تمهيد
(أ) الشعر والتراث والهويَّة السرديَّة
وهنا يسائل الكتاب الهويَّة من باب السرد، أو بالأحرى، هو يَدْرُس السرد بما هو مكون من مكوناتها؛ بل هو إطار معرفي لتحديدها.
ولمَّا كان لكل ثقافة طرقها وأساليبها في السرد والرواية، وكان لكل جماعة تاريخيَّة أحداثها المؤسسة لهويتها الجماعيَّة التي تتم استعادتها التأويليَّة والحكائيَّة باستمرار، فإننا نستطيع الانصراف إلى الحَبكات التي تلقيناها في كل نماذج تراثنا. ونستطيع أن نُجرِّب مختلف الأدوار التي تتبناها الشخصيات الأثيرة في القصص العزيزة علينا. وبواسطة «هذه التحولات الخياليَّة لذاتنا» نحاول أن نحصل على «فهم ذاتي لأنفسنا». وهنا تصبح «الهوية السرديَّة» صورة الذات المتحركة، التي لا تتحقق إلا بالسرد، كما لا تصبح «الذات» هي «الأنا» المعطاة منذ البدء، الأنا النرجسيَّة في تشكلها؛ وإنما تصبح مُعطًى تُمليه رموز الثقافة، معطى تشكله مرويات تراثنا، ومن هنا فوحدتها ليست وحدة جوهرية أو ثابتة، وإنما هي وحدة سرديَّة.
وعلى هذا النحو فمعرفة الذات نمط من التأويل يجد في السرد — من بين ما يجد في إشارات ورموز أخرى — وساطتَه الأثيرة؛ إذ الذات لا تعرف ذاتها مباشرةً؛ بل تعرفها بطريقة غير مباشرة من خلال العلامات الثقافيَّة بجميع أنواعها، تلك التي يتم إنتاجها استنادًا إلى وساطات رمزيَّة تنتج دائمًا وأساسًا الفعلَ.
ويحدثنا «ريكور» عن بعض حلقات سلسلة قصص تجربتنا اليوميَّة التي ربما لا نلتفت إليها، فخلاف القصص الفعليَّة ثمة «قصص لم تُرْوَ من قبل»، ومنها جلسات التحليل النفسي؛ حيث يُزَوِّدُ المريضُ المحللَ النفسي بشظايا متفرقة من القصص الحيَّة، والأحلام، والمشاهد الأوَّليَّة، والقصص المتباينة، وعلى المحلل أن يكوِّن من هذه الشظايا القصصيَّة سَرْدًا يمكن أن يكون أكثر احتمالًا، وأكثر معقوليَّة.
والتأويل السردي الذي تؤديه هنا نظرية التحليل النفسي يعني أن قصة الحياة تنشأ عن قصص لم يسبق لها أن رُويَت، وكانت مكبوتة تحت ثقل القصص الفعليَّة التي تتولى الذاتُ أمر العناية بها، وترى أنها تشكل «هويتها الشخصيَّة»؛ فالبحث عن الهوية الشخصيَّة هو الذي يضمن الاستمرار والتواصل بين القصَّة الممكنة أو الضمنيَّة والقصَّة الصريحة أو الفعليَّة التي نتظاهر بتحمل مسئوليتها.
إن كل تعاملاتنا القرائيَّة مع الشعر، مع ما يطرحه من طوابع حكائيَّة أو قصصيَّة ليست مجرد متابعة لقصص تُروى، أو حكايات يتم تقديمها؛ وإنما هي تجارب للعيش في النصوص، تجارب للحياة في النص على نحوٍ مُتَخَيَّل. وكل قراءة هي إعادة إنتاج ﻟ «حكاية النص»، هي حوار جدلي خلَّاق بين ما يطرحه النص وما تقدمه موسوعة القارئ لفهم حبكة النص وعلاقات الشخوص ونظام الأحداث وعلاقاتها. بعبارة أخرى: محاولة لإنتاج عالمٍ سَرديٍّ موازٍ.
