الشيخ سيد درويش١

سيداتي، سادتي

لقد فرضْتُ لنفسي إجازة أستريح فيها من عناء أي عمل! على أن أعود إلى شأني في خلال شهر أكتوبر، إذا أَذِنَ الله ومَدَّ في العمر وبَسَطَ في العافية، ولكنني عُوجِلْتُ بالدعوة إلى الحديث في هذه الليلة، ولقد كان في المعاذير مندوحة، لولا أن الحديث في صديقي المرحوم الشيخ سيد درويش، وللشيخ سيد درويش عندي مقام كريم.

وإذا كنت أحدثكم الليلة عن هذا الرجل، فما كان حديثي عن رواية راوٍ أو نقل ناقل؛ إنما هو من رؤية راءٍ وشهادة شاهد:

رجلان اثنان رأيتهما أول ما رأيتهما، فإذا كل منهما في مبدأ النظر من أصغر الناس وأخفهم في الميزان، ثم ما برح كل يوم يكبر في عيني ثم يكبر حتى يضيق به مدى النظر جميعًا، وحتى أصبح وزْنُه وتقديره مما ينوء بكل وزْن وكل تقدير!

هذان الرجلان الصغيران الكبيران، الدقيقان الجليلان، هما الشاب العالِم الهندي ضياء الدين أحمد، والشاب الموسيقار المصري سيد درويش، وضياء الدين هذا هو الذي أحرز جائزة إسحق نيوتن ولما يزل في السادسة والعشرين!

ولندع ذلكم العالم الهندي الآن، ولنمض بالحديث في هذا الذي نحتفل اليوم بذكره:

في إحدى سِنِي الحرب العامة كُنْتُ أقضي شطرًا من الصيف في الإسكندرية، ولي صديق سَرِيٌّ من أهل القاهرة يقضي الصيف كذلك هناك، فدعاني ذات عشية إلى داره، وأخبرني أنه سمع بشاب من أهل الإسكندرية يجيد الغناء، وأنه قد وَصَفَهُ له فلان، وأحسن القول فيه، فأرْسَلَ في دعوتِهِ ليسمعنا شيئًا، فانقبضْتُ ووجمْتُ، وكان لهذا مني سبب قوي، فقد رُمِينَا في عامنا ذلكم بكثير ممن يتكلفون الغناء، هواة ومحترفين، وتقدمتهم ألوان المبالغات، فلم نخرج منهم إلا بصك الآذان وتعكير الأذواق، وهَمَمْتُ أكثر من مرة بالانصراف، وصديقي يمسكني، ويعالج تبرمي بفنون التبصير والتعليل!

شكله ودله

ثم أقبل علينا فلان هذا ومعه شيخ معمم، مستدير الوجه، أسمر اللون، مليح العينين، في أنفه شيء من الفطس، وفي فمه قليل من الفوه، وهو يميل إلى الطول، غير بادن الجسم وإن كان مكتنز اللحم، نظيف الثوب، يتأنق في ثيابه برغم ما يبدو عليه من رقة الحال، وهو في الجملة مقبول الخلق والشكل، لا تَنْقَبِض النفس دونه، فإذا داخلْتَه بالحديث وباسطْتَه في السمر، تَكَشَّفَ لك عن عذوبة نفس، وظُرْف طبع، وخِفَّة روح، وحضور ذهن، وإصابة في القول، وأدبِ إيماءة وخطاب، فسرعان ما تهفو نفسك إليه، وتحسها قد تهافتت من فورها عليه!

هذه هي الصورة التي جُلِيَتْ عَلَيَّ لسيد درويش في أول مجلس جمع بيني وبينه، ولكن بقي الغناء! … ويا ويلي مما سَأَلْقَى من هذا الغناء، أو على الصحيح من هذا العناء، وصَدَقَ من قال: من لسعته الحية خاف من الحبل!

