الشعر وسرد الأسطورة
المبحث الأوَّل: السرد – الأسطورة – السيناريو
(١) كثيرةٌ تلك السرود التي تقدمها القصيدة الجاهليَّة ويمكن أن نلمح في اطِّرادها وارتباط مكوناتها بملامح دينيَّةٍ بعيدةٍ؛ أبعادًا أسطوريَّة تتشكل في صيغة سَرْديَّةٍ ما يُنْتجها الشعراء، ويُعيدون إنتاجها واحدًا بعد الآخر، ولا تعود أوَّليتها لأحد، وإنما تتفرق أمشاجها في عُرى القصائد؛ ومن ثَم نحن معنيون هنا بالأسطورة من حيث اعتمادُ الشعر لها بوصفها صيغةً سَرْديَّة متواترة، وأيضًا من حيث هي أفقٌ رمزي متعالٍ، له علاقات وقيم بنائيَّة شبه ثابتة، دالة ومتكررة، قارَّة في لاوعي الجماعة الشعرية تتجاوز حدود الموقف اليومي الحياتي، يُنْتِجُ الشعراء من خلالها معرفتهم بالكون والحياة.
إن بعض المشاهد الشعرية التي يمكن لها أن تُوسَم بالواقعيَّة أُخْضِعَت أدبيًّا لاستهلاكٍ معين، حملت تمرُّدات ووجهات نظرٍ ومواقف من الحياة والموت والوجود … لقد حملت المشاهد استعمالًا مضافًا إلى مادتها الأوَّليَّة.
على أننا نركز في مفهوم السيناريو إلى جانب «ثبات العناصر» على «نظام التتابع» فتَتَتَابع العناصر السردية في مشهد وتتتابع المشاهد لتبني الحكاية، وتَنْدَرج الحكاية في نَصٍّ سَرْدي أعم. على أَلَّا يكون التتابع حينئذٍ تتابعًا عشوائيًّا أنبتته صدفة غير دالَّة.
المبحث الثاني: الثور الوحشي
- (١)
ثورٌ وحشيٌ لون وجهه وقوائمه يخالف لون سائر جسده، جَسَدُه أبيض، وقوائمه إلى الحُمْرة في سواد، ووجه أسود تعلوه حُمْرة.
- (٢)
هذا الثور الذي لا يعيش إلا كما تعيش بقية أفراد جنسه في قطيع؛ يوجد وحيدًا منفردًا بشكلٍ مُطْلَق.
- (٣)
الانقطاع والعزلة هي مصيره قبل المشهد وبَعْده، فهو خارجٌ من بَلَدٍ لآخر، ومن قفرٍ لقفرٍ.
- (٤)
دومًا ما يكون متوترًا أَرِقًا متوجِّسًا لخطرٍ أو كَرْب.
- (٥) تمر به ليلة باردة ممطرة يُلْجِئُه فيها المطر والريح إلى شجرة أرطى٩⋆ أو حقفها، يظل فيها الليل كُله.
- (٦)
لا يداهمه الخطر إلا مع طلوع الصُّبْح حين يباكره الصائد بكلابه.
- (٧)
لا يطلبُ الثور قتالًا، وإنما الكلابُ دومًا هي بادِئَةُ الهجوم، وغالبًا هو حينئذٍ بين فرارٍ طلبًا للنجاة دونما قتالٍ وصراعٍ، أو قتالٍ عنيفٍ دفاعًا عن النفس وعن حقه في العيش، فهو يريد الحياة، والكلابُ تريدُ حياته.
- (٨)
يهربُ الثور خوفَ الكلابِ، ويظل يجري والكلاب في أثره، حتى إذا ما يئس من الهرب، وأدرك أن الموت لاحقه لا محالة استأنى لينعطف عليهم بقرنيه، يُعمِلهما فيهم، فيقتل منهم ما يقتل، ويفر الباقون بين جريحٍ وسالمٍ يَنْشُدُ النجاة.
- (٩)
وعندما ترتبط قصة الثور ﺑ «موتيف» الناقة يكون الصيادُ كَلَّابًا، والكلاب سلاحه الوحيد. وقد تنتهي القصَّةُ بالثور عند هربه ونجاته، وقد تحدثُ الخطوطُ التالية وهي الصِّراع المشار إليه مع الكلاب.
أما عندما ترتبط القصة بالرِّثاء، بتجربة الموت — وحينئذٍ تغيب الناقة — يُصْبِحُ الصَّيَّادُ كَلَّابًا وقانصًا أيضًا، وهنا يحرز الثورُ النصرَ على الكلاب، ولكن لا يلبث الصائِدُ أن يبدد هذا النصر بسهمٍ يُنْشبه في أضلاعه.
(٢) كانت هذه هي الملامح العامة لسيناريو حكاية الثور الوحشي قد تختلف بعض التفاصيل الجزئية، وقد يُسْكَتُ عن بعض مراحلها، وقد يُتَوَسَّع في بعضها. وللقصَّة في الشعر العربي سياقان:
أحدهما سياق عام يأتي فيه السردُ عن الثور لاحقًا للسرد عن الناقة، مُؤديًا في ذلك وظيفة تشبيهيَّة؛ فالقصَّة منوطٌ بها — ظاهرًا على الأقل — تشبيه الناقة في سرعتها أو نشاطها أو بهما معًا بهذا الثور الوحشي الذي تُحْكَى قصته.
والآخر: سياق مَثَّلَ انحرافةً عن السياق الأوَّل، ونحن واجدوه بقوَّةٍ لدى شعراء هُذَيل على سبيل الخصوص، عَدَلوا فيه عن ربط الثور الوحشي وقصَّة صراعه مع الكلاب بالناقة، وجعلوا من قصته سَرْدًا موازيًا عن تجربة الفقد، وصراع الإنسان مع الموت.
وبعامةٍ يمكننا أن نقول إن حكاية الثور تعتمد مع الناقة على سيناريو النجاة، أما مع تجربة الرثاء فتتكئ على سيناريو الموت.
ومفهوم السيناريو يشغلنا بهذا الاطِّراد لبعض المقومات العامة، ولا يتركنا فريسةً للملامح المنفردة أو التفصيلات الجزئيَّة التي تخالف العام والشائع في مكونات الحكاية، فتشتت تصورنا عن الحكاية نفسها بتوهم أصالتها، إنه يجعل لنا هذا المتواتر بمثابة القاعدة أو المعيار بالنسبة لسائر الاختلافات والتمايزات السرديَّة داخل كل حكاية، سواء أكان اختلافًا في بداية موقع الحكي، أو تحديدًا لنقطة النهاية التي يتوقف عندها السرد، أو وقوفًا أمام بعض التفاصيل بشيء من الاتساع والإلحاح على الوصف والتدقيق.
وعندما يلتفت الكُتَّاب عبر مفهوم السيناريو إلى تلك المقومات العامة يلتفت أيضًا إلى هذه التفاصيل الدقيقة التي تُمْنَحَها الحكاية، التي تختلف معها من نَصٍّ لآخر فترسم ملامحه الدقيقة. إن مفهوم السيناريو يعين على قراءة الموقف بمجرد الإلماع إليه، ويجعل من الغائب إطارًا لقراءة الحاضر. فالثور عند طَرَفة بن العبد مثلًا لا يرد في القصيدة إلا في شطر بيتٍ يُشَبِّه فيه أُذُني ناقته بأذنه. يقول:
(مؤلَّلتان: مثنى مؤلَّل، أي محدد، من التأليل، وهو التحديد والتدقيق، والدقة والحدَّة تُحمدان في آذان الإبل. العِتْق: الكرم والنجابة. سامعتي: أُذُنَيْ. شاة: ثورٌ وحشي).
ربما كانت وَحْدَة الثور وانفراده، دونما وحش آخر من القطيع يشغله ويؤنسه مدْعاةً بالفعل للوحشة، مدعاةً لأن يكون مروعًا مَفْزوعًا.
هذا غير كافٍ، فليست كل خلوة أو انفرادَةٍ مُجْلبةً للخوف والفَزَع، أو الحَذَر والتَّرقب، وحتى نصل إلى وجه الشبه المراد، بأن تكون الوحدة والانفراد مدعاة للحذر وترقب الخطر والاستعداد لدرئه، وهو ما يؤذن بإبراز الحيوية والنشاط؛ لا بد من الإحالة على سيناريو الثور وصراعه مع الكلاب. ويبدو أن ما كان يملأ قلب الثور بالفَزَع هو تجاربه السابقة مع الصائد وكلابه. إن ما يزرع الخوف والحذر والتوجُّس في المشهد هو ذكرى سابقة لما سوف يتكرر بعد لحظات بالفعل معه، فكل عدوانٍ كانت له سابقة رَوعت قلبه، وأقضَّت أمنه. فوراء هذا المشهد مشهد مماثل له سابقٌ عليه، وربما مشاهد، ولولا نجاته منها لما استعادت التجربةُ وقائعها هنا مَرَّة ثانية.
وإلى جانب تحديد مسألة «الانفراد» ينقلنا إلى هذا السيناريو أيضًا تحديد «المكان»، وهو هنا يحدد ﺑ «حومل» على عادة تحديد الأماكن في كثير من الأحيان في سيناريو الثور والكلاب، وأغلب الظن أن هذا المكان من أماكن المياه، فالمكان في حكاية الثور، يدور في الصحراء بالقرب من منابع المياه.
إن النَّص على الانفراد والمكان كفيل باستدعاء هذا السيناريو الكامل أو الاستناد إليه لاعتماد منتهى الحذر التَّيَقظ، هذه الصفة المراد إثباتها للناقة؛ ومن ثَم فما يُدعِّمُ الوصف هنا ليس وصفًا قدر ما هو مشهد، قدر ما هو حكاية، سيناريو كامل قد تغيب معظم تفاصيله أو بعضها، ولكنْ أقلُّها ضمينٌ باستدعاء بقيتها.
وكذلك في ﻣﻔ (٤٩) يقول المرقش الأكبر:
وإيجاز المرقِّش في بعض أركان الحكاية وذكر بعضها الآخر الذي ربما تغيب أهميته أو دلالته؛ هذا الإيجاز لا يملك مسوغًا ما لم نكن نمتلك شرعية إمكان الاستناد لسيناريو حكاية الثور مع الكلاب كما تمثلها النصوص الشعرية بوصفها نَصًّا إطارًا بحيث يُرْفد هذا النص بدلالته الأصيلة.
والنص هنا يقف كالعادة عند تشبيه عدو الناقة بعدو الثور، وعلى الدوام لا يُقْصَدُ في المشابهة أيُّ ثورٍ في أيَّة وَضْعيَّة، ولكنه هو هذا الثور المُفَزَّع في الصحاري، لا يألو جهدًا في العدو، لما تداخله من الخوف، خشية القُنَّاص.
إن المرقش يبدأ في الدخول في الصورة، ولكنه لا يُكْمِل، وحسبه ما بدأه ليُحيل إلى هذا المشهد المتكرر لدى الشعراء، حسبه ما قاله ليحيل إلى ما جَسده آخرون. ونحن مدعوون أمام هذا القطع أو الاجتزاء الذي يكتفي به المرقش الأكبر أن نُكمل المشهد، أن نستحضر الدلالة من كمال الصورة غير الموجودة، والمنسربة في نصوص أخرى سابقة عليه وموازية له.
إنه يشير إلى عَدْوه: «رَباع»؛ إذ لا يألو جهدًا في العدو، وانفراده: «مفردٍ» ثم يبدأ في وصف جَسَده ولونه وهيئته كما نجد في كل النصوص التي تسرد مشهد الثور. ويدخل أيضًا إلى مبيته الليل في مكان أصابه الغيثُ، وهو ما يتضمن بالضرورة أن نوءًا قد أصابه بالليل وأنه خاف المطرَ فَهُرع إلى هذا المكان يحتمي به ويختبئ إلى الصباح.
هنا يتوقف السرد وينقطع المشهد، فقد أدخلنا الشعر إلى حيث نعلم، ووضعنا على طريق الصورة التي يريدها، أما هو فليس في حاجة ماسَّة لأن يكتب ما كتبه الآخرون حتى يصل لهذا الفزع الذي ينتاب الثور، وهذه السرعة التي يهرب بها، أو بها ينقض على الكلاب. إن السرد ينقطع لصالح الوجود المشترك لهذه الصورة في القصيدة الشعرية باعتبار أن ثمة سيناريو يُمكِّنُنا من استكمال الحكاية.
