ابن العم …!١

لي صديق مُرْهَف الأعصاب حاضر الغضب، بقدر ما هو طيب القلب، خفيف الروح، فكِه الحديث، لقيته أمس فإذا هو ظاهر الحنق حتى ليكاد يتميز من الغيظ، فسألته عما به، فقال اسمع يا سيدي:

لي قريب ثقيل الظل، غليظ الطبع، شره النفس، إذا عَرَضَتْ له حاجة كان أشد إلحافًا من ذباب، صَبَّه القدر علَيَّ أمس فقال لي: إن لي إلى فلان (من كبار الموظفين) حاجة (وسماها)، ولا يشفع لي عنده غيرك، فقم بنا إليه، فأردت مطاولته فقُلْتُ: سأمضي إليه إن شاء الله في أول فرصة، فقال: بل الأمر من هذا أعجل، ولا بد من ذهابك اليوم! فقُلْتُ: إذن أمضي إليه اليوم بعد أن أعالج بعض العمل، قال بل تقوم الآن، لأن المسألة سَيُبَتُّ فيها غدًا، قُلْتُ إذن أمضي الآن، وتهيأت للقيام وأقبلت عليه بتحية الوَداع، فقال: رجلي مع رجلك! … فانطلقنا، والأمر لله، حتى إذا صرنا إلى باب ذلك الموظف، دَفَعْتُ رقعة الزيارة إلى حاجبه، فقال لي صاحبي: أَثْبِت اسمي مع اسمك حتى أحضر شفاعتك! … قُلْتُ أوَتَتَخَوَّنُنِي؟ قال: كلا! ولكن ليطمئن قلبي.

وأُذِنَ لكلينا، وبَسَطْتُ حاجةَ قريبي بين يدي ذلك الموظف، وسألْتُهُ أن يَقْضِيَهَا إذا كان على حق كما يقول، فوعَدَ الرجل أن يَفْعَلَ، وتهيأت للقيام، فَزَرَّ قريبي على عَيْنِه وأومأ إلى أن زِدْ في الرجاء، فعاوَدْتُ صاحبي فكَرَّرَ الوعد في دعة واطمئنان، ولما هَمَمْتُ بالقيام عاد فغمز بعينيه فعاوَدْتُ الإلحاح، وعاوَدَ الرجل تَرْدِيد الوعد، وما زلنا على هذا حتى ظَهَرَ عليه البرم، فراح يَرْفَع طَرْفَه إلى ساعة الحائط مرة، ويشيعه فيما احتشد بين يديه من الأوراق مرة أخرى (يريد أن يقول لنا حسبكم فانصرفوا مأذونين)، فجمَعْتُ كل ما فيَّ من عَزْم ونهضت ولَمْ أَكَدْ، لأن عين قريبي كادت بنظرتها الحادة تثبِتُنِي في موضعي أبد الآبدين ودهر الداهرين، وانطلقنا وأنا أَجُرُّه جرًّا!

وحانت ساعة الفراق ليمضي كل منا إلى وجهه، فشَدَّ على يدي، وكَرَّشَ وجهه، وزر على عينيه، وقال لي، وهو يكاد ينشج بالبكاء: والنبي …!

– ماذا تريد أيضًا؟

– والنبي …!

– قل يا أخي: ماذا تريد أن أصنع؟!

– والنبي …!

– قل يا أخي: ماذا تبغي مني بعد ذلك، فقد كِدْتَ تذهب بعقلي …؟!

– والنبي …!

– آه! لقد فهمت، تزيد أن أَعْمَلَ عملًا يُكْرِه الرجل إكراهًا على قضاء حاجتك!

– نعم!

كان بعض صغار الفلاحين وأشباههم إذا وَقَعَتْ على الرجل منهم مظلمة لا يجد النصفة منها عند صغار الحكام، استكتب بشأنها «عرضحالًا» وارتصد لصاحب الشأن الأعلى من كبار الولاة، حتى إذا جاز بمركبته، ألقى بنفسه تحت سنابك الخيل، وبذلك يُلْفِتُ إليه الوالي، فيتلقى «عرضحاله» ويُصْغِي إلى مظلمته، ويَنْظُر في شأنه، وليس لدينا يا ابن العم إلا هذه الطريقة! فقال لي: وكيف ذلك؟ قُلْتُ: دعني اليوم أُسَوِّي في مسألتك «عرضحالًا»، وتجيئني من غدك في الصباح الباكر، حيث نرصُد صاحبنا قرب ديوانه، حتى إذا طامنت سيارته من سرعتها ألقيت بنفسي وفي يدي «العريضة» تحت عجلاتها، فلا أصاب بأكثر من كسر بسيط في الساق، أو اختلاف في بعض الأضلاع يسير، أو شَجٍّ لا خَطَرَ له في الرأس، ولكن الأمر على كل حال، سيتعاظم الرجل ويُرَوِّعُه كُلَّ مروع، فيجعل بقضاء حاجتك!

فقال: بارك الله فيك يا ابن العم، ولا حرمنا هِمَّتَكَ، وهذا هو الظن بك والعشم فيك! وتواعدنا على أن يجيئني من غده في الساعة السابعة صباحًا.

وأقبل علَيَّ صاحبي وقال: أفتدري ماذا حدث اليوم؟ قُلْتُ: ماذا؟ قال: بينا أنا في سريري متدثرًا احتماءً من البرد القارس إذ جاءتني الخادم تقول لي: إن ابن عمك في انتظارك، وهو يتعجل نزولك إليه لتمضيا إلى الميعاد الذي اتفقتما عليه أمس!

•••

أرأيت يا أخي أشره من ذلك الرجل وأطبع، وأبرد وأصقع، وأسمج وأثقل، وأصفق وأرزل.

فقلت له: أعانك الله!

١  نُشِرَتْ في «السياسة» الأسبوعية سنة ١٩٢٩ تحت عنوان «يوميات».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