الشعر وسرد الواقع
المبحث الأول: من التقاليد الأدبيَّة إلى تعيين الأماكن والشُّخوص
- (أ)
«عمل - شيء» وهو رمز محسوس خلقه الفنان.
- (ب)
«موضوع جمالي» وهو المعنى الذي يقابله الرمز المحسوس في الوعي الجماعي، والذي يتكون من القاسم المشترك بجميع الحالات التي يثيرها هذا «العمل - الشيء» عند أعضاء الجماعة. ويحمل المعنى هنا البنية الخاصة بالعمل الأدبي.
- (جـ)
«علاقة» تربط العلامة بالشيء المشار إليه، ولكنها علاقة لا تحيل إلى وجود مُحَدَّد — فالعلامة هنا مستقلة بذاتها — بل تحيل إلى السياق الكلي للظاهرة الاجتماعيَّة الخاصَّة بوَسَطٍ مُعْطى (العلم، الفلسفة، الدين، السياسة، الاقتصاد …)
ولا يمكن في مثل هذا التصور اختزالُ العمل الفني إلى مجرد «العمل - الشيء»؛ إذ يختلف «الموضوع الجمالي» ﻟ «العمل - الشيء» — الذي يعمل باعتباره «دلالة» — باختلاف الزمان أو المكان أو جماعة التلقي.
ينضاف إلى ذلك أنه يوجد في كل فعل إدراكي لعمل ما — بالإضافة إلى النواة المحوريَّة التي تنتمي إلى الوعي الجماعي — عناصر ذاتيَّةٌ نفسيَّة تشبه إلى حَدٍّ بعيد ما يُسمى ﺑ «عوامل التداعي» في الإدراك الجمالي. ويمكن لهذه العناصر الذاتيَّة في حال خضوعها للنواة الجوهريَّة في الوعي الجماعي أن تتحول إلى عناصر موضوعيَّة.
وعندما يحيل العمل الفني — أو النص الأدبي هنا — إلى سياق الظواهر الاجتماعية، فإنه لا يطابق بالضرورة — فيما يرى موكاروفسكي — هذا السياق بطريقة تجعلنا نستطيع أن نأخذ هذا العمل مأخذ الشهادة المباشرة أو الانعكاس السلبي دون أي تحفُّظات. والعمل الفني — شأنه في ذلك شأن جميع العلامات — يمكنه أن تربطه بالشيء المعني علاقة غير مباشرة من النوع الاستعاري، أو من غيره من أنواع العلاقات غير المباشرة، دون أن يمنع ذلك أن تخص العلاقة الشيء المعني دون غيره. ويترتب على طبيعة الفن السيميائيَّة أن العمل الفني لا يجب أن يُسْتَغَلَّ وثيقةً تاريخيَّة أو اجتماعيَّة دون أن تُفَسَّر قيمته التسجيليَّة في بادئ الأمر، وهذه القيمة تكمن في نوعيَّة العلاقة التي تربط بين العمل الفني والسياق المُعْطى للظاهرة الاجتماعية.
وليس الموضوع في تلك الأعمال الفنية ذات الموضوع — والفنون تتفاوت في الوجود الفعلي أو الضِّمْني للعنصر التوصيلي؛ إذ تظهر بجلاء في الأدب والرسم والنحت، وتشحب في الرقص، وتتشعب بحيث لا تكاد تظهر في فنون أخرى؛ كالموسيقى والعمارة — نقول ليس الموضوع في هذه الأعمال وَحْدَه هو ما يقوم بالوظيفة التوصيليَّة، وإنما جميع العناصر المكونة للعمل — وحتى أكثرها شكلية — تملك قيمتها التوصيليَّة الخاصَّة؛ فالبنية كلها هي ما يحمل المعنى، ولا يلعب الموضوع سوى دور محور يتبلور حوله هذا المعنى الذي لولاه لظل غامضًا.
(٢) والاعتداد هنا في إطار الشعر الجاهلي بالوظيفة التوصيليَّة للعلامة لا يُعَطِّل قيمتها التخييليَّة؛ ففي الوقت الذي لا يمكن إغفال قيمته التوصيليَّة تظل قيمته التخييليَّة حاضرة.
وفي ظل هذا التواشج تصبح الوظيفة المستقلة للعلامة أو قيمتها التخييلية هي الوظيفة المهيمنة سيميائيًّا؛ إذ لا يمتنع أن يشير الشعر بعلاقات مواربة وغير مباشرة في أحيانٍ، ومباشرة في أحايين ليست بالقليلة، لأحداث ومواقف وشخصيات. ولكن مهما كان العمل الفني يُحَدد من أشياء وشخصيات وأحداث فإنها — رغم موازاتها للواقع الخارجي فيما يشبه نقلها — ليست هذه الأشياء تمامًا لخضوعها النهائي لتلك الوظيفة التخييليَّة. فما يتمثل في النص الأدبي ويَمُد صلات متفاوتة مع الواقع المُتَجَسِّد في العالم؛ إنما يتمثل عبر إشارات لغوية، وهنا يتحول مفهوم «الواقع» من «الواقع المادي» العَيني الخارجي إلى «واقع نَصي» محكوم بتقاليد الكتابة النوعيَّة أو تقاليد الجنس الأدبي.
إن الطلل والرحلة والطيف والسفر والصحراء والمطر والبرق والليل والخمر والرمح والسيف والفرس والناقة … هي بعض موضوعات السرد الشعري وتقاليده. ونعني بالتقاليد فاعليَّة النصوص واللغات التي تسبق وجود الأفراد وتبقى باستخدامهم، قد تتنوع التفاصيل والوظيفة داخل كل موضوع من تلك الموضوعات، ولكنها لا تكاد تخرج على نَسَق تواردها العام.
ولم تكن تقاليد القصيدة — وحدات سَرْدها الشعري — أوائل خطوات الشعراء مع القصيدة، لقد كانت ذروة تجاربهم الفنيَّة وعلامات رسوخ فنهم الشعري، حتى أضحى تكوين القصيدة على هذا النحو هو سَرْدية العرب الكبرى لحياتهم وفلسفتهم وفنهم ومعارفهم؛ حيث أضحى الشعر مَجْلى للثقافة؛ ثقافة الأفراد وثقافة المجتمع.
والشعراء في وقوفهم على الأطلال أحيانًا ما «يربطون ربطًا قويًّا بين الحياة ووجود المرأة، فالديار عامرة، والأرض مُخصبة، والشمس مشرقة، والمراعي مزدهرة، والماء وفير، والكلأ كثير، والماشية مملوءةٌ حيويَّةً ونشاطًا، يبدو عليها أثر الرِّيِّ والشبَع؛ ما دامت المرأة التي يتحدث عنها الشاعر مقيمة في هذه الديار.
والشعراء حينئذٍ يَسْرُدون عن الأطلال بما هي سَرْد عن موضوع شعري آخر، قد يكون المرأة أو الحياة أو السعادة أو ما إلى ذلك من موضوعات. قد يَسْرُدون عن الطلل والنسيب والرحيل والسفر وغيرها من تقاليد محدودة، ولكن ليقولوا من خلال هذا السرد «اللامحدود»؛ يَسْرُدون عن الطلل ليتأملوا الوجودَ والتغير، يَسْردون عن الناقة ليقولوا عن الحياة والمواجهة، يَسْردون عن الثور ليقدموا صورة الفَلاة في علاقتها بالثور. ولا يمنع هذا بالطبع سردهم المباشر عن وقائعَ حياتيَّة مباشرة، يتتبعونها كيفما اختلفت ويتأملونها.
(٣) وتفصيلات الحياة ووقائعها البسيطة أو مغامراتها في مقدمة اهتماماتهم، ومهما كانت دلالاتها وأبعادها تمثل قيمة تجريدية فإنها تبقى وقائع الحياة وتفاصيلها اليوميَّة، كأنْ يذكر تأبط شَرًّا ﻣﻔ (١) حادث هربه من بجيلة حين أرصدوا له كمينًا، فأخذوه وكتفوه، ثم ما كان من تدبيره حيلةً هو وأصدقاؤه نجوا بها عَدْوًا على الأقدام. أو ما كان من نفار زوج الجميح، وإصغائها لتحريض عدوه ﻣﻔ (٤). أو مقاضاة جُبَيْهاء الأشجعي للرجل التميمي الذي استمنحه عَنْزًا له وأمسكها دهرًا لا يَرُدها ﻣﻔ (٣٣). أو الاعتذار عن الفشل في الخِطْبَة ﻣﻔ (٣٧). أو ما كان بين حاجب بنِ حبيب الأسَدِي وامرأته في سياسة المال ﻣﻔ (١١٠)؛ إذ تلح عليه أن يبيع فرسه مُحتجَّةً بارتفاع أثمان الخيل وأن الفرصة مواتيه لبيعه، ورَده حجتها بتَعداد مناقب فرسه وغنائه في الحرب وفي السِّلْم.