أما بشر بن أبي خازم فيقول في ﻣﻔ (٩٧):
فما يركز عليه بِشْر من حكاية الثور هو تَنَقُّله من مكان لآخر؛ إذ لا يَقَر له قرار، فهو دومًا راحلٌ في فزع، يَمَل المكوث ويخافه، فمُكثه مكثُ أرقٍ وخوفٍ وتوفز، حتى إذا ما طَلَع الصبحُ انطلق.
ويمثل مشهد الثور آخر حلقات الحديث عن الطيف وصاحبته الظاعنة وقطعها الوصل على ما كان بينهما من ودٍّ اتصلَ إلى زمان المشيب، وعن ذكريات الصبا واللهو، وكذا الفلاة الموحشة واختراقه إياها بناقةٍ مَثَّلها بهذا الثور. ينتقلُ الحديثُ بعدها فجأةً إلى بني سعد ومواليهم عبر رسالة تهديدٍ ووعيدٍ لهم؛ إذ أَنْذَرَهم من قبل أن يعتصموا بالصُّلْح، ولكنهم أَبَوْا إلَّا العداء:
إذ يتهدَّدهم أن الحرب قد تناهت ليرتدعوا، ويقبلوا ما عَرَضه عليهم بما فيه صلاح أمْرهم، وإلا لا مراعاة ولا مراجعة، ولن يكون مصيرهم إلا الطَّرْد.
وفي تصوُّر الكُتاب أن توقف النص عند هذا الحَد من سَرْد مشهد الثور الوحشي هو التوقف عند مواطن الدلالة المُسَوِّغة للسرد عن الثور أو لتوظيفه في النص.
والسرد هنا يحكي عن الثور بما يجعله معادلًا صُورِيًّا للناقة في عدوها ونشاطها، ومعادلًا نفسيًّا للقوم أعداء الشاعر فيما يمكن أن يُصَيِّروهم إليه بخلافهم إياهم. ولعله مما يُرَشِّحُ لذلك أن حكاية الثور تُسْرَد من خلال تعابير ومفردات تأتي جُلُّها من حقل «المخاصمة»؛ فالمكان الذي يبيت به الثور هو «حَرْبَة»! هكذا ودونما تورية، ومقام الثور بهذا الموطن مقامٌ كُلهُ قلقٌ وضيق، هو مقام سَجْن له في الزمان والمكان؛ فهو يَوَدُّ الانعتاق من قيد الليل الذي يمنعه الحركة والنشاط والرحيل (المكان)، ويَنْصَل من ليلته (الزمان) كما يَنْصَل الدُّرُّ من الخيط الذي يسلكه.
وكذا لم يجعل المكان الذي يأوي إليه «أرطاة» أو «حقف أرطاةٍ»، وإنما عَبِّر عنه ﺑ «الصَّريمة»: «تجلى عن صريمته الظلامُ»، والصَّريمة: القطعة المنعزلة من الرمل، والصريمة من الصَّرْم وهو القَطْعُ، فيقال صَرِم الحَبْلَ، وصَرَم النخلَ والشجرَ: جَزَّهُما، وصَرَمَ فلانًا: هجره، ويقالُ صَرَم وَصْلَه. وَصَرُمَ السيفُ: كان قاطعًا ماضيًا. وكذا كان خروج الثور عن صريمته «نُصولًا»: «فأصبَحَ ناصِلًا منها». وكذا يُقالُ: نَصَل السيفُ من قِرابِهِ، ونَصَلَت الخيلُ من الغبار. والنَّصْلُ حديدَةُ الرُّمْحِ والسَّهْمِ والسِّكين.
ويحتفظ المشهدُ كذلك بمقولةٍ إنشائيَّة تمثِّلُ الثورَ وقد ضاق ذَرعًا بالليل، فباتَ يقولُ: «أصْبِح ليلُ» وسواء أكانت هذه مقولة الثور نفسه أو كانت مقولة السارد ممثِّلًا لسان حال الثور، فإنها تجسد حاله تمامًا.
(٣) وسوف تعرض السطور التالية ما سُرِدَ من حكاية الثور في قصائد المُفَضليات مشيرةً لغياب بعض وحدات السيناريو، ومبينةً عن التفصيل في وحداتٍ أخرى أو الإفاضة في وصفها، وتقديم تفاصيلها.
وهنا ينثر الكتاب شِعْر الثور الوحشي، غير وجلٍ. فما يسعي إليه أصلًا هو هذا التكوين السردي الذي صاغه الشعر، فخلقه خلقًا آخر. فلا محيص عن هذه الطريقة في العزل لاستكشاف بعض جوانب الأفق السردي في القصيدة على ما فيها من جَوْرٍ على السردي والشعري في ذات اللحظة.
-
ناقته في إتيانها الماء في اليوم الخامس شأنها شأن ثورٍ أسود العينين انشعب قرناه.
-
هذا الثور في وجهه سُفْعَةٌ، مُحجَّلُ القوائم.
-
هاجمه عند الصباح قانِصٌ بكلابه، وكأنه لتأثير الشمس والضُّرِّ فيه قد وُضعَ في الجير والرماد الحارِّ.
-
هذا القانِصُ يأوي إلى امرأةٍ بذيئة، متلبِّدَة الشعر لا تدهنه، مضرورة عارية من اللباس، في حجرها ولد أسوأ حالًا منها في الضُّرِّ.
-
للصائد كلابٌ ضَوَارٍ اعتادت الصيد، يُبالِغْنَ في الطَّلَبِ إذا ما أُغْرين وخُلِّي بينهن وبين المطلوب، فآذانها مُقَطَّعاتٌ بمخالبها من سرعة عدوها.
-
تتبعُ الكلابُ هذا الصائِدَ الذئبَ في إقدامه وخَتْلِه. بين الصائِد والكلاب قَدْرُ رُمْحٍ، يتقدَّمُها ويُغْريها.
-
ضَمَّ الصائِدُ الكلابَ وجُمِعنَ إليه ثم صاح بها، وأغراها بالثور فانطلَقتْ.
-
ولَمَّا نظر الثورُ إلى الكلاب قد هاجَت به، ثبت الروع في عينه.
-
فأخذ ناحيةً اجتهد فيها العَدْوَ، وأخذ يُسْرعُ كأنه يطير فوق الأرض من سرعته، وانصاعت الكلابُ معه كأنها رماحٌ صغيرة لصِقت به.
-
فاهتز الثورُ حميَّةً وأَنَفًا من الفرار من الكلاب، اهتز نافضًا قرنيه للطعن بهما.
-
قرناه رمحان متماثلان، فيهما استواءٌ وطُول، كعوبها شديدة ممتلئة يبتغي بهما شِدَّةَ القتالِ واستقصاءه.
-
ولَمَّا انطوى الثور على ما انطوى عليه من الفَزَع والحذر لم يكن ليتمكَّن من الطعن بقرنيه، فكان يختلس الطعن دَهشًا.
-
وظَل في مُدافعة الكلاب طاعنًا في صدورها إلى أن أوْجَعَ، وسُقِيَ قَرْنُه عَلَلًا بعد نَهَلٍ من دمائها.
-
ووَلى الثورُ ملطَّخًا بدماء الكلاب وقد صُرِّعت بين قتيل وجريحٍ.
-
وانطلق مُسْرِعًا منتصرًا يَلْمَعُ مَتْنُهُ كالسيف المسلول.
-
مستقبلًا الريحَ، مُسْتَرْوِحًا بها من حرارة التعب وجهد العَدْو، وقد دَلَعَ لسانه يلهث من الإعياء.
-
وأخذ يجتهد في عدوه، راضيًا من الأرض بأدْنَى لَمْسٍ، وهو لِشِدَّة عَدْوه كأنه يَرُدُّ الحصى على فروجه.
-
يشبه ناقته بثور وحشي طويل الذَّنَب، بخديه سواد يضرب إلى الحُمْرة.
-
جُمِعَ وَجْهُه وكُف على ديباجة لسواده، ومتنه أبيض قد سطع.
-
إذا ما هُيِّج بَسَط خطوه كما يَبْسُطه الصغير من ولد البقر.
-
هذا الثور أفزعه صيادٌ من طيءٍ ذو سهامٍ وكلابٍ ضُرِيَتْ؛ حُبِسَت ومُنِعت، حتى يكون هذا أشد لها في الهجوم.
-
هاجمت الكلابُ الثورَ فرآهنَ ولم يَسْتَبِنْهُن لسرعتهن.
-
فَفَر الثورُ، ولم يجتهد في عدوِه لثِقَته أنه سيفوتُهن.
-
وعلى مُهْلَةِ الثور واتِّداعه في عدوه ترى الكلابَ يقطعن الأرض.
-
ومع دُنوهن منه لم يخالِطْنه خوفًا لثقتهن أنه إذا رجع عليهن جَرَحَهُن بقرنه ودَمَاهُنَّ.
-
فإذا ما أسْرَعن خلفه وقاربنَه اشتد في جريه، وإذا ما بَعُدَ عنهن كفَّ أو أبطأ.
-
فهو دومًا ساكنُ القفر ملازمٌ للفلوات البعيدة الأطراف، متوفز فإذا ما أحَس أحدًا أو سَمِعَ صوتًا ذهب في الأرضِ.
-
أما المرقِّش الأكبر ﻣﻔ (٤٩).١٥⋆ ب (١٠–١٢) فإنه:
– يشبه عدْوَ ناقته — التي يشبهها بالسفينة — بهذا الثور المفرد الذي أفردته خشية القُنَّاص، فهو لا يألو عدوًا، هذا الثور المُدْمَج الخَلْقِ كأنه «الزُّلم» من قِدْح الميسِر.
– هذا الثور أبيض كالثوب اليمني شديد البياض، وقوائمه تخالف لون جسده ولون وجهه، وهي منقطة بسواد.
– هذا الثور اعتمد غَيبًا مُعشِبًا يستتِر به (والغيب ما غاب من الأرض).
-
يُشَبه ناقته بثورٍ دائب التنقُّل من مكانٍ لآخر، بات ليلةً شديدة المطر في موضع يُدْعى «حَرْبةَ».
-
ولشِدَّة ما كان يعاني من مطرٍ وبرد بات يتمنَّى انقضاء هذا الليل ومجيء الصباح.
-
وبمجيء الصُّبح خرج من ليلته ناصلًا كما ينصل العقد حين ينقطع خيطُه.
-
ثورًا مُسِنًّا شديد الحذر واسع التجربة أطرَدَته الكلابُ فَزِعًا.
-
فاجأته تلك الكلاب عندما باكَرَه الصياد بها.
-
وكان قد لجأ إلى شجرة أرطى عندما آذاه المطر وأصابته ريحٌ باردة شديدة بليلٍ.
-
وأخذ يرمي بعينيه إلى الغيوب متوجسًا بأُذنه في أثناء نظره، لما يأتيه منها مما يحذره ويخافه.
-
ولَما طلع الصُّبْحُ أخذ يُعَرِّضُ متنه للشمس لِيَذْهَبَ ما عليه من المطر والندى، وراحت سوابق الكلاب تُحْبَس وتُكَفُّ على ما تَخَلَّف منها، لأنها إذا لقيته فُرادى لم تقوَ وقَتَلها واحدًا بعد واحد، وإذا اجتمعت أعانَ بعضُها بعضًا.
-
فاهتاج الثورُ حين رأى الكلاب، وملأ فروجَه عدوًا وشِدَّة جريٍ، كلابٌ غُبْرٌ أو أنهن دَخَلْنَ بين قوائمه؛ كلبان من هذه الكلاب سالِما الأذنين وآخر مقطوع الأُذن.
-
أقدمت الكلابُ على الثور يَعْضُضنه، وهو يَذُبُّهن عن نفسه، وهو غليظ القوائم، به توليعٌ بالخطَّين اللذين في جنبيه (وكل لونين مختلطين فهو توليع).
-
فَتَحَرف لها ليطعنها بقرنيه المحددين حتى غدوَا كأن بهما من تلطيخ الدم — حيث أعملهما في أجوافها — صبغٌ أحمر كأنه الأيْدَعُ أو الزعفران.
-
وكأن قرنيه وهما يقطران بالدَّم سفُّودان نُزِعا قبل أن يدركَ الشواءُ، فهما يَكِفان بالدَّم.
-
وظل الثور يقتل في الكلاب، وارتدت جماعةٌ منها، وقامت بقيتها تعوي.