سيداتي، سادتي

من حق هذا الشعور الذي جلوته عليكم، شعور الكراهية بظهر الغيب، لاستماع غناء هذا الرجل أن يَلْفِتَ الذهن إلى أمرين حقيقين بالنظر والتدبير:
  • (١)

    أنه إذا ساغ للمرء أن يصانع في الضرورات، بل لقد يجب عليه ذلك في بعض الأحيان، فإنه لا ينبغي له مطلقًا أن يُصَانِع في الكماليات، فلقد تقضي عليه الضرورة بأن يتبلغ بكسرة الخبز اليابس ليدفع ألم الجوع، وقد يشرب الماء الآسن لِيَمْسِك عليه نفسه، أما أن يطلب الترفيه والتلذيذ فيقعد لسماع صوت ناشز على السمع، في صنعة نابية عن الطبع، فذلك ما لا يسوغ، لأن تركه خير من تناوله.

  • (٢)

    أن الإنسان متعصب بالطبع، لقد تَسْبِق إلى نفسه كراهة الشيء، لا لعلة واضحة، ولا لحجة ناصحة؛ بل لقد يدخل عليه هذا لمحض حدس أو سوء تقدير، فما يزال كارهًا له نافرًا منه، حتى ما يطيق أن يسمع فيه قولًا معروفًا، ولو قد طرح تعصبه، وأقبل عليه مخلصًا صادق الوزن نزيه الحكم، فلربما تغَيَّرَ رأيه فيه، فأحبه وآثره، وأنزله من هواه أكرم المنازل، وأغلب الظن أنه لو أَخَذَ الناسُ نفوسهم بهذا في تناول الأشياء وبَحْثِها والحكم عليها، لَخَفَّ كثير من هذه الأحقاد المذهبية والحزبية المتفشية في جميع بلاد العالم في طول الزمان!

سيداتي، سادتي

دُعِيَ للشيخ بعود فجَسَّه وأصلحه، وجعل يعزف عليه وأنا مشغول عن الإصغاء إليه بما ملكني من التبرم والتكره لما سنُرْجَم به في ليلتنا من سمج الغناء، متجه بالرغبة إلى الله تعالى في ألا يُطِيلَ مدته، إذا لم يُكْتَب لي من هذا المجلس الفرار.

ثم غنى الشيخ بصوت خشن مطلعه، إن لم يزدني بادئ الرأي يقينًا بما قَدَّرْت، فقد أمسك علي بعض هذا اليقين، على أنني من باب المجاملة، التي جرت بها العادة، كنت أتكلف إظهار شيء من أمارات الاستجادة والاستحسان، وشهد الله ما بقلبي من هذه الاستجادة وذلك الاستحسان كثير ولا قليل!

ثم لم يَرُعْني إلا أن يبعثَ انتباهي ما كان يُصيب الرجل في تصرفه من فنون النغم، وهي على أنها طريفة جديدة، إلا أن طرافتها وجِدَّتَها لا تنبو بها عن السمع، ولا تخرج بها عن آفاق الذوق، فكنتُ أحيل الأمر على محض المصادفة، وهذا لقد يقع لكثير ممن لا كفاية لهم في صناعة الغناء ولا سداد.

ثم راح يُرَجِّع مقطوعة في تلحين يستوقف السمع بطرافته وحسن سبكه، فسألته عن ملحنها، فزعم أن ذلك من صنعته، فأوقع التعصب في نفسي أن الأمر لا يعدو إحدى اثنتين: فإما أن الرجل ينتحل ما ليس له، أو أنها كانت منه بيضة الديك كما يقولون.

ثم تَفَرَّقْنا على موعد، فلما كانت الليلة الثانية رُفِعَ لي من الرجل قَدْرٌ، وصَحَّ عندي أنه ممن يُحْسَن الإقبال عليه والإصغاء إلى غنائه، ثم كانت ليلة ثالثة، فرابعة فخامسة، وهو في كل ليلة يزداد عندي قَدْرًا على قَدْر، ويَرْجُح وزنًا على وزن، حتى لقد استطاع في بضع ليالٍ أن يَغْزُوَ كل تعصبي غزوًا، ويقتاد كل سمعي وكل ذوقي لفنه الجليل أسيرًا.

•••

ولقد كُنْتُ ممن حسنوا للشيخ سيد التحول إلى القاهرة، ففيها مُتَّسَع لِقَدْرِه، فهي عاصمة البلاد، وفيها فُحُول المغنين وحذاق أهل الفن، وبَعْدَ لَأْي فَعَل، واتصل من فوره بنادي الموسيقى، وكان حضرة رئيسه قد سمعه من قبل في الإسكندرية، فقَدَّرَه وأُعْجِبَ بكفايته.