والقصيدة الجاهلية مُولَعة بتعيين الأماكن والشخوص والوقائع. وهي تعيينات تستنزل النص في حيز الوجود وتجعل له وجودًا تاريخيًّا مرتبطًا بهذه التعيينات. فالمكان مثلًا في قصيدة ربيعة بن مَقرْوم الضَّبي ﻣﻔ (١١٣) يَنْقسم بين الشاعر ومحبوبته المفارِقة بناءً على الفعل «شَطت»:
فيصبح — حتى ولو لم نكن على عِلْم بالموقع الجغرافي للأماكن المذكورة — يصبح «فلج» و«الأباتر» هنا، بينما يغدو «غَمرة» و«مُثَقَّب» هناك. يدخل في نطاق «هنا» الأهل والأصدقاء، أنا/الشاعر بما يملكه من حنين وشوق ورغبة في التواصل. ويدخل في نطاق «هناك» الأغراب والأباعد، المنقطعون، هي حيث «تقَضَّب الوَصْلُ». ويتحول المكان من قيمة مشتركة للطرفين الشاعر والحبيبة إلى علامة على التباعُد والمواجهة التي تقتضي الاختلاف؛ ففلج والأباتر في مواجهة غمرة ومثقب، وهي مواجهة إيقاعية وتركيبيَّة أيضًا؛ فكل زوج منها في شطر مواجه للآخر، وداخل بناءٍ نحوي يقابله.
(٤) ويحدد راشد بن شهاب اليشكُري خطابه في ﻣﻔ (٨٦) بأنه إلى قيس بن مسعود، ويُعيِّنه في ب (١١) رغم أنه هو المعني على طول الأبيات ومن بداية النص:
ويتوعده أشد الوعيد ويطلب منه أن يكف عن الهَجو وإلَّا نَدِمَ، ويتهدده بالسلاح، فينعت حينئذٍ سيفه وقوسه ورمحه ويذكر كرمه وعزَّه، وهنا يحكي عن قَصره:
إن هذا المِجْدَل، أو القصر، رمز للعِزَّة والنُّصْرَة، وعلامة شِعرية دالَّة بقوة داخل بناء القصيدة، بما يوفره النص له من أوصاف وعلاقات، وفوق ذلك يُثَبِّتُ القيمة الخُلُقية والسلوكيَّة في المكان الذي يتعيَّن ﺑ «ثاج». والمكان هنا ليس مراوغة؛ إذ إن مصداقيته طبقًا للواقع الخارجي ركنٌ أصيل في مصداقية النص الشعري.
وربيعةُ بنُ مَقْروم الضَّبِّي بعد أن أفاض في سرد نُعوته الشخصيَّة في مُفَضَّلِيَّته السابقة ما إن بدأ في السرد عن قومه حتى طالعنا في أبيات خمسة بحَشدٍ من الأعلام ب (٢١–٢٥):
فالأبيات تُعَدِّد بطونًا كلها من طيِّئ، وفرسانًا بواسل دارت عليهم الدائرة على يد القبيلة، وتذكر يومَ جُراد، وهو يوم من أيامهم. فأضحت الأبياتُ وثيقةً تجمع البطون التي ينتمي إليها الخصوم (فرير - بُحْتُر - مَعْن - جَدِيلة، ومنها عَمِيرة والصِّلَّخْم)، وكذا غدت مُحَمَّلَةً بالأخبار المشينة لهؤلاء الفرسان (يزيد - ابن حِصْن - فارس مَرْدود - مَسْعُود) أولئك الذين تَجَرءُوا على محاربتهم، بل إنها تُنَكِّلُ بسيرتهم. إن الأبيات لم تُكْتَبْ هنا إلا لِتَذيعَ وتُحْفَظ، تُدَوِّن الهزيمة وتَسْرُدها للآخرين المعاصرين، وللأجيال اللاحقة.
ويبكي مُتَمِّم بن نُوَيْرَة في ﻣﻔ (٦٧) أخاه مالِكًا، وهو كما يقول: لا يؤبِّن أو يَجْزَع، وإنما يُنَوِّه بمآثر أخيه ويَسْرُد عن أفعاله وأخلاقه ومروءته. ومالك هو موضوع القصيدة الذي ينتظم حوله الخطاب ويجعل من القصيدة خطابًا منسجمًا، والنص يدور حوله بذكر اسمه وإعادته والإشارة إليه بالضمائر وبغير ذلك من أوصاف.
والقصيدة تبدأ لا بذكر اسمه وإنما بتعيينه من خلال مجموعة من الأوصاف: «فتًى غير مِبطانِ العَشِيَّات» ب (٢)، «فتى … أرْوَعا» ب (٢)، «لبيب» ب (٤)، «خصيب» ب (٤). أو الإحالة إليه بالضمير: «تراه كصَدر السيف» ب (٥)، «وإن تَلْقَه في الشَّرْب لا تَلْقَ فاحشًا» ب (٧). ومن حين لآخر يُذكر اسمه في مواضع متعددة على نحو ما نجد في الأبيات: (١١، ١٢، ١٦، ٢٠، ٢٤، ٣٣، ٤٤، ٤٩، ٥١).
والاسم هنا لا يمكن أن يكون إلا إشارة لهذا المتعين (مالك بن نويرة)، وسيظل النص مشدودًا إليه ما دامت الإحالة تتوجه نحوه، وظلت الأخبار تحوط النصَّ وتتحرك به، ويتناقلها الرواة ما تناقلوا النَّص ذاته. إن الاسم «مالك» لا يظهرُ إلا مقرونًا بقيمة سلبية إزاء الحياة، وتُترك الإحالة غالبًا للقيم الإيجابيَّة. فالاسم لا يَظْهَرُ إلا مقرونًا بالموت ومرادفاته، على الرغم من أن النص يذكر جُوده وشجاعته ومروءته، إن الإحالة إليه حينئذٍ تكون من خلال الإضمار. فالاسم يَرد على هذا النحو:
ب (١١): هَلَّا تبكيان لمالكٍ
ب (١٢): فابكي مالكًا.
ب (١٦): لم يُلْفَ مالِكٌ
ب (٢٠):
ب (٢٤): قَبْرُ مالِكٍ
ب (٣٣): غيَّرَني ما غالَ قَيْسًا ومالِكًا
ب (٤٤): يومَ قامَ بمالِكٍ مُنادٍ
ب (٤٩): صادفَ الحَتْفُ مالِكًا
ب (٥١): مَقْتَلُ مالِكٍ
إن هذا التكرار وإعادة الاسم أثرٌ من آثار ليس فقط واقعيَّة النص، بل أيضًا أثرٌ من آثار واقعيَّة الاتصال وحيويته مع المستمع أو القارئ. وكذا أثرٌ لارتباط الاسم برصيد انفعالٍ نفسيٍّ لا يُغْني عنه استبدال الضمير به، فالاسم حينئذٍ كأنه ليس بطاقة على هذا المرجع، على هذا الغائب، إنه استحضارٌ له. إن الاسم حينئذٍ يعمل كأنه «مالك» نفسه. وهو ما يعزز فجيعة الفقد.
المبحث الثاني: الشعر وسَرْد التأريخ١٤⋆
(١) على الرغم من أن المسرودات التاريخيَّة والتخييلية تبدو مختلفة كليةً في منشئها — فيما يرى «والاس مارتن» — إذ السرد التخييلي (الروائي عند مارتن) حُرٌّ في البدء من «بذرة» مشهد أو شخصيَّة، يُضاف إليها أي شيء ممكن التخيل. أما السرد التأريخي فيبدأ من سلسلة زمانية مُشَبَّعة تمامًا بالأحداث، تحتوي كل لحظة أحداثًا قد تكون أكثر مما يمكن استخدامه، ولا يمكن تغيير أحدها. أما تلك اللحظات التي تفتقر إلى سجلات أحداثٍ كافية فيمتنع ملؤها بالحدس.