ويأتي الشعر العربي القديم ليكون هو النَّصَّ الأوَّل الذي راكم فيه العرب تصوراتهم عن الحياة والمجتمع والقبيلة والفرد، والطبيعة، والمعارف، والقيم. غير منحاز في ذلك إلى طبقةٍ دون أخرى. لقد تجلَّى فيه السائد كما تجلى المهمش، فكان بحق ممثلًا للحياة العربية؛ لقد ظهر فيه الشعراء الفرسان، وذوو الحظوة والأمراء كما ظهر فيه أيضًا المعدمون والفقراء والعبيد والصعاليك والنساء، ظهر فيه الأعلام المشهورون كما ظهر المُجَهَّلون. قَدَّم شعراءَ وَثَنيِّين ونصارى كما قَدَّم المُتَحَنِّفِين. كل هذا رواه العرب وحفظوه وعاشوا به. ومن هنا فعندما يقدم الشعر العربي سرده فإنه يقدم مُجمل أبعاد الذات العربيَّة وبنياتها الذهنيَّة والفكريَّة، إنه يقدم جانبًا من الهوية السردية للذات العربيَّة.
ومن ثَم لا يمكننا الحديث عن السرديات العربيَّة المعاصرة دونما محاولات تتوفر على دراسة أشكال السرد العربي القديم، نثرًا كان أم شعرًا، ذلك أن المبتكر والجديد لا يتم وفق ألمعيَّة إبداعيَّة منقطعة عن الجذور، عن الماضي، أو مُرتميةً تمامًا في حضن الثقافات الأخرى.
(ب) قِدَم مشكلة الأنواع الأدبيَّة وأصالتها النقدية
وينشأ النوع، كما عند باختين، من طبيعة التوجه المزدوج للعمل — بل لكل تلفظ — نحو موضوعه، ونحو مُحَاورٍ بعينه، وهذان المقومان عنده هما معيار افتراق الأنواع وتمايزها. يقول: «إن الكينونة الفنيَّة، من أي نمطٍ كانت، أي من أي نوع، متصلةٌ بالواقع استنادًا إلى شرطٍ مزدوج، وتُحَدِّد مُتَعيِّنات هذا التوجه المزدوج نمطَ هذه الكينونة، أي نوعها.
(ﺟ) حول غنائية الشعر العربي القديم
(١) ساد الأدب ودراسته في جل الأوقات اعتقادٌ جازم بكون القصيدة العربية القديمة والحديثة في شكلها الموروث قصيدة غنائية بامتياز. يرتبط بهذا الاعتقاد تصورٌ آخر مفاده الإيمان المطلق بصفاء الأنواع واستقلالها، بما أفضى إلى ضرورة الاستسلام البَدَهي بضرورة اندراج كل نص في نوعٍ بعينه من الأنواع المعروفة بما يَئُول إلى مَظْهرٍ من التطابق التام بين النص وتقاليد النوع.
وظل الإيمان بصفاء الأنواع أو نقائها مُكَرِّسًا لوضعٍ يمتنع فيه على الوعي النقدي الاعتقاد في المبدأ الجمالي الذي يزحزح العلاقة بين الأنواع الأدبيَّة، فَتُهْدَر طاقة النصوص الساعية نحو التجديد والاختلاف، وتعود النصوص من الإنتاج الأدبي ليتم تشذيبُها وتهذيبها، ورَد المختلف إلى المؤتلف، أو رَد الجديد إلى المألوف والمعتاد.
-
ذلك الذي يحكي بوضوح (الشعر الملحمي).
-
الشكل ذو الانفعال المتعالي (الشعر الغنائي).
-
ذلك المنشغل بالذاتي (الشعر الدرامي).
ومن هنا يستكشف «تودروف» عمق هذه الأجناس من خلال الضمائر؛ حيث يقترن الضمير «هو» بالملحمة، ويرتطب الضمير «أنا» بالشعر الغنائي، في حين يقترن «أنت» بالدراما. أما «إميل ستايجر» فيعطي تفسيرًا زمنيًّا للأجناس، فيربط الغنائي بالحاضر، والملحمي بالماضي، والدرامي بالمستقبل.