وعلى كل حال، فإذا كان سيد درويش يوم مهبطه القاهرة مقدورًا فيها من خمسة نفر أو ستة، فلقد كان يومئذ مغمورًا عند عامة أصحاب الغناء وأسبابه بوجه خاص، وعند جَمهرة الناس بوجه عام!

ليت شعري: كم سنة كان ينبغي أن يقضي هذا الفتى في نضال وكفاح حتى يدرك حظه، ويرتفع صيته، ويسلم له مشيخة أهل الفن بمكان الإمامة، ويعقدوا له لواء الزعامة؟ وأنتم أدرى بأن خلال الغيرة والحسد والحقد قَلَّ أن تجد لها مرعًى أخصب من صدور أصحاب الفنون، ولكن اسمعوا! اسمعوا!

لم يمضِ على مَهْبِط هذا الفتى بضعة أشهر حتى رأيته يغني في «كازينو» البسفور ومن حوله أحذق العازفين وأجَلُّهم في مصر قَدْرًا، ووقف بين يدي «تخته» أئمة الفن من أقطاب نادي الموسيقى، وهو يغني صوتًا (دورًا) من تلحينه، ولعله كان من نظمه أيضًا: يغني ويتصرف، ويعلو ويهبط، ويتيامن ويتياسر، ويخرج من فن إلى فن، ويتعطف من نغم إلى نغم، ويلم بالقديم، ثم يميل إلى ما أبدع من الحديث، وكل أولئك يفعله في خفة ولباقة وقوة صنعة وروعة أداء، وترى القوم وقد أمسكوا كلهم رهن بيانه، وطوع بنانه، وكأنه فيهم «دكتاتور» قد خلص له وجه السلطان كله، لا اعتراض لقوله، ولا تعقيب لإشارته، وما شاء الله كان!

أسلوبه وصنعته

سيداتي، سادتي

لا تنتظروا مني أن أحدثكم عن نشأة الرجل، وكيف درس فن النغم، وعمن أخذ، وكيف تهيأ له أن يجدد ويبتكر، وبماذا صارت له هذه العبقرية الفخمة، فذلك ما لا أعرف منه كثيرًا، على أن الوقت المقسوم لي الليلة، أَضْيَق من أن يسع لهذا القليل الذي أعرف، وكيفما كانت الحال، فالمواهب مغروزة في أصحابها، والعبقرية كامنة في نفوسهم، لا تحتاج في ظهورها وإيتائها آثارها الضخام إلا إلى قليل من التلقين والتوجيه والإرشاد، وما أحسبهم جاءوا سيدًا بأقطاب أهل الفن من أعلى معاهد الموسيقى في العالم، حتى تَمَّتْ له كل هذه البراعة، بل لقد أخذ الموسيقى عمن أخذ عنهم كثيرٌ غَيْرُه، فإذا كان هناك فرق بينه وبينهم، فإنه كان أقصر منهم مدة تعليم وتمرين، وقد تقدم وتأخروا، وبرع وجمدوا، ونبه وخملوا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم!

إذَنْ فلنقصر الكلام على أسلوب الرجل وصنعته، وما أحدث من الأحداث في الموسيقى المصرية في هذا العصر الحاضر.

كان سيد درويش، عليه رحمة الله، متمكنًا من فن الموسيقى أيما تَمَكُّن، واثقًا من نفسه أيما ثقة، وأكبر آيات هذه الثقة بالنفس أنه تقدم إلى هذا التجديد، وهو لما يَزَلْ مغمورًا منكور المحل، والتجديد ابتداع ومطالعة للجماهير بغير المألوف، وقلَّ أن يعمد المرء إلى هذا قبل أن يذهب له في فنه صِيت وذِكْر يتكئ عليهما في جديده، ويصد بهما صولة التعصب للقديم.