- (١)
افتراض الموضوع الواحد: إذ يجب أن تكون الحوادث المُضَمَّنة جميعها ذات صلة وثيقة بموضوع واحدٍ، مثل شخص أو منطقة أو أُمَّة.
- (٢)
افتراض الاهتمام الإنساني: إذ يجب أن تكون الحوادث المُضَمَّنة جميعها مُوَحَّدة فيما يتعلق بقضيَّةٍ ذات اهتمام إنساني يشرح العِلِّيَّة.
- (٣)
افتراض علاقات السبب والنتيجة في إطار زمنيٍّ.
والسرد الشعري لا يسلسل الحوادث، وقد لا يترصَّدها هي في ذاتها، وإنما تَتْأَرُ عينه «القيمة» التي وراءها. وعندما يسجل الشاعر انتصار قبيلة على أخرى، فهو يهدف إلى قيمة النصر أو ما يستَتبِعها من نحو البطولة أو الكرامة أو الشرف وما إلى ذلك. ولا يبحث في أسباب النصر أو الهزيمة ليأخذ دوافع الأحداث أو خلفياتها، وإنما ليُوبخ على قيمةٍ كالتخاذل أو الغدر أو الضعف أو العصيان أو العداوة، أو يمجد التماسك أو الشجاعة أو الحزم، وما إليه من قيم تدخل فيما هو إنساني في فلسفة النظرة التاريخيَّة.
-
إجابة بني أسد دعوة بني سعد بن ضَبَّة.
-
شطط هوازن وفشل محاولات ردهم.
-
محاربة هوازن وإلحاق الهزيمة بهم، وتبديد شملهم.
-
قصدهم قُشَيرًا (بطن من هوازن)؛ إذ كانت الحرب من أجلهم، وهزيمتهم.
-
الأشياء Objects هي العناصر المفهوميَّة ذات التكوين الدائم، أو الهويَّة الدائمة.
-
والموقف Situations هي أوضاع الأشياء الموجودة، وحالاتها الحاضرة.
-
والأحداث Events هي الوقائع التي تُغير الموقف أو تغير حالة في إطار الموقف.
-
الأعمال Actions وهي الأحداث المتَعَمَّدةُ الوقوع من فاعلها.١٨
إن أبيات بشر حافلةٌ بالأشياء والأشخاص والكائنات، حيث «بنو سعد بن ضَبَّة» – قوم الشاعر (نا) – «هوزان» – الضروس – الملا (الصحراء) – شهباء – الضراء – الرقيب – نشاص الثريا – الجَنوب – ذات القِدْر – قِدْر المرأة وما به من سمن – الكلاب – جراؤها – «اليمامة» – «أوطاس» – المعلوب (الطريق الموطوء المعَبَّد) – العِصِي – غُدْوة – الليل – الخيل – الدلاء – القَلِيب – كتيبة – «بنو عامر» – نساؤهم – عجوب النساء – العضاريط (التُّباع والأُجَراء) – الدُّمَى – الزعفران – الجيوب – رهوة – القلوب – مَنْبِت السِّيفَيْن – مُضَرُ الحمراء.
أما المواقف والأحداث والأعمال فتُبين من الأبيات، يقول بِشْر:
البيتان معًا يقدمان «الموقف» المشكل بعَدِّه حالةً أقرب إلى الثبات، وتمام التحقق في الماضي. حتى هذا الفعل الذي أصبح يدور في فلك «إذا» بما فيها من شرطٍ وظرفيَّة (إذا قلنا هوازنُ أقبلي)؛ يُلاقى دومًا بهذا الجواب الذي لا يُخْلَف؛ إذ لا جديد في معالم الوضع.
أما البيت العاشر فهو أول «الأعمال» إزاء هذا الموقف، وهو فعل الردع الحاسم، هو «العمل» الذي سوف تصبح معظم الأعمال التالية له غير خارجة عن حيِّزه الدلالي، حيز «الحرب»:
والأبيات التالية جُلُّها يُبيِّنُ هيئةَ قتلهم لهم إجمالًا ب (١٣–١٦). ولقُشَيْرٍ ب (١٧، ١٨). ولبني عامر ب (١٩–٢٢). وتبدأ الأبيات (١٣–١٥) بأعمالٍ كلها يُبَيِّن هذا القتل: قطعناهم – نقلناهم – لحوناهم. وتعود هذه الأفعال ليبيِّن هيئتها أيضًا فيما يليها في صدر كل بيت:
وتعود هذه الأعمال لتؤَطَّر زمنيًّا بالبيت الأخير.
وتُقَدَّم فِعالُهم ﺑ «قُشَير» من خلال أوصاف حالة:
فالشطر الأول يقتضي إحراز الهدف وإمعان القتل في قَصْدٍ لا يتلوَّى يمينًا أو يسْرَةً، والعبارة في ظاهرها قد تحمل معنى التبجيل والتقدير؛ أن يجعلوهم غايةً يُهْتَدى بهم، ولكن السياق والبيت التالي يهدِمان هذا التوقع المبني على مجاراة ظاهر الكلام، فيُضحي الأمر في النهاية سخريةً بهم واستهزاءً بأقدارهم.
ولكي يكون التشهير بالهزيمة أبعدَ انحنى على ذكر النساء:
وأيضًا لا يُقَدِّم الشاعرُ أفعاله بوصفها أعمالًا، وإنما يُقَدِّمُ نواتجها من خلال مواقفَ، من خلال تلك الوضعيات التي صار عليها النساء:
فهن أبدًا لا يَقُمْنَ بأحداث مُتَعَمدة في اتجاه مضاد للحدث الرئيس الواقع عليهن وعلى أهلهن (القتل للمحاربين والسبي والترويع للنساء)، وإنما تُقَدَّم أعمالهن على أنها مآل الوضع والمناوشة، ونواتج أعمال بني أسد.
المبحث الثالث: الخطاب وإقحام الوسيط؛ السرد عبر الرسالة
-
أبْلِغْ
-
مَنْ مُبْلِغٌ
-
ألا أبْلِغْ
-
ألا مَنْ مُبْلغٌ
-
ﻓ أبْلِغْ
-
ﻓ بَلِّغَن
-
ﻓ مَنْ مُبْلِغٌ
-
قُلْ
-
الشاعر الذي هو دومًا حاضرٌ باسمه وبشخصيته الشعرية.
-
المرسل إليه أو المراد إبلاغُهم؛ شخصًا كان أو قبيلةً أو جماعةً ما …
-
موضوع الإبلاغ الذي يوجِز فيه الشاعر أو يُطنِب.
فالإبلاغ مثلًا في ﻣﻔ (١٠) من بَشَامةَ بن الغدير إلى «أماثل سهم». فسهم قبيلته، وأماثلهم خيارهم. وفي ﻣﻔ (١٢) من الحُصين بن الحُمام المُرِّي إلى أَنَس بن يزيد بن عامر المُرِّي، يُصَغِّره باسم «أُنَيْسًا». وفي ﻣﻔ (٤٥) من المُرَقِّش الأكبر إلى أخويه أنس بن سعد وحَرْمَلة بن سعد. ﻣﻔ (٦٤) المراسلة فيها من عَمِيرَة بن جُعَل إلى إياس وجَنْدل. وهما رجلان يتوعدهما بالسلاح. وﻣﻔ (٧٠) من بِشْر بن عمرو بن مَرْثَد إلى عمرو بن كلثوم وصاحبَيه. ﻣﻔ (٨١) من المُمَزِّق العَبْدي إلى النعمان بن المنذِر. وهكذا.
لقد أخذ الشعر في أحايِين ليست بالقليلة، كما في النماذج السابقة، شكلَ الإبلاغ والترسُّل نمطًا من أنماط الحَكْي. وحيازةُ الشعر مقامَ التَّرسُّلِ حفِظ على الرسالة تقلُّبَها — أدبيًّا — في حيز المشافهة كما أخذت تتقلب في حيز المكتوب، حتى صارت ملازمةً للأخير. وهي حينئذٍ — في مقام الشعر — رسائلُ لا تقع حقيقتُها فقط في حيز ملاءمة الواقع الخارجي أو عدم ملاءمته، وإنما تحتكم إلى معايير الحقائق الفنية، فحقيقتها الكبرى في النهاية حقيقة شعرية.