ويختزل تودروف هذه التصنيفات الكبرى في الجدول التالي:
ديوميد | جوته | إميل ستايجر | ||
---|---|---|---|---|
غنائي | يتحدث المؤلف وحده | الشكل ذو الانفعال المتعالي | أنا | الحاضر |
ملحمي | يملك المؤلف والشخصيات حق الكلام | الشكل الذي يحكي بوضوح | هو | الماضي |
درامي | تتحدث الشخصيات وحدها | الشكل المنشغل بالذاتي | أنت | المستقبل |
لقد عُرِّفت القصيدة الغنائية الأوروبيَّة بالنظر إلى الدِّراميَّة والملحميَّة في حقبتها التاريخيَّة المتقدمة، اليونانية والرومانيَّة، وسَرَى هذا التصنيف الأدبي. ونحن على هذا النحو إنما نُعَرِّف القصيدة العربيَّة بالنظر إلى ثقافات مغايرة تمامًا، وفي حقب تاريخيَّة أخرى. صحيح أن وصف القصيدة العربية المعاصرة بالغنائية، وعلى الخصوص في ظل الدراما والملحمة؛ قد يكون هو الأوفق والأكثر تجانسًا مع واقع الأنواع، ولكن في إطار الشعر العربي القديم تغيب مسوغات هذا التصنيف؛ حيث الشعر هو هذا الشعر فقط بما ينطوي عليه من قيم سرديَّة، ورسائليَّة، وحجاجيَّة، ودراميَّة، وغنائيَّة أيضًا بالمفهوم الذاتي الانفعالي. يظل الشعر هو الشعر في انفتاحه على الحِكَم، والمواعظ، والمنافرات، والتهديدات، والتنديد، والرسائل، والمفاخرات، والمدح، والهجاء، والرثاء، والغزَل، ليضحي الشعر هو النوع الجامع لبذور أنواع كثيرة في ثقافات أخرى مختلفة، أو بعبارة أخرى لتتحقق سائر الأنواع ضمنيًّا عبرَه، ليضحي الشعر مرادفًا ضمنيًّا للأدب في الثقافة العربيَّة. لقد حفل الشعر في القصيدة العربية عبر تحقُّقاتها المختلفة بقيم فنية مختلفة، وبقي العَروض (بما هو قيم وزنية وقافَويَّة) حائلًا دون انسرابه إلى أنواع أدبية أخرى؛ حيث لم يكن الإيقاع عنصرًا مضافًا إلى القصيدة، أو مجرد مزاوجة بين النظام اللغوي والنظام الإيقاعي، وإنما هو تلاحم وتفاعل يُبَلْور في النهاية الحَدَث الشعري الذي هو القصيدة.
لم يكن لدي الجاهليين جنس أدبي يمثل سَرْدهم. لديهم بعض الأخبار، لكنها لم تأخذ طابع الفن، ليس لديهم قصة أو رواية أو كتابة تاريخيَّة، أو سيرة شعبيَّة، ومن ثم أتى سردهم كُله أو جُلُّه في شعرهم، وكان الشعر عندهم نوع الأنواع.
لقد عَدَلت مقولة ابن سَلَّام عن لفظة «الكتاب» مثلًا، المفردة الأصيلة، على ما فيها من دلالة الاستيعاب إلى لفظة «الدفتر» الذي ترشِّحُ دلالته، إضافةً إلى دلالة التسجيل والتأريخ، إلى دلالة ملاحقة الأحوال وتتبُّعها، ليظل الرصد والتسجيل فعلًا حاضرًا ملازمًا ﻟ «الآن»، ملازمًا ﻟ «اللحظة» في كل تجدداتها. والشعر حينئذٍ فيه أيضًا قيمة «الصدق»، الذي هو مبدأ متوافق مع قانون العمل الداخلي، فيضحي صدقًا أخلاقيًّا مع الجُنْد وأهل العطاء، وصِدْقًا فنيًّا طِبقًا لتقاليد النوع.
ألا يقدم الشعر «منطوقًا» ما يُطلقه متكلم/سارد أيًّا كان، متوجهًا به لقارئٍ ما/مسرد له، حاضر حقيقةً أو مُتَخَيَّل، يمثل كلامُه «مُرْسلة». داخل هذه المرسلة أليس ثمة «سجلات» للكلام، بنية للسرد، تحولات لوجهة النظر، أفعال متعلقة بأشخاص ورموز، أليس ثمة محكي تدور عليه القصيدة. إن متابعة القصيدة وتفحصها يقدم لنا متخيَّلًا سَرْديًّا ما، مبنًى حكائيًّا يتعين دَرْسه.
