تواثب عليه من طوارق الفكر ما يشغله ويفرق شمله، ويكفه عن موالاة التصفح والاسترسال، وخاصةً في ساعات القلق واختلاج النفس، وقِلَّة استراحتها إلى الاطمئنان والقرار، أما إذا اجتمع الكاتب للبيان، كان مضطرًّا إلى أن يَجْمَع شمله ويعتنق نفْسه، ويُرْهِف ذِهْنَه ويُذْكِي حِسَّه، ويَصِل كلَّ الوصل ما بينه وبين فكره، ويقطع كلَّ القطع ما بينه وبين غيره، وتراه كلما اطَّرَد في البيان جُلِّيَتْ عليه الصور، وتتابعت المعاني وتلاحقت الفِكَر، فتَيَسَّر له وهي متمثلة بين يديه، أن يَمُدَّ الذهن لِتَفَقُّدها، وتَقَرِّي ما عسى أن يَعْزُب من وجوه الرأي عنها، وتَبَيُّن ما يأتلف منها وما يتناكر، وما يتوافق وما يتنافر، فهيأ له ذلك التسويةَ ما شاء من خلق الفكرة، وتجليتها في صورتها الكاملة، بقدر ما يدخل في طوقه ويتسع له ذرعه.

لعله قد بان لك بعد هذا، الوجهُ فيما زَعَمْتُ من أن الكاتب قد يُعْيِي عليه الفكر ويَسْتصعب عليه الرأي، فلا يرى بدًّا من أن يَعُود بالقلم يَسْتَرْشده ويستهديه مواقعَ الصواب!

وإذا كُنْتُ قد أَطَلْتُ في هذه المقدمة، فاعلم أن هذا شأني اليوم في علاج هذا المقال.

سؤال يتطلع إلى جواب

وبعد، فإن سؤالًا يترجرج منذ أيام في نفسي، وكلما هممْتُ بالارتصاد للنظر في موضوعه، وإشاعة الذهن في أقطاره، والتماس جواب له تستريح إليه النفس ويَطْمَئِنُّ به صحيح المنطق، تطايرَتْ عنه شُعَب هذا الذهن بما يَهْجِم عليه من طوارق الفكر، أو يَغْمز من أوجاع المرض، أو بما يَزْحم المرء من هَمٍّ يَعزُّ عليه في بعض الأحوال، أن يجد له مَفِيضًا ومُتَنَفَّسًا، وإني لأصرف هذا السؤال عني صَرْفًا وأَدُعُّه دَعًّا، فلا يني عن مطالعتي من أي أقطار الفكر لأن له مدخله، وما برح كذلك يعتادني لا سلطان لي عليه، ولا طاقة لي بكفِّه والخلاص من طنينه، ولا أنا — وقد عرفت شأني — بقادر على الاستراحة إليه والاسترسال معه حتى أَبْلُغَ به ولو بعضَ ما يريد!

إذَنْ لم يَبْقَ بد من جمع الشمل، وحد الذهن، وكَفِّ الطوارق عن النفس، واستكراه الفِكْر على التجرد في هذا المطلب أو يبدو فيه وجه الرأي، ولا يكون هذا، إذا قُدِّرَ أن يكون، إلا بانتضاء القلم والتشمير للبيان، فعلى هذا نمضي مُجْتَدين القلم، وأكبر الظن أنه لن يجود بجليل!

أما السؤال المذكور بكل هذا فهو: ترى هل من الخير أن تُشَاع الفنونُ في الناس وتُرْسَل بين أيديهم كافة، يتناولها منهم من شاء، ويَنْقَبِض عنها من شاء؟ أو أن الخير في أن تكون حبسًا على طائفة خاصة، لا يجوز أن يَقْتَحِمَ عليهم شأنَهُمْ فيفري فيها فَرْيَهم إلا لمن دَلَّت الدلائل على كفايته وتهيئته للتجويد والإحسان، أو على التعبير العصري: هل الأفضل أن تجري الفنون على سُنَّة «الديمقراطية»، أو أن تكون «أرستقراطية» لا يَلِيهَا إلا طبقة معينة من الناس؟

لقد يتعاظم بعض القارئين أن يَنْبَعِث مثل هذا السؤال في هذا الزمن الذي تَنْتَشِر فيه «الديمقراطية» وتَتَبَسَّط بكل قواها حتى تكاد تَضْغط آفاق العالم جميعًا، لا يسلم عليها ما أقامت الأحقاب الطوال من الحدود، ولا ما رفعَت التقاليد العاتية من الحواجز والسدود!