إن شكل الرسالة أو الإبلاغ نمطٌ فَنِّي يستخدمه الشعر لإقصاء هذا المخاطَب الذي هو حاضرٌ بالضرورة في الخطاب الذي تتبناه القصيدة. إنها نمطٌ استخدمه الشعراء لإبراز عمق التباعد يتجاوزون به الالتفات الشائع على مستوى ضمائر الخطاب والغَيبة، الذي هو مستوًى جُمَلي إلى هذا الشكل الرسائلي حيث المستوى النَّصِّي.
إن هذا الوسيط المَعْنِي بالإبلاغ أو إيصال الرسالة قد يؤشر على علاقة تراتُبيَّة بين المتراسِلين، قد يكون مدارها على الإكبار أو الخوف أو التحقير وتنزيه المتكلم عن مباشرة خطاب المرسَل إليه أو المُبَلَّغ، أو خلاف ذلك مما يفترضه الوضع والسياق.
(٢) يقول سنانُ بنُ أبي حارثة المُرِّي ﻣﻔ (١٠٠):
المقول البادئ من الشطر الثاني للبيت الأول إلى نهاية المقطَّعة ب (٥) يمثل الرسالة المنقولة أو المراد تبليغها. وتحتفظ الرسالة بوضعيَّة التحاور المباشر بين متكلمٍ ومخاطَبٍ، وكلا الطرفين حاضر على الدوام على تلك الوضعيَّة. وتَحفظ الرسالة — ما لم يطلب صاحِبُها المتكلم بالنص من مُبَلِّغِها صياغة مضمون ما يُقدمه المتكلم ويُرادُ منه توصيله، ولا يشترطُ صياغةً بعينها له — تَحفظ الرسالةُ حينئذٍ حيوية اللقاء واستمرارية المواجهة بين الطرفين.
والرسالة موجهة من سنان بن أبي حارثة المُرِّي يتهدد بها المثَلِّم بن رياح المُرِّي ومالك بن هندٍ ويتوعدهما. وقد جمعهما «سنانُ» في الرسالة وأفْرَدهما في الخطاب، فكان فعل القول لهما معًا، ولكن داخل الرسالة، داخلَ المقول، تَحَدثَ إلى المفرد: «إن كُنْتَ … تَلْقَ» ومن هنا فالرسالة إن كانت تقصد كِلا الرجلين في خطابها فقد أصبحت بمثابة التهديد المفرد لكلٍّ منهما، إنها تُفَرِّق بين أعدائها وتجعل تهديدها خاصًّا بكلٍّ منهما على حدةٍ لتُفرِّق بين قلوبهم وتغدو أنكى وأنفذ. ولكن في نَصٍّ آخر يتوعدُ عَمِيرةُ بْنُ جُعَل رَجُلَين يُدعَيان «إياس» و«جَنْدَل» يتهددهما معًا ويقصدهما برسالته، ويجعل الإحالة داخل المقول كله إليهما معًا:
وفي نَصٍّ آخر يقول مَقاسٌ العائِذِيُّ ﻣﻔ (٨٤):
تُمَجِّد الأبيات قيمة حُسْن الجوار في مجتمع تتعاظم فيه قيمة الأمن والطمأنينة، ولكنها لا تُمَجد سادرةً في إطلاقها، وإنما كما تتمَثل لدى «بني شيبان». وهنا تحيل المُقَطَّعة على علاقة خاصَّة واقعيَّة تتمثلُ القيمَةُ السابقةُ من خلالها. علاقةٌ تقوم بين بَني شيبان وصاحب هذا الضمير المتكلم في النص، والذي يحيل إلى «مَقاس العائِذي» بدلالة تعيين «بني شيبان». يختزن النص على هذا النحو تلك العلاقة الاجتماعيَّة بين «مَقاس» و«بني شيبان»، بل إنه يدخل في دورة السلوك الاجتماعي لمجتمع القبيلة العربية؛ حيث يرى بنو شيبان أن حُسْن الجوار شيمةٌ من شِيَم الكرام، فيحسنون جوار «مَقاس» ويكرمونه ويؤمنونه، وهنا يجد مَقاس — الشاعر — من باب الوفاء وحفظ الجميل أن يُذيع المَكْرُمة ويخلِّدُ الفعلَ الحَسَن.
ويقول راشد بن شهاب اليشكُري ﻣﻔ (٨٧):
الخطاب في الأبيات (١: ٣) لفتيان «يَشْكُر»، وهو في البيت الأوَّل خطابُ غيابٍ بدليل الاسم المتعيَّن ودلالة الإبلاغ. وهي صيغة تبتغي نصيحة تدور في حَيز تحذيرِ فتيان قبيلتهِ إقبالَ الحياة وإدْبارَها؛ إذ تأتي الأيام بشدائد تستدعي الهِمَّة والصبر. أما الخطاب في البيت الثاني فخطاب حضور، وترشِّحُ الدلالة تضمينه في البيت الأَوَّل. فالإبْلاغُ إبْلاغٌ بوصيَّةٍ تَتطلَّبُ المواجهة والحضور، ومن ثَمَّ تَحَوُّل الخطاب من الغياب للحضور.
كان الإبلاغ في النص إبلاغًا عن نفسه: «أرى …»، وكانت الوصيَّة وصيةً «ببني شيبان» وهي وصيَّة على سبيل التهكُّم، فهي لا تبتغي الرفق، وإنما تروم الإيلامَ في الحرب. ويُقَدِّمُ البيتُ الثالثُ نَص كلام قيس بن خالد (من بني شيبان): «لَيَشْكُرُ أحْلى إن لقِينا من التَّمْرِ». ثم يتحول الخطاب من إبلاغ فتيان «يَشْكُر» إلى مخاطبة «قيس بن خالد» نفسه وتعييره بما كان من فراره، وهربه من الأخذ بثأر عمرو حميمِه.
وهنا تتموضع القصيدة في قلب الواقعي، في قلب الحدث الاجتماعي فلا تنفصل عن علاقة واقعيَّة تتصل بالخارج المعيش، حيث نزاع «يَشْكر» و«بني شيبان» وما تأسس بينهما من نزاع. وكذا اختزان حادثة فرار «قيس». وفوق ذلك تُسَجِّل نَصْرًا مؤزرًا لهم، ولقيس وقومه هزيمةً مشفوعةً بمهانة الضعف؛ إذ لم يُطِق من ألم الحرب ما يطيقه الرجال الشجعان.
وأيضًا يقول بَشَامةُ بن الغدير في ﻣﻔ (١٠):
والشاعر في الأبيات يَدْفَع بمتغيرَينِ هُما ما يُوْجِد الأزمة، فهم بين تَرك نُصرة مَن حالفهم، وحَرب مَنْ صادَقهم. وأمام هذه الأزمة ب (٣٠، ٣١) يتخير الحَل على الوجه الذي أراد: «الحرب». وهنا يتحول الضمير من الغياب إلى الخطاب: «فسيروا إلى الموت سيرًا جميلًا»، ويُمَجَّد الموت بالفعل بوصفه «عملًا جميلًا»؛ فإذا كان الخوف يَقْعُد بكم، يُلْحِقُكُم الضَّيم، وترْضَون به الدَّنيَّة، فإن حوادث الدهر غير مأمونة. والموت لا بد لاحقٌ بكم، على ما ستكونون فيه من خِزْيٍ وعار. إنه يدعو إلى تمني لقاء الموت لا لقلَّة شأنه أو هوانه، وإنما لِشِدَّة إيمانه بضربته القاضية، التي لا محالةَ مصيبة، يُسَفِّه كُلَّ ما يُتَّخذ دريئةً منه.
ومن هنا نرى صورة الحرب في الأبيات صورة تتضح بالامتلاء والجلال، لا القتل أو الجثث والأشلاء، صورة لا تذكر من الحرب إلا السلاح، رمز المهابة والقوة والمَنعة التي هي أمور تئول في النهاية إلى الكرامة والحمى الذي لا يُسْتباح. ذلك أن الحرب هنا ملازمة للشَّرَف والعِزَّة؛ فالرماح طوال كمجدهم المؤثَّل، والخيل فُحولٌ عِتاقٌ كريمةٌ، والدروع داووديَّة، والسيوف قواضبُ قاطعة.
