غُوَاة؟

فإذا أباها علينا صديقنا الأستاذ صادق عنبر قُلْنَا هُوَاة، وأمرنا لله!

الواقع أن بعض إخواننا الموظفين هُواة، أو على الصحيح عند العامة غُواة، شديدو الكلف «بالغية»، وليس يقع هَوَاهم على شيء مما يتكلفه الناس في هذا الباب، من حَذْق تصوير، أو حَفْر، أو تجويد ضرب على عود أو قانون، أو تربية الأزهار وتوليدها وتلوينها، أو الملاعبة بالحمام، والاشتغال بنطاح الكباش، ومهارشة الديكة، أو. أو. إلخ، فإن هواهم أو «غِيَّتُهم» إلى شيء آخر، أفتدري ما هذا الشيء؟ هو الكلام في «الحركة». فإذا كانوا من سلك القضاء كان الكلام في «الحركة» القضائية، وإذا كانوا من رجال الإدارة، فالكلام في «الحركة» الإدارية، وإنه لَهَوًى يملك عليهم عواطفهم، ويستهلك أوقاتهم، فيَطْغَى على لذائذهم جميعًا.

وإنهم ليتعاهدون مكانًا من فندق، أو مَوْضِعًا في مَقْهًى، أو منظرة في دار إذا كانوا في الريف. فإذا فرغوا من أعمالهم انتظم مجلسهم، وبدأ الكلام في «الحركة»، وميعاد صدور «الحركة». وراح كُلٌّ يَرْوِي ما اتصل به من ذلك فَمِن قائلٍ إنها ستصدر بعد ثلاثة أيام، ويُسْنِد هذا إلى خَبَر ثقة في وزارة الحقانية فيَبْتَدِرُه ثانٍ بأنها لا تكون إلا بعْد شَهْر على الأقل، ويَحْتَجُّ لهذا ثالث بأن هناك إشكالًا فيمن يُخْتَار للمنصب الفلاني …

ويدور الجَدَل والحوار في هذا ساعة أو ساعتين … فإذا فرغوا منه أقبلوا يتفقدون مَن «عليهم الدور» في الحركة المقبلة. ومن هم الذين سيقع لهم الحظ فيها، فيجري الكلام في الترشيح للمناصب الخالية، وفيمن يَخْلُف كُلَّ من يُفَارِق منصبه إلى أعلى منه، وفيمن عليهم الدور للدرجة الأولى في القضاء ثم مَنْ عليهم الدور للدرجة الأولى في النيابة، ثم فيمن عليهم الدور للنقل إلى محكمة مصر. ومن ذا الذي سَيُنْقَل إلى قنا. ومن ذا الذي سَيُنْدَب للجنة المراقبة. ولا يزال يُدَافَع الرجم والتخمين بالرجم والتخمين، وترتفع الأصواب بالتماس العلل، والاحتجاج للرأي، حتى ينتصف الليل أو يكاد، ويَنْفَضُّ المجلس ويَنْطَلِق كُلٌّ إلى مثواه، فإذا كان أصيلُ اليوم الثاني، عادوا إلى مجالسهم، واستأنفوا شأنهم، وأعادوا ما بَدَأُوه في أَمْسِهم، لا يخوضون لحظة واحدة في غير حديثهم، فإذا كان يوم عطلة، عقدوا فيه جلسة «ماتينيه» للكلام في الحركة أيضًا، وإنك لا تسمع أحدًا منهم طُولَ حياته يَلُوك بيتًا من الشعر، أو يُقَلِّب لسانه في سبب من أسباب الحياة، أو يتجرى عليه نادرة ظريفة، أو طرفة تنتعش بها النفس، أو مُلْحة تملأ الشدق بالضحك! ولا تراه يومًا يغشى مجلس غناء أو تمثيل، أو نحو هذا مما يطلبه الناس للرياضة والتفرج من كَدِّ العمل! … إنما لذة العيش وقرة العين، ومتعة الحياة وأُنْسُها وبهجتها، كل أولئك في الكلام على «الحركة» وحدها. حتى إذا غَشَى واحد من هؤلاء الهواة مجلس آخرين من إخوانهم، ممن لا يُكْرِثُهُم أَمْر «الحركة»، ولا يَقْتُلون وَقْتَهم في الحديث عنها؛ لأنهم لا يَشْغَلون وَقْت فراغهم إلا بما يَشْغَله به سائر المتعلمين، من حوار في مسألة علمية، أو حديث في الأدب، أو جدال في المسائل العامة، أو رواية حادثة غريبة، أو إرسال نكتة بارعة، أقول إذ غَشَى واحد من أولئك مجلس جماعة من هؤلاء رأيْتَه غريبًا بينهم، مُنْقَبِضًا عن شأنهم، غافلًا عن حديثهم، حتى لتَحْسَبَنَّه لا يَعْرِف لغتهم! وإنه لَيَهُمُّ المرة بعد المرة بتوجيه مجلسهم إلى الكلام في «الحركة»، فإذا لم يسترسلوا معه فيه تَسَلَّل عن المجلس بسلام!