وليس كل خطر الرجل في أن يكون متمكنًا في فنه، عالمًا بأصوله وفروعه، وليس كل خطر الموسيقى بنوع خاص، في أن تهديه كفايتُهُ وعِظَمُ مقدرته إلى أن يَطْلَعَ على الناس بجديد فحسب، مهما كان هذا الجديد جاريًا على أحكام الفن موصولًا بأسبابه، بل إن الكفاية كل الكفاية، والبراعة حق البراعة أن لا يَنْشُز جديده على الآذان ولا تصطك به الأذواق، وكذلك كان جديد سيد درويش، كما كان جديد عبده الحامولي من قبله، كلاهما أضاف إلى الموسيقى المصرية جديدًا، وكلاهما تصرف فيها تصرفًا طريفًا، فما نبا سمع، ولا تَعَثَّر طَبْع، بل لكأن ما جاءا به إنما كان دسيسًا في الطبع، كامنًا في قرارة النفس، حتى لتحسب أن كل ما لهما فيه من فضل، إنما هو في مجرد الغوص عليه واستخراجه من مطاوي الطباع، وتجليته على الأسماع!

نعم لقد اتسعت الموسيقى المصرية وأثرت، وأصابت صدرًا محمودًا من موسيقات الأمم الأخرى شرقية وغربية، ولقد تم هذا الانقلاب الخطير، وإن شِئْنَا قُلْنَا تَمَّتْ هذه الثورة الكبيرة دون أن تُرَاقَ قطرة دم واحدة، تم ذلك كله بفضل ذلكم الرجل العظيم الذي نحتفل بذكراه اليوم.

ذلكم بأنه عرف كيف يتبسط بموسيقى قومه، وكيف يسلس لها ما أصاب من موسيقى غيرهم، فأساغته في يسر، حتى أصبح موسومًا بالطابع المصري، لا نشوز فيه على سمع المصري ولا التواء!

سيداتي، سادتي

وبعد، فإن فن هذا الرجل، فوق ما له من القدرة القادرة على الاقتباس والابتكار، يمتاز بخلال أربع: أولاها القوة، فلا حظ في تلاحينه للتفكك ولا للانخذال، وثانيتها البراعة في التصرف، فهو يتنقل بسامعه من فن إلى فن، ويتحول به من نغم إلى نغم، في اتساق وانسجام، كأنه يتنزه في روضة نَسَّقَت أغصانها يدُ بستاني صناع، وثالثهما شيوع الطرب في تلاحينه، فمهما استحدث جديدًا يوجب الإعجاب، فإنه بالغٌ الغاية، ولو عن طريق الشجا من الإطراب.

أما رابعة هذه الخلال، والحديث الآن متجه بنوع خاص إلى سادتنا الملحنين والمغَنِّين، فهي الذوق، والذوق البارع النافذ، فما إن لَحَّنَ سيد درويش فكان المعنى شديدًا إلا قَوَّى لحنه، ودَعَّمَ ركنه، وشد بالصنعة متنه، فسمِعْت له مثل قعقعة النبال، إذا استحر القتال، أو مثل زئير الآساد إذا تحفَّزَتْ للصيال، وإذا جنح الكلام إلى اللين كان لحنه أَرَقَّ من نسج الطيف، وألطف من النسمة في سحرة الصيف، وما كان القول في بر الحبيب بوعده، ووفائه بعد طول جفائه وصدِّه، إلا طبع الكلام، في أمرح الأنغام، حتى ليكاد الغناء يتمثل لك عصفورًا يثب في الروض بين أغصانه، ويستقل ما شاء من ذُرَى أفنانه، وقد يَنَعَ بين يديه الثمر، وضحك من حوله الزهر، وما كان الحديث في التوسل والاستعطاف، إلا أتى بما يُلِين أقسى الكبود، ويكاد يُقطر الماءَ من الحجر الجلمود، ولا كان في وصف القطيعة وما فَعَلَتْ تباريح الهوى، إلا وَخَزَ الحشا، وأشاع الأسى، وأذكى الشجون، فتبادرت الدموع من الجفون، وهكذا! …

وبعد، فالفن كله ذوق، والعلم كله ذوق، والحياة كلها ذوق، فمن أخطأه الذوقُ فقد أخطأه كلُّ خير!

(وهنا أورد المُحاضر بعض الأمثلة على ما يقع أحيانًا من قلة الذوق سواء في التلحين أو في الأداء.)