وتُصَوَّر الحرب كلها من خلال قيم تصويريَّة بصرية في الأساس؛ فإذا ما أوْقَدَ القومُ الحَرْبَ لكم فأوقدوها لهم بالرماح والخيل والدروع — على ما وصف. والحَشُّ: ضَم ما تَفَرق من الحطب إلى الناس. والبيت قد يجعل الخيل والرماح والدروع بمثابة الحطب، غير أنها لا تَبْلى أو تأكلها النار، ولكن التعبير الشعري أبعد من ذلك؛ إذ الحربُ نفسها تُحَشُّ رماحًا وخيلًا ودروعًا، إن الحرب تَتَلهَّب لا بالنار؛ وإنما بهذه الأشياء عينها.
وكذا يُعَبَّر في البيت (٣٥) عن السماع بالرؤية: «ترى للقواضب فيها صليلا». وهي صورة تبدو بعيدة على الخيال المتعقِّل الأقل جُموحًا؛ إذ يُرَى صليل السيوف. والصليل صوت وَقْع الشيء اليابس على مِثْله.
ومن هذا الخيال الوَثاب إلى التنديد بما يؤدي إلى إخماد النيران التي اتَّقَدت. حيث يقدم البيتان (٣٦، ٣٧) معلومةً تاريخيَّةً أخرى إذ أعطى «بنو سهم» رهانًا إطفاء للشر. وما لم يذكره الشعر هو أن الحُصين بن حُمام قد أعطى ابنه رهانًا، وهو ما يراه «بشامة» طلبًا للذل ومَفْسَدةً للقوم. وإذا كان الحصين وبعض القوم هم صوت السِّلْم، فإن «بشامة» صوت الحرب التي تحفظ الكرامة وتبعد الذلَّة. وقد قطع هذا الرِّهان الطريق على صوت الحرب، وسد على المنادين به السبيل.
المبحث الرابع: القصيدة فِعْلُ إنجازٍ: الصياغة الخِطابيَّة للسرد
(١) يُغْفِل التعاملُ المعاصر مع الشعر الجاهلي — في بعض وجوهه — الاعتبار التداوُلي في تناول القصيدة، ويقف من الشعر عند حدود القصيدة بما هي نص مغلق، هذا التعامل قد يحيط ببعض السرود التي تحاول أن تروي سياقه أو تدَّعي مناسبته، ولكنه يستمد منها تغذيةً ما لفهمه للنص في إشاراته المغلقة. إنه بالأحرى يستعين فقط بهذه السرود المصاحبة على فهم إشارات النص وبناء اتساقها.
وما نود أن نؤكده هو الحاجة إلى تجاوز هذه الرؤية التي تجعل من النص في ذاته على الدوام غاية الفهم ومنتهى الطَّلَب، دون اعتبارٍ لكونه أحيانًا مُكَوِّنًا في حَدَثٍ تواصلي أكبر منه، يتجاوز النص فيه مجرد كونه ذا بُعْدٍ توثيقي إلى أن يغدو فعلًا إنجازيًّا، إذا استعرنا المفهوم من «جين أوستين».
ومفاد هذه السطور أنه ليس من اللازم أن يكون السرد هو غاية النص؛ بل قد يدخل السرد بوصفه «توثيقًا» لخدمة ما هو «إنجازي» — على ما سنُبين — وما هو توثيقي هو ما يُكْسِب ما هو إنجازي بُعْدَه الوجودي وبعضًا مما ينقله من حيز المشروع إلى حيز التحقق، فعلى البحث أن يطمح — في تجارب لاحقة — إلى أن يَمُد بَصَره إلى القصيدة في علاقاتها بمُستعمليها وعلاقة ذلك بانبِنائها وتقاليدها، وبخاصة أن الخطاب الأدبي في الشعر الجاهلي يقف في كثيرٍ في صدارة الخطابات التي تحيل مكوناتها — بصورةٍ أو بأُخرى — على مرجعيات اجتماعية (وهذا لا يمنع بالتأكيد أن يحيل تجريد هذه المواضعات على معانٍ وتجارب لها طابع الإطلاق وقابلية الاستعادة في لحظات أخرى تالية).
وهنا سوف يتجاوز الكتاب القصيدة بوصفها بناءً مغلقًا أو منغلقًا على ذاته إلى انفتاحه على سياقيَّة تداوُلِه، فنعالج استعمال القصيدة؛ بمعنى أن نتجاوز إنتاج النص إنشاءً تَلَقِّيًا إلى النظر في مردوده، فننظر في استعماله بوصفه علامة في سياق تداوله الأول على الأقل.
وفي هذا المدخل لا نُسْلِم النص لموقفه الغائي أو لمقصده، وإلا قَتل المقصد ما فيه من فن، غايتنا أن نُولي الغرض والمقصد حقيقَ اهتمامه حسب ما يلوح، ونتصدى لمحاولة تذويب الموقف الغائي من كل القصائد الجاهلية — على سبيل الخصوص — وإسلامها لانفراد الموقف الجمالي بها. إن الموقف الغائي حقيقٌ بالعناية، ولكن هذا لا يمنع النص أن يورق بعيدًا عن مقصده، عن أن تتفاعل علاماته لتنقلنا إلى عوالم بعيدة من المعنى والتأويل.
-
«نعم. أقبل أن تكون هذه المرأة زوجتي الشرعية» متلفِّظين ﺑ «نعم» هذه في أثناء عقدنا الزواج.
-
أو أسمي هذه الباخرة: «بَلقِيس».
-
أو «أَتْرُكُ هذا المنزل ميراثًا لأخي» كما يحصل عند قراءة الوصية.
-
أو «أراهنك على أن السماء ستُمطر غدًا».
-
التلفُّظ، وهو ما يختص «بمخارج الحروف المادية».
-
النطق، ويتعلق «بمقاصد العبارة».
-
الخطاب، ويهتم «بمقاصد المتكلم الخارجة عن العبارة والمفهومة من السياق».
- (١) الفعل القولي Locutionary act وهو فعلٌ لقول شيء ما. هو فعل التلفظ بجملة تفيد معنًى انطلاقًا من معاني ألفاظها.
- (٢) الفعل الإنجازي Illocutionary act وهو فعل يُنْجَزُ بقول شيءٍ ما. كأن يكون فعل أمر أو نهي أو استفهام أو نداء … وهو فعل لا يكون متحققًا سطحيًّا في الجملة.
- (٣) فعل جَعْل الإنجاز Perlocutionary act وهو فعل يُنْجَز بقول شيءٍ ما.
إن شروطًا كثيرة يجب أن تتحقق حتى يتحقق الإنجاز الذي نأمله، وفي مقدمتها استناد الخطاب إلى النيَّة والمواضعة، في محاولة لملء الهوَّة بين المعطى المحسوس والإدراك الحِسِّي. فالوعد بشيءٍ ما نحو: «أعِدُ بأن …» يجب أن يُتَلَفَّظ به على نَحْوٍ جادٍّ حتى يتحقق المقصد من الجملة.
ولعل تاريخ الأدب لم يَنْسَ بحالٍ تلك القصائد التي نجَحَت في تحقيق فعلها الإنجازي، كتلك التي أبرمت عَقْدًا أو نقضته أو أعلنت ولاءً أو أبرأت ذِمَّة أو اعتذرت … إن ضمير المتكلم في مثل هذه النصوص ليس مجرد «استعمال» أو «تكوين لغوي» ولكنه إطار يفرض المتكلم خلاله نفسه كذات في مقابل آخر أو آخرين، يستلزم وجودهم وجود هذا الضمير/الذات.
إن اللغة هنا لا يُنْظَر إليها في حدود كونها نظامًا من العلامات التي تعتمد على اختلافات داخلية، ولا كونها تحيل إلى محتويات متعينة، ولكنها في ذاتها — حال النطق بها — فعل يتم إنجازه. إن القصيدة على هذا النحو — مع ما تقدِّمه من سَرْد — ممارسة اجتماعية.
إن الفعل الإنجازي يرتبط بمضمون قَضَوي في الجملة. وإذا كانت التراكيب القضوية تقوم على مفهوم «الحقيقة»، فإن المفهوم المركزي للأفعال الإنجازية هو «الرضا»، أو لنقُل «نجاحه». ويصبح الأمر «مُرْضيًا» أو «ناجحًا» حين يكون متقبل الأمر، الذي هو المستمِع أو المتلقي، قد أنجز الفعل الذي أُمِرَ به أو دُعي إليه أو … إلى آخر صيغ الأفعال الإنجازيَّة. ولعل هذا لن يكون حتى يتحقق لديه «حقيقيَّة» المضمون القضوي.
