طرب!١

قرائي الأعزاء

اللهم إن كنتم تريدونني على أن أُحَدِّثَكم الليلة في العلم والأدب، أو في الصبر والجزع، أو في تَقَدُّم الصناعة وتَحَرُّك التجارة، أو في غير ذلك من هذه الأسباب الدائرة بين الناس، فإنني أكذبكم القول، فليس في نفسي الليلة من ذاك كثير ولا قليل، فإذا أخذتكم عَلَيَّ موجدة فرُدُّوها على ذلك المعنى، وليأخذ كل منكم بحقه من حلقه، فقد جلست أسمعه أمس، وما زلت من أمس، كلما نَهَضْتُ إلى القلم لأكتب لكم فيما آخذ من فنون القول، طَنَّ في أذني جرسه، وملكني رنينه من جميع أقطاري، فأعود لا أرى غير صورته، ولا أسمع غير صوته، ولا أفكر في شيء غيره!

إذَنْ فلأكسر حديثي الليلة على هذا الطرب إن كنتم تريدون مني ألا أحدثكم إلا بما أجد: غنانا صالح، ولست أدري أكان مُغَنِّيًا يرسل الصوت فيقع حقًّا في الآذان، أم ساحرًا يتلعب بألبابنا فيخيل إلينا أنا في الجنان، نتمايل على النسيم بين الآس والريحان، ونسمع من شدو القماري على أَيْكِها أبدع الأنغام وأروع الألحان.

حدثني يا فتًى! أي روض جازَ به صَوْتُك قبل أن يَبْلُغنا؟ وكم نسمة اخْتَلَطت به مما نفث فيه صب مشوق، وحمل عاشق من زفرات كبده إلى معشوق، حتى أخذ فينا كل هذا الأخذ، وفعل بقلوبنا كل هاتيك الأفاعيل؟

آه: وفي آه لَذَّة وألم، وفيها برء وسقم، وفي آه راحة وعناء، وفيها يأس وفيها رجاء!

أشَاكِرٌ أنا أم شَاكٍ، وضاحك أنا أم باكٍ، وراضٍ أم غضبان، وسالٍ أم ولهان، وناعم أم بائس، وراجٍ أم آيس؟ لقد عَزَّني أمري فسلوا صَوْتَهُ ونَبِّئُونِ!

يا ليل! … وما عساك تبغي من الليل؟ لقد نام الخليون هنيئًا لهم، وأمعنوا في المنام!

نعم، إن فيك يا لَيْلُ عيونًا تسيل بالدم شئونها، وإن فيك يا ليل جراحات تفيض بالدمع عيونها، وكم فيك يا ليل من فؤاد تحلل نسمًا، وكم فيك يا ليل من أكباد تطايرت حممًا، هذا عانٍ يشكوك بثه وأساه، وهذا صَبٌّ يَبُثُّك وَجْدَهُ وجواه، وهذا مشدوه لا يتخذ الرفيق إلا من بين كواكبك ونجومك، وتلك والهة لا تجد الأنس إلا في وحشتك ووجومك.

إن تحت الضلوع عواطف تئن من طول احتباسها، فأطلقها «يا ليل» تمزج أنفاسك بأنفاسها، أطلقها تملك الجو عليك طربًا وشدوًا، وتملأ هذا الهواء تحنانًا وشجوًا، ففي العواطف بلبل وكنار، وفيها يا ليل فاخِتٌ وهزار! أطلقها بالله يا ليلُ، لتغني الثريا، لتغني وتشكو وجدها لسهيل:

أَبْكِي الذين أذاقوني مَوَدَّتَهُمْ
حتى إذا أيقظوني للهوى رَقَدُوا
واستنهضوني فلما قُمْتُ مُنْتَهِضًا
بثقل ما حملوني في الهوى قَعَدُوا
لأخْرُجَنَّ من الدنيا وحُبِّهِمُ
بين الجوانح لم يَشْعُر به أَحَدُ

يا عَيْنُ، وقل يا عَيْنُ حقيقة أَرَدْتَها أم مجازًا، ورجِّعْهَا صَبًا غنيتها أم حجازًا، فإنه:

هوًى بتهامة وهوًى بِنَجْدٍ
قَد اعْيَتْنِي التهائم والنجود

غَنِّ يا فتى غَنِّ، فالله أكرم من أن يثير هذا كله في صدور الناس ويحرمهم غناءك يا صالح!

١  نُشِرَتْ بجريدة «السياسة» تحت عنوان «ليالي رمضان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