الأدب الحاد

من الواقع الذي لا يتطاول إليه الشك أن مصر تنبعث الآن في نهضة قوية في كثير من أسباب الحياة، وفي صدرها الثقافة بوجه عام، والأدب على وجه خاص.

لم يصبح الأدب مجرد فضْل من الكلام لا يكاد يُطْلَبُ به شيء، ولم يَبْقَ للأدب مُضْطَرَب في تلك الأغراض الهزيلة التي كان يَضْطَرِب فيها الأجيال التي تَقَدَّمَتْنَا من العصر التركي إلى خمسين سنة خَلَتْ، ولم يُمْسِ جهْد الأديب متجرِّدًا في طلب المُحَسِّنات البديعية واستكراهها على الكلام، بَلْهَ تسوية الكلام لمجرد إصابة تلك المُحَسِّنات فحسب، لا! لا! لقد عز الأدب في هذا العصر، واستَحْصَدَ مُلْكُه، وعَظُمَ شَأْنُه، بما ارْتَصَدَ لتجلية الفكر، وأداء مطالب العقل، والتسلية عن النفس وتلذيذها بكل جميل وبكل بديع.

وفي الغاية، لقد جعل الأدبُ يَتَبَسَّط من يمينه ومن شماله حتى كاد يَسْتَغْرِق، بجهد أعلام البيان، جميع الأسباب الدائرة بين الناس، فإذا تقاصر الأدب العربي اليوم عن تَوَفِّي شيء من الأشياء، فإنه لَبَالِغُهُ في القريب بعون من الله وبتظاهر جهود الأدباء.

على أن ما مِنْ حَقِّه أن يَلْفِت النظر في هذه النهضة البيانية — ولا أحسب ذلك مما دَقَّ على أفهام الكثير من جمهرة المتأدبين في مصر — أن الأدب العربي في جميع ألوانه وصوره، قد أصيب في هذه السنين بنوبة عصبية قبل أن تفارقه أو تَرِقَّ عليه، وإن كانت هذه النوبة أثْقَلَ على أقلام الكتاب منها على أقلام الشعراء.

وبعد، فأنت خبير بأن لكل مَقام من مقامات الكلام بَيَانًا يَحْسُن به ولا يَحْسُن بغيره ولا يَحْسُن هو في غيره، فهذا الباب لا يصلح إلا بسطوة القول وحِدَّة القلم، وهذا الباب لا يجوز أداؤه إلا في لِين لَفْظ ورِفْق تعبير، وهذا الباب لا يُحْمَد الكلام فيه إلا بالاجتماع لتجويد الصياغة وإحكام النسج، والإصابة من فنون البديع بما لا يَسْتَهْلِك الغرض أو يُسِيء إلى المعاني، وهذا الباب لقد يَرْذُل فيه مثل هذا ويُعَاب كل العيب، فإن مَنْ يَسْتَنْفِر قومه للجهاد ذِيادًا عن شَرَفِهِمْ ودفاعًا عن حريمهم، لا كمن يَصِف مجلس لهو في روضة مِعْطار، قد لَعِبَ النسيم بأغصانها، وغرَّد الهَزَار على أفنانها، وإن مِثْل ذلك اللعب باللفظ واعتماد نكات البديع لَسَمِج كل السمج بالمرء يرثي ولده ويصف ما أجدَّ له الأسى من ألوان البُرَح، وما أحدث الثكل في كبده من صدوع ومن قُرَح.

هذا إلى أنك في الباب الواحد قد تقول في هذا الموضع كلامًا لا يجمُل بك أن تقوله في موضع آخَر منه، فإن من يَزِلُّ لسانه بالكلمة العوراء في صديقه، ليس كمن يسعى في إردائه أو الإصابة مِن شَرَفِه مثلًا، فهذا يُقَال في عتابه أو هجائه كلام، وهذا يُوَجَّهُ عليه كلام آخر.

وبَعْد، فليست بنا حاجة إلى التقصي وطَلَبِ الصور المختلفة لمقامات الكلام؛ فذلك من القضايا المفروغ منها، ولقد أجمل الأقدمون هذا المعنى فقالوا: «لكل مَقام مَقال.»

ونَرْجع الحديثَ، بعد هذا، إلى ما سُقْنا له الكلام: أسلفنا أن الأدب العربي، في جميع ألوانه وصُوَرِهِ، قد أُصِيبَ في هذه السنين بنوبة عصبية قَلَّ أن تُفَارِقَه أو تَرِقَّ عليه، وحسبك أنْ تُقَلِّبَ النظر في الصحف السياسية مثلًا، فلا ترى إلا عنفًا ولا ترى إلا حَدًّا، وخاصة في مقام الجدل الحزبي، وإذا لم يَكُنْ في كل هذا الباب ما يَجُوز أن يُجْرى القلم فيه هَيِّنًا رفيقًا لأن مَوْضع النزاع هَيِّن رفيق، أفكل مواضع الخلاف — على كثرتها وتَفَرُّق مذاهبها — حقيق بأن يَصِلَ العنف فيه إلى أقصى مداه، وينتهي إلى غاية منتهاه.