-
وظل كذلك حتى دنا منه الصائد بنصاله الرِّقاق المُرْهفة المنتفة من كثرة ما رُمِيَ بها.
-
ورماه الصائد ليشغله عن بقية الكلاب منقِذًا ما فَر منها. رماه الصائد فأنفَذَ طُريته.
-
فسقط الثور لوجهه كما يسقط فحل الإبل اليابس للمطمئن من الأرض، إلا أنه أرْوعُ منه.
(٤) وإذا كان الفحص السابق لوحدات سيناريو قصة الثور في المُفَضليات قد أبان عن التشابه والاطراد لبعض الوحدات وإمكانية غياب بعض الوحدات الأخرى بما لا يعني أكثر من الغياب الذي قد يكون أحيانًا دليل حضورٍ، وأيضًا بما لا يخرجه عن السيناريو الواحد العام الذي رَصَدْنا معالمه، ففيما يلي سوف نفحص أوصاف إحدى هذه الوحدات وهي تلك الأوصاف المتعلقة «بمعالم الثور الحسيَّة والمعنوية»، تاركين بعض أوصاف الوحدات الأخرى كأوصاف المعركة أو مشهد القتل أو صورة الليل والمطر أو ما إلى ذلك للنصوص نفسها تفصح عنها، وما نقدمه هنا هو نموذج يدلل بدلالة الجزء على الكل.
الشاعر | الصفة | |
---|---|---|
(١) الجسم | ||
اللون | الهيئة | |
المرقش الأكبر | • «كأنه نِصْعُ يمان» | |
النِّصْع: الثوب الشديد البياض، يمانٍ: يمني | ||
ﻣﻔ (٤٩) ب (١١). | ||
سويد بن أبي كاهل اليشكري | • «وعلى المتنين لونٌ قد سَطَع» | «ذيال» ﻣﻔ (٤٠) ب (٥١): طويل الذَّنب |
متنه أبيض قد سطع. ﻣﻔ (٤٠) ب (٥٢). | ||
عَبْدة بن الطبيب | • «مُجْتابُ نِصْعٍ جديدٍ فَوْقَ نُقْبَتِهِ» المجتاب: اللابس، النصع: الأبيض. شبه الثور لبياضه بلابس ثوبٍ أبيض ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٥). | |
• «كأنه سيفٌ جلا متْنَهُ الأصْنَاعُ مَسْلُولُ» | ||
ﻣﻔ (٢٦) ب (٤٠). | ||
أبو ذؤيب الهُذلي | • «شَبَبٌ» ﻣﻔ (١٢٦) ب (٣٧) | |
المُسِن من الثيران، أو هو مَن انتهى شبابه وربما عنى بذلك اكتمال الخبرة وتمام القوة والذكاء. يقول التبريزي: (وإنما جعله شببًا ليكون أشد حذرًا وأكثر تجربةً) (الشرح، ٣: ١٧٠٩). | ||
زهير بن أبي سلمى | • «لَهِقًا»: شديد البياض. ق (٢) ص ٤٤. | • «مُشِبًّا» ق (٢) ص٤٤. |
النابغة الذبياني | • «كسيف الصَّيْقَلِ الفَرِد» الثور أبيض لماع كالسيف، والفَرِد: المنقطع القرين المنفرد بالجودة. ص١٧. | • «طاوي المصير» ضامر، والمصير: المِعَى، وكَنى به عن البطن. ص١٧ |
عبيد بن الأبرص | • «كالكوكب الدرِّيء يشرق متنه» ق (١٣) ب (١٢). | • «هبيطٌ» ق (١٣) ب (٩): الضامر، أو أنه الثور يهبط من مكان إلى مكان. |
سحيم | • «على مَتْنِه سِبًّا جديدًا يمانِيَا» السِّبُّ: ضربٌ من الثياب البيض ب (٧٧) ص٣٠. | • «طاويا» ب (٧١) ص٢٨. |
• «ناصِعَ اللون» ب (٧١) ص٢٨. | ||
عَبْدة بن الطبيب | • «أشعب الروقَيْن» ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٤). | |
• «مكحولُ» ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٤). | ||
علقمة بن عَبْدة | • «طاوي الكشح» ضامر الخاصرتين ﻣﻔ (١٢٠) ب (١٧). | |
الأعشى | • «طاوٍ» ق (٣٢) ب (٢٨). | |
• «فانصاع مُنْصَلتًا كالنجم يختارُ الكثيبَ أَبَلْ» ق (٥٢) | • «طاوٍ» ق (٥٢) ب (٣١). | |
ب (٣٩). | ||
• «عليه دَيابُوذٌ تَسَرْبَلَ تَحْتَه أَرَنْدَجَ إسكافٍ يُخالِطُ عِظْلِما» | • «طاوٍ» ق (٥٥) ب (١٦) | |
ق (٥٥) ب (١٧). الديابوذ: ثوب ينسج على نيرين، الأرندج: جلد أسود، الإسكاف: الصانع الحاذق، العظلم: نوع من الشجر يستخرج منه صبغ أسود يخضب به الشعر. وهو بذلك يصور ثورًا أبيض الظهر قوائمه سوداء. | ||
• «وأدْبَرَ كالشِّعْرى وُضُوحًا ونُقْبَةً» ق (٥٥) ب (٢٨). النقبة: اللون، وهي كذلك الوجه. | ||
• «تخاله كوكبًا في الأفق ثَقَّابا» ق (٧٩) ب (١٤). | • «عَبْعابا» ق (٧٩) ب (١١): الطويل التام الخلق. | |
• «طَيانَ مُضطمِر» ق (٧٩) ب (١٤). | ||
طيان: جائع، مضطمر: منهزم من الجوع. | ||
لبيد بن ربيعة | • «كنصل السيف حُودِثَ بالصِّقال» ق (١١) ب (٢٧). | |
• «كأنه نِصْعٌ جَلَتْهُ الشمْسُ بَعْدَ صِوان» ق (١٦) ب (٢٦). | • «يَهْتَز فوق جنبيه رُمْحان» ق (١٦) ب (٢١). | |
• «فادِر» ق (٣٥) ب (٢٥) الفادر: الوعل الشاب أو المُسِنُّ. | ||
بشر بن أبي خازم | • «فجالَ كأنه نِصْعًا حِمْيَريًّا إذا كَفَر الغُبارُ به يَلوحُ». | |
ق (١١) ب (١٥) كفر به الغبار: أي غطاه واشتمل عليه. | ||
• «كنصل السيف جَرَّده المليح» ق (١١) ب (٢٢). | ||
• «كأنه كوكبٌ يَقِدُ» ق (١٢) ب (٨). | • «طاوٍ» ق (١٢) ب (٧). | |
• «مُلْمِع» ق (٢٥) ب (١١) الذي يكون في جسمه بقع تخالف سائر لونه. | • «طاوٍ»، ق (٢٥) ب (١١) ثور وحشي خميص البطن، أو أنه الذي يطوي البلاد نشاطًا وقوَّة. | |
• «فجالَ على نَفَرٍ تَعرضَ كَوْكبٍ» ق (٢٥) ب (١٤). | ||
(٢) الوجه | ||
اللون* | الهيئة | |
سويد بن أبي كاهل اليشكري | • «بخديه سَفَع»: جمع سفعة، وهي سوادٌ يضرب إلى حُمْرة | |
ﻣﻔ (٤٠) ب (٥١) | ||
• «كُفَّ خَداه على ديباجَةٍ»: جُمع وجهه وكُف على ديباجَةٍ لِسواده. فوجهه مخالفٌ للون متنه. ﻣﻔ (٤٠) ب (٥٢). | ||
عَبْدة بن الطبيب | • «مُسْفِعُ الوجه» ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٦). | |
بشر بن أبي خازم | • «أَخْنَس»: المتأخر الأنف عن الوجه. ﻣﻔ (٩٧) ب (١٢). | |
امرؤ القيس | • «فبات على خَدٍّ أَحَمَّ» الأحم: الأسود ق (١٢) ص١٠٢. | |
الأعشى | • «أَسْفَعُ الخَدِّ» ق (٥٥) ب (١٦). | • «أخثما» ق (٥٥) ب (١٦) الخثم: عرض الأنف وغلظه. |
• «أسْفَعُ الخَدين» ق (٧٩) ب (١١). | ||
لبيد بن ربيعة | • «أَخْنَس» ق (١١) ب (١٥). | |
بشر بن أبي خازم | • «أَسْفَعُ الخَدَّين» ق (١٦) ب (١٦). | |
• «كوقف العاج طُرتُه تَلوحُ» ق (١١) ب (٢٤). الطرَّة: الناصية أو الشَّعر في مقدم الناصية، العاج: السوار من العاج. | ||
(٣) القوائم | ||
اللون | الهيئة | |
المرقش الأكبر | • «وبالأكرع تخييفٌ/تخنيفٌ كلون الحُمَمْ». | |
الأكْرُع: جمع كُراع، وهو مُستَدَق الساق العاري من اللحم، والتخييف: ألوان؛ بياض وسوادٌ، ويقال تخييف: خطوط، والتخنيف: اللون. ﻣﻔ (٤٩) ب (١١). | ||
عَبْدة بن الطبيب | • «وللقوائم من خالٍ سراويلُ». والخال: برود فيها خطوط سودٌ وحُمْر. ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٥). | |
• «في أرْساغِهِ خَدَمٌ، وفوق ذاك إلى الكعبين تحجيلُ». | ||
الخدم: جمع خَدَمة، وهي الخلخال، وأراد بالخَدَم البياض، والتحجيل: أصله البياض في القوائم وأراد به ها هنا السواد. ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٦). | ||
النابغة الذبياني | • «مَوشِيٍّ أكارِعُهُ» بقوائمه نقطٌ سودٌ وخطوط. ص١٧. | «صُمْعَ الكُعُوبِ بَريئاتٍ من الحَرَدِ». لسن برهلات المفاصل، وليس بهن استرخاء في العَصَب من شدة العِقال. والمراد خلو القوائم من العيب. |
علقمة بن عَبْدة | • «موشومُ» في قوائمه نقط سودٌ. ﻣﻔ (١٢٠) ب (١٧). | |
بشر بن أبي خازم | • «مَوْشِيٌّ» ق (١١) ب (١١). | |
• «مَوْشِيُّ الشَّوَى» ق (١٢) ب (٦) الذي في قوائمه بياض. | ||
(٤) الانفراد | ||
عَبِيد بن الأبْرَص | «مُفْرد» ق (١٣) ب (٩). | |
النابغة الذبياني | «مُسْتأنَسٍ وَحَدِ»، ثور يخافُ الأنيس، وقيل: هو الذي يرفع رأسه هل يرى شخصًا ص١٧. | |
طَرَفة بن العبد | «مُفْرَدِ» ص٤٣ ب (٥٧). | |
زهير بن أبي سُلْمى | «وقد يكون بها حينًا تَعَزُّبُهُ»، والتعزب: التَّفَرد ق (٢) ص٤٤. | |
المرَقِّش الأكبر | «مُفرَدٍ» ﻣﻔ (٤٩) ب (١٠). | |
عَبْدَة بنُ الطَّبيب | «مَخْذُولُ» ﻣﻔ (٢٦) ب (٣٤) لا ناصر له. | |
سويد بن أبى كاهل اليَشكُري | «ساكِنُ القَفْرِ» ﻣﻔ (٤٠) ب (٦٠). | |
الأعشى | • «فريد» ق (٣٢) ب (٢٨). | |
لبيد بن ربيعة | • «أَضَلَّ صِواره» ق (١١) ب (١٦). | |
• «فَرْدا» ق (١١) ب (٢٧). | ||
بشر بن أبي خازم | • «فَرِدُ» ق (١٢) ب (٦). | |
• «فَرِيدٌ» ق (٢٥) ب (١١). | ||
(٥) الحركة والسفر | ||
عبدة بن الطبيب | • «مسافِرٌ» ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٤). | |
بشر بن أبي خازم | • «ناشِطٍ» خارج من بلدٍ إلى آخر. لقد أفردته خشيةُ القُنَّاص فهو لا يألو عَدْوًا، وحال عدوه وفزعه من القُناص بينه وبين صواحبه. ﻣﻔ (٩٧) ب (١٢). | |
سحيم | • «شبوبًا»: الذي يخرج من بلدٍ إلى بلدٍ، وقيل هو المُسِن ب (٧٢) ص٢٩. | |
