التطفيل والطفيليون١ في الجيل الماضي

كُنْتُ قد أَذَعْتُ من محطة الراديو في شهر أغسطس من سنة ١٩٣٤ حديثًا عن التطفيل وقدامى الطفيليين، وأوْرَدْتُ فيه طائفة من مُلَحِهِمْ ونوادرهم، وما قيل فيهم، وما قالوا هم في أنفسهم، ومواتاة بدائههم في لطف احتجاجهم لاقتحامهم على الناس موائدهم، وتهافتهم على طعامهم من غير دعوة إليه، وتعرضهم في هذا لألوان المكروه من الشتم والسب، والطرد والضرب إلخ.

ووعدْتُ في غاية الحديث أن أُجَرِّد «محاضرة» للطفيليين في الجيل الماضي، وقد عَنَيْتُ الطفيليين المحترفين، وهؤلاء قد انقرضوا وخلا وَجْهُ مصر منهم، بذهاب العادة التي كانت شائعةً في هذه البلاد إلى زمن قريب، وهي إقامة الأعراس (الأفراح) وما إليها مما كان المصريون يتنافسون فيه، ويتكاثرون به في المناسبات المختلفة من نحو العودة من الحج، وختان الولد، وولادة البكر من البنين وغير ذلك.

وكانوا يَدْعُون بالمغنين ومشهوري قُرَّاء القرآن العظيم، ومُرَتِّلِي مولد النبي الأكرم ، كلٌّ على قدر حاله وجهد ثروته، فمنهم من يدعون بالمرحوم عبده أفندي الحامولي، أو المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي، أو يدعونهما معًا، وهؤلاء خاصة الخاصة من طبقة «الذوات»، أما المرحوم محمد أفندي عثمان فكان من قسم أوساط الناس، حيث لا يُقَامُ على سرادقاتهم حَرَس ولا حُجَّاب، ولا شُرَط يدفعون الناس عن الأبواب، وبهذا كان عثمان مغني الشعب حقًّا، وما تقول فيه تُجْرِيه على المرحومين: محمد أفندي سالم، والشيخ محمد الشنتوري، وإبراهيم أفندي القباني، وأحمد أفندي فريد، والسيد أحمد صابر، كانت طبقة «أولاد البلد» القح، وأعني بهم طائفة المقدمين، ورؤساء الصناع (المعلمين)، ومهرتهم لا يعدلون بالسيد أحمد صابر مُغَنِّيًا آخر.

ولقد كان لهذا الرجل في غنائه أسلوب خاص به، لا يذهب به مذهب عبده ولا عثمان، ولا من يقلدون هذا، ولا من يشتعبون طريق ذاك، هو أسلوب بلدي بحت، يتفخم فيه اللفظ، حتى تشتبه تاؤه بطائه، وتختلط سينه بصاده، ويمتد فيه النفس ويطول الصوت، وهو في طريقه ما يزال يرق في زجله وترجيعه، ويلين في ترديده وتسجيعه، ويتخافت حتى تحسبه هتاف الهاتف يهمس به جانب الوادي البعيد في الليل البهيم، ثم يجلجل ويقصف كأنه النفير أقبل يوقظ النيام، وينذرهم الحادث الجسام!

وكيفما كان الأمر، فإن صابرًا كان أَقْدَر المغنين على مشايعة أحاسيس هؤلاء (أولاد البلد)، وتحريك الوادع المستلقي من عواطفهم، وكثرتُهُم — كما تعلم أو لا تعلم — كانت من أرباب «الكيوف»!

وكانت الصحف السائرة في البلد قليلًا، ومطالعتها تكاد تكون حبسًا على الخاصة، وفوق هذا فليس الناس كلهم يعلنون في الصحف عن أعراسهم ولا عمن يُغَنِّي مَدْعُوِّيهم، فكان يقوم بمهمة النشر هذه «باعة اللب»، ينتشرون من مطلع النهار في أحياء القاهرة، فيؤذنون فيمن يعرفونهم من هواة الغناء والتطريب، أن الشيخ يوسف الليلة في دار فلان بحي كذا، ومحمد عثمان في دار فلان بحي كذا إلخ، وسرعان ما تذيع هذه الأخبار فلا يدخل الأصيل إلا وقد ملأت جميع الأسماع.

وكان الهواة إنما يطلبون هذه «الأفراح»، كل على حسب هواه وصغوه، بعد العشاء الآخرة، أي بعد أن تُرْفَع موائد الطعام وينتظم مجلس الغناء، أما قبل ذلك فلا يغشى موضع الصنيع إلا المدعوُّون وإلا الطفيليون.