اللهم إنَّ من البديه أن التهمة — إذا كانت هنالك تُهَم — من المقولات بالتشكيك، على تعبير أصحاب المنطق، وهي في باب السياسة تنتهي بخيانة الوطن — والعياذ بالله — وتبدأ بالتفريط اليسير في اليسير من الحقوق العامة، وبين هذين الحدَّيْن مراتب كثيرة، ولكننا تَعَوَّدْنَا أن نَسِمَ كل هذا بِمَيْسَم واحد، ونَطْبَعه بطابَع واحد، ونُجْري القولَ فيه بدرجة سواء!

وما لي وللسياسة وكُتَّابِها، فذلك شيء قد نَتَرْتُ منه يدي من زمان بعيد، ولا والله ما قصدْتُ — وأنا أصيب من هذا المعنى — صُحُفًا بأعيانها، ولا تَمَثَّلَ لي كاتب بشخصه، فلقد أَضْحَتْ هذه الخَلَّة من عموم البلوى، على تعبير جماعة الفقهاء.

ولقد تَزْعُم أننا في كفاح سياسي عنيف، ومن شأن هذا الكفاح أن يُرْهَف الأعصاب، ويُحِدَّ الأقلام، ويُثِير في النفس أَعْنف الشهوة إلى الخصم والفَلْج، لقد تَزْعُم هذا، ولقد أستريح إلى هذا الزعم معك؛ فلنترك السياسة ولنترك الساسة يَمْضُون لِطَيَّاتهم راشدين، ولنتحول إلى غير هذا من مقامات البيان التي لا شأن لها بالسياسية ولا شأن للسياسة بها: سَرِّح نَظَرَكَ في أي جَدَلٍ ديني أو علمي أو فني، فإنك لا تصيب إلا عُنْفًا وإلا حدة في منازع الجدل والحوار!

ثم تَعَالَ نُطَالِع المسرح المصري، فإننا لا نكاد نسمع منه إلا هَدَّة الهدم، ولا نشاهد فيه إلا مَسيل الدماء وتَسَعُّر النيران، هكذا يؤلف الكاتب المسرحي غالبًا، وهكذا يَخْتَار المترجم للمسرح المصري من فنون «الروايات»!

وهنالك شُبَّان ناشئون يُعالِجُون وضْع «الروايات» القصصية، أفرأيْتَ فيها في الكثرة الكثيرة إلا المآسيَ، وإلا أَعْنَفَ المآسي وأَحَدَّهَا، مِنْ ثُكْل الولد، وموت الخطيب، وفرار العروس، وخراب الدور العامرة؟ فإذا كان هناك هوًى وصَبابة، فَخُذْ ما شِئْتَ مِنْ أقسى المعاني وأَشَدِّها، ومِنْ أَعْنَفِ الصور وأَحَدِّها، وعلى الجملة فأنت لا تكاد ترى في صور أدبنا المختلفة إلا مظاهرَ تلك العصبية التي غَشِيَتْنَا جميعًا في هذه السنين!

وإني لأذكر أنني دُعِيت لتقدير الدرجات في بعض الامتحانات الخاصة في مادة الإنشاء، وكان الموضوع المطروح على الممتحنين لا تستدعي طَبِيعَتُهُ جدلًا ولا تشميرًا للقهر والفَلْج، فإذا كان ولا بد ففي لَيِّن القول ورفيقه كفايةٌ وغَناء، ولكن لَمْ يَرُعْنِي إلا أن أرى الكاتبين جميعًا قد أَشَبُّوا حربًا وتمثلوا وِجَاهَهُمْ عَدُوًّا، وسُرعان ما ضَرِيَتْ نفوسهم وثارت حفائظهم، فاستحالت الأقلام في أيديهم قَنًا خَطِّيَّة راحوا يشُقُون الصفوف بها شقًّا، ويدقون بها أصلاب الأقران دقًّا، وما بَرِحوا في كَرٍّ وفَرٍّ، ومَدٍّ وجَزْر، وهل جاءك حديث الطرف الأغر؟ ثم تمَّ لهم النصر والغَلَب، ومضى هذا في تَعَقُّبِ مَنْ فَرَّ وطَلَبِ مَنْ هَرَبَ، وتَجَرَّدَ هذا في استخلاص السَّبْي واستصفاء السَّلَب!

ولقد نبَّهْتُ إلى هذا تنبيهًا قويًّا في تقريري الذي رَفَعْتُه إلى وزارة المعارف يومئذ، وعلمْتُ بعْدُ من كبير في الوزارة أن الرأي قد اجْتَمَعَ على لَفْت أساتيذ الإنشاء في المدارس إلى ذلك.

•••

ولست أكْتُم القارئ أن هذه الحال لا بد عائدة على الأدب العربي بأبلغ الأخطار، ومن هذه الأخطار حرمانُ المتعلقين بالأدب الاستمتاع بكثير من الفنون التي لا تستريح إلا إلى الدَّعَة والرفق واللين، كالوصف، والتحليل، والكشف، والتفكيه، وألوان المُدَاعَبَات، ولا تَنْسَ وراءَ ذلك تلك المغازيَ البعيدة الرائعة التي يُشَكِّلُها الكاتب اللبق النافذ القلم، في سراح ورواح،١ حتى لَيُخَيَّل للقارئ أنه لَمْ يَطْلُبْهَا ولم يَتَعَمَّدْها، وإنما هي التي سَقَطَتْ إلى الطِّرس مِنْ عَفْو القَدَر!