واللهم إن ما يَتَعَاظمني من شأن هؤلاء لَأَعْظَم، فما كُنْتُ لأشير على الطبيعة برأي، أو أَتَقَدَّمَ إليها بأمر، أو أسأل خَلْقًا من الناس أن يكفوها عن غايتها، أو يَعْدِلوا بها عن مَذْهَبِها، وأين أنا والناس جميعًا من ذاك؟! إنما وجْه السؤال إلى المفاضَلَة بين أن تصنع الطبيعة كيت، أو أن تُعَدِّل من نفسها إلى كيت، فالأمر لا يخرج عن أفق التمني على كل حال.

على أن الإنسان مهما يكن ضعيفًا بإزاء عُتُو الطبيعة وشدة سطوتها، فإنه لا يعوزه لطف الاحتيال على التخفف من بعض أذاها، واستخراج الخير من أثناء شرورها، وتوجيهها في بعض مذاهبها إلى ما يجديه ويرفه عنه بقدر غير يسير، فإذا كان موضوع اليوم قد عُقِدَ للمفاضلة بين «ديمقراطية» الفنون و«أرستقراطيتها»، فما كانت النية في علاجه متجاوزة هذا المقدار.

احتكار الغناء

وبعد، فما حَرَّك هذا السؤالَ في نفسي ولا أثاره كُلَّ هذه الثورة بي إلا ما يروعني هذه السنين من الكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الشعر، والشعر الغنائي على وجه خاص، والكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الغناء للجمهرة، ومن يصطنعون تلحين الأصوات!

وأكبر الظن أن أبناء هذا الجيل لا يستكثرون من ذلك ما أستكثر، ولا يُرَوِّعُهم منه ما يروعني، فلقد شَهِدْنَا جيلًا قَبْل هذا كان نَظْمُ المقطوعات الغنائية فيه مقصورًا على نَفَر من أعيان البيان أمثال إسماعيل باشا صبري، ومصطفى بك نجيب، ومحمود أفندي واصف، والشيخ الدرويش، وقليل غير هؤلاء، كما كان تلحين الأصوات يكاد يكون كذلك حُكْرَة لعنق من الناس، فلم يكن يعالجه إلا الشيخ المسلوب، ومحمد أفندي عثمان، وعبده أفندي الحامولي، وإبراهيم أفندي القباني، وداود أفندي حسني،١ فإذا كان وراء هؤلاء من يكابدون التلحين، فهم ولا ريب أقل من القليل.

ولقد عاش المرحومون الشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ محمد الشنتوري، ومحمد أفندي سالم، وعبد الحي أفندي حلمي ما عاشوا، لم يُؤْثَرْ عن واحد منهم أنه لحن طَوَالَ حياته صوتًا (دورًا) واحدًا، إذ كلهم من الأعلام المبرزين بين أصحاب الغناء!

وتعليل هذا ليس مما يحتاج إلى كد الأذهان، فإن هذا الجيل الذي شَهِدْنَا أطرافه إنما قام في أعقاب عصر كانت المهن جميعًا — وخاصة في أمهات المدن — تقوم فيه على ضَرْب من ضروب الاحتكار، إذ كان لكل أصحاب مهنة عريف يَدْعُونه «شيخ الطائفة»، فلا يدخل في العادة، أحد فيها يُعَالِج منها ما يُعَالِج أهلها إلا بإقرار هذا «شيخ الطائفة» وإجازته!

ولقد حدثني المرحوم محمد أفندي سالم، وكان من المعمرين، أنه أَدْرَك أيامًا لم يكن يُؤْذَن فيها لامرئ باعتلاء منصة (تخت) الغناء رئيسًا إلا إذا اجتمعَتْ مشيخة أصحاب الفن في حفل جامع، حتى إذا استمعوا لغنائه، وقَدَّروا فيه الكفاية للمهنة، قاموا إليه فحزموه، وقَرَّبوا إليه ضِغْثًا من البقدونس فأصاب منه ما شاء! وكان ذلك منهم إجازة له باحتراف المهنة، وأذانًا بكفايته لغناء الجماهير!

