في البخل! …

قرأت كتاب «البخلاء» للإمام الجاحظ أكثر من مرة، ومما وقع لي فيه أنه ما من رجل مُبَخَّل، إلا يَحْتَج للشُّح والتوفر على الجمع، بالضن بالولد على الفقر، وترك ما يَدْفَع عنهم الحاجة والابتذال في طلب القوت.

ولقد دمغ الجاحظ احتجاجهم هذا بحجة رائعة، وتلك أن الخِصيان (الأغوات) جميعًا يشيع فيهم الشُّح، وتَغْلِب عليهم شهوة الجمع والادخار، والضن على النفس بالدانق والسحتوت، وليس لأحد منهم ولد، ولا يمكن أن يكون له ولد! فلمن يكنز الأموال؟ ولمن يضيق على نفسه في حياته، ليوسع عليهم ويُرَفِّه عنهم بعد مماته؟

الواقع أن شهوةَ الحِرص وجمع المال، هي في نفسها عند البخيل لذة لا يكاد يَعْدِلها شيء من لذائذ الدنيا، هي في نفسها لذة غير موصولة بعلة، ولا ممدودة بسبب؛، لأن الإنسان إنما يحب ولده لأنه يحب نفسه، ووَلَدُه بعض نفسه، ولا يُعْقَل أن يُؤْثَر الفرع على الأصل، أو يُرَجَّح البعض على الكل!

والبخيل يُقَتِّر على نفسه وعلى ولده معًا، وقد يكون عنده من جليل الأموال ما إن وَسَّعَ منها على نفسه وعلى عياله معًا، لبقي منها بعد موته، ما يتضمن لهم العيش في السعة، والتقلب في النعمة، ومع ذلك فإنه لا يفعل، بل تراه يتعمد الحرمان لنفسه ولأولاده، ويَثْبُت لحقدهم عليه، وتعجلهم لِأَجَلِه، ليستمتعوا بالنعمة إذا هو اندس في التراب، وأضحى أَكِيلَ الدواب!

على أنني وقعت على لون من البخل، لعلك كنْتَ تراه غريبًا، وأحسبك الآن تراه غيرَ غريب: فلقد جَرَتْ سُنَّة البخلاء على أن يُقَتِّروا على أنفسهم وعلى عيالهم معًا، فإذا كان لولد أحدهم شيء من السطوة عليه استخرجَ منه الأموال، فأخرجها له مرغمًا مغلوبًا، لا إيثارًا للولد، وبقي هو في شُحِّه على نفسه، ارتكابًا لأخف الضررين «التوسيع على النفس وعلى الولد معًا»!

أما النوع الذي وَقَعْتُ عليه من البخل، وتَحْسَبه غيرَ مألوف، فلقد كان لي صاحبٌ عَلَتْ به السن، ورُزِقَ الضِّدَّيْن (الغنى والعيلة)، فقد اجتمع له من زوجاته الثلاث، ما لا يقل عن اثني عشر ولدًا، ولا بد له رضي أو كره، من أن يحملهم، وكان رحمه الله رجلًا شديد الحرص عظيم الطمع، يجمع الدانق على الدانق، ويرص المليم على المليم، ولا يكاد كيسه يتفصد إلا في بناء دار أو شراء ضَيْعة، ولكنه كان يخالف سُنَّة البخلاء في خلة واحدة: ذلك بأنهم، كما تعرف، يُقَتِّرون على أولادهم وعلى أنفسهم معًا، ولكن هذا إنما كان تقتيره موجهًا على عياله وحدهم، أما نفسه فكان لا يحقن فيها شهوة، وبخاصة شهوة الطعام، بل لقد كان يبلغها من هذا غايةَ مناها!

وكان رحمه الله إذا سافر رَكِبَ من القطار في الدرجة الأولى، أما أولاده فيشحنهم في «الترسو» أو ما دون «الترسو» لو كان له دون! وإذا لبس فمن «تفصيل» ديليا أو فستا، أما بنوه فعليه أرخص القماش، وعلى أمهاتهم «التفصيل»! وإذا نام افترش الحرير، وتوسد ريش النعام، أما البنون، ففي «الكِلِيم» مُتَّسَع للجميع!

أما الطعام، وما أدراك ما الطعام! فالخبز أَوَّلًا يُصْنَع في البيت كل أسبوع، على ألا يُنْفَى من الطحين إلا النخالة، وسائره للعجين! وأما الإدام فهيهات للحم أن يزور داره «العامرة»، فلقد أخذ بنيه في هذا الموضع بالوَرَع وجلا عليهم الحكمة في الحديث الشريف: «نعم الإدام الخل»، فللغداء الكوامخ (السلطات) أشكالًا وألوانًا، و«لأم الفلافل» وأخواتها من الخوان المقام الكريم!

وأما العشاء، فله فيه صُنْع بديع!