وإن أَنْسَ لا أَنْسَ أنني وصديقًا لي، دَخَلْنَا «كازينو» الشاطبي أصيل يوم من أيام الصيف، فإذا الناس فيه متشرفون على الشاطئ يستقبلون الهواء، ويمتعون الأنظار بجمال البحر هناك، وإذا «فلان» جالس وحده وقد وَلَّى البحر ظَهْره، فمال عَلَيَّ صاحبي (وهو من القضاة أيضًا)، وقال لي: أتعرف لماذا يجلس «فلان» هكذا؟ قُلْتُ لا! قال: إنه يرتصد لِأَيِّ قَاضٍ ليتكلم معه في «الحركة» المقبلة! فاعدل بنا عن طريقه، لا أمتعه الله بهذا الكلام!

والعجب العاجب أنك قد تسأل جَمْعَهم عمن يرقب نصيبه منهم في تلك «الحركة»، فيجيبونك كلهم «لسه ما جاش علينا الدور»! ولقد سَأَلْتُ واحدًا من هذا الضرب مرة: متى تُرَقَّى يا فلان؟ فَدَسَّ يده في جَيْبِه واستخرج كشفًا طويلًا فَنَظَرَ فيه وقال: «فاضل قدامي ٧٣ واحدًا»!

وإنك لتصيب هذا الضرب من الموظفين في كل وزارة، وفي كل مصلحة تقريبًا، وبِحَسْبِك أن تَطُوف بالأماكن العامة وَقْت الغروب لترى للمتحدثين في «الحركة» مِنْ مُوَظَّفِي كُلٍّ مِنْهَا مجلسًا معقودًا.

ولعل لإخواننا هؤلاء بعض العذر أو كله، فإنهم إنما يَتَقَرَّوْن مستقبلهم، ويتعجلون الأيام لينتهوا منها إلى عُلْيَا المناصب، ولكن ما عذر هؤلاء الذين أفضي إليك بحديثهم؟

من جيراننا كان المرحوم أحمد ثابت بك، (والد صديقنا الأستاذ الدكتور محجوب ثابت)، وكان أَوْجه مَنْ في تلك الرقعة من رجال الإدارة المُحَالِين إلى المعاش، فكانت دارُه مثابة إخوانه المُحَالين على المعاش، تنتظمهم «المنظرة» في الشتاء، وتنعقد حلقتهم على باب الدار في الصيف، وفيهم من قَوَّسَت السنون ظَهْره، وفيهم من كُفَّ بَصَرُه، وفيهم من أَبْطَلَ الفالِجُ نِصْفه، وإنهم ليعقدون مجلسهم من الساعة التاسعة صباحًا حتى يقوموا لغدائهم، ثم يستأنفوا شأنه إذا جاء العصر، فلا يَبْرَحون إلا إذا تَنَصَّف الليل، وعلى صاحب الدار الإكرام لهم بالقهوة «السادة»! والقهوة «بسكر شوية»، أو السوبياء والليموناده في الصيف، أو القرفة أو الخلنجان إذا كان الشتاء، أما حديثهم كله في مُصْبَحهم ومُمْسَاهم، وفي غُدُوِّهم وآصالهم، فمن لَوْن واحد، هو الكلام في الحركة الإدارية، ودار ثابت بك على مذهبي في غدوي ورواحي، وما جُزْتُ بهم مرةً من يَوْم نَشَأْتُ إلا سَمِعْتُ قائلهم: وعبد الغني شاكر؟ فيبادره آخر: في مِيت غمر، وخليل نايل في قنا، وحدَّايه؟ في طنطا، وقطري؟ في أسيوط، وعبد العزيز يحيى؟ في بلبيس، وإبراهيم نبيه؟ إلخ، إلخ لقد حَفِظْتُ، في صَدْر سِنِّي، وعلى الرغم مِنِّي، أسماء جميع المديرين، ووكلاء المديريات، والمحافظين، والحكمدارين ومأموري المراكز، ومواضعهم وما كان وما يكون مِنْ تَرَدُّد كل منهم بين مُخْتَلِف المناصب في مُخْتَلِف المواطن!

ولولا أن ألوى الردى بالمرحوم ثابت بك لكان الهتاف الآن بأسماء صادق يونس، وعبد السلام الشاذلي، وأحمد فهمي حسين، وأحمد زكي مصطفى إلخ … وسبحان مَنْ أَوْدَعَ كُلَّ قَلْب ما شَغَلَه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