ومن هذه الأخطار الذهابُ بِمَلَكَة الوزن والتقدير، ووضع كل شيء في نِصابه، ومكافأته على قدر ما يخرج من حسابه، فإن الثائر المهتاج لا يَصْلُح لتقدير شيء، ولا يصح حُكْمُه على شيء، ومن هنا يَتَبَيَّن كيف تُسيء هذه الحال إلى كثير من قضايا العلوم والآداب والفنون، كما تسيء إلى غيرها من الأسباب الدائرة بين الناس!

ومن هذه الأخطار أننا أصبحنا لا نُشَرِّع القلم إلا إذا كنا غضابًا، فإذا أَعْوَزَنا الغضب زَرَرْنا على أعصابنا، وتكلَّفْنا إرهافَها وإذكاءَها لنعتصر آخر ما فيها من جهد، وتصول بكل ما تملك من سطوة، وهذا إلى أنه مما يُخَبِّث من نفْس الكاتب والقارئ بطول التكرار والمعاوَدَة، فإنه مما يَهِدُّ منهما، ويُسْرع بالاختلال إلى أعصابهما جميعًا!

وبعْد، فإنه إذا كانت الغاية من ذلك الإرهاف والإعناف شدة التأثير في نفس القارئ والسطوة بكل مشاعره، فإن ذلك قد يأخذ فيه أولَ الأمر هذا المأخذ ويَبْلُغ منه غايةَ المدى، على أنه بعد ذلك لا يزال — بحكم التكرار وطول المراجعة — يعتاده ويَتَأَلَّفُه، حتى إذا تطاول الزمن تَبَلَّد على ذلك العنْف حِسُّه، فلا يُثِير فيه كامنًا، ولا يُحَرِّك منه ساكنًا، فيُصْبِح مَثَلُه مَثَل من تصفى بعض المُخَدِّرات في مبتدأ الأمر نفسه، وتُذْكى حسه، وتُحْضر ذهنه، وتُطَيِّر فكره وخياله كل مُطَيَّر، ثم ما يزال يَتخاذل هذا الأثر عنه ويَتزايل فيه حتى يتفقد حاله المعتادة وطبيعته المفطورة، فلا يجد بعضها إلا في هذا الذي تَعَوَّد، ولقد يُدْرِكُه العَجْزُ كله مع هذا فلا يعود يَجِد من أصل طبيعته ومفطور قُوَّتِه شيئًا ألبتة!

أفرأيْتَ كيف تَجْني الحِدَّة حتى على نفسها وعلى الغاية التي تُحْمَد هي فيها؟

ثم إنك لقد تَظْفَر بإسالة الشئون، وتقريح الجفون، وتكريش الجلود، وتصديع الكبود، حين تُشْهِد الناس طفلًا فَرَّق الترام أجزاءه، أو شابًّا هوى في النيل بعروسه، أو عجوزًا فَقَدَتْ ولدَها وحيدَها بعد مصرع زوجها، أو بَنِيَّة حافلة بالسكان تَسْتَعِر فيها النار ولا يَجِد من فيها من الشِّيخة والطفل الصِّغار مَهْربًا، وغير ذلك مما يقع كل يوم من ويلات الدنيا وأرزائها.

تستطيع أنت وأستطيع أنا ويستطيع كل إنسان أنْ يَبْلُغ هذا بهذا، ولكن أي فَنٍّ فيه؟ وأية كفاية لا يُبْلَغ إلا بها؟ اللهم إن كان مثلُ هذا الضَّرْب مما يحتاج إلى الموهبة والإصابة، فكل الناس فيهما بمنزلة سواء! وهيهات بعد ذلك التفريقُ بين الكاتبين في المقدار، ولا يذهب عنك في هذا الباب أنَّ أجْوَد الطعام وأردأه يستويان ما أَهَلْتَ الملح أو غَمَرْتَ في الخردل ونحوه من الحرِّيفات!

•••

فإلى شباب المتأدبين أُوَجِّه هذه الكلمة «العصبية»، وأرجو أن يُنْعِمُوا النظر فيها، فإذا صحَّتْ عندهم راضوا النفوس على الوداعة والتطامن، والرجوع إلى الطبع، ومن البلية أن يرتاض المرء ليعود إلى طبعه ويرجع إلى أصل فِطْرته، فقد قالوا: إن العادة طبيعة ثانية، وإنما توجَّهْتُ بهذا الخطاب إلى الشباب لأنهم عَتَاد الحاضر وهم ذخيرة المستقبل، وهم الأقدرون على منازعة العادة، والله يهدينا ويهديهم إلى سواء السبيل.

١  يقال: فَعَلَ الشيء في سراح ورواح، أي في سهولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