•••

لا أشك في أن هذا الكلام سيأخذ نَظَرَ القارئ لأول وهلة، فيبعث فيه الدهش، وقد يُثِير سخطه واشمئزازه جميعًا، فليت شعري، كيف يُزَمُّ تَصَرُّف الناس في أفشى المباحات، ويُؤْخَذ بمخانقهم في أشيع ألوان الحريات بأقسى من هذا وأَنْكَر وأَشْنَع! حتى الغناء! والغناء — لو عَرَفْتَ — إنما هو أفصح تعبير وأحلاه، عن أدق ما يَعْتَلِج في النفس وأخفاه، ولعمري ما كان هذا من شيمة الإنسان وحده، فلقد سَبَقَه إليه الحيوان، وإليه سَبَقَتْهُما الطبيعة جميعًا، هذا القُمْرِيُّ يشدو، وهذا الكروان يُغَرِّد، وهذا الحمام يسجع، وهذا العصفور يسقسق، بل هذه الطبيعة التي نُخَلِّيها من الحس والإرادة، وإن لها هي الأخرى لترجمة عن شأنها أي ترجمة، وتعبيرًا من الغناء والتصويت أي تعبير، فهذه الرياح تعزف، وهذه الرعود تزمزم وتَقْصِف، وهذه الأمواج تجرجر، وهذا النبات ألا يُطْرِبُك رفيفه، كُلَّمَا حَرَّكَه النسيم فحف حفيفه؟

أكل أولئك له أن يُغَنِّي كيفما شاء، ويترجم عن ذات نفسه بالترجيع والجلجلة كلما أراد، اللهم إلا الإنسان، فما كان ليؤذن له فيه إلا بإجازة وترخيص؟

هذا من جهة الحق والنظر، أما من جهة الفعل والأثر، فلا شك في أن حَصْر الغناء للجمهرة في طائفة قليلة العدد، يَقْتَضي حصر الاستماع إليه، والطرب عليه في طائفة قليلة العدد كذلك بالقياس إلى المجموع، وفي ذلك حرمان السواد لذةً من أمتع اللذات المشروعة، وحُيولةٌ بينه وبين تهذيب ذوقه، وإرهاف حِسِّه، طوعًا لانقطاعه عن الاستماع إلى الغناء ألبتة، أو تروية أذنه بغناءٍ لا يجري على أي عرق من هذا الفن الجميل!

ثم إن في قصر الخاصة وأشباه الخاصة على الاستماع إلى نفر معدود من جماعات المغنين، يدورون بأصواتهم في تلاحين قليلة بالضرورة، ما من شأنه إدخال الضجر عليهم، وبعث الملل فيهم.

ثم لا تَنْسَ أن في هذا الصنيع خَنْقًا للمواهب في مهودها بما يُقَام من العواثير دون مباشَرة الناجمين من أصحابها للمهنة، واستصعابهم لتكاليفها، وما يتداخلهم من الخوف والرهبة إذا تَقَدَّموا لمزاولتها.

ثم إن في إجازة الغناء من جماعة معينة، لها بالضرورة فنٌّ خاصٌّ، وذوق يجري في دائرة مشتركة، ما من شأنه كذلك أن يَسُدَّ الطريقَ على كل مُسْتَحْدَث طريف، وبذلك يَظَلُّ الفن محصورًا في دائرة ضيقة، لا يكاد يتسع أو يرقى على الزمان!

فإذا أدهشك هذا الصنيع وفَظَعَ بك، فأنْتَ لعمري في مقام النظر، وتقليب الفكر، ونَظْم قضايا المنطق وتَرَسُّم أقيسته حق معذور.

•••

فإذا نحن تَحَوَّلْنَا من دائرة الفكر والنظر إلى أُفُق الواقع الذي يلامس الحِسَّ ويلابس الذوق، فليت شعري ماذا نجد؟

ألا إني لمحدث بلسان رجل أَدْرَكَ العهدين، وتَذَوَّقَ الغنائين، فإذا أخطأَتْني الترجمة عن الواقع، فإنني صادق الترجمة عما أُحِسُّ وما أجد، وما يُحِسُّ معي وما يجد كثيرون.

قديم وجديد!

ذلك الغناء الذي كنا نسمع من الحامولي وعثمان وأضرابهما، وما برح يردده بعض المُغَنِّين، هذا الغناء على أنه يدور في أنغام محدودة، وتلاحين قليلة العدد، لقد كان يواتي أذواقنا، ويُشِيعُ الطَّرب فينا، ويفحص عن مطاوي نفوسنا، ويبعث فينا من الأريحية ما يَسْتَخِف أَرْسَخَنَا نفسًا وأثبَتَنَا توقرًا!

