التطفيل والطفيليون١

سيداتي، سادتي

بحسبنا ثلاث محاضرات متوالية، كلها في جد القول ومُرِّه، في زمت هذا الصيف ووقْدَة حَرِّه، فلنستروح هذه المرة بشيء من التفكيه، لنجعل الراحة لذلك الجد جمامًا، فنحن على هذا في الجد دائمًا، حتى إذا انحرفنا يومًا إلى شيء من العبث أو ما يشبه العبث، فلنُرَفِّهْ به أنفسنا ونُسَلِّي عنها لنعود لشأننا ممدودي الأنفاس مشدوي المتون. وحديثنا الليلة مع هذا يجري في باب من أبواب الأدب العربي، ولا تعجبوا إذا كان من أحاديث الأدب القول في التطفيل والطفيليين! ولست أتَجَوَّز بهذا اللفظ فأطلب به المتطفلين في العلم أو في الأدب ونحو ذلك، إنما أقع باللفظة على الحقيقة، وهي تعرض المرء لطعام الناس من غير أن يُدْعَى إليه، أما الداخل في شرابهم من غير دعوة كذلك، فيُدْعَى الواغل، ومِثْلُهُمَا الدَّعِي، وهو الداخل في نسب القوم وليس منهم.

والطفيليون نسبة إلى رجل يُدْعَى «طفيل العرائس»، وقد زعموا أنه أولهم، فإليه كانت نِسْبَتُهُمْ، ولكنني أحسب أن التطفيل قديم جدًّا قِدَمَ الشره في الإنسان وهوان نفسه عليه، وتَطَلُّعه إلى ما ليس له ولو كان طعامًا، وتَهَافُته عليه مشايعة لشهوة البطن، مهما ناله في ذلك من مكروه أدبي أو مادي، وربما كان عقد لواء الأولية في هذا الباب لهذا «طفيل العرائس» لأنه أول من احترفه، فلقد أصبح التطفيل حرفة مقررة مرسومة إلى وقت قريب، أو لأنه أول من شرع آدابه، واستفتح بلطف الحيلة أبوابه، وقَعَّدَ قواعده وأَصَّلَ أصوله، وفَرَّع فروعه وفَصَّل فصوله، ومن روائع حِكَمِه، وجوامع كلمه، ما قال يوصي به صحبه: «إذا دَخَل أحدكم عرسًا فلا يلتفت تلفت المريب ويتخير المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل، ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، فإن كان البواب غليظًا وقاحًا، فيبدأ به ويأمره وينهاه من غير أن يعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.»

ولقد قُلْتُ لكم إن التطفيل قديم، ولكن أساليبه وطرائقه تتشكل وتتلون في كل عصر وفي كل إقليم، طوعًا لما يجري من العرف والعادة وغير ذلك من الأسباب.

ولا أظن أننا في حاجة إلى القول بأن من أول ما يَتَّصف به الطفيلي، هو الشَّرَه والطَّبَع، وحدة الوجه ولؤم النفس، وهوانها على صاحبها وعلى الناس، فما يَدْفَع إلى التطفيل إلا هذه الخلال، أما الصفات الأخرى التي يحتاج إليها الطُفَيْلِيُّ والتي هي أهم وسائله، فمنها خفة الروح، فإن أَعْوَزَتْهُ فالتطرف بالقدر المستطاع، ومنها سعة الحيلة ولُطْف المدخل، ومنها حُسْن السمت ونظافة الثوب، ومنها حضور الذهن وتهيؤ البديهة، وقوة اللسَن، وبراعة النكتة، فإذا اجتمع إلى هذا وهذا، إلمام بالأدب وبالسير، وإذا ضُمَّتْ إليهما القدرة على ارتجال الشعر ما دَعَتْ مناسبات الطعام، فذلك والله الطفيلي التام.