ومن هنا فعندما يُقَدم السرد في الخطاب التداولي فإنه لا يُقَدَّم من باب التخييل، وإنما يَتَلَبَّس السرد مستوى الخطاب الجاد والحقيقي. وتحاول اللغة أن تعود إلى مرجعيتها الحقيقيَّة التي تحيل إليها، حينئذٍ أيضًا، أنماط التخييل.
وعندما تنحو القصائد والمقطعات إلى أن تهيمن عليها صيغ الخطاب وتتوجه بقوة نحو إنجاز أفعال فإن قُوى تماسك الطابع السردي تأخذ في الانحلال إلا ما يَدْعم أفعال الإنجاز على مستوياتٍ محدودة ومتفاوتة، ويغدو الأمر رهين «تأكيدات أفكار مركزية». إن السرد يتباعد بانفراط العلاقات العِلِّيَّة بين الأحداث، فما يهم في مثل هذه القصائد والمقطعات — على سبيل الخصوص التي تُنْذَر لتحقيق الإنجاز — ليس هو وصف تغيرات الأحوال، وإنما هو تقديم مُسَوغات وتفسيرات وتمهيدات موازية، ومعالم موقف ووجهات جانبيَّة. أمورٌ تصاغ «كأفكار» أَولى من صياغتها كأحداثٍ تقع، (حتى وإن كان مفهوم السرد قارًّا في عمق كل «فكرة» كما نعتقد). والمخاطَب في هذه القصائد الإنجازية حاضرٌ حقيقةً في مستوى تحقيق مقصدها، في سياق إنتاجها الأوَّل، حاضرٌ تقديرًا في السياقات التالية لإعادة إنتاجها اللاحق.
وعندما ننظر للقصيدة بوصفها فعلًا إنجازيًّا لا يعني هذا استهلاكها بوصفها شيئًا نفعيًّا فقط. وإنما هي حينئذٍ تعبر عن دور العلامة/القصيدة في الحياة، وما كان للقصيدة أن تؤدي هذا الدور الذي أدته لو أن تغيُّرًا آخر اعتراها من حيث الإيقاع أو صياغة التراكيب أو التخييل والمجازات وما إلى ذلك من أنساق الانبناء الفني، فالقصيدة لا تحقق وظيفتُها الإنجازية مضمونها أو محتواها فقط، وإنما هي محصلة تضافُر مكوناتها كلها. لقد حققت فعلها على هذا النحو لكونها لها هذا الطابع العلاماتي الخاص.
يقول «مَقاس» العائذي في ﻣﻔ (٨٥):
يَصْرِفُ النَّصُّ الخطابَ من البيت الأول إلى (مُخاطَبٍ) بعينه هو «امرؤ القيس بن بحر بن زهير بن جناب الكَلبي» هذا المخاطَب هو المعني بالتهديد والوعيد والتعيير والتهكُّم. وكلها أفعال ينجزها الشاعر «مَقاس العائذي». ولتتحدد الأسماء هنا؛ إذ نتحدث عن إنجازٍ أَوَّليٍّ يحدد الشاعِرُ نَفْسُه فيه مُخَاطبَهُ بوصفه الآخر بالنسبة له، مُعبِّرًا في ذلك عن صوته الخاص وصوت جماعته.
«أَوْلى فأوْلى يا امرأَ القَيس» بهذه العبارة يفتتح «مَقاسٌ» نَصه ويُنْجِز في اللحظة نفسها فعل «الوعيد»، الذي يُصَدِّر به خطابه «امرأ القيس الكلبي». وبالبيت الثاني المصاغ شَرْطيًّا ينجز فعل «تعييرٍ» لخصمه. هذا التعيير الذي «يَقْدَح» به حياته التي يحياها مع الذلِّ؛ ذل النجاة فرارًا مهينًا من موتٍ مُحَقَّق. وكذا «يمنع به» تكرار الفعل وإعادة الكَرَّة، فالرأس التي تتطامَن بالتعيير لا ترتفع لملاقاة مَنْ سَبكها في موضع الذليل.
وقد يكون صِدْق البيت أو العبارة — بالمعنى المنطقي أو التخيِيلي — مُهِمًّا على مستوى النص، على مستوى تسجيل قوة قومه وضعف الآخرين وخورهم ودعتهم. ولكن ما هو قيد النص بوصفه خطابًا، ما هو قيد التواصل هو هذا «التهكُّم» الذي ينجزه الشاعر بقوله هذا الكلام الخبري. إن إنجاز التهكم لصيق هذا الخبر الذي قد يحتمل الصدق أو الكذب.
قلنا: إن عبارةً مثل: «أَولَى فأَولَى يا امْرأ القيس» لم يُقْصَد بها في كلها ولا في جزئها أن تُخْبر عن أمرٍ ما، أو أن تُبَلِّغ معرفةً عن حَدَثٍ مخصوصٍ قد وقع، بل إن الشاعر يُنْجز بها «وعيدًا» لمخاطَبِه. ولكننا نضيف أن هذا الوعيد عندما يَصْدُر عن شَخْصٍ لآخر ولقبيلته فإنه لم يكن ليُنْجَز لو لم يصدُر عن ذي الصفة المؤهلة لإصداره، بمعنى أن يكون المتكلم في وضع يُبيح له أن ينجز الفعل، وإلا عُدَّ الفعل وكأنه لم يكن. فوضعيَّة الشاعر في القبيلة، وطبيعة التعاقد حول ماهية القول الشعري وطبيعته، وسياق القصيدة وموضوعها، مقومات كثيرة تتدخل لتحديد ما إذا كان الفعل إنجازًا حقيقيًّا، أو أنه في المقابل «عديم الأثر»، أو ربما كان مجرد «شروع في الإنجاز»، على ما بين المستويات الثلاث من تفاوت، وعلى ما في كُلٍّ دَرَجات أُخَر.
إن الشاعر لكي يقوم بإعلان حَرْب، أو الاعتذار عن جُرْم، أو مباركة فِعْل يتصل بالجماعة، لا يمكنه إنجاز ذلك بعيدًا عن أن يكون صوتًا مُعْتَمدا للمؤسسة أو الجماعة التي يتكلم باسمها. لا يمكنه ذلك بعيدًا عن أن يكون صوتًا مغروسًا في عمق الائتلاف الذي يمثله. حينئذٍ، وربما حينئذٍ فقط، يصبح كلامه نافذًا وفعلُه ناجزًا.
لقد احتل الشاعر الجاهلي — على وجه الخصوص — موضعًا مُحَدَّدًا في بِنية مجتمعه بوصفه لسان حال الجماعة، وكانت وضعية قيمته تعود إلى كفالته استراتيجيات الإعلام والمناوأة اللفظية، وإدراج المآثر حيز التاريخ بصياغةٍ مُنحازة (القصيدة)، تعبر بالطبع عن رأي القبيلة.
إن الشاعر الذي تكفُل له القبيلة حق الرعاية والجزاء والتشريف مُطالَبٌ على الدوام بألا يتخلى عن دوره، وما ينطق به دومًا هو صياغة لأفقٍ غير مصوغ، قارٍّ في وعي الجماعة، والشاعر أكفأ أعضائها على صياغته.
إن ما نؤكده إجمالًا هو أن القصيدة قد تحقِّق فعلًا إنجازيًّا ما، أو تجعل شخصًا ما ينجزه، ولكن هذا الإنجاز أو جعل الإنجاز لا تحققه بالضرورة مقومات لسانية داخل القصيدة، بل قد تحققه شروطٌ خارج لسانيَّة، ربما يكفل إنجازَها التواطؤ على عرفيتها، في مقدمتها وضعية الشاعر الخاصة في القبيلة وصدوره عنها.