والبحث عن سرديَّة القصيدة الجاهليَّة ليس بحالٍ رفضًا لفكرة الأنواع أو إعادة تصنيف للشعر القديم تحت مقولة «السرد»، وإلا كان الأمر استبدالًا بالنوع الشعري نوعًا آخر هو النوع السردي، وإنما هو محاولة تهدف إلى خلخلة قيمة الثبات واليقين التي تجعل من الشعر نوعًا صافيًا بإطلاقٍ، كما تهدف إلى نقض انفراد مقولة «الغنائية» بالقصيدة العربية القديمة، من خلال تحقيق مقولة أخرى مقابلة هي مقولة «السرد» التي يراها الكتاب جوهريةً في القصيدة العربية القديمة في كثيرٍ من الأحيان. إن الشعر الذي هو نوع الأنواع في الثقافة العربية، لا تحيط به مقولة الغنائيَّة التي تجور على ما فيه من قيم سردية وأخرى دراميَّة حسب تصنيفات الأنواع الشهيرة.
وليس الحديث عن سردية القصيدة نوعًا من مسايرة الشائع بالبحث عن كل ما هو سردي؛ إذ تكشف القصيدة القديمة عن بعض جوانبها السرديَّة، حتى مع أكثر الدراسات تقليديَّة، وليست محاولة نثر القصيدة أو فك أقوالها الشعريَّة في أقوال نثرية سوى جانب من الإحساس بسرديتها، ويؤكد ذلك عدم قدرتنا في كثير من الأحايين على إعادة نثر بعض صور أو قصائد الشعر الحديث، خاصةً الشعر الرمزي بالمفهوم الأوروبي، والشعر الذي يأخذ طابعًا سرياليًّا.
وأغلب رؤيتنا للسرد في القصيدة العربيَّة القديمة كانت ملاحظة بعض المظاهر الناتئة للحكي في جسد الغناء داخل القصيدة، اعتدادًا بالتباعد الشديد بين السرد والقصيدة العربيَّة القديمة. وظل الحديث عن بعض المقاطع السرديَّة الشهيرة في بعض القصائد هي ضالَّة من يتحدث عن السرد في القصيدة القديمة دون الالتفات إلى أن رقعة السرد داخل القصيدة العربيَّة أوسع كثيرًا مما قد يُظَنُّ.
وكذلك يشير د. محمد مفتاح في خاتمة تحليله لرائيَّة ابن عَبْدون التي مطلعها:
(د) حول مفهوم السرد
إن فعل القص أو السرد عملية أدائيَّة نقوم بها دومًا في تجربتنا الثقافية؛ بل نقوم بها جميعًا في تجربتنا الحياتيَّة اليوميَّة. إننا نحول كل ما نحسُّه ونَمُرُّ به إلى تجارب سَرْديَّة قيد الاستعمال في المستقبل، بعد أن أحلنا كل الماضي إلى سرودٍ ننتجها الآن، ونُعيد إنتاجها في المستقبل.
إن كل ما نَمُر به ويَمُرُّ بنا يتحول إلى سَرْد، وكأن السرد طاقة ملازمة للأحداث تنتظر المستقبل أو مرور اللحظة لتعيد الحياة للأحداث والوقائع. إن السرد هو فعل الحياة الجديدة التي توهَبُها الأحداثُ والوقائع، بعد أن قضى عليها الزمن الحاضر بمروره. وكل ما يَنْفَصِلُ عن مجرى التبادل الثقافي، ومجرى الحدوث الآني يتحول إلى «سَرْد» في المستقبل.
(ﻫ) المفضليات؛ مدونة الدراسة
-
محاولة الابتعاد عن شعر شاعر واحدٍ بعينه، أو مجموعة محدودة من الشعراء، وهذا حتى تكون العينة — محل الاختيار — أكثر تمثيلًا من حيث تنوع الشعراء للمادة محل الدراسة.
-
كون هذه المجموعة أقدم مجموعة شعرية صُنعت في اختيار الشعر العربي، وما كان يصنعه الرواة قبلها كان جمعًا لأشعار القبائل؛ فكانوا يضُمُّون أشتات شعر المنتمين إلى قبيلة واحدة، ويجعلون كُلًّا منها كتابًا.٥٢ وكانت كتب الاختيارات الأخرى؛ مثل: «الأصمَعيات» لأبي سعيد بن عبد الملك الأصمعي، و«جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد محمد بن أبي الخطَّاب القُرشي، و«مختارات شعراء العرب» لأبي السعادات ابن الشجَري؛ كتبًا لاحقةً لاختيارات المفَضَّل.