سيداتي، سادتي

انظروا كيف يصنع الأدب! اللهم إني لزعيم بأن يجلو على الناس كل ما في هذا العالم من جميل وبديع، مما يتصل بالصور والمعاني جميعًا، فإذا عَزَّه الجمال في ظواهر الأشياء، راح يتدسس إلى بواطنها، فاحتال على استخراجه وجلاه على النفوس جلوًا، ولربما مال إلى القبيح في ظاهره وفي باطنه معًا، فسَوَّى منه صُوَرًا لها جمالها ولطفها في باب التلميح والتفكيه، أليس البخل في الناس قبيحًا جدًّا؟ ومع هذا يأبى الأدب إلا أن يجعل من البخل والبخلاء بابًا من أوسع أبوابه، وأَبْلَغها في إعجابه وإطرابه، سواء فيما صَوَّر من نوادر البخلاء وطرائفهم، أو فيما صَوَّرَهم به فحول البلاغة في منثورهم ومنظومهم.

والتطفيل ولا شك أقْبَح من البخل وأكره وأرذل، ومع هذا لقد كان قَسْمه من الأدب كذلك.

والآن نَقُصُّ عليكم طائفة من نوادر الطفيليين من المتقدمين، وما قالوا وما قيل فيهم، فإذا اتسع الوقت قَفَّيْنَا على ذلك ببعض نوادر من شهدنا من المُحْدَثين:

مَرَّ طُفَيْلِيٌّ بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأَخَذَ مجلسه ممن دُعِيَ، فأنكره القوم وقالوا: لو تَأَنَّيْتَ أو وَقَفْتَ حتى يُؤْذَنَ لك أو يُبْعَثَ إليك؟ فقال: إنما اتُّخِذَت البيوت ليُدْخَلَ فيها، ووُضِعَت الموائد ليُؤْكَلَ عليها، وما وجَّهْتُ بهَدِيَّة فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، وطَرْحُها صلة، وقد جاء في الأثر: صِلْ من قَطَعَكَ، وأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وأنشد:

كل يوم أدور في عَرْصَة الدا
رِ أَشُمُّ القتار شَمَّ الذُّبَاب
فإذا ما رأيْتُ آثارَ عُرْسٍ
أو دُخَانٍ أو دعوةَ الأصحابِ
لم أُعَرِّج دُون التقحم لا أَرْ
هَبُ طَعْنًا أو لكزة البوابِ
مستهينًا بمن دَخَلْتُ عليهم
غَيْر مُسْتَأْذِنٍ ولا هَيَّابِ
فتراني أَلُفُّ بالرغم منهم
كل ما قَدَّمُوه لف العقابِ

يقال: لَفَّ الرجل في الأكل، قبُح فيه وأكْثَرَ منه خالطًا بين صنوفه، ولف العقاب: أي كما يلف العقاب الصيد ويجعله تحْتَ رِجْلَيْه.

ومَرَّ طفيلي على قوم يأكلون، فقال ما تأكلون؟ فقالوا — مِنْ بُغْضِهِمْ له: سُمًّا، فَأَدْخَلَ يده في الطعام وقال: الحياة بَعْدَكُمْ حرام.

ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فَسَلَّمَ ثم وَضَعَ يده يأكل معهم، قالوا له: أَعَرَفْتَ مِنَّا أحدًا؟ قال: نَعَمْ، عَرَفْتُ هذا، وأشار إلى الطعام.

وأظن أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ منكم عن أَشْعَبَ فقد سَمِعَ بصَدْر من نوادره، فقد كان — رحمه الله — من أَطْبع الطفيليين وأَشَرِّهم، حتى لقد قيل له ما بلغ من طَمَعِكَ؟ قال: لَمْ أنْظُرْ إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء.

ووقَفْتُ مَرَّة على رجل يَعْمَل طبقًا فقال له: أسألك بالله إلا ما زِدْتَ في سَعَته طَوْقًا أو طَوْقَيْن! فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعل يُهْدَى إليَّ فيه شيء!

ومن ظريف بدائهه أنه ساوم رجلًا في قوس عربية، فسأله فيها دينارًا، فقال أَشْعَبُ: والله لو أنها إذا رُمِيَ بها طائر في جَوِّ السماء وَقَعَ مشويًّا بين رغيفين ما أعطيتك بها دينارًا!