تذكُر النصوص أن أهل بيت من «بني ثعلبة بن سعد بن ذُبيان» رَهْط «مُزَرد بن ضِرار الذُّبياني» قد جاوروا في «بني عبد الله بن غطفان»، فذهب رجلٌ من «بني عبد الله» يقال له «زُرعة بن ثوب» إلى غلامٍ من «بني ثعلبة» يقال له «خالد بن عبيد»، وكان للغلام إبلٌ كرام حِسان، وتَسَفَّه «خالدًا زُرعةُ»، ولم يزل به يخدعه حتى اشترى الإبل منه بغنم؛ قِيل أخذ ستة عشر من الإبل وأعطاه ستين عنزًا ونعجة، فرجع «خالد» إلى أبويه فأخبرهما، فقالا: هلكتَ والله وأهلكتنا، وانطلق أبوه إلى «زُرعة» فأبى أن يردها، فأتى «مُزَرِّدًا»، وقَص عليه القصَّة، فقال «مُزَرد»: «أنا ضامِنٌ لك إبلك أن تُرَد عليك بأعيانها». فأنشأ قصيدته ﻣﻔ (١٥) التي مطلعها:
إن القصيدة على هذا النحو تُنْجِزُ فعلًا على وجه الحقيقة عندما تَضْطَر «زُرعةَ» إلى رد الإبل، أو بالأحرى تضطر القبيلة التي تُلْزِم «زُرعة» بذلك. وهي هنا لا تثبت معنًى كُليًّا يدور بين الإثبات والنفي، وإنما تنجز هذا المعنى. هذا المعنى الذي يَدُلُّ على إنجازه فِعْلٌ آخر لزَم عنه، وهو رَد الإبل. إن القصيدة هنا «تفك عَقْدًا أُبْرِمَ بناءً على خُدْعة»، والقوة التي تُلْزم بنقض هذا البيع هي طاقة التشهير التي تكتنزها.
ما ينتجه الشاعر من سَرْد يُدْرَج كُله في سياق إنجاح إنجاز فعله «الطلبي» الذي يؤخره لآخر النَّصِّ:
-
تنصُّلًا واعتذارًا ب (١٧–١٩).
-
مَدْحًا وثناءً ب (١٤–٢٦).
-
إدلالًا بالحُرْمة وتذكيرًا بسوابق الخدمة ب (١٤).
هذا فضلًا عن وحدة الوصل والهجر والسفر ب (١–١٣) التي يجعل فيها السفر صالحًا لأن يكون وصولًا إلى الممدوح المخاطَب بالنص.
وهذا البناء الذي بناه عبر «موتيفات» الوصف والهجر والسفر كثيرًا ما كان يعطي علاقات توازٍ مع مناط النص الأكبر، فلا تبدو هذه الأجزاء بعيدة عن مطلب الشاعر وعلاقته ﺑ «النعمان» كما يصورها النص بعد ذلك.
إن الأبيات الثلاثة الأُوَل من النص تثبت الانبتات فيما بين «هند» والشاعر، فقد أخلَقَ جديد وصلِها، وضَنَّت بما كانت تمتعه به من سلامٍ ونحوه، إنها أبدًا لم تكن ممنوعة، فقد آثرت القطيعة مع إمكانية مَدها الوصل. ولعل الموقف هنا يتوازى مع «النعمان» الذي يُمْسك الأسرى مع إمكانية إطلاقهم، هذه «القدرة» التي يثبتها المدح صراحةً بعد ذلك ب (١٦، ١٩، ٢٠–٢٦).
وتثبت الأبيات كذلك علاقة حميمية فيما بين الشاعر و«هند»، يتمنى عودتها، هذه العلاقة غَيَّرها تَقَلبُ «هند» وانخداعها عن صديقها بمستحدثات الصداقة. هذه العلاقة الحميمية لعلها هي العلاقة المضمَّنة في قول الشاعر:
إذ يستلزم الإدلالُ بالخِدْمة وجليل الأعمال معرفةً عميقة تُوجب تحقيق هذه الفِعال. نقول: هذه العلاقة الحميمة تتغير أيضًا لأسباب قد يتجاوزها النص في كُلٍّ؛ يتجاوزها حال «هند» وكذا في حال «النعمان» وقبيلة «لُكَيز». ولكن ما لا يفوت الشاعر تقريره تواصي القبيلة بالإجناب وطول عنودها.
ويحذف الشاعر من «موتيف» الرحلة ضمير المقصود في هذه الرحلة التي يقطعها على ناقته:
وسواء أكان المقصود في الرحلة الملك — على ظاهر المنطق والأفعال — أو كان إطلاق سراح القبيلة، على سبيل المجاز، بما يجعل الرحلة رحلةً رمزية — فإن الوحدة كلها تتحرك نحو التلهُّف على الوصول في سباقٍ محموم بين الشاعر وناقته نحو الهدف ب (٦: ١٣)، ولا يكاد أي وصفٍ يخرج عن هذا الإطار الذي يؤسس للوصول بدءًا من قُوتها إلى سرعتها، إلى مجرد إغضائها وتهويمها عند الراحة، إلى الهِرِّ الذي ينهشها عند مَعْقِد غرزها، فتندفع في جري محموم، تتكلف فيه ما يؤديها إلى الهُلْك من الإسراع.
(٤) إن نصوصًا عديدة في المفضليات تكاد تنبني على هذه الطبيعة الإنجازية، أو بعبارة أخرى يفوتنا الكثير لو أننا لم نلتفت إلى طابعها الإنجازي في النظر النقدي لبنائها وتشكلها وقيمتها على الإجمال. ومن هذا القبيل: ﻣﻔ (٢، ٣، ٧، ١٠، ١٢، ١٥، ٢٦، ٣١، ٣٣، ٣٧، ٨٠، ٨١، ٨٢، ١٣٠) هذا فضلًا عن احتواء نصوص أخرى على أجزاء بعينها ذات طابع إنجازي على نحو ما نجد في ﻣﻔ (٨٣، ٨٩) وغيرها.
في ﻣﻔ (٢) يُغِيرُ «حزيمة بن طارق التغلبي» على رهط «الكلحبة العُرَني»، ويستاق إبلهم، فيأتيهم الصريخ، ويركبوا في إثره، فَيُهْزَم «حزيمة»، ويُستنقذ منه ما كان قد أخذه، ويفلت «حزيمة» من «الكلحبة» ويأسره غيرُه. وهنا يتوقف الشعر ليقول كلمته. و«حزيمة» الذي يفلت فعليًّا من «الكلحبة» يعود «الكلحبة» ليأسره فعليًّا بهذا النصِّ. إن اعتذار «الكلحبة» مما أفلت منه «حزيمة» بهذه الأبيات يُعيدُ أَسرَه مَرَّة أخرى. فلا فارق بين أن يؤسَر فعليًّا أو يُهْزَم حتى يوشك على الأسر؛ إذ الهزيمة لاحقة به في كلا الحالين، ومشارفة الفعل كفيلة بإلحاقه موطن العار:
إن المُقَطَّعة إعادةُ أَسْرٍ لفارِسٍ هَرَب.
وعندما تندد قصيدة الجُمَيْح ﻣﻔ (٧) التي مطلعها:
عندما تندد بغدر «بني عامر»، بغدر «خالد بن نِضلة» وإخلاف عهد الجوار فإنها تنجز فعلًا «تعزيريًّا»، فالتفوُّه بها فِعْلُ تعذيرٍ وإحراقٍ وعقابٍ لازم. إنها توقع بهم فعلًا «تعييريًّا»، لا تريم معيرته عنهم ولا تتحول.
والمفضلية (٨٦) ﻟ «راشد بن شِهاب اليَشْكُريِّ»، التي يخاطب فيها «قيس بن مسعود الشيباني»؛ تندرج في إطار ما تُنْجِزه من توعد وتهديد خاصةً من خلال ما تأتيه في البيتين الرابع والخامس:
هذه المعاني التي تحققها الأفعال الإنجازية تَغدو هي المركز الذي يضم حوله الشبكة الدلالية لمكونات النص، فما في النص من نَعْتٍ للسيف والقوس والسهم والرمح، وذكره ما كان بينه وبين خصمه من كرم جوارٍ وصُحْبة كلها أمور سردية، لكنها دعامات يتحامل عليها الفعل الإنجازي في اكتساب «مصداقيته».
(انظر: مسرد المصطلحات الذي أعده د. جابر عصفور ملحقًا بترجمته لكتاب إديث كريزويل، عصر البنيويَّة، دار سعاد الصباح، الكويت، ١٩٩٣م، ص٣٩١).
وليس للعلامات معنى أصلي ملازم لها، أو كامن بداخلها؛ فالعلامات تصبح علامات فقط، عندما يقوم مستخدموها بإكسابها معناها، من خلال إحالتها إلى شفرة معينة معروفة.
انظر: دانيال تشاندلر، معجم المصطلحات الأساسيَّة في علم العلامات (السيميوطيقا)، ترجمة وتقديم: أ. د. شاكر عبد الحميد، مراجعة: أ. د. نهاد صليحة، أكاديميَّة الفنون، وحدة الإصدارات.