سويد بن أبي كاهل اليشكري | • «أخو دَوِّيَّةٍ». والدَّوِّيَّة: الفَلاةُ الواسعةُ المتراميةُ الأطراف. ﻣﻔ (٤٠) ب (٦٠). | |
زهير بن أبي سُلْمى | • «ناشطًا» ق (٢) ص٤٤. | |
عَبِيد بن الأبرص | • «هبيطٌ» ق (١٣) ب (٩). الثور الذي يهبط من مكانٍ إلى مكان. أو الضامر. | |
لبيد بن ربيعة | • «ناشط» ق (١١) ب (١٥). | |
لبيد بن ربيعة | • «وأصْبَح يقتري الحومانَ» ق (١١) ب (٢٧). يقتري: يتتبع، الحَومان واحدتها حومانة، والحومانة من الأرض أماكنُ غِلاظ منقادة فهو يتَتَبع الحومانة ثم ينفذ إلى أخرى. | |
(٦) القلق والتوتر والحذر | ||
سويد بن أبي كاهل اليشكري | • «فإذا ما آنَسَ الصَّوْتَ امَّصَع» ﻣﻔ (٤٠) ب (٦٠). | |
أبو ذُؤيب الهُذَلي | • «شَبَبٌ أفَزَّتُه الكلابُ مُرَوعُ» ﻣﻔ (١٢٦) ب (٣٧). | |
• «شَعَفَ الكلابُ الضارياتُ فؤادَه فإذا رأى الصبْحَ المُصَدَّقَ يَفْزَعُ» ﻣﻔ (١٢٦) ب (٣٨). | ||
• «يرمي بعينيه الغُيُوبَ وطَرْفُهُ مُغْضٍ يُصَدِّقُ طَرْفُه ما يَسْمَعُ» ﻣﻔ (١٢٦) ب (٤٠). | ||
علقمة بن عَبْدة | • «كما تَوَجَّس طاوي الكشح موشوم» ﻣﻔ (١٢٠) ب (١٧). | |
بشر بن أبي خازم | • «مُشيحٌ» ق (١١) ب (١١). حَذِر. | |
(٧) المكان | ||
(أ) مكان الإقامة | ||
سحيم | • «بوَعْساءِ رَمْلٍ أو بَحزْنانَ خاليَا»: الوعساء: رمل ضخم ليس بالشديد، «حزنان»: موضع ب (٧٣) ص٢٩. | |
طَرَفة بن العبد | • «كسامِعَتَي شاةٍ بِحَوْمَل مُفْرَدِ». «حومل»: اسم موضع ب (٥٧) ص٤٣. | |
النابغة الذبياني | • «من وَحْشِ وَجْرَةَ»: أي هذا الثور من طَرَف هذه الفلاة. و«وجرة» من طرف السِّي، وهو مجتمع الوحش، و«السِّيُّ» عَلَمٌ لفلاة على جادَّة البصرة إلى مكة بين «الشبيكة» و«الوجرة» يأوي إليها اللصوص كما يقول ياقوت الحموي، و«وجرة» فلاة ماؤها قليل، فبطون وَحْشِها طاوية لقلة شربها الماء ب (١٠) ص١٧. | |
عَبِيد بن الأبرص | • «من وَحْشِ أورال هَبِيطٌ مُفْرَدُ». «أورال»: أَجْبُل ثلاثة سودٌ في جوف الرمل، وحذاؤهن ماءة لبني عبد الله بن دارم ق (١٣) ب (٩)، ص٣٣١. | |
لبيد بن ربيعة | • «ببرقة واحفٍ» ق (١١) ب (١٥). | |
• «أَحَسَّ قنيصًا بالبراعِم خاتلا» ق (٣٥) ب (٢٥). | ||
بشر بن أبي خازم | • «بِجَنْبِ سُوَيقة» ق (١١) ب (١٢). | |
• «من وَحْشِ خُبَّة» ق (١٢) ب (٦). وخُبَّة: اسم ماء. | ||
• «بِرَمْلةِ أَوْرالٍ» ق (١٢) ب (٧). ضَفْرة رَمْلٍ دون مكة. | ||
• «بِذِي بُرْكانَ» ق (١٢) ب (١١). | ||
• «باتت عليه بحرْبَةَ ليلةٌ فيها جَهامُ» ﻣﻔ (٩٧) ب (١٢). | ||
الأعشى | • «تَضَيَّفَ رَمْلةَ البَقَّار يَوْمًا». البقار: رمل بنجد أو بناحية اليمامة. ق (٦٥) ب (٢٦). | |
زهير بن أبي سُلْمى | • «رعى بغيث لأوراكٍ، فناصفةٍ من الشتاء». أوراك وناصفة: موضعان من بلاد تميم. ق (٢) ص٤٤. | |
امرؤ القيس | • «كأني وَرَحْلي … فوق طاوٍ بعِرْنانَ مُوجِسِ» ق (١٢) ص١٠١. | |
(ب) موضع الاختباء | ||
بشر بن أبي خازم | • «تَضَيَّفَهُ إلى أرطاةِ حِقْفٍ». الأرطاة: شجرة تنبت بالرَّمْلِ، تنمو عِصيًّا من أصلٍ واحدٍ يطول قدر قامة. ق (١١) ب (١٢) ص٥١. والحِقف: ما أعْوَج من الرَّمل. | |
امرؤ القيس | • «تعشَّى قليلًا ثم أنْحى ظُلُوفَهُ يثير التُّرابَ عن مَبيتٍ وَمَكْنَسِ». | |
«يُهيلُ ويُدْري تُرْبها ويثيُره إثارة نَبَّاثِ الهَواجرِ مُخْمس» ق (١٢) ص١٠٢. | ||
• «وبات إلى أرطاة حِقْفٍ كأنها إذا ألْثقَتْها غَبْيَةٌ بَيْتُ مُعْرِسِ». | ||
لما أصاب الأرطاةَ التي فيها كناسُهُ ذلك المطرُ فَنَدها انتشرت ريحُ بَعْره. | ||
وفاحت فكأنها بيتُ رجل قد أعْرَس بأهله في طيب رائحته. ق (١٢) ص١٠٢. | ||
زهير بن أبي سُلْمى | • «يُمْري بأظلافِهِ، حتى إذا بَلَغَتْ يُبْسَ الكثيبِ، تداعى التُّر، فانخرقَا» ق (٢) ص٤٤. | |
سُحَيْم | • «يُثير ويُبْدي عن عُرُوقٍ كأنها أَعِنَّةُ خَرازٍ جَديدًا وباليَا». | |
«يُنَحِّي تُرابًا عَنْ مَبيتٍ ومَكْنِسٍ رُكامًا كبيتِ الصَّيْدنانِيِّ دانيَا» | ||
يحفر عن عروق الشجرة، منها الطري الرطْب ومنها اليابس. ب (٧٤، ٧٥) ص٢٩. | ||
• «بوَعْسَاءِ رَمْلٍ» الوعساء: رمل ضخم ليس بالشديد. ب (٧٣) ص٢٩. | ||
عبيد بن الأبرص | • «يَنْفي بأطرافِ الألاء† شفيفها» ق (١٣) ب (١١). | |
الأعشى | • «تَضَيَّفَ أرطاةً يبيتُ في دفِّها ويُضافُ» ق (٣٢) ب (٢٨) دِفِّها: جنبها. | |
• «بات يقول بالكثيب … منكرسًا تحت الغصون» ق (٥٢)، ب (٣٢، ٣٣). | ||
• «يلوذ إلى أرطاة حِقْف …» ق (٥٥) ب (١٩). | ||
• «ألجأه قطرٌ وشَفانٌ لِمُرْتَكِمٍ من الأمِيلِ» ق (٧٩) ب (١٢) مُرتَكِم: مجتمِع، الأمِيل: الحبل من الرمل أو المرتفع منه. | ||
• «في دَفِّ أرْطاةٍ يلوذُ بها» ق (٧٩) ب (١٣). | ||
لَبِيد بن ربيعة | • «فباتَ كأنه قاضي نُذورٍ يلوذُ بِغَرْقَدٍ خَضِل وضَال» ق (١١) ب (١٧). | |
والغرقد:‡ شجر، خَضِلٍ: أخضر ندي، الضال: سِدْر البَرِّ. | ||
• «حَرِجٌ إلى أرْطاته» ق (١٦) ب (١٧). | ||
• «فباتَ إلى أرْطاة حِقفٍ تضُمُّه» ق (٣٥) ب (٢٦). | ||
بشر بن أبي خازم | • «تَضَيَّفَه إلى الكِناس». والكناس: موضع في الشجر تأوي إليه الوحش من البقر والظباء تستكِنُّ فيه من الحر والبرد. | |
• «فبات في حِقْفِ أرْطاةٍ» ق (١٢) ب (٨). | ||
(٨) الزمن | ||
(أ) وقت المكث والاختباء | (ب) وقت الخروج أو الهجوم | |
عَبْدَة بن الطبيب | • «باكره قانِصٌ» ﻣﻔ (٢٦) ب (٢٧). | |
المرقش الأكبر | • «بات بغيبٍ/بغيثٍ مُعْشِبٍ» ﻣﻔ (٤٩) ب (١٢). | |
بشر بن أبي خازم | • «باتت عليه بحربَةَ ليلةٌ فيها جَهامُ» ﻣﻔ (٩٧) ب (١٢). | • «فأصْبَحَ ناصِلًا منها ضُحَيَّا نُصولَ الدُّرِّ» ﻣﻔ (٩٧) ب (١٤). |
أبو ذؤيب الهُذَلي | • «فَغَدا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ» ﻣﻔ (١٢٦) ب (٤١). | |
• «فإذا رأي الصُّبْحَ المصَدَّق يَفْزَعُ» ﻣﻔ (١٢٦) ب (٤١). | ||
عَبِيد بن الأبرص | • «باتت عليه ليلةٌ رَجَبيَّةٌ» ق (١٣) ب (١٠). | |
امرؤ القيس | • «وباتَ إلى أرطاة» ق (١٢) ص١٠٢. | • «فَصَبحه عند الشروق غُدَيَّةً كلابُ ابن مُرٍّ أو كلاب ابن سِنْبِس» ق (١٢) ص١٠٣. |
• «فبات على خَدٍّ أَحَمَّ» ق (١٢) ص١٠٢. | ||
• «تَعشى قليلًا ثم أنحى ظُلُوفَه يثير التراب عن مبيتٍ» | ||
أي دخل في العِشاء، والعِشاء أوَّل الليل. ق (١٢) ص١٠٢. | ||
زُهير بن أبي سُلمى | • «لَيلته كلها حتى إذا حَسِرَت عنه النجومُ أضاء الصُّبْحُ فانطلقا» ق (٢) ص٤٤. | • «ليلته كلها حتى إذا حَسِرَت عنه النجوم أضاء الصبْحُ فانطلقا» ق (٢) ص٤٤. |
سحيم | • «حَمَتْهُ العَشَاءَ ليلةٌ ذاتُ قرةٍ» ب (٧٣) ص٢٩. | • «فَصبحه الرامي من الغَوْثِ عُدْوَةً» ب (٧٦) ص٣٠. |
النابغة الذُّبياني | • «فباتَ له طَوْعُ الشوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدِ» ب (١٢) ص١٨. | |
الأعشى | • «لم يَنَمْ ليلة التمام» ق (٣٢) ب (٣٠). وليلة التمام: كل ليلة كابدها صاحبها. | • «لكي يُصْبِحَ حتى أضاءه الإشراقُ» ق (٣٢) ب (٣٠). |
• «بات» ق (٥٢) ب (٣٢). | • «حتى إذا ما انجلى الصَّبَاحُ وما إن كاد عنه لَيْلُه يَنْجَل» ق (٥٢). | |
• «فباتَ عَذُوبًا للسماء» ق (٥٥) ب (١٨). | • «فلما أضاء الصُّبْحُ قامَ مُبادِرًا وحان انطلاقُ الشاةِ من حيث خَيَّما، فَصَبحه عند الشروق غُدَيَّةً كلاب …» ق (٥٥) ب (٢١، ٢٢). | |
• «وباتَ» ق (٧٩) ب (١٣). | • «وإذا ذر قَرْنُ الشمس أو كَرُبَتْ» ق (٧٩) ب (١٥). | |
لبيد بن ربيعة | • «فباتَ» ق (١١) ب (١٧). | • «فباكره مع الإشراقِ غُضْفٌ» ق (١١) ب (٢٠). |
• «وتَغَيَّبَتْ عنه كواكِبُ ليلةٍ مِدْجَان» ق (١٦) ب (١٧) مدجان: أُلْبِستْ غيمًا، دائمة المطر. | • «فتداركَ الإشراقُ باقي نَفْسِهِ» ق (١٦) ب (١٩). | |
• «فباتَ» ق (٣٥) ب (٢٦). | ||
• «فباتَ يريدُ الكِن لو يستطيعُه» ق (٣٥) ب (٢٧). | ||
بشر بن أبي خازم | • «فباكره مع الإشراقِ غُضْفٌ» ق (١١) ب (١٣). | |
• «تَضَيَّفَه … عَشِيٌّ باردٌ» ق (١٢) ب (٧) والعشي: آخر النهار حين تميل الشمس للمغيب. | ||
• «فبات» ق (١٢) ب (٨). | ||
• «ففاجأه من أوَّل الرأي غَدْوة» ق (٢٥) ب (١٣). |
انظر: لسان العرب، مادة «ألأ».