•••

وقيل له يومًا ما تقول في ثردة مغمورة بالزبد مشققة باللحم، قال: فأُضْرَبُ كَمْ؟ قيل له: بل تأكلها من غَيْر ضَرْب! قال: هذا ما لا يكون! ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة؟!

ومن أظرف اعتذارات الطفيليين قَوْل شاعرهم:

نحن قَوْم إذا دُعِينَا أَجَبْنَا
ومتى نَنْسَ يَدْعُنا التطْفِيلُ
ونَقُلْ عَلَّنًا دُعِينا فغِبْنَا
وأتانا فَلَمْ يَجِدْنا الرسولُ

وأتى طفيلي طعامًا لم يُدْعَ إليه، فقيل له مَنْ دعاك؟ فأنشأ:

دَعَوْتُ نفسي حين لَمْ تَدْعُنِي
فالحمد لي لا لك في الدعوة
وكان ذا أحسَنَ مِنْ مَوْعِد
مُخْلِفُه يدعو إلى الجفوة

أفرأيتم أصقع وأصفق وَجْهًا من هذا الذي يؤثر الدخول في طعام الناس من غير دَعْوة على أن يُدْعَى إليه، بحجة أنه ربما تخلف عن الإجابة فوَقَعَت الجفوة بينه وبين داعيه!

ودخل طفيلي في طعام رجل فقال له مَنْ أرسل إليك فأنشأ:

أَزُورُكُمْ لا أُكَافِيكُمْ بجَفْوَتِكُمْ
إن المحب إذا ما لم يُزَرْ زارَا

ومن أحسن ما قرأتُهُ في وصف طفيلي قول الشاعر:

لوْ قيل في الشام مطمورةٌ
والهند أو أقصى بلاد الثغور
وأنت في مصر لَوَافَيْتَها
يا عالِمَ الغيب بما في القدور

سيداتي، سادتي

لم تَقْتَصِرْ مهمة الأدب على تقييد نوادر هؤلاء الذين امتُحِنُوا بهذا الشذوذ الخلقي، وقَصِّ ما كان منهم من طرائف ونكت، وما تَطَرَّف به أصحاب البدائه عليهم، بل لقد حَرَّكَتْ هذه الخِلال فيهم ملكات الشعراء والكُتَّاب، فجاءوا في هذا برائع الوصف وبارع التشبيه، مما زاد البيان ثروةً، بل لقد بَسَطَتْ في الأخيلة فأعظمت الصغير من النوادر، وأَجْلَت الدقيق من الحوادث، بل ربما اختَرَعَتْهَا اخْتراعًا، واختَلَقَت القول فيها اختلاقًا، وهذه نوادر البخلاء في كتاب الجاحظ ما أحسب كثيرًا منها إلا مُنْشَأً مصنوعًا.

ومن أبدع ما قرأت في نوادر الطفيليين، مما لا أظنه إلا حديثًا مصنوعًا، هذه الحكاية التي أترجمها لكم بلُغَتِي الضعيفة، فلقد مضى على قراءتي لها دَهْر طويل، ولما بَيَّتُّ النية على هذا الحديث، بحَثْتُ عنها فيما كنْت أقدر لها من المظان فلم أُصِبْها مع الأسف الشديد، وهي في أصلها مكتوبة بلغة بارعة لا يتعلق بغبارها هذا البيان، وسأنتهز هذه الفرصة، حين يَعْرِض ذِكْر ألوان الطعام، فأُبْدِل ما لا نعلم من السكباجة والطهباجة والمضيرة، بما نَعْرِفُ من الصحاف الدائرة في مصر الآن:

حدَّث رجل من أهل الكوفة أو البصرة (لا أذكر) قال: كُنْتُ امرأ واسِع النعمة عريض الغنى، ثم تَغَيَّر لي الدهر وأَلَحَّت عَلَيَّ السنون، حتى لَمْ يَبْقَ في يدي ما أتجمل به بين أهلي ومعشري، فانْحَدَرْتُ إلى بغداد، إن لَمْ أُدْرِك الغنى فلا يَرَاني على هذه الحال من كان يراني في يُسْري وأُبَّهَتِي، وبينا أنا واقف على بعض مَداخلها حيران لا أدري لي فيها مذهبًا، إذ جاز بي رجل حَسَن البزة، فما إن رآني حتى وَقَفَ يتأملني، ثم تَقَدَّمَ إلي فسَلَّمَ وسلمْتُ، فقال: لعلك غريب حَدَرَتْكَ السنون إلى هذا البلد في طلب الرزق، ما تعرف هنا خطة ولا تعرف أحدًا؟ قلت: بلى قال: فهل لك في أن تأكل أزكى الطعام وتلبس أفخر الثياب، وتأخذ مالًا يعود بما يَجْتَمِع منه على شَمْلِكَ، إذا رَجَعْتَ إلى أهلك؟ قُلْتُ: وأصنع ماذا، في كل هذا؟ قال: حسبك أن تكون طَيِّعًا أمينًا، قُلْتُ: لقد رَضِيتُ، وما لي لا أكون كذلك؟ قال: الشرط أملك، فتَعَالَ معي، وتَبِعْتُهُ فما زال يَخْرُج بي من طريق إلى طريق، ويَنْفُذ من درب إلى درب، حتى أفضينا إلى دار عالية البناء رَحْبة الفناء فدخلها وأنا وراءه، ثم أفضى بي إلى حُجْرة فسيحة حسنة الرياش، جلس إلى جانِبَيْها مشيخة من الناس، لهم هيئة حسنة، وجلس في الصدر شيخ أعمى عليه مطرف، وهو أكبرهم عمامة، فتقدمني صاحبي إليه وأَسَرَّ في أذنه كلامًا، فدعا بي، فسَلَّمْتُ وسَلَّمَ القوم، وقال لي ذلك الشيخ، وعَرَفْتُ أنه كبيرهم: هل عَلِمْتَ شَرْطَنَا ورضِيتَ به؟ قُلْتُ بلى يرحَمُكَ الله؛ قال: إذَنْ فاعلم أنك قد تُوَجَّه إلى الوليمة فتقْتَحِم على القوم طعامهم بلُطْفِ حيلتك وحُسْن مَدْخَلِك، فكُلْ ما شاء الله لك أن تأكل، فإذا أَصَبْتَ غَفْلة من العيون، فدُسَّ في أطواء ثَوْبِك كُلَّ ما يَتَهَيَّأ لك دَسُّه من اللحم والحلوى، وإذا وَصَلَكَ رَبُّ الصنيع بمال قَلَّ أو كَثُرَ، فعليك أن تجيء بالمال وبالطعام، فيَقْسِم هذا وهذا بين الجماعة لكلٍّ سهم، وللشيخ (يعني نفسه) سهمان، وهذا شأن إخوانك جميعًا، قُلْتُ: أَفْعَلُ إن شاء الله ولا فَضْلَ لي فيه، بل الفضل أجمعه إليكم، وقاسمتهم على هذا، فجعل الشيخ يُعَلِّمُنِي وينصح لي بما لم أَجِدْ ما أحتاج معه إلى مزيد، ثم دعا لي بخير.

ولما نَزَلَت الشمس للمغيب، أفرغوا على كُلٍّ منا طَيْلسانًا وعَمَّمُوه عمامة كبيرة، وزَوَّدُوه بما أمسى له به هيأة وسمت، ثم جَعَلَ الشيخ يُفَرِّقُنا في ولائم الليلة، وأَلْزَمَنِي رجلًا من الجماعة ليُعَرِّفَني الطريق، ويُفْرِخ عني ما عسى أن أَجِدَ أوَّلَ الأمر من الهيبة والتحشم، وليُرِيَني كيف يكون التجمل لهذا الأمر والتلطف فيه.

ومضينا لوجهنا فأصبنا من فاخر الطعام ما شاء التطفيل أن نصيب، ثم عُدْنَا بما دسسنا من الطعام وما أفدنا من الدراهم إلى الجماعة، حتى إذا عاد سائرهم ونفضوا ما حملوا تقسموه، وأَخَذْتُ قَسَمِي، وادَّخَرْتُ فَضْل الطعام لغدي.