والسيميائيَّة: هي العلم الذي يَدْرُسُ ظواهر الثقافة بوصفها أنظمةً من العلامات. وهي المقابل العربي للمصطلح «السيميولوجيا Semiology» الشائع في الكتابات الفَرنسيَّة منذ أن أرسى فرديناند دي سوسير مفهوم هذا العلم، والذي نجده عند رولان بارت، وليفي شتراوس، وجوليا كريستيفا، وبودريار. وهي المقابل أيضًا لما يشيع في التيار المعرفي الأنجلو-سكسوني تحت مصطلح سيميوطيقا Semiotics، كما عند تشارلز سوندرزبيرس، ومن جاء بَعْده من أمثال موريس، وريتشاردز، وأوجدن، وسيبويك.
فهما مترادفان، وإن كان «جريماس Greimas» يُفَرِّقُ بين المصطلحين في الفرنسيَّة بأن:
سيميوطيقيا: مصطلح يحيل إلى الفروع، أي إلى دراسة أنظمة العلامات المختلفة. أما سيميولوجيا: فمصطلح ينطبق على الهيكل النظري للعلم.
انظر:
• مَسْرَد المصطلحات الملحق بكتاب: أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السيميوطيقا، ص٣٥١، ٣٥٢.
• معجم المصطلحات الأساسية في علم العلامات (السيميوطيقا)، ص١٩١.
• هذا البحث الضافي حول المصطلح وصياغته بكتاب: المصطلح النقدي، د. عبد السلام المسدي، ص٩٧–١١٢).
انظر: الفارابي، رسالة في قوانين صناعة الشعراء، ضمن كتاب: فن الشعر لأرسطوطاليس، ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، ص١٥٠-١٥١.
وتتحدد بداية نَصٍّ ما في نموذج هارفنج بظهور «المرجع التركيبي» وغياب الراجع. فكل الجُمل التي يرتبط بعضُها ببعض بسلاسل إضمار بَدئيَّة تُكوِّن نَصًّا. وعندما تتوقف سلاسل الإضمار هذه أو يُسْتَبْدل بها أخرى يبدأ بذلك نَصٌّ جديد. وعلى هذا النحو فكل الجمل التي يرتبط بعضُها ببعض بغير الإضمار — عند هارفنج — تنتمي إلى نصوص مختلفة.
انظر: فولفجانج هايته من، ديتر فيهفيجر، مدخل إلى علم اللغة النَّصِّي، ترجمة: د. فالح بن شبيب العجمي، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعوديَّة، ١٤١٩ﻫ/١٩٩٩م، ص٢٧، ٢٨.
أما التأريخ Historiography: فهو تسجيل هذه الأحوال والأحداث أو أي عرض نسقي لها. إنَّ صاحب التأريخ مَعنيٌّ بجمع الحقائق التاريخيَّة ووثائقها مع تسجيلها تباعًا، في حين أن المؤرخ أو صاحب التاريخ يرتبها ترتيبًا يتلاءم مع ميوله الفكرية والذوقية، وقد يتناولها بالمناقشة والشرح.
انظر:
• د. علية عزت عياد: معجم المصطلحات اللغوية والأدبيَّة، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ١٩٩٤م، ص٥٧، ٦٥.
• إبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبيَّة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط١، ٢٠٠٠م، ص٦٤.
انظر: أرسطوطاليس، في الشعر، حققه مع ترجمة حديثه ودراسة لتأثيره في البلاغة العربيَّة: شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٣م، ص٦٤، ١٦٥.
• ﻣﻔ (١٠)، ب (٢٩)
• ﻣﻔ (١٢)، ب (٢٧)، ب (٢٩)
• ﻣﻔ (٤٥)، ب (٣)، ب (٥)
• ﻣﻔ (٤٨)، ب (٦)
• ﻣﻔ (٦٤)، ب (٧)
• ﻣﻔ (٦٦)، ب (١)
• ﻣﻔ (٨١)، ب (٣)
• ﻣﻔ (٩٧)، ب (١٥)
• ﻣﻔ (٩٨)، ب (٤١)
• ﻣﻔ (١١٨)، ب (١٩)
• ﻣﻔ (١٢٤)، ب (١٨)، ب (١٩)
ومن تلك التي تتضمن فعل القول «قُلْ»:
• ﻣﻔ (٧٠)، ب (١)
• ﻣﻔ (١٠٠)، ب (١)
• ﻣﻔ (١٢٩)، ب (١)
انظر: جيمز مونرو، النَّظم الشفوي في الشعر الجاهلي، ترجمة: د. فضل بن عمَّار العماري، دار الأصالة للثقافة والنشر والإعلام، الرياض، ط١، ١٤٠٧ﻫ/١٩٨٧م، ص٣٦–٣٨.
• ﻣﻔ (٤٥)، ب (٥–٧)
• ﻣﻔ (٦٤)، ب (٧–١٢)
• ﻣﻔ (٨١)، ب (٣–٩)
• ﻣﻔ (٩٧)، ب (١٥–٣٨)
• ﻣﻔ (١١٨)، ب (٤١–٥٦)
• ﻣﻔ (١٢٤)، ب (١٨–٢٤)
أما التيمة Theme (موضوعة): فهي وحدة موضوعاتية أكثر تجريدًا، أو وحدة دلاليَّة أكثر عموميَّة تتمظهر بواسطة مجموعة من الموتيفات، فالسفر في القصيدة الجاهلية تيمة أو موضوعة تتشكل من عدد من الموتيفات كالناقة والصحراء والهجير والذات المسافرة والعوائق …
انظر: قاموس السرديات، ص١١٦، ١٩٩.
وتنقسم الوظائف عند بارت إلى وظائف توزيعيَّة (الوظيفة)، ووظائف إدماجيَّة (القرينة index) وتنقسم الوظائف التوزيعية بدورها إلى وظائف رئيسيَّة (أنوية cardimal functions) وإلى (وسائط catalyses) وتنقسم الوظائف الإدماجيَّة إلى قرائن أو مؤشرات ومُخْبرات أو مُعْلِمات informans. ولكي تكون الوظيفة رئيسيَّة يجب أن يكون الفعل الحكائي الذي ترجع إليه يفتح (ويُبْقي أو يُغْلِق) خيارًا منطقيًّا بالنسبة لباقي القصَّة. ومن ثم فالوظائف الرئيسيَّة هي لحظات مجازفة في السرد، بينما تمثل «الوسائط» تلك الوقائع العارضة أو الأوصاف التي يمكن أن توضع بين وظيفتين سرديتَين متجمعةً حول هذه النواة أو تلك، دون أن تغير طبيعة الاختيار. وتظل الوسائط وظيفيَّة باعتبار كونها تدخل في تعالُقٍ مع نواةٍ ما. غير أن وظيفتها مُخَفَّفَة؛ أُحاديَّة الجانب وطُفيليَّة.
انظر: رولان بارت: التحليل البنيوي للسرد، ضمن كتاب: طرائق تحليل السرد الأدبي، ص١٤–١٩.
والوظيفة مفهوم يأخذ معاني ودلالات متعددة ومتباينة على نحو ما نجد عند فلاديمير بروب ورولان بارت وسوريو وغريماس على سبيل المثال.
القرينة index القرائن عند بارت لا تحيل على فعل، وإنما على تصور سائد، هذا التصور ضروري لفهم السرد أو القصَّة كأن تحيل القرائن على طبع أو شعور أو معلومات متصلة بهويَّة الشخصيات … والقرائن تحيل على مدلول ومن ثم فهي وحدات دلالية بكامل المعنى. أما المخبرات فهي الوحدات التي تُستخدم لتحديد وتعيين الوحدات السردية في الزمن والمكان.
وقبول الهديَّة يتضَمَّن قبول التحدي بإعطاء هدية مقابلة لها، تفوقها قيمة، وعدم إعطاء هذا المقابل يؤدي إلى الحطِّ من المكانة، أو إلى بذل ماء الوجه.
انظر: د. سوزان بينكني ستيتكيفيتش، أدب السياسة وسياسة الأدب، ترجمة وتقديم: د. حسن البنا عز الدين (بالاشتراك مع المؤلفة)، سلسلة دراسات أدبيَّة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٨م، ص٥٥–٦٠.