انظر: تاج العروس، مادة «ألأ».
انظر: الغريب المصنف، أبو عبيد القاسم بن سَلَّام، ص٤٢١.
انظر: لسان العرب، مادة «غرق».
انظر: المعجم الوسيط، مادة «غرقد».
تلك كانت أوصاف الثور التي تتراسل لدى الشعراء، هي لم تتراسل لديهم إلا لأنهم يَسْردون جميعًا أسطورةً واحدة. والشعراء في سَرْدهم للشخصيَّة (الثور) لا يتعدون أوصافًا بعينها إلى أخرى، بل إنهم غالبًا ما يعبِّرون عن الوصف الواحد بمُفردةٍ واحدة أو بتصورٍ واحد أو تصورات متعينة ومحْدودة.
فالثور في هذه الحكاية/الأسطورة ثورٌ «جائع»، ومن هنا فهو «طاوٍ» عند علقمة بن عَبْدة، وعند الأعشى وسحيم وبشر بن أبي خازم. وربما تكررت المفردة أكثر من مَرَّة عند شاعر بعينه في كل مَرَّة يَسْرُد فيها عن الثور على نحو ما نجد عند بشر بن أبي خازم. وعند الأعشى تتكرر المفردة في ثلاث قصائد، أما الرابعة فقد أقر فيها نفس الوصف ولكن من خلال قوله: «طَيَّانَ مُضطَمرٍ». وخلاف ذلك هو «هبيطٌ» عند عَبِيد بن الأبرص.
والثور أيضًا في هذه المشاهد ثورٌ «أبيض»، والسَّرْد الشعري يُبَنْيِنُها من خلال تصورات استعارية ثلاثة يأتي الوصف تحققًا من تحققاتها. فهذا اللون يُبَنْيَن إما من خلال بياض «الملابس» أو «السيف» أو «الكوكب والنجم».
-
فالأول نجده عند المرقِّش وعَبْدة بن الطبيب وسُحيم والأعشى ولَبِيد وبشر بن أبي خازم.
-
والثاني نجده عند عَبْدة بن الطبيب والنابغة الذُّبياني ولَبيد.
-
والثالث نجده عند سُوَيد بن أبي كاهل اليَشكُري وبشر بن أبي خازم والأعشى وعَبِيد بن الأبرص.
وما قِيلَ هنا ينطبق على بقية مفردات الحكاية أو مشاهدها؛ سواء ما يتعلق بما ذكرنا من نحو بقية أوصاف الثور، أو انفراده، أو كونه مسافرًا لا يُقيم بمكان واحدٍ، أو قلقه وتَوَفُّزه، أو تحديد مكان إقامته أو الموضع الذي يختبئ فيه أو وقت مُكثه أو خروجه، وهو ما بينَّاه في الجدول السابق، أو يتعلق بما لم نذكر من أوصاف الطقس الذي يُلجِئ الثور إلى المبيت أو المكث، أو وصفه حينئذٍ في اختبائه أو أوصاف الصائد أو أوصاف الكلاب أو تفاصيل المعركة.
ولعل بيان هذه الاختلافات وهذه التلاوين قد لا تكون مركز الاهتمام، فما يهتم به البحث هو توارد الأوصاف والمكونات، ما هو بصدده هو الإشارة إلى السرد الموجود في الشعر أو آليَّة عمل السرد من خلال المُخَيِّلة الشعريَّة. وإلحاح هذه المخيلة على السرد، بل على مسرودات بعينها هي هنا أساطير خلقها الشعراء بصياغاتهم الشعرية، ولمكونات هذه الأساطير رسوباتٌ مِيثولوجية في وعي الجماعة المنتجة والمستهلكة لهذا الشعر.
(٥) ولعل أوَّل ما يلفت النظر في حكاية الثور الوحشي تلك هو استقلالها الدرامي الواضح والمغلق، بمعنى أنه استقلال درامي كفيل بتفسير الأحداث وإعطائها منطقها الداخلي المكتمل. إن علاقات مكونات الصورة ببعضها على درجةٍ من الواقعيَّة يكفل لها أن لا نَمُد أبصارنا كثيرًا بعيدًا عنها لطلبِ تفسيرٍ لها. فما يجعلنا نَمُد أبصارنا باحثين عن روافد معرفية أخري خلف هذه الصورة هو هذا التواتر الملفِت، وهذا التكرار المُلِح على عناصر ومشاهد بعينها، فضلًا عن اتحاد السياق الذي ترد فيه.
فكم من مشاهد الحياة اليومية وصور العراك الممكن حدوثها في الواقع لم يَرْوِها أو يَسْرُدها الشعر الجاهلي، ولم يَتَرَصَّدها، أو يَتَحَيَّف لها السُّبُل كي يكتبها، أو تغدو موضوعًا فنيًّا يكتب فيه اللاحق بعد السابق دونما حَرَجٍ من التكرار أو خشية الابتذال.
لِمَ الإلحاح على الثور بهذه الهيئة وفي هذه الظروف الخاصة — كما يشير السيناريو — لِمَ اختياره في هذه المشاهد تحديدًا دونما غيرها، لِمَ العكوف على تفاصيل متشابهة وملامح موصولة بعضها بالأخرى؟
إن ما يقدمه الشعراء للثور من أوصاف وهيئةٍ بعينها هو سَرْدهم المبني على اختيار. لقد انتقلت حكاية الثور بصياغة الشعراء من المشاهد المجانيَّة العابرة وخضعت لصياغتهم؛ بل ربما لا نجد لها صياغةً أخرى بعيدًا عن الشعر، لقد خلق الشعر العربي أسطورة الثور كما خلق أسطورة الناقة والفرس والظليم والقطاة والليل والبرق والرعد، إن الأسطورة لا تتوقف بالضرورة عند ما هو إلهي أو خارق بالضرورة؛ فكل شيء يمكن أن يُصْبِحَ أسطورة … كما قال بارت، والشعر هنا هو ما يصنع الأسطورة، وما يتولى الشعراء سَرْده هو أساطيرهم التي يخلقونها. ربما كانت لأساطير الشعراء أبعادٌ دينيَّة أو طبيعيَّة، ولكنها على الإجمال كانت أساطيرهم الفنية التي يتولَّون سَرْدها.
فالأسطورة ليست فقط ما يصنعه التاريخ؛ بل منها أيضًا ما تصنعه أيدينا، ومن كلامنا ما يفترسه الاستخدام الأسطوري، أردنا أو لم نُرِد، فالأسطورة مَرَضٌ في اللغة كما يقول «كريمر».
والشعر لا يتعامل بشكل مجاني مع حكاية الثور وغيرها من الحكايات؛ لأنه ليس تسليةً أو تزجية وقت فراغ، أو تكرارًا لكلامٍ أجوف أو التماسًا لكسبٍ مادي، أو مُجَرد صياغة إنشائية مختلفة؛ وإنما هو عندهم «طريقة في الحياة والوجود».
لقد تَعَدى الثور الوحشي — على سبيل المثال — في صراعه مع الكلاب فكرة الرمز، وتغلغلت الحكاية في عمق التقاليد الفنية لتصبح أسطورةً للإنسان في علاقاته بالكون والطبيعة والحياة. إنها الأسطورة يتعاور عليها الشعراء كُلٌّ بصياغته، وفي كل سَرْدٍ جديدٍ لها كان نشءٌ جديدٌ يتكون. ولكَم عَرَفنا صياغات غاية في التنوع للأساطير الفرعونية واليونانية، وكل صياغة تقدم حكايتها الخاصة ودلالتها المعينة. ربما كانت أسطورة أوديب معلومة ولكن كل حكيٍّ لها كان يُكيِّفُها بشكلٍ خاص، ليقول شيئًا بعينه يرى الأسطورة تقدمه وتُمَثِّله. إن حكاية الثور التي تعاور عليها الشعراء لم تعد هي هذه الحوادث العابرة التي يرصدها غير واحدٍ، لقد انضافَ إليها سَرْد الشعراء لها.
إن الشعر يجعل من حكاية الثور أسطورةً بامتياز، وهذا بفضل ما يفرضه الانتظام والتواتر على المعنى من مدلولٍ إضافي، فهي صالحة لأن تكون معنًى لخطابٍ ما، ودالًّا لِكُلِّ جديدٍ في الآن نفسه.
(٦) كثيرٌ من الشعراء كتب قصة الثور الوحشي وصراعه مع الصائد والكلاب، تطابقوا فيما تطابقوا فيه واختلفوا فيما اختلفوا، لكنهم في كل الأحوال التزموا بسيناريو عام لم يخرجوا عليه. لقد استرفدوا الحكاية الواحدة ليقولوا أشياء مختلفة اعتمادًا على قدرةِ الحكاية على الرمز والتدليل، وعلى طاقةِ الأسطورةِ على أن تقدم معنًى أسطوريًّا يتجاوز معنى مكوناتها اللغوي. وهذا الاستقلال الذي تأتي عليه مشاهد الثور الوحشي وهذه الاستمراريَّة التي تأخذها هذه المشاهد في وعي الشعراء؛ سواء من حيث صياغتها أو بناؤها أو موقعها الوظيفي داخل القصيدة؛ بعض ما يدعونا إلى ربط حكاية الثور الوحشي بعمقٍ أبعدَ يصل فيما بين وعي الشاعر ووعي الجماعة نفسها وعصورٍ ومشاهد ومُعْتَقَدٍ بعيدٍ في القِدَم، لم يعرف الانفصالَ بين الطبيعة والإنسان، حيث تُسْدي الطبيعةُ الإنسانَ، ويُلْحِم الإنسانُ الطبيعةَ.
ولن يكون الاتِّساق الموضوعي أو المنطقي للأحداث مانعًا تمامًا من تعليلات وارتباطات ماورائيَّة، ما دامت هذه الأحداث تنشعب بشكل أو بآخر في حكايات أسطوريَّة؛ بل إن كل «موتيفة» في حكاية الثور — ها هنا — مُركمة بطبقات «جيولوجيَّة» من استخدامات أسطوريَّة، على ما سنُبين بعد ذلك.
وليس معنى هذا أن حكاية الثور ليست مثالًا على الوعي البدائي، كما أنها أيضًا ليست أسطورةً من أساطير الحياة اليوميَّة كما يدرس بارت، وإنما هي أسطورة وعيٍ فَنِّيٍّ رشيدٍ يخلط اليومي بالتاريخي الديني ويصوغ منه الكُلِّي الأسطوري، ويعيش الواقعي من خلال التمثيلي، كما يكتب التمثيلي من خلال الواقعي.
وكل كتابة عن حكاية الثور كتابة حول «تيمة» متكررة، وبالتالي هي كتابة حول كتابة قصائد أخرى كثيرة لهذه «التيمة». وجميع هذه الكتابات عن الثور، وكل ما ورد من حكايات تمثل صراعه مع الكلاب هي أصوات تتكلم داخل النص الواحد. وكل كتابة تعود دومًا إلى ما كانت تعنيه هذه الكتابات المُتَقَاطعة معها، ما كانت تعنيه وما كانت تمثله وما كانت أيضًا تكونه من تشكيل صُوَري داخل القصيدة، وتظل الكتابة مندفعة نحو تفردها الخالص المتوهَّم وصياغتها الوحيدة المفترَضة.