وهؤلاء الطفيليون كانوا معروفين للنَّقَدَة سواء من أصحاب الصُّنُع٢ أو من المدعوِّين، مَنْ لَمْ يُعْرَف منهم بحيلته ونسبه عُرِفَ بسيماه ودله: أما جماعات الفراشين، فكانوا يعرفونهم جميعًا، لكثرة اختلافهم إلى الموائد، وتَرَدُّدِهم على الطعام في الأعراس والمواسم، وكثيرًا ما يَدُلُّون أصحاب الصنيع عليهم، ويَلْفِتُونَهُمْ إلى مواضعهم.
وهنا ينبغي أن أقول لك: إن «أولاد البلد» تشيع فيهم خلة الجود بالطعام، فتراهم حيثما كانوا يدعون إليه، ويتبسطون عليه، يدعون إليه (ولو تجملًا) ساقط الآفاق، واللائح في عرض الطريق، وقد يُلِحُّون في الدعوة وقد يَعْزِمُون.٣

إذا عَرَفْتَ هذا، وقَرَنْتَ إليه تلك الخلة التي هي مزج من الخجل والضعف، أَدْرَكْتَ أن هؤلاء الطفيليين، أو (الطبابين)، على اصطلاح «أولاد البلد» أنفسهم، لم يكونوا يجدون مشقة في غشيان صُنْعِهِم، والاقتحام على موائدهم على وجه عام، ولكن المشقة كلها عليهم، والحرج أجمعه على أصحاب العرس، هو في أن يتسلل هؤلاء «الطبابون» إلى الموائد الخاصة التي أُعِدَّتْ لجباه القوم وأعيانهم.

وفاتني أن أَذْكُرَ لك أن الطعام كان يُقَرَّب على أَخْوِنَة (صواني) متعددة، يُرَصُّ حَوْلَ كل واحد منها من ثمانية نفر إلى اثني عشر، وتختلف ألوانها باختلاف درجات المدعوين، وأفخَرُها ما يصدر بالحَمَل (القوزي)، أو «الديك الرومي»، ويسلك فيه الحمام والفراريج وأطايب اللحم تُطْهَى على أشكال، وتقرب «المسبكات» من ألوان الخضر، ويُسْتَكْثَر فيه من صنوف الحلوى، ويخص أخيرًا بالفاكهة، ودون هذا يصدر بالضلع، وهكذا إلى أن تقتصر مطالع الموائد على المزعة من اللحم، لا يُمْلَؤُ نصيبُ الآكل منها الكفَّ ولا ينتفخ به الشدق، وهذه الموائد المعدودة لعامة الناس.

وهنا يشجر الخلاف بين «الطباب» وبين صاحب الصنيع، فهذا «الطباب» لا ينحدر طرفه ولا يتقاصر هَمُّ بَطْنُه عن أفخر الطعام وأدسمه وأجزله ما عَرَفَ موضعَه، ودنا محله، وعليه يسيل لعابه، وله تَتَفَتَّح لَهْوَتُه، وإليه تهيج شهوة بطنه، فكيف الصبر عنه، وكيف الرضا بما دونه؟