لقد كنا نجد في هذا الغناء صورة بَيِّنَة مما في نفوسنا، حتى لكان يُخَيَّل إلينا أنه صادر عنها لا وارد عليها، وكأننا نحن الذين لَحَّنُوه وصاغوه، فإذا لم يَبْلُغْ بنا الشعور هذا الموضع، خِلْنَا أنه لو كان أفضى إلينا بتلحينه وصياغته لما أخرجناه وصَوَّرْنَاه إلا هكذا، بل إن حُسْن السبك وقوة الصياغة لَتَذْهَب بنا إلى الشعور بأن هذا الذي نسمع إنما هو شيء من صياغة الطبيعة لا أثر فيه لصنعة الإنسان، فهو كذلك خُلِقَ وكذلك كان، وما كان لامرئ بتغيير فطرة الطبيعة يَدَان!

يتحول الملحن بك من نغمة إلى نغمة، ويَعْدِل بك من فَنٍّ إلى فن، ما تُصِيب أذُنَك عثرةٌ، ولا تُحِسُّ نبوةً، بل إنك لتجد هذا التنقل مما تقضي به الطبيعة أيضًا، وكثيرًا ما تستشرف له نَفْسُك قبل أن يبلغه حلْق المغني؛ لقد كان هذا الغناء في الجملة، أشبهَ ما يكون بالجدول المتعطف المتأوِّد، لا يُعَكِّر تأوُّدُه من صفائه، ولا يَكُفُّ تَعَطُّفُه من اطراد مائه، كان غِنَاء تَحسَبه بسيطًا ليُسْرِه وسلاسته، ومواتاته لطبيعة المصري، وفي هذا اليسر والسلاسة المُقَدَّرة كلها والفن أجمعه لو كان يَدْري السامعون!

أما الغناء الغالب في العصر — وأعني به الجديد — فلست أكتمك أنه أكثر شعوبًا، وأرحب طروقًا وأوسع دروبًا، تنوعت أعلامه، وتعددت أنغامه، إلا أنه مطبوع بالطابع الغربي، لقد تَرُوقُني أنا المصري منه النبرة، ولقد تهزني فيه النغمة، على أنه سرعان ما يَثِب بأذني الوثبة الشديدة، ويَطْفر بِحِسِّي الطفرة الهائلة، فيمتلخ الطرب في نفسي من أصله امتلاخًا، ويُطَيِّر ذوقي كُلَّ مُطَيَّر، ويبعثره كُلَّ مُبَعْثَر، حتى لا أراه يحتاج مني إلى جهد عنيف في الجمع والتلفيق!

وقد يقال: إن نبو هذا الضرب من التصويت على الآذان إنما يَرْجِع إلى جِدَتِه وطرافته، فإذا هو دار على الزمان وتَرَدَّد على الأسماع، أَلِفَتْه الأذواق، واستراحت إليه النفوس وطَرِبَتْ عليه، شأن كل جديد مُسْتَحْدَث، وخاصة في هذه الفنون.

وأقول: إن جِدَته وغرابته على الأسماع قد يكون لهما، من هذه الناحية، بعض الأثر، ولكن لا يكون لهما وَحْدَهُما كل الأثر، وهذا عبده أفندي الحامولي رحمة الله عليه، لقد استحْدَثَ في الموسيقى المصرية جديدًا، وأدخل عليها ما لا عَهْدَ للأذن المصرية به من قبل، ومع هذا فلم يَنْبُ جديدُه على سمع، ولا نَشَزَ طَرِيفُه على طَبْع، بل لقد تَقَبَّلَتْه الناس، خاصتهم وعامتهم بأحسن القبول، وهَشَّتْ له نفوسهم أيما هشاشة، وطربَتْ به أيما طرب!

وقد يُسْتَدْرَك على هذا بأن ما جاء به الحامولي ليس غريبًا على الموسيقى المصرية ولا هو عنها ببعيد، فإنه لم يعد فيما استعار موسيقى جيرتنا ومن كانت تسلكنا معهم أوثق العلائق من السوريين، والحلبيين، والأتراك!