وأخيرًا، فإذا كانت هناك جهود تُبْذَل، صادقة ماضية حينًا، ومهوَّشَة متعثِّرَة أحيانًا، للترجمة بالموسيقى عما يعتلج في النفس من ألوان العواطف وما يتوارد على الذهن من شتى الخواطر، فإنني لم أرَ امرءًا في عصرنا هذا كُتِبَ له من التوفيق في هذا الباب ما كُتِبَ لسيد درويش.

لقد كان هذا الرجل إلى ما رُزِقَ من تمام الذوق وصدق العاطفة مرهف الحس جدًّا، حتى تتمثل له دقائق المعاني في صور سوية تكاد تُرَى وتُلْمَس فإذا هو اجتمع ليجريها نغمًا، حاول مخلصًا جاهدًا أن يُصَوِّرَها لك كما تَصَوَّرها، فبلغ من ذلك في الغالب غاية ما يأذن به جهد التلحين والتنغيم.

ولست بهذا أزعم أن الموسيقى — وأعني الموسيقى المصرية التي أتذوقها — تترجم عن ألوان العواطف وفنون المعاني ترجمة البيان وما يدنو من ترجمة البيان، فإن إيماني ضعيف بهذا كل ضعف، وإنما أعني مجرد المشاكلة والمجانسة بين المعاني وبين ما يُصَاغ لها من فنون التلاحين.

وكيفما كانت الحال، فإن سيد درويش قد نجح نجاحًا لم يَبْلُغ أحد مبلغه في تلحين «الروايات» الاستعراضية، فقد هيأت الفرصة لبراعته في الحكاية عن حال الجماعات والطوئف المختلفة بألوان التناغيم، بحيث لو أُرْسِلَت بها الأصوات ساذجةً باغمة لا تدل على معنى ولا تشير إلى غرض، لنمت وحدها على من تترجم عنهم، وتنتحل الغناء الذي ينبغي أن تلوكه ألسنتهم وتمط به حلوقهم!

وبعد، فإنني أُقَدِّر أنه لو قد فسح لهذا الشاب في الأجل، لكان أقدر أهل العصر على تلحين «الأوبرا» العربية، ولَبَلَغْنا من هذا منية لقد طالما تعلقت بها الآمال، واستشرف لها الخيال!

رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه العوض الصالح الكفء، وما ذلك على الله بعزيز!

ملحق في سيرة سيد درويش

يجمل بنا أن نورد هنا طرفًا مما وقع للكاتب بعد ذلك عن نشأة سيد درويش ومجمل تاريخه، فأثبته في محاضرة ألقاها من محطة الإذاعة أيضًا في السنة التالية:

نشأ سيد في مدينة الإسكندرية، ولما ترعرع مضى به أبوه إلى الكُتَّاب، على عادة أوساط الناس، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ صدرًا عظيمًا من القرآن الكريم، إذ لم يكن قد حفظه كله، ثم دُفِع إلى مدرسة أهلية، وأدعوها مدرسةً على سبيل التَّجَوُّز، فإنها من تلكم المعاهد التي لا ترتقي إلى المدارس المعتبرة، ولا تتدلى إلى أفق الكتاتيب، وتلك المدرسة كانت تُدْعَى «شمس المدارس»، وتقوم في حارة الشمرلي الواقعة في دائرة قسم الجمرك، ويتولى إدارتها رجل يدعى عبد القادر أفندي الأيوبي.

وكان أستاذ الرياضة في هذه المدرسة رجلًا يُدْعَى نجيب أفندي عريان، وهو ممن كانوا يُنْشِدون مع المرحوم الشيخ سلامة حجازي، فجعل يُلَقِّن التلاميذ أناشيد الشيخ «وسلاماته»، فكان من أشدهم إقبالًا عليها ونشاطًا في الترنيم بها، وأحرصهم على الدقة في أدائها هذا الفتى سيد درويش، ويصح فيه المثل العامي: «الديك الفصيح، يخرج من البيضة يصيح!»