-
والمفضليات مجموعة ممثِّلة — ربما أكثر من غيرها — للشعر العربي، سواء لاتجاهاته الفكرية والاجتماعية، أو لخصائصه الفنيَّة. يقول عنها د. ر. بلاشير: «إن لدينا مجموعة نادرة تفوق مجموعات ابن سلَّام، وابن قُتَيبة، وأبي زيد القرشي، في عكسها اتجاهات الشعر العربي منذ عصور الجاهليَّة حتى منتصف القرن الأوَّل للهجرة.»٥٣
-
ينضاف إلى هذا أن المفضليات قصائدُ كاملة ومقطَّعات مستقلة أوردها صاحب الاختيار تامة، على خلاف حَمَاسة أبي تمَّام مثلًا، التي هي مقتطفات ومقطعات قِصار.٥٤⋆
-
والشائع عن المفضليات أنها في الأصل اختيار الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، المعروف بالنفس الزكيَّة؛ إذ استجاد عِدَّة قصائد كانت نواةً لها، ثم كانت زيادات الأصمَعي،٥٥ ومن ثَم فهي اختيار فردي من جهةٍ ومتعدد جماعي من جهة أخرى؛ فردي من حيث مبتدأ الاختيار وبداية التحديد وهو ما يكفل للعينة اتحاد الذوق الجامع ووحدته، وفي ذات اللحظة، وعيَه باختلاف النصوص وتمايزها، وهذا الذوق هنا هو الذوق الفريد المُدَرَّب الخبير بمادته. هذا الذوق حظِي بتأكيد آخرين وتشديدهم عليه، والزيادة إلى ما اختير في بعض الأحيان، وهي زيادة لم تكن مفرِطةً في النسخة المعتمدة. وتبقى المفضليات في التحليل الأخير نتاج اختيارات فرديَّة مضافة ومتراكمة، تداخلت فيما بينها بما لم يَعُد ميسورًا معه معرفة الأصل من المزيد إلا قليلًا.٥٦⋆ هذه المختارات حققت رضًى واسعًا لدى اللاحقين من الرواة والشُّراح والمتأدبين.٥٧⋆
وكان نُصْب عينَي الكتاب أيضًا تنوع العينة بين القصائد الطويلة والمتوسطة والقصيرة، وكذا المقطَّعات، وهو ربما ما لم تتوفر عليه عينة أخرى، هذا إضافة لاتساعها من حيث عدد الأبيات، وكذا من حيث عدد الشعراء وتنوُّع انتماءاتهم القبليَّة، هذا مع الوعي بإطارٍ زمنيٍّ محدد يجمع بينهم.
وفيما يلي جدول بقصائد المفضليات موزعةً في فئات لأطوال القصائد؛ للنظر فيما إذا كان ثمة ارتباط بين السرد في القصيدة وطولها، فضلًا عن الوقوف بدقة على صورة واضحة لتكوين المفضليات من حيث أطوال قصائدها.
وُزِّعَت أطوال القصائد في فئات عشرية، في ترتيب متصاعد؛ الفئة الأولي على سبيل المثال يندرج تحتها المقطعات والقصائد التي تتراوح أطوالها من بيتَين إلى عشرة أبيات، والثانية يندرج تحتها القصائد التي تتراوح أطوالها بين أحد عشر بيتًا وعشرين بيتًا، وهكذا.

والمفضليات كما في تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون مدونةٌ عدد أبياتها كما ذَكَرا (٢٧٢٧) بيتًا، موزعة على (١٣٠) قصيدة ومقطعَّة، ﻟ (٦٦) شاعرًا. ولكل من المفضليتين (٣١)، (٩٢) روايتان؛ للمفضلية (٣١) رواية طولها (١٨) بيتًا وأخرى (٣٦) بيتًا، وللمفضليَّة (٩٢) روايتان إحداهما (١٣) بيتًا والأخرى (١٢) بيتًا، والمحققان يعدان كل رواية قصيدةً في حساب عدد أبيات المدونة، ولكن الكتاب في إحصائه آثر إثبات رواية واحدة، الأطول فيهما. ومن ثَم يصبح إجمالي عدد الأبيات في هذا الإحصاء (٢٧٢٧ − (١٢ + ١٨)) = (٢٧٢٧ − ٣٠) = ٢٦٩٧.