وإذا نحن تَرَخَّصْنا في إساغة مثل هذا الكلام، كررنا بالاعتراض بما صنع المرحوم الشيخ سيد درويش، فلقد تَبَسَّطَ في تلاحينه بالموسيقى المصرية إلى حد بعيد، فاستعار لها ما شاء الله من موسيقى السوريين والعراقيين والحلبيين والأتراك، وأدخل عليها صدرًا جليلًا من موسيقى الغربيين، فما نَبَتْ بصنيعه أُذُنٌ ولا التوى على طبع، بل لقد أرضى وأعجب، ولذَّذَ وأطرب، وبَعَثَ في النفوس من الأريحية ما لا يكاد يتعلق به وصف الواصفين!

وفي الحق إن جديد سيد درويش إذا كان لَقِيَ أَوَّلَ منحدره إلى السمع شيئًا، فالذي يَلْقَى كلَّ جديد مما يُشْبِه القلق بحكم العجب والاستغراب، على أنه ما لبث أن استراحت له الآذان، ورضيته الأذواق، وهَفَتْ إليه النفوس، وتداخلها الطَّرَب عليه من جميع الأقطار، في حين أن هذا الذي نسمع اليوم من جديد الغناء، إذا صح هذا التعبير، لا يزداد على الترديد إلا نشوزًا على الأذواق، وتعاصيًا على الطباع!

كلمة الحق

فإذا طَلَبْتَ كلمة الحق قُلْتُ لك: إن سيدًا كان رجلًا مُفْتَنًّا حَقَّ مُفْتَنٍّ، رَحْبَ الطبع، دقيق الذوق، مُرْهَف الحس، نَيِّر النفس، تَسْنَح له النبرة من الموسيقى الأجنبية، شرقية أو غربية، فيدرك أنها مما يمكن أن يوائم طبع المصري، ويتسق لذوقه، وسرعان ما يُعَالج بعض خلقها بالتسوية والتهذيب، ثم يُدْمجها في تلاحينه ما تُحَسُّ هي ولا تُحَسُّ لها وحشةٌ في الغناء المصري ولا استغراب!

أما الغالب في هذا الذي نسمع الآن من ذلك «الجديد»، فليس أكثرَ من تلفيق وترقيع لا يقوم على أساس من الفن، ولا يجري على عرق من الذوق، ولا يجلي على النفس أية صورة من صور الجمال!

اللهم إن جُهْد الملحن من هؤلاء أن يتصيد النغمة الأجنبية، فيحْشُرها في موسيقانا حشرًا، ويستكرهها عليها استكراهًا، واقعة ما وقعت من النظم الغنائي.

بل إني لستُ متزيدًا ولا غاليًا إذا زَعَمْتُ أن بعض هؤلاء إذا استصعب عليه الصيد من النغم الأجنبي، اعتمد حلقة فلا يزال يُلَوِّيه ويُعَثِّره حتى يُخْرِجَ له شيئًا نافرًا نابيًا، يصك الأسماع صكًّا، ويمخض النفوس مخضًا، لأنه لا يفهم من «التجديد» إلا أنه الإتيان بالغريب «والسلام»!

والعجيب أن أكثر هذه التلاحين إنما يبتدئ وينتهي بصياح مزعج، هل سَمِعْتَ — حفظك الله — نُواح النائحات المصريات في أعقاب الجنائز؟! هذه أطراف الغناء، أما أثناؤه فَتَكَسُّر وتَخَاذُل وتَزَايُل، وأنين وحشرجة كحشرجة المحتضر، دع التخنيثَ في الألفاظ والتطرية في الأناظيم، فلذلك حديث آخر إن شاء الله!

ديمقراطية الفنون

قُلْتُ لك في بعض هذا الحديث إن فن التلحين وصنعة الغناء للجمهرة إنما كانا محصورَيْن في طائفة قليلة العدد، سواء من هؤلاء أو من هؤلاء، وقد وَصَفْتُ لك بقدر ما طَاوَع القلم، براعتهم وقُوَّة تلاحينهم، وهل أَدَلُّ على براعتها وقوتها من ثباتها وترديدها في هذا العصر عصر «التجديد»، ما يَخْلَق لها على الترداد قديم، ولا يَبْلَى لها على التكرار أديم!