وعلى هذا النحو أبدًا لا تموت حكاية الثور، وليس هذا إلا لأنها نجت لتوِّها من الموت عبر إعادة إنتاجها، إن كل الصياغات السرديَّة لها تعبر الممات والتنحي إلى الحياة في كل سرد جديد.
ولما كانت الحكاية تقوم على «موتيفات» مُقَدَّسة، وكان لِكُلٍّ منها بالطبع سرودها وحكاياتها التي قد تستمد منها دلالاتها الأصلية في تكوينها للحكاية؛ كانت حكاية الثور على هذا النحو تحوز سرودًا واسعة حول ملامح معتقدات أسطورية متنوعة. وصياغة حكاية الثور على هذا النحو الثابت الأركان يقف دليلًا على غياب سَرْدٍ يتناقَلُ ضِمْينًّا عبر كل تحقق من تحققاته الشعريَّة.
وإذا كان الثورُ الوحشي في القصيدة الجاهلية أسطورةً صنيعة الشعراء (أسطورةُ وعيٍ فَنِّيٍّ)، فقد تلاقى معها الثور الوحشي بما هو اعتقاد ديني (أسطورةُ وَعْيٍ بدائيٍّ). وأضحى الوعي البدائي رافدًا للوعي الفني في النصوص الشعرية. وهنا أرفدت سرودهم الأسطورية سرودهم الشعرية.
-
فهو رمزٌ «للقوة» تستند إليه الأرض في أساطير صورة الكون في المخيلة العربية٢٥ فهو يحمل الكون على ظهره أو على قرْنه.
-
وقديمًا كان الثور فيما بين النهرين نعتًا «لإله الخصب الكبير»، كما أصبح رمزًا «للخصوبة» في كل حضارات عالم المتوسط تقريبًا.٢٨
-
لقد كان الثور هو الحيوان المقدس للإله آتوم Atum عند المصريين القدماء، وآتوم هو الروح التي لم تُشَكَّل بَعْدُ، تلك التي وَلدت جميع الكائنات. وَوَحَّدَه الكهنة بكبير الآلهة الشمسية «رع».٢٩
-
كذلك كان الثور المُقَدس «أبيس» Apis رمزًا «للإخصاب» عند المصريين القدماء، وتَنَقَّلَ بين عِدَّة آلهة؛ إذ عُبِدَ في «منف»، حيث كان إله هذه المدينة هو «بتاح»، وسرعان ما اقترن «أبيس» بذلك الإله وصار رمزه و«روحه المباركة»، ثم استعار ذلك الثورُ قرصَ الشمس من الإله «رع» وحمله بين قرنيه، وفي مراحل تالية اندمج أيضًا في أوزيريس فتكون منهما إلهٌ جنائزي.٣٠ يقول معجم الحضارة المصرية القديمة أيضًا: «اندمج» أبيس «في أوزيريس فتكوَّن منهما إله جنائزي. ومنذ ذلك الوقت اتخذ موت العجل «أبيس» أهمية بالغة، فَيُدْفن بجنازة رسميَّة وسط جمع من العُبَّاد المؤمنين، الذين كانوا يُحْضِرُونَ له الهدايا من كافَّة أرجاء المملكة. وبمجرد أن يموت أبيس، يعود فيولد من جديد، فيبحَثُ الكهنةُ في الحقول، ويفحصون القطعان للعثور على ذلك الإله، الذي يمكن التَّعَرُّف عليه بعلامات خاصَّة فوق جلده الأبيض: عبارة عن بقعة سوداء في الجبهة، وعلى الرقبة، وعلى الظهر، وغير ذلك. وعندما يعثرون عليه يَحل الفرح محل الحُزْن، ويُتَوج العجل الإلهي في الحظيرة المُقَدسة بمنف، حيث يعيش مع أمه يحيط به حريم من الأبقار».٣١ ولعلنا نلتفت هنا أيضًا إلى هذه العلامات المخصوصة التي تميزه، وكأن كل ثور مقدس أو يرتبط بالمقدس لا بُد له من تعيين الصفات التي تخرجه هو بعينه بعيدًا عن بقيَّةِ أفراد جِنْسه.
وبهذه الفكرة ينضاف بُعْدٌ جديدٌ لأبعاد القوة والإخصاب، يتمثل في هذا البُعْد الجنائزي الذي يمثله الثور المُقَدس باندماجه بأوزيريس نفسه، وسوف يظهر هذا البُعْد أيضًا للإله «بَعْل» في نصوص الحضارة الأوجاريتيَّة — على ما سنُبين بعد ذلك — متحولًا كذلك لإله جنائزي يعود بعد الممات. إن الثور في نصوص الأسطورة القديمة التاريخيَّة لا يحتل جانبًا من جوانب الصورة دون الأخرى، بل للموت نصيبٌ في أساطيره أيضًا، وليس الأمر قاصرًا فقط على القوة والحيويَّة والنشاط، كما هو الأمر في الشعر أيضًا.
-
وكما مَثَّل صيدُ الثور الوحشي جِسْرًا بين ما هو واقعي وما هو نَصِّي تخيِيلي — مَثَّل مشهد المجموعة النجميَّة المسماة بالثور — ومجموعة الثور «هي مجموعة من الكواكب التي تتبع النجم الأكبر المنير (الثور)، وكأنها تطارده، ومنها نجمان يُعْرَفان بالكلبين، ونجم آخر أو مجموعة نجوم تتمثل في هيئة صائد جَبَّار قد أطْبَقَ على الثور أو النجم الأكبر المنير».٣٢ مَثل هذا المشهد جِسْرًا بين هو مُقَدس وما هو نصِّي تخييلي، على ما بين الجسرين من علاقة مَاديَّة طبيعيَّة.
-
وكان الثورُ كذلك رمزًا للقمر، للإله «المقه» في سبأ وفي مأرب، وهو كذلك أيضًا في النصوص اللحيانية والثموديَّة. «وقد نَصَّ فيها أصحابُها على تسمية القمر بالثور، كما اتخذوا له في بعض المناطق صنمًا على شكل عجل بيده جوهرة، كانوا يعبدونه ويصومون أيامًا معلومةً كل شهر، ثم يأتون له بالطعام والشراب والفرح والسرور … وكان السبئيون يرمزون للقمر في كتاباتهم برأس ثور».٣٣ وهو كذلك عند غير العرب من الشعوب السامية رمز للإله «فمن ألقاب «إيل» إله الكنعانيين والعبرانيين أنه «إيل ثور». بل إن بني كنانة على ما يذكر الألوسي عبدوا الثور».٣٤٣٥⋆
وقبل «بَعْل» نشير سريعًا للإله «إيل» في الأساطير الأوجاريتيَّة، فهو عندهم أبو الآلهة وهو «الملك أبو السنين»، و«الأب المتعالي»، و«الملك» المتربع — عندهم — على قمة مَجْمَع الآلهة الكنعانيَّة، وإيل إله يُرْمَزُ لقوى الخِصب فيه بالثور، ويقيم عند منابع الأنهار!
أما «بَعْل» فهو وريثه في حُكْم السموات والأرض؛ حيث يرث حكم عالم الأموات الإله «موت» ويرث الإله «يم» حكم عالم البحار والمحيطات. وبعل في بعض النصوص هو ابن الإله إيل، وعلى الدوام يُلقَّب بالثور ويُرْمَز له به، هو مما انتزعه من أبيه الإله «إيل» عندما خلفه على العرش. و«بَعْل» هو إله البرق والرعود، عندما يُدْعى «حَدَد»، وعندما يُدْعى «راكب الغيوم» فهو إله الخصب. وقد وصفته رسائل «تل العمارنة» بأنه «إله الصاعقة». إنه إله المطر والصواعق والعاصفة والخصب، فالصواعق والعواصف والمطر قيد أمره ورهن إشارته، إنه يُوَزِّعُ الأمطارَ في مواسمها وفصولها لإخصاب الأرض وإنبات الزروع.
ولبعل عَدُوَّان هما «يم» و«موت» كما للثور الوحشي عدوان: الكلاب والصَّياد. يُجْهِزُ بَعْل على عَدوه الأول «يم» وكذا يُجْهِز الثور الوحشي على كلاب الصيد، وتتناثر أشلاء «يم» ويُقْضى عليه أو يؤسر، وكذا كلاب الصيد بين قتيلٍ وجريح وفارٍّ. وفي الأسطورة أن الإله «بَعْل» يضرب «يم» بأحد سلاحيه («ياغروس» أي المطارد) في صدره، لكن خصمه لا يسقط، ثم يضربه على جبهته بسلاحه الآخر («عيمور» أي السائق) فيسقط على الأرض، يتغير وجهه، وترتخي مفاصِلُه، فيمزقه بَعْل ويبعثر أشلاءه. ولكن يبدو أن هذا التمزيق ليس علامةً على الموت الكامل؛ إذ تقترح عشتروت مصيرًا آخر هو الأسر. وهنا يضرب بَعْل (الثور) عدوه ضربات عِدَّة بعضها يُدْمي ولا يقتل، وبعضها الآخر يمزق أشلاءه ويبعثرها ولعلنا نتذكر مصير الكلاب. أيضًا بعل (الثور) يحارب بهراوتين صنعهما له رَبُّ الحِرَف، وهما في سَرْدنا الشعري موازيان لقرنَي الثور.
ولقد تم تدشين أسطورة «بعل» بوصفه إلهًا جنائزيًّا وربطه بالموت — كما ارتبط الثور بالموت في قصائد الرثاء — وهنا تتشابه أسطورة بعل مع أسطورة إيزيس وأوزيريس، وهذه العودة الثانية للحياة بعد البحث المضني عن جثته، فالإله «إيل» والإلهة «أناة» يقيمان الحداد على «بَعْل» عندما يعلمان باختفائه. ﻓ «إيل» ذَر على رأسه أوساخ الحداد، وعلى جمجمته الغبار الذي يتعفرونه، وغَلَّق كليته بكيس، وجَرَّح جِلْدَ جَسَده بحجر، وجَزَّ لحيته بالمقص، وجَرح خديه وذقنه في مواضع ثلاث، وشَق عضلات ذراعه كما يُحْرَث الحقل، كما جَرح صِدْره وجَرح ظهره في ثلاثة مواضع، فأصَبَح كأرض الوادي، ثم رفع صوته وَصَرخ: لقد مات بَعْل. وكذا تذهب «أناة» لتفتش عن أخيها بصحبة القنديل السماوي «شباش» ويعثروا عليه.
وتُصْعِدُه «أناة» إلى قمة جبل «سافون» حيث تقام له مراسيم جنائزيَّة، ويتم اقتراح تنصيب أحد الآلهة «أشتار» محل الإله «بعل»؛ على جبل «سافون»، ولكن يبدو ألا أحد يَسُدُّ مَسَدَّ «بَعْل»؛ فقد جلس «أشتار» على عرش «بَعْل» غير أن قدميه لم يصلا إلى موطئ القدمين، ولم تصل رأسه إلى أعلى العرش، ويعود «بعل» مَرَّة أخرى إلى الحياة، وهو مجيء يحدث بعد رَعْدٍ شديد، ويستمر النزاع أعوامًا بين «بعل» و«موت» ينتهي بانتصار «بعل».
وبعل في صراعه مع «يم» و«موت» وحيد منفرد — كثور الحكاية في الشعر — فقد تخلت عنه الآلهة وأسلموه لعدوِّه. فقد أرسل الإله «يم» تهديدًا إلى مَجْمَع الآلهة، بخاصَّةٍ إلى كبيرهم الإله «إيل» يطلبُ تسليمَ «بَعْل». هنا يخاف الإله إيل سطوة «يم» معترفًا بقوته، ويُذْعِن له، وتذهب دعوةُ بعلٍ الآلهةَ إلى الشجاعة سُدًى، وعبثًا يحملهم على المقاومة.
وهنا لا يبدأ «بعل» بعدوان، وإنما يتصدى لمن يريد إزهاق روحه، تمامًا كما بينَّا في سيناريو صراع الثور مع الكلاب، وكذا عندما يتخلى عنه الجميع يغدو أيضًا كالثور الوحشي في سردنا الشعري وحيدًا منفردًا.
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (الصافات: ١٢٣–١٢٥).