-
عدد القصائد، وعدد أبياتها داخل كل فئة من فئات أطوال القصائد، وكذا متوسط طول القصيدة داخل كل فئة.
-
وكذا يبين كيف مُثِّلت المقطعات والقصائد الطويلة تمثيلًا واضحًا إلى جانب القصيدة المتوسطة الطول داخل المدونة.
-
الجدول يبين أيضًا أن أعلى فئتين كانتا فئة القصيدة التي يتراوح طولها بين (١١ : ٢٠) بيتًا، وبلغت نسبة أبياتها في المدونة (٢٣٪) من نسبة الأبيات. كما بلغت نسبة قصائدها (٣٣٪) من قصائد المدونة، تلتها فئة القصائد التي يتراوح طولها بين (٢١ : ٣٠) بيتًا، وبلغت نسبة أبياتها (٢٠٪) من نسبة الأبيات، وبلغت نسبة قصائدها (١٧٪) من نسبة القصائد. مَثَّلت القصيدة التي يتراوح عدد أبياتها بين (١١ : ٥٠) بيتًا، بواقع (١٨٣) بيتًا؛ مَثلت نسبةً بلغت (٦٨٪) من المدونة، موزعةً على عدد من القصائد بلغ (٨٢) قصيدةً، بنسبة (٦٣٪) من القصائد. هذا في حين جاءت القصيدة التي أبياتها من (٢ : ١٠) أبيات، بواقع (٢٧٧) بيتًا لتمثل (١٠٪) من أبيات المفضليات؛ جاءت في (٤٠) مُقطَّعة وقصيدة قصيرة، أي بنسبة بلغت (٣٠٪) من قصائد المدونة. وأتت القصيدة الطويلة، وهي ما كانت أبياتها (٥١–١٠٨) بيتًا، وبلغ عدد أبياتها (٥٨٧) بيتًا بنسبة (٢٢٪) من المدونة؛ أتت موزعةً على عدد من القصائد بلغ (٨) قصائد، أي بنسبة (٦٪).
-
والمفضليات مع ما سبق لا تمايز فيما بين القصيدة المتوسطة والطويلة والمقطعة، إنما تترتب القصائد والمقطعات داخلها بما لا يُنبئ عن أي انحياز.

-
يشير المحور الأفقي إلى ترتيب قصائد المفضليات في فئات. كل فئة عشر مفضليات متتالية.
-
ويشير المحور الرأسي إلى متوسط طول القصيدة داخل كل فئة.
إن تداخل ترتيب المقطعات مع القصائد المتوسطة أو الطويلة، ودوران هذا التداخل على طول المدونة جعل متوسط طول القصيدة داخل كل عشر مفضليات متتالية لا يزيد عن (٣٧) بيتًا، ولا يقل عن (١٠) أبيات، وعلى مدار ثماني فئات كان فيها ثمانون قصيدة لم يقِل متوسط طول القصيدة داخل كل فئة عن عشرين بيتًا، ولعل هذا لم يكن إلا لتجاوُر المقطعة تمامًا — كتفًا إلى كتف — مع القصيدة المتوسطة والطويلة بعَدِّ كُلٍّ ممثلًا للشعر.
ﻓ «أنشد الشعر: قرأه رافعًا به صوته» (الوسيط، مادة «نشد»).
يقول أ. علي الجندي: «والأصلُ في الشعر أن يُلقى إلقاء، وإن شئت فقل: يُنْشد إنشادًا؛ لأنه غناء، أو بسببٍ من الغناء! وكثيرًا ما يوصف بأنه: سجع الحمامة، وتغريد البلبل، وصدح العَنْدليب، وشَدْو الهَزار، ورنين الوتر، ووَسْوسة الحُليِّ … وكما أن الشعر غناء، كذلك الشاعر مغنٍ، أو شبيه بالمغَنِّي، وقد كان اليونان والرومان يقولون: غَنى، لمن ينظم أو يقول شعرًا» (على الجندي: الشعراء وإنشاد الشعر، دار المعارف، ط٢، ص٢٢).
ولا يخفى هذا التردد في الجزم بربط الشعر العربي بالغناء كما هو الحال في الشعر الأوروبي، على الرغم من أنه في ذات اللحظة يتخذ قرينة للقول بصلته بالغناء.