فهل لنا بعد هذا، أن نُضِيفَ إسفاف أكثر هذه التلاحين «العصرية» وفسولتها وغثاثتها، وعدم صلاحيتها للقيام، والبقاء على الأيام، إلى استباحة فن التلحين، حتى أصبح يُعَالجه من شاء، وينتحله من الناس من أراد؟ وبِحَسْبِك أن تَسْكن إلى «الراديو» بضعة أيام لتتعاظمك الكثرة الهائلة في عديد الملحنين في هذا الزمان، فإنك لا تكاد تسمع أغنيةً من فتًى ناشئ أو من فتاة حَدَثة إلا أَذَّنَ المذيع أنها من تلحينها أو من تلحينه، أو من تلحين فلان أو فلان أو فلان، من أسماء لا عَهْدَ لك بها من قبل، ولعله لا يكون لك عهد بها بعد الآن، حتى لقد تُخَيِّل إليك هذه الكثرة أن أهل مصر جميعًا، رجالهم ونساءهم، سيصيرون عما قليل ملحنين!

أرستقراطية الفنون

وإذا صَحَّ أن العلة في كل هذه البلية التي تجني على الأذواق، وتكاد تحرمها الاستمتاع بالفن الرفيع، إنما هي في إطلاق فَنَّي التلحين والغناء يَرِدُهُمَا ويعالجهما من هَبَّ ومن دَرَجَ من الناس! أفترانا نَذْهَبُ إلى القول بوجوب تقييدهما، بحيث يُقْصَر علاجُهما على الأكفاء القادرين؟

وبعد، فلقد تَعْلَمُ أن هذا القصر والتقييد قبيح لما تَقَدَّمَ لك من الأسباب، على أنه لا حيلة فيه، ولا سبيل إليه في عُرْف هذا الزمان.

ولكنني أرجو ألا يذهب عنك أن الفن نَفْسَه أرستقراطي، لكن بالطبع لا بالجعل، ذلك بأن الفن كما تعلم ابنُ الموهبة، والمواهب ليست من الحق المَشاع لجميع الناس، إنما هي حبس على أولئك الذين يصطفيهم الله لها من الأفذاذ الأندرين من الناس، وهي وحدها التي تُنَادِي على صاحبها وتدعو إليه، وتُعْلن في الأملاء عن كفايته وسداده ووجوب استئثاره، وتنفض عن صحيح الفن الزُّيوف، وتَدُعُّ عن بابه الواغل٢ والدخيل، فالفن بطبعه حَبْس على أوليائه مهما كَثُرَ مُدَّعُوه، وعَظُمَ مُنْتَحِلُوه، ومهما بَرَعَتْ وسائلهم في التزييف والتدليس على الغافلين! وكذلك سُلِّمَ بالكفايات الحق لأصحابها على طول الزمان.

وإذا كان يَهُولُنا اليومَ كثرةُ منتحلي فن التلحين وصنعة الغناء مما لا وزن لهم ولا كفاية، مع كثرة من يُصْغي إليهم ويُطْرِيهم، ويخلع كل فَخْم من الألقاب عليهم، فليس ذلك من أثر «الديمقراطية» الفنية كما يُظَنُّ عند ابتداء النظر، بل إن ذلك واقع لأننا نعيش الآن عَيْشًا غير طبيعي، وبعبارة أصرح؛ لأننا في ثورة اجتماعية تناوَلَتْ أسبابنا جميعًا، فما نرى من هذا إنما هو من الفوضى لا من الديمقراطية، والفوضى كما تعلم؛ هي استثناء وشذوذ ما له في الحياة الطبيعية قرار.

ولقد قُلْتُ في أثناء هذا الحديث: إن الإنسان لا يَدَ له بتغيير ظواهر الطبيعة، ولكنه بِلُطْفِ الحيلة يستطيع أن يُخَفِّف من أذاها، ويستخرج الخير من خلال شرورها، وكذلك يستطيع النقدة بألسنتهم وأقلامهم، أن يَدُلُّوا سَوادَ الناس على مكان الحَسَن ومكان القبيح من هذا الذي نحن فيه، رِفْقًا بأذواقهم ورحمةً بهذا الفن الجميل!

١  المراد بالتلحين هنا تلحين الغناء المعروف بهذا الاسم، على أن هناك تلاحين أخرى للمولد النبوي، وأناشيد الذكر، والمسرح، وغيرها، وهذه كان لها مُلَحِّنُوها من غير أولئك المذكورين.
٢  الواغل: الداخل في شراب القوم وليس منهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