وما زلت على هذه الحال حتى عَرَفْتُ خطط بغداد ودروبها، والمتبسطين على الطعام من أجوادها، وتَمَّتْ لي البراعة في هذا الأمر، وأصبحت لا أحتاج فيه إلى رديف، فحَسُنَتْ حالي، وكَثُرَ المال في يدي، فاكْتَرَيْتُ دارًا لي أنام فيها، وفيها أقضي وقت فراغي.

ثم بدا لي أن أبعث في طلب أهلي وعيالي، فما مِثْلُ هذا العيش عيش، ولا وراء ما أنا فيه من النعمة نعمة!

وذات عَشِيَّة أذَّن الشيخ في القوم بأن لا ولائم الليلة في المدينة، فمن شاء قام إلى بيته، فبدا لي أن أتفرج صدرًا من ليلي في أرجاء بغداد، وما بَرِحْتُ سائرًا يزلقني طريق إلى طريق، ويستدرجني درب إلى درب، حتى رأيتُنِي في ظاهر البلد، وإذا عُرْسٌ يرد عليه الناس زرافات وشتَّى، فاختلطْتُ بهم ودخلت الدار معهم، وآكلتُهُم وشاربتُهُم، ونفحني رب الصنيع بدينار، فوسوس لي الشيطان أن أستأثر به وأكتم صحبي أمر هذه الوليمة، فما جاءتهم عيونهم عنها بخير.

ومضيْتُ إلى الجماعة من غدي، فما رأوني حتى وَقَفُوا صفًّا، وقد احْمَرَّت أحداقهم، ورجفت شفاههم، وقال قائل منهم: أين كُنْتَ ليلة أمس؟ قُلْتُ: طَلَبْتُ داري من ساعة فارَقْتُكُمْ ولازمتها حتى الساعة، فجذبني أَوَّلُهُم إليه وشم راحتي، وقال بل كُنْتَ في وليمة وأكلْتَ «ديكًا روميًّا»، وصفعني صفعة شديدة ودفعني إلى الذي يليه، فشم راحتي وقال: وأكلْتَ بعده «بامياء مرصوصة»، وصفعني صفعة أطارت صوابي، ودفعني إلى الذي يليه، فصنع صُنْعَه، وقال: وأكلْتَ «كستليته» مشوية، وصفعني صفعة كادت والله تُسِلُّ خيط نخاعي، وقال الرابع: وأكلت كيت، وهكذا ما أخطأ — والذي نفسي بيده — واحد منهم قط فيما تَشَمَّمَ وحزَّر، ثم انتهيت إلى الشيخ المكفوف، فشَمَّ باطن يدي وقال: وأخذْتَ دينارًا؛ وصفعني صفعة لو وُزِنَ بها كلُّ ما نالني في ليلتي لرَجَحَتْ به، وما زالوا بي صفعًا بالأكف، وركلًا بالأرجل حتى ألقَوْا بي في ظاهر الدار لا أَعِي شيئًا!

سيداتي، سادتي

هذه نادرة من نوادر الطفيليين، إذا لم تكن وَقَعَتْ كما رَوَيْتُ، وكانت من تلفيق الخيال، فهي ولا شك تعطينا فكرة ولو تقريبية، عن احتراف مهنة التطفيل ذلك العصر في بغداد، ومهارة أصحابه فيه.

ولولا انقضاء الوقت المقسوم لي لحدثتكم عن بعض من شهدنا من الطفيليين في العصر الحديث، وأعني أولئك الذين انقرضوا بانقراض ما يدْعوه المصريون «بالأفراح»، ثم أخذنا بالحديث عن المتطفلين في الوقت الحاضر، أعني الطفيليين «المودرن».

ولعل لنا إلى هؤلاء وهؤلاء كَرَّة إن شاء الله.

١  أُذِيعَتْ بالراديو في ١٨ أغسطس سنة ١٩٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