والقيمة المهيمنة: هي ظاهرة بروز أحد أنساق التركيب وهيمنته على بقيَّة أنساق المركب. ففي العمل الفني هناك مجموعة من القيم أو العوامل التي تحكم، بشكل من الأشكال، بناء العمل؛ لتعطيه ماهيَّته وخصائصه النوعيَّة. ومن تفاعل مكونات العمل ترتقي مجموعة من العوامل على حساب مجموعة أخرى، وفي عملية الارتقاء هذه يغير العامل المرتقي العوامل الأخرى التي تغدو تابعةً له، ويُسَمَّى المرتقي حينئذٍ المسيطر أو الباني أو القيمة المهيمنة، ومن خلال تطور العلاقة فيما بين العامل المسيطر أو الباني أو القيمة المهيمنة والعوامل الأخرى التابعة له؛ يمكننا أن نُدْرك «الشكل». فالواقعة الفنيَّة — كما يراها «تينيانوف» — لا توجد منفصلة عن إحساس كل العوامل بالخضوع والتبدل تحت تأثير القيمة المهيمنة، فإذا ما تلاشى الإحساس بتفاعل العوامل فإن الواقعة الفنيَّة تُمْحَى ويغدو الفنُّ آليَّة.
والمصطلح يعبر عن ظاهرة تزامنيَّة عندما يتعلق الأمر بنوع محدد، ويعبِّر عن ظاهرة زمنيَّة حينما يتعلق الأمر بسيرورة الانتقال من نوعٍ إلى آخر.
انظر:
• رومان جاكُبسون، القيمة المهيمنة.
• يوري تينيانوف، مفهوم البناء.
مقالان ضمن كتاب: نظرية المنهج الشكلي؛ نصوص الشكلانيين الروس، تحرير: تزفيتان تودروف، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الناشر: الشركة المغربيَّة للناشرين المتحدثين، مؤسسة الأبحاث العربيَّة، بيروت، ط١، ١٩٨٢م.
وهي عند «كانط»: التصورات الكليَّة الأساسيَّة التي يتضمنها العقل المحض. وهي صورة قبْليَّة للمعرفة، تُسْتنبط من طبيعة الحكم في مختلف صوره، وتمثل الجوانب الأساسيَّة للتفكير النظري أو الاستدلالي. وهي عند «رينوفيه»: القوانين الأوليَّة، والعلاقات الأساسيَّة التي تحدد صورة المعرفة وتنظم حركتها.
انظر المدخل (مقولة) عند كل من:
• عبد المنعم الحفني، المعجم الفلسفي، الدار الشرقية، مصر، ط١، ١٤١٠ﻫ/١٩٩٠م.
• جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، مكتبة المدرسة، بيروت، ١٩٨٢م.
• لالاند، موسوعة لالاند الفلسفيَّة، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات: عويدات، بيروت/باريس، ط٢، ٢٠٠١م.
انظر: جيرالد برنس، قاموس السرديات، ترجمة: السيد إمام، ميريت للنشر والمعلومات، ط١، ٢٠٠٣م، ص١٢٢.
انظر: جيرار جنيت: حدود السرد، ترجمة: بنعيس بوحمالة، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، ص٧٢–٨٣.
انظر: أبو علي القالي: الأمالي، دار الكتب العلميَّة، بيروت، ٢: ١٣٢.
انظر: أبو الفرج الأصفَهاني: مَقاتل الطالِبيين، شرح وتحقيق: السيد أحمد صقر، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط٢، ١٤٠٨ﻫ/ ١٩٨٧م، ص٢٩١ وما بعدها.
انظر: مقدمة تحقيق المفضليات، ص١٠–٢٣.
انظر: د. ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخيَّة، دار الجيل، بيروت، ط٨، ١٩٨٨م، ص٥٧٣: ٥٧٧.
انظر: د. الطاهر أحمد مكي: دراسة في مصادر الأدب، دار المعارف، ط٧، ١٩٩٣م، ص١٠٦، ١٠٧.
انظر: مقدمة التحقيق، ص١٣، ١٤.
انظر: د. يُمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين؛ الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبليَّة، سلسلة عالم المعرفة، العدد ٢٦٤، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ١٤٢١ﻫ/ ٢٠٠٠م، ص٣٥٥.