يدخل وَقْتُ العشاء، فإذا صاحِبُنَا قد سَلَف وأَعَدَّ بعدد الأولاد ملاليم.

فإذا اجتمعوا إليه مستشرفين لعشائهم، قال لهم: «اللي ياخد مليم ما يتعشاش؛ واللي يتعشى ما ياخدش مليم! مين اللي ياخد مليم؟»، ويدفع أحَدهم فيقول: «أنا!» وعلى حُكْم غريزة التقليد في الغلمان، يسرعون فيتصايحون: «أنا! أنا! أنا!»، فيدفع إلى كل منهم مليمه، وكفاه الله مئونة العشاء! أعني عشاء الأطفال!

وبَعْد، فللفطور قصة أخرى: ذلك بأنه زعم للزيات القائم على رأس الشارع، أن لديه حَمَلًا يُرَبِّيه ويُحِب أن يُسَمِّنه، ويجزل لحمه وشحمه، وليس يَعْقِد له ذلك ويُسْرِع فيه أفضل من خلاصة١ (تصافي) قدر الفول يَطْعَمها في الصباح، فيحتفظ له الرجل «بخلاصة» قِدْر العصر، ويعبث إليه بها في الصباح الباكر، والأولاد بَعْد نِيَام، فيفرغها في صحفة كبيرة، ويعالجها بقدر من الخل، ويُصَفِّف حولها كسر الخبز التي أفضلها الأولاد في غداء أمسهم، حتى إذا هَبُّوا من النوم، وأحشاؤهم تتنزى من شدة الجوع، فتواثبوا إلى الطعام، صاح فيهم: «اللي عاوز يفطر يجيب المليم!»، فلا يسع كلا منهم إلا أن يطرحه إليه، مواتاةً لإلحاح البطن، وإيثارًا للعافية، فسرعان ما تعود تلك الملاليم إلى عُشِّها، وتعتصم بوكرها!

•••

أما هو نفسه، فإنه يخرج في الصباح من داره على الطوى، فيميل في طريقه إلى الديوان على دكان لبان، فيصيب فيه ما شاء الله أن يصيب من الحليب، أو اللبن الخاثر (الزبادي)، أو «القشطة»، وقد يميل إلى «حلواني»، فيصيب عنده ما شاء الله أن يصيب من لبن وشاي، وفطائر مدحوة، وأخرى بالفستق والزبيب محشوة، إلخ إلخ، فإذا فرغ من عمله في الديوان، عرج في مَقْفِلِهِ إلى الدار، على الحاتي أو على غيره من المطاعم الفاخرة، فأوصى وتخير، وتَبَسَّط على الطعام، حتى إذا سد شهوته، وكظ لهوته، انكفأ إلى البيت راضيًا هانئًا.

أما العشاء، فإنه يصيب في البيت قبل أن يتدلى إلى السهرة، وذلك أن يَبْعَث الخادم، في سِرٍّ من بَنِيه، فيأتيه بقدر كفايته من خفيف الطعام وفاخره، ولا يَنْسى أن يأتي معه بنصف أقة عنب، أو بزَوْعة (شقة) بطيخ، أو ثلاث كمثريات، أو غير ذلك من فاكهة الأوان، حتى إذا دَسَّها له في غرفته الخاصة، قام إلى الباب فأحكم رتاجه، وجلس مطمئنًّا إلى العشاء!

ومن أظرف ما يُذْكَر هنا أن الأولاد، وبخاصة صغارهم، كانوا يرتصدون لهذه الساعة، حتى إذا اجتمع أبوهم للعشاء، تواثبوا إلى الباب «ليتفرجوا عليه» من الثقب، فترى هذا يتوسل إلى أخيه أن يُخَلِّيَ بينه وبين الثقب، وهذا تراه يَثِبُ وثبًا، ويدفع صاحب النوبة دفعًا، وكانت تكون جَلَبَة وصياح وعويل، والأب مُمْعِن في طعامه، لا يُعْنَى بأن يسأل عما وراء الباب!

•••

وفي يوم مَوْتِه رحمه الله، لم يَنْتَظِر هؤلاء الأولاد حتى يقسموا التركة، ويهتدوا إلى اسم المصرف الذي يكنز فيه «المرحوم» ماله، بل لقد كُنْتَ ترى أحدهم يُهَرْوِل في الطريق وعلى رأسه «شباك»، والثاني وعلى كتفه مصراع باب، وثالثًا يحمل بين يديه طستًا، ورابعًا يحمل مقطفًا ملئ بالصنابير (الحنفيات) وهكذا! …

فهل هذا أيضًا كان يُجْمَع للولد لِيَعْصِمَهُم من الفقر، ويَكُفَّ عنهم عادية الدهر؟!

١  الخلاصة: ما بقي في البرمة من تفل أو لبن أو غيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