أما صاحب الصنيع، فإنما احتفل للمائدة ما احتفل، وبَذَلَ في التأنق في الطعام ما بذل، إيثارًا لمن «شَرَّفُوه» من أصحاب الوجاهة والمنزلة في الناس بالجاه والمنصب، ومبالَغةً في إكرامهم، واستخراج الإعجاب والثناء منهم، فهو بالضرورة يَكْرَهُ أن يُدَسَّ بينهم من لا يُشَاكِل أقدارهم، ولا يُطَاول أخطارهم، فكيف بمن خَلَقَ ثوبُه، وشاه سَمتُه، وهان موضِعُه، وكيف به فوق هذا، إذا ملكه النهم، وغلب عليه القَرَم،٤ فاطَّرَح التحَشُّمَ، وجعل يُقَبِّحُ في أكله، ويَعْطُو بكلتا راحتَيْه، ويصول في باطن الصفحة بجميع يده، ويزدرد الطعام ازدرادًا، ويلتقمه التقامًا، حتى لا يكاد يَمَسُّ فكه، أو يصافح ضرسه، بل إنه لَيَمُرُّ مَرَّ البرق على شدقه، في مهواه إلى حلقه!
ويثور ثائر رب الدار إذا رأى «الطباب» دسيسًا على خاصة المدعوِّين، سواء أمعنوا في الطعام، أم كانوا في انتظار الطعام، فسرعان ما ينصبُّ عليه، ويجذبه بضبعيه، وربما زمَّ عنقه بكلتا يديه، ثم جعل يَجُرُّه جرًّا، إذا الرجل قد أرسخ رجله على الأرض، أو لَفَّ ساقه على رجل دكة أو نَضَد،٥ وتشبثَتْ يداه بكرسيٍّ ثقيل أو بعضادة باب، وبطنُه أثناء ذلك يرتفع مع أيدي الآكلين ويهبط، وينقبض مع راحهم وينبسط، حتى إذا جهد برب الدار استنفر لزحزحته الأهلَ والخدم والفرَّاشين، فلا يزالون به دفعًا ولكزًا بالأيدي، وركلًا بالأرجل، وهو يقاوم ويجاهد، حتى إذا خارت قُوَّته، وانخذل متنه، ونفد جهده، حملوه فأَلْقَوْه في ظاهر الباب، أو نفضوه عن ساحة العرس نفْضَ التراب. فلا يلبث أن يجْمَع شَمْلَه، ويتسلل في لباقةٍ وخفة، ويَرْتَصِد للمائدة نفسها، فإذا أصاب غرة من أهل الدار، عاد فانْصَبَّ عليها، وإلا عدل إلى مائدة أخرى تُكَافِئُهَا أو تقِل يسيرًا عنها، وربما عاوده أولياء العرس بالطرد والضرب فلا يثنيه ذلك عن المعاودة وهكذا، وكأنه في شأنه هذا يتمثل بقول الشاعر بعد أن وجَّه الكلام فيه على البطن بدل النفس:
لِأَبلُغَ عُذْرًا أو أصيب غنيمة
ومُبْلِغ «بطنٍ» عُذره منك مُنْجِحُ!
و«الطباب» — وقاك الله شر البطنة — لا يقنع بالوجبة على المائدة، بل إنه ما يكاد يرفع يده عن غاية الطعام، حتى يهروِل في التماس مائدة أخرى في العرس نفسه، أو في عرس غيره، من حيث قدَّر المدخل، وغفلة الأعين وجودةَ الطعام، حتى لقد يوالي بين ست وجبات أو سبع في ليلة واحدة، ما يُثْقله بَشَم،٦ ولا تُرْهقه كِظَّة ولا يضيق له كَظَم،٧ كأن معدته نُحِتَتْ من حَجَر أو قُدَّتْ من حديد، وحَقَّ فيها: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد»؟! …

ثم إنه لا يكتفي بكل ما يُدَسُّ في جوفه، ويُقْذَف في بطنه، بل إنه لدائب جاهد، ما أصاب الغرة وأَمِن الرقبة، في أن يَدُسَّ في جَيْبِه كل ما تيسر له من اللحمان والمحاشي والحلوى والفاكهة، وقد يراه على هذا بعض مؤاكليه فلا يتعرضون له من رحمة أو من حياء!

•••

وبعد، فهذا كان شأنَ عامة الطفيليين أو (الطبابين) في الجيل الماضي، على أنه كان لخاصتهم شأن لعله أكْرَم من هذا الشأن، فإذا تحرَّيْت الدقة في التعبير قُلْتَ لعله أقَلَّ هوانًا، وأضعف امتهانًا.

وفي «الطبابين» أيضًا خاصة، كما في سائر طبقات الناس خاصة، وخاصة «الطبابين» هم جباههم وعرفاؤهم وسراتهم، وناهيك بالنديم، الظريف، المحاضر السري، الوجيه، الجميل السمت والفاخر البزة، المرحوم الشيخ حسن غندر، والشيخ حسن غندر حقيق بأن يُؤْثَر وحْدَه بمقال طويل، فللرجل في مفاخر التطفيل تاريخ حفيل.

١  نُشِرَتْ في صحيفة «الدنيا» سنة ١٩٣٧.
٢  الصنع بضمتين: جمع صنيع وهو الطعام.
٣  يعزمون: يحلفون.
٤  القرم بفتحتين: شدة الشهوة إلى اللحم.
٥  النضد بفتحتين: المراد به ما يدعى في العامة «الترابيزة».
٦  البشم بفتحتين: التخمة.
٧  الكظة بكسر الكاف وتشديد الظاء: ما يعتري الإنسان من الضيق عند الامتلاء من الطعام، والكظم بفتحتين: مخرج النفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