ويبدو أن هذه الأبعاد الأسطورية لا تتوقف عند حشد الموتيفات ذات البُعْد الأسطوري، فمِن حين لآخر تطفر هذه التعبيرات التي تخلع على الثور نفسه إهاب التقديس. يقول امرؤ القيس عن أمر الكلاب معه:
والمقدَّس: الراهب الذي يأتي بيت المقدس. لقد مَزقت الكلابُ الثور كما مَزق الصبيان أثواب الراهب تَمَسُّحًا به والتماسًا للبَركة. وكذا يقول لَبيد بن ربيعة العامري:
ويقول النابغة الذُّبياني:
إنها إقامة ولواذٌ حافل بالسكينة كما يتبتَّل العابد في حَرَم معبوده يقضي صلاةً ويقدم قُرْبانًا جعله نَذْرًا لتلك القوى العليا القاهرة. ومن حين لآخر تبدو هذه التعبيرات التي تصوره في هيئة النجم أو الكوكب لونًا وحركةً في الأفق. على ما يشير الجدول السابق في قائمة اللون. فهو «كالكوكب الدري» عند عَبِيد بن الأبرص. و«انصاع مُنْصَلِتًا كالنجم» عند الأعشى. وعنده أيضًا أنه «أدْبَرَ كالشِّعْرى وُضوحًا ونُقْبَةً» وكذا «تخالُه كوكبًا في الأُفْقِ ثَقابَا». وعند بشر بن أبي خازم «كأنه كوكبٌ يَقِدُ». وكذلك عند أَوْس بن حَجَر «انْقَضَّ كالدُّرِّيِّ». ويشبهه أبو ذُؤيب بأنه «كوكبٌ في الجو مُنْجَرِدُ».
(٧) وحكاية الثور على الدوام مفعمة بالرموز والتأويلات؛ تتشكل وتتبَدل بحسب مسار كل سياقٍ نَصِّيٍّ تأخذه داخل كل قصيدة. وهي حينئذٍ تعيد تركيب مفرداتها ومكوناتها على أنحاء خاصَّة، فتحذف بعض أركان الحكاية وتركز على بعضها الآخر، وتفيض في تفصيلات أخرى، وخلاف ذلك تشتغل على طبيعة العلاقة بين مكونات الحكاية، كأن تجعل الثور يُضْطر إلى المبيت في حِقف أرطاةَ، أو تتجاهل الأمطار والأنواء وتجعله جاثيًا فقط في حِقفها وكأنه مُسْتسلم لِقَدَره، أو أنه اختياره، أو تجعله في غاية الضَّجر من ذلك أو في رُعْبٍ وقلقٍ مشوب بحذر وهموم في أحيانٍ أخرى وما إلى ذلك. إن الاشتغال على الدوافع والأسباب أو تلك العلاقة القائمة بين مكونات الحكاية له أهمية قُصْوَى في تكوين الحكاية واختلافها بين النصوص. من هذه الأشياء وغيرها تتمتع حكاية الثور بحيويَّة بنائية تجعلها قادرة بقوة على إعادة طرح أشياء مختلفة على الرغم من اتحاد السيناريو الخاص بها عبر جميع القصائد.
-
مثالًا للدهر الذي لا يفْلِتُ من أحداثه أحد.٤١
-
أو قصةً رمزيةً يتناولها الشاعر من هذه الصحراء التي يضطرب فوق رمالها، ويتحدث من ورائها عن هذه الرحلة التي تندرج قصة الثور عادة في إطارها، التي هي حينئذٍ رحلة الحياة بما يختلف على المرء فيها من الأحزان والمخاوف والرضي والأمن والحنين والخيبة وما سوى ذلك.٤٢
-
أو تجادل حتميَّتَين؛ حتميَّة القدر، وكذا حتميَّة الصِّراع والمغالبة.٤٣
-
أو مُجَسِّدًا لطريقة في مواجهة الزمان؛ حيث التفتح على العالم، والإيمان بالحياة، والنظر للموت نظرة إجلالٍ وقبولٍ بالمصير والصِّراع المقسوم. إنه طاقة للوضوح والقصد والسذاجة الحلوة في مواجهة الحياة. إن الثور حينئذٍ يَمْثُلُ باحثًا عن حريته أمام الدهر، ومؤمنًا بأن النصر المحض النقي وهمٌ.٤٤
المبحث الثالث: الحمار الوحشي
- (١)
ثمة حمار وحشي شديد منفرد مع أتانه تُعاسِره حينًا وتُعانِده، فيطاردها ليستحوذ عليها، أو هو وسط أتُنٍ تَحُوطه ويتولَّى أمرهُن.
- (٢)
قضي هذا العير الشتاء مع أتانه/أُتُنِه في خصْبٍ ونعمة وسكينة إلى أن تغيَّر الحال فاشتد الحَرُّ وغارت المياه.
- (٣)
ظل يمسكها/يمسكهن إلى أن يوردها/يوردهن الماء في المساء.
- (٤)
عند الماء كان الصائد الماهر منتظرًا صَيْده، قد تنعم الأتان/الأُتُن بالماء قبل أن يفزِّعها الصائد، الذي يرميها فيخطئ مرماه.
- (٥)
تفِرُّ الأتان الواحدة، ويهوي العَيْر عليها يحميها من سهم آخر ربما يلحق بها الأذى، أما إذا كُنَّ عِدَّة أُتُن فيتفرقن من أثر ضربة السهم المخطئة.
وتأتي القصة على هذا النحو في مقام تشبيه سرعة الناقة؛ فهي حينئذٍ مثلها مثل هذه الحُمُر المُفَزَّعة في عدوها. وثمة سياق آخر ترِد فيه القصة على هذا النحو من السيناريو، غير أن اختلافًا طفيفًا يعتريه، ولكنه أساسي للغاية، وهو أن الصائد يُلحق الموت بالحُمُر؛ تعبيرًا عن هذا الدهر الذي لا تخطئ سهامه، وتلك الحتمية التي هي واقعة بلا شك. وهذا السيناريو الأخير لا نكاد نجده إلا عند شعراء «هُذَيل»، على نحو ما نجد عند «أبي ذُؤيب الهُذَلي»، و«أبي خِراش»، و«أسامة بن الحارث»، «وصخر الغَي».
(٢) وفيما يلي نتابع بعض تحققات هذا السيناريو عبر نصوص المفضليات:
-
«عِلْجٌ»: حمارٌ شديد الخَلْق، تُباريه في عدوه «أتانٌ سيئة الخُلُق، قد حَمَلَتْ، وأشرقت أطباؤها باللبن فهي تُجِدُّ بالإباءِ عليه والهَرَب، وهو يجتهد في المحاماة عليها والطلب».٤٨ ب (٩).
-
هذا العير يجتهد في قطع الأتان إلى حَيِّزه، ويحول بينها وبين جحشها الذي يتلوها غيرةً عليها، وقيل هو «جحشها» لأنه ليس منه، غَلَبَ أباه على أُمه. وقيل هو ابنه، ولكنه ينفي جحاشه من غيرته. وفي كُلٍّ هو يجتهد في الاستحواذ عليها، وهي لا تكفُّ عن معاندته ودفعه عنها ضجرًا به وخوفًا على حملها. ب (١٠).
-
ويظل عاليًا عليها مثل الربيئة (الطليعة الذي يرقب العدوَّ من مكانٍ عالٍ لئلا يَدْهَم قومه) مخافة السِّباع والقُنَّاص والفحول أن تدنو منها، منتظرًا مغيب الشمس حتى يوردها الماءَ عشيَّة اليوم الخامس من ظمئها. ب (١١، ١٢).
-
وتعدو الأتان إلى مخارم الجبال (الطرق في الجبال وأفواه الفجاج)، كالدلو انقطع رشاؤها فسقطت في البئر، وهو يعدو وراءها. هو يعدو، وهي تسابقه. ب (١٣).
-
وقد عَدَوَا حتى وردا ماءً فوقه غاب. وإذا كان الماء في غابٍ كان أهيَبَ لوروده. ب (١٤).
-
وهنا وجدا على جنب الموضع الذي يُنْحَدر إلى الماء منه هذا الصائد: «صفوان» لاصقًا ببيته منتظرًا لصيده. ب (١٥).
-
ورمى الصائد الأتان فأخطأها فَفُلِّلَ سهمه (تَثَلَّم) ب (١٦)، وإنما رمى فأخطأ ليكون أشدَّ لذُعر الحمار، وإذا ذُعِرَ كان أشد لعدوه.
-
ولَما وَلَّتْ أهوى الحمار الوحشي إلى موضع المخافة منها واقيًا إياه بنفسه، يحميها مُصَوِّتًا متوعدًا في المدافعة عنها. ب (١٧).
-
وعلى الرغم مما يفعله من حمايتها، فهي تَفِرُّ وتقرع صَدْره تارة بالجنادل وتارةً بالحوافر، لِما جَرَت عليه من عادتها في مدافعته إذا أشرف عليها. ب (١٨).
-
ولا شيء يدانيه في حُسْن أخذه وفيما فَعَل لَما علا مَوْضعَ الرِّدْفِ من ظهر الأتان برأسه.
-
عَيْرٌ ضامِرٌ، غليظٌ، كريهُ الوجه، في بطنه بياض. ب (٨).
-
يَمنع من الماء أُتُنًا ثلاثة، عطاشًا، هُن كالقَنا لصلابتهن أو لطولهن أو طول أعناقهن ب (٩).
-
رعى العَيْر أُتنَه الثلاث القُفَّ (ما صَلُبَ من الأرض واجتمع)، وبُقولَ التناهي (مفردها تَنْهِيَة، وهي موضع من الأرض مطمئن، له حاجز يَنْهى الماء أن يخرج منه. وما ينبت في التناهي من البقل أبطأ ذبولًا من سواه، لأنه ينبت في الماء). منعهن من الورود اجتزاءً بالرُّطبِ، فلما اشتد الحَرُّ ظلت عطاشًا. ب (١٠).
-
وظلت الأُتن تضيق عيونها تراقب الشمس؛ إذ لا يوردها فحلها الماء إلا عند الغروب ب (١١).
-
ولما رأى العَيْرُ الليلَ جَمَعَ أُتنَه يسوقها إلى الماء. ب (١٢)
-
وظل الليل معها يقضيه — على صعوبته — بين طَرْدٍ وعَضٍّ. ب (١٣).
-
وعند تباشير الصباح أوردها شرائع الماء (مثل الفُرْضة تكون في النهر يُخاض منها إلى الماء) تدفع عنها ما اجتمع على الماء مما يُجْرَفُ إليه من يبس الكلأ وغيره. وقد تراءت النجوم في جوانب هذه الشرائع التي علا ماؤها لكثرته وقلَّة الواردة، فكأنها رُكِّبَت فيها سماءٌ، فَتُرَى النجومُ في الماء. ب (١٤، ١٥).
-
وعند الماء كان الصائد: «أبو عامرٍ» ينتظر أن يظفر بها، ويؤمِّلُ أن تقف ساعةً فيرميها. وبكفه قوسٌ مُعْوَجَّة، اتُّخِذَت من قضيبٍ من شجر الحرَم، تُصَوِّتُ عند انطلاقها «عَزْفًا» «نئيمًا» وهو سهم دقيقٌ عليه وعلى ما من القوس أثر الدم. ب (١٦–١٨).
-
رمي الصائد الأُتُن فأخطأها، وتفَرَّقت مذعورة، وكادت تخرج من أُهُبها لِذُعْرها، وشِدَّة عَدْوِها. ب (١٩).
-
غليظٍ «جأبٍ»، «أطاع له» النبت؛ إذ هَيَّأ له أرضًا كانت مسيل ماء من الجبل إلى الوادي، أنهلتها السماء مرارًا، فاكتنز وكان كالحبل شديد الفتل. ب (٢٠–٢٢).
-
هذا الجأب يعدو خلف أتانٍ طويلة سمينة، طويلة العنق أيضًا، لامعة، عليها آثارٌ من البياض. ب (٢٣).
-
فإذا ما صاروا إلى السَّهْل ظهرت عليه وسبقته، ولا يزال يظهر عليها في بعض المواضع فيساويها أو يكاد يسبقها. ب (٢٤).
-
ومالت عن ماء «قَوٍّ»، وصَرَفها غِلَظٌ من الأرض عن السَّبْقِ. ب (٢٥).
-
وغدا أقربُ موردٍ إليها «أُثال» أو «غُمازة» أو «نِطاع». ب (٢٦).
-
فأوردها «الجأبُ» الماء والليل داجٍ ومع انشقاق الصبح. ب (٢٧).