وفي هذه الأثناء تُوُفِّيَ والده فساءت حاله، وترك المدرسة، وراح يعالج حرفة النجارة، على أن العيش لم يَطِبْ له فيها فلم يَلْبَث فيها طويلًا، بل انصرف عنها وأَلَّف من فوره فرقة تُعَاونه على إنشاد المولد النبوي الشريف.

ثم جعل يغَنِّي في بعض المجالس الخاصة، وتعَلَّم ضرب العود على رجل يُدْعَى الشيخ حنفي، ثم أقبل على الغناء للجمهور فيما أُسَمِّيه على سبيل التجوز «قهوة»، يعاونه الشيخ حنفي هذا ضربًا على العود.

ثم تَحَوَّل بفرقته إلى «قهوة» لنيوناني قريبة من المحطة، ثم انتقل إلى مقهى صريح يقع على البحر بالقرب من «شادر» البطيخ، وكان ذلك في سنة ١٩١٦ ثم انتقل إلى مقهى آخر كان يقع على ميدان المنشية الكبرى، وهو في كل تلك الأثناء يزيد عناية بالفن وتجويدًا له، كما يزيد إقبال الجمهور عليه وإعجابه به … لقد دَلَّت هذا الفتى موهبتُه الكامنة، وهداه حِسُّه المرهف الدقيق، إلى أن هذه الضروب التي تتغاير على سمعه من الغناء، والتي تتهاتف بها الحناجر في محيطه، لا تُسْمن ولا تُغْني، أو بعبارة أخرى إنها دون مطالب الفن الرفيع بكثير، لقد سمع سيد كما يسمع سائر الناس ألوانًا من الموسيقى الغربية والتركية وغيرهما مما تتقلب فيه الحلوق في الشرق القريب والبعيد، ولا بد أن نبرات في بعض هذا الذي كان يسمع قد لذَّتْ لسمعه، وأصابت مدخلًا بديعًا إلى أطواء حسه، وحرَّكَت دفين الطرب في قرارة نفسه، ولا يجد لها أشباهًا فيما يَسْمع من إخوانه المصريين، وللرجل كما تعلمون أذن موسيقية، وله حِسٌّ مُرْهَف، وفيه ذوق تام دقيق.

إذن لقد بان له، على الجملة، أن في الموسيقى المصرية — على الحال التي شهدها — قصورًا، وأنها تتخاذل عن الكثير مما يُنَعِّم الذوق، وينفُذ بالحس، ويُتَرْجِم عن شتى العواطف التي تعتلج في الصدور.

وليت شعري: كيف له بأن يواتي طلبته، ويَحْذِق هذا الفن كما ينبغي أن يُحْذَق، ومصر أضيق من أن تتسع لهمه أو تدنيه من مطمحه.

ولقد سافر في سنة ١١ إلى الشام وأقام دهرًا في حلب، وهناك أخذ عن أقطاب الموسيقى ما أذكى موهبته، ووسَّع في أقطار فنه، وقيل: إنه مضى إلى الآستانة في هذه الرحلة، وهذا ما لا أقطع به.

ولقد عاد الشيخ سيد درويش إلى مصر بعد أن تَزَوَّدَ لشأنه أكرم زاد، وادَّرَع للميدان بأمتن العُدَّة وأحسن العتاد، وكان من أوالي بدعه في جد تلاحينه «دور: ياللي قوامك يعجبني» وقد صاغه من نغمة «النكريز»، وأكبر الظن أنه لم يكن لموسيقار مصري عهد بهذه النغمة من قبل، وقد أجاد سيد في تلحين هذا «الدور» وخلب وراع، فوق أنه طبعه على غير غرار معروف في مصر، وصاغه على غير مثال قديم فيها أو جديد!

وظَلَّ رحمه الله من ذلكم العهد يبتكر ويبتدع ويُجَدِّد، ويَسْلُك بالموسيقى المصرية شعوبًا، ويستحدث فيها طروقًا، حتى كان لا تغيب شمس أو تشرق شمس إلا أتى بجديد، وطلع على الأسماع بطريف، وكله من الطراز الفاخر الثمين.

١  محاضرة أُلْقِيَتْ من محطة الإذاعة الحكومية في حفلة لإحياء ذكرى سيد درويش، ونُشِرَتْ في جريدة الجهاد في يوم ١٧ سبتمبر سنة ١٩٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