-
فصبحها صائدٌ كالحية الداهية من «بني جِلَّان»، ليس له من متاع غير قوسه وأسهمه. ب (٢٨).
-
إذا لم يجزر لأهله لحمًا من أول ما يطالعه من الوحش جاعوا. ب (٢٩).
-
فأرسل سهمه المرهف إليها فخانه الوتر بانقطاعه. ب (٣٠).
-
فَلَهَّفَ الصائدُ أُمَّه على ما أخطأ، وأخذ الحمار الوحشي يعدو، حتى لم يبقَ له ذخيرة. ب (٣١).
-
عَيْرٌ أسودُ إلى حُمْرة، له أُتُنٌ أربعُ جَفَّت ألبانُها. ب (١٦).
-
يُرَدِّد نهاقه في شواربه (مجاري الماء في الحلق)، خبيث كأنه أُهْمِلَ مع السباع. ب (١٧).
-
رعى الربيع، ونَشطه الخِصْب فقد أقام في مرعى يستقر ماء المطر فيه، فدام فيه فترة لا يُقلِعُ، هذا العَيْر طاوعته أتان طويلة. ب (١٨، ١٩).
-
وبقي العَيْر مع أُتنه بهذا الروض مُدَّة اجتزائهن بالرُّطب عن الماء، وبقيت الأتن مع عَيْرها تتكادم لنشاطها، وذهب العَيْر في مُزاولة الأُتن ومغالبتها، من الجِدِّ والهزلِ، في كُلِّ مَذْهب. ب (٢٠).
-
ولبِثْن معه إلى أن غارت مياه «الرُّزون» (أماكن مطمئنة في الجبل يكون فيها الماء)، وما أَشَد الحَرَّ حينئذٍ! ب (٢١).
-
فذكر الحمار هذه العيون القديمة، فشاقه في هذا الأمر شؤم، وأقبل يتتبع آثار هذا الحَيْن (المَوْت)، لما أُرْصِد له من مكائد القُناص، فكأنه يحسُّ في الورود شَرًّا. ب (٢٢).
-
فَفَرَّقَهُن، يَطْرُدُهُن فنونًا من الطَّردِ، وأقبل بِهِن من هذا الماء القليل عَبر طريقٍ واسع مبسوط. ب (٢٣).
-
وكان الأُتن، وقد جمعهن، ونحا بهِن نحو الورود، بهذا الموضع (جزع نُبايع) وتلك المواضع المتصلة «بذي العرجاء»؛ إبلٌ انتُهِبَتْ وضُمَّ بعضُها إلى بعض لئلا تنتشر. ب (٢٤).
-
والعَيْر في كل ذلك يدبر أمر هذه الأُتُن ويملك أمرها، فكأنه صاحب ميسر وهي معه كالقداح، يديرها كما يشاء، يدفع بها ويُفَرِّق. وهي مطيعة لتدبيره منقادة له. ب (٢٥).
-
وهو في كل ذلك شديد الشكيمة حازم قوي حَسَن السياسة، كأنه الحَجر الذي يدوس به الطبَّاعُ سيفه ويجلوه به. ب (٢٦).
-
وَرَدَت الحُمُر الماء في شِدَّة الحَر عند السَّحَر. ب (٢٧).
-
ومَدَّت أعناقها لتشرب من ماء صافٍ ب (٢٨).
-
وشربت الحمير ثم سمعت ما يريبها من قرع قوسٍ وصوت وتر. ب (٢٩).
-
وأنكرت الأُتُنُ الصائد فنفرن إلا واحدة لزمت هذا العَيْر. ب (٣٠).
-
فهي متقدمة طويلة العنق، وهو هادٍ غليظٌ منتفخ الجنبين. ب (٣١).
-
فلما أمكنت الحُمُر من نفسها رماها الصائد فأنفذ سهمه في جنب أتانٍ «نجودٍ عائطٍ»: طويلة لم تحمل أعوامًا (سنتين أو ثلاثًا). ب (٣٢).
-
رمى فأنفذ سَهْمَه أقراب هذا الحمار، ورَدَّ يَدَّه إلى خلفٍ ليأخذ سهمًا آخر. ب (٣٣).
-
فَقَسَّمَ الحتوفَ بينها، فهي تجري وتعثر والسهام فيها، وأَذْرُعها مما سالت من الدماء عليها كأنها كُسِيَتْ بُرُودًا حُمْرًا.
-
حمارٌ شديد العدو لم يزل في خِصْبٍ، يروث على البقل حتى جاء الصيف واشتد الحَرُّ فهاجه. ب (٣١–٣٣).
-
وهو حَرٌّ شديد يحترق منه صدر الجُنْدَب (نوعٌ من الجراد يَصِرُّ ويقفز ويطير)، فيضرب برجله في جناحِهِ فتسمع له صَريرًا.
-
ظَل هذا العَدَّاءُ منتصبًا على مكان مرتفع يختار أمرًا لنفسه؛ أيورد أُتنَه «سُمْنانَ» أم يستمر إلى ماء «لغاطٍ»؟ ظل هكذا قد حَبَس أُتُنَهُ حتى يجيء الليل فيرسِلُهُن، فهن ينظرن إلى الوحش بالفلاة يشتهين أن يكُنَّ معهن، وهو يفاليهن (يكدم أعرافها أو يعض أعناقها) أَمْنًا وتشاغُلًا عن طلب الوِرد.
(٣) لعل السيناريو السابق، فضلًا عن التحقُّقات الشعرية ممثلةً في نصوص المفضليات السابقة تكشف عن أن ثمة قاسمًا مشتركًا بين اختيار كل من الثور والحمار؛ إذ اختار الوعي الشعري ما هو «وحشي» للكتابة عنه، ليبدو تمايُز العالمَين؛ عالم الوحش وعالم الإنس (الأهلي، المُرَوَّض، المُدَرَّب)؛ محل اهتمام وتأويل.
إن الحمار الوحشي يشترك مع الثور الوحشي في الحَذَر وتوجُّس الخطر؛ فالثور يؤرقه مشرق الشمس، حيث تصاحبه كلاب الصائد، والحمار يؤرقه مورد الماء حيث تربُّص الرُّماة. إن «الإنسان/الصائد» هو الخطر المحدق بالثور وبالحمار، وكلابه هي خَطَرٌ آخر على الثور، ربما يبدو أحيانًا هو الأوَّل.
نعم تغيب عَنا هذه الأبعاد المُقَدَّسة التي تُدَلِّلُ مباشرة على الطابع الطقوسي، ولكن تظل المساحات الواسعة لتقاطع سيناريو وقائع صراع الحمار الوحشي وأُتُنه مع الماء والصائد مَدْعاةً للربط بسيناريو الثور الوحشي. ربما لاشتراكهما في طقوسٍ واحدةٍ كثيرةٍ فنيَّة أو شعائريَّة. ولكن هذا الغياب نفسه لا يخلع على السرد طابع الأسطورة، فحتى عندما تغيَّب عن الأسطورة طابعها الشعائري، سواء كان هذا لاندثار هذا البُعْد من مظاهر السلوك وشواهد المدونات، أو كان لأن الأسطورة تَخَلَّقت أسطورةً للحياة اليوميَّة، أسطورة خلقها الشعراء لتحمل وعيهم وتَخَلَّقت في الإبداع لتمثل لاوعيهم أيضًا وما وَقَر في نفس المجموع؛ سواء هذا أو ذاك فإنها تبقى أسطورة للحياة اليوميَّة، تبقى استعمالًا اجتماعيًّا انضاف إلى دلالتها اللغوية.
وليس من اللازم أن تتراسل مكونات الأسطورة ووحداتها مع مكونات القصيدة فتسير معها الخطو حذو الخطو، فتنعكس بالضرورة مكونات الأسطورة كاملةً في مكونات القصيدة، فلربما أفاض السرد بقيمٍ أخرى جديدة تنتشر خارج النص لتتَرصد الثقافة والإنسان.
إن سيناريو الحمار الوحشي يقدم بمكوناته وأبعاده دالًّا أَصمَّ، قابلًا لأن ينطق بالكثير في العديد من السياقات المختلفة، كُلٍّ بحسب تفعيل بعض مكوناته أو إحداها، وتغليب ركنٍ أو عِدَّة أركانٍ على ما عداها. وما يفعله النقد المعاصر معه على سبيل المثال هو أنه لا يتلقى هذا السيناريو بتلك البراءة الخادعة التي تبدو عليها المشاهد، ومن ثم فهو يقرأ ما وراءها، وتنطوي عليه من أبعادٍ أيديولوجيَّة.
-
يبدو الحمار عند العرب في باب الطِّيَرة والفأْل منجاةً من الموت، تميمةً للإنسان ضد الوباء. يقول الجاحظ: «ولإيمان العرب بباب الطِّيرة [والفأل] عَقَدوا الرَّتَائم وعَشَّروا إذا دخلوا القُرى تعشير الحمار.»٥٥ يقول محقق الكتاب: عَشَّرَ الحمار: تابع النهيق عَشْر نهقات ووالى بين عشر ترجيعات في نهيقه. وكانوا يزعمون أن من قَرب أرضًا وبئة فوضع يده خلف أذنه وعَشَّرَ ثم دخلها أَمِنَ الوباء.٥٦
-
والحمار فيما يُتَبَيَّنُ أسطورة في الشَّبَقِ:
جاء في الحيوان أن «نزوه على الأتان من شكل نزوه على العير، وإنما ذلك على قدْر ما يحضُره من الشَّبَق، ثُم لا يَلْتفِتُ إلى دُبرٍ من قُبُل، وإلى ما يَلْقَحُ [من مثله ممَّا لا يُلقَحُ].»٥٧ وفي موضع آخر يقول الجاحظ أن «ذُكورَها تَثِبُ على بعضٍ من جهة الشَّهوة.»٥٨ هذا فضلًا عما هو معروف عنه من هيجه عند معاينة الأنثى. فهو عند مُتَمِّم بن نُوَيرة ﻣﻔ (٩)، «يحتازُها عن جَحْشِها وتَكفُّهُ عن نفسها». ب (١٠)، و«أهوى ليحمي فَرْجها إذْ أدبرَتْ» ب (١٧). -
كان الثور — في الشعر — دومًا منفردًا، أما الحمار فهو دومًا مع أتانه أو عانته (والعانة: القطيع من حُمُر الوحش)، يجري بهن أو يوردهن منابع المياه أو يحبسهن، يلاعبهن أو يضربهن. هو الرئيس والحامي والمدبِّر لشئون العانة كلها أو لشئون أتانه. الكل مطيع له منصاع لأمره لا أحد يملك معه رأيًا أو حق مراجعة.
وهو في كل ذلك مثالًا للارتباط الأُسري والمسئوليَّة والقيادة والحُب، يقول الجاحظ: «ومن الحيوان ما يكون لكل جماعة منها رأس وأمير، ومنها ما لا يكون ذلك له. فأما الحيوان الذي لا يجد بدًّا ولا مصلحة لشأنه إلا في اتخاذ رئيس ورقيب، فمثل ما يصنع الناس … فأما الإبل والحمير والبقر، فإن الرياسة لفَحْل الهَجْمة، ولِعَيْر العانة، ولثَوْر الرَّبَرب.»٥٩ (الهجمة: القطعة الضخمة من الإبل، وقيل ما بين الثلاثين والمائة، والرَّبرب: القطيع من بقر الوحش). ويقول أيضًا عن هذه الرياسة وتلك الطاعة: «وذكر بعضهم أن رياسة … العَيْر لأحد أمرين: [أحدهما] لاقتدار الذَّكر على الإناث، والآخر لما في طباع الإناث من حب ذكورتها. ولو لم تتأمَّرْ [عليها] الفحول لكانت هي لحُبِّها للفحول تغدو بغدوِّها، وتروح برواحها.»٦٠ إن الارتباط بين الحمار وأُتُنه حُب ومسئوليَّة وغيره، يقول الجاحظ أيضًا: «والحمار يَغارُ ويحمي عانَته الدهْرَ كُلَّه، ويَضْرِبُ فيها كضَرْبه لو أصاب أتانًا من غيرها.»٦١ -
والحمار عند العرب أسطورة في «الجهالة» فضلًا عن رصيده الكبير في إقامة علاقات مشابهة بين الإنسان وبينه خَاصَّة في هذه الزاوية٦٢⋆ وهو ما لخصه القرآن في تشبيهه كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (الجمعة: ٥)، ويقول الجاحظ إنه في الآية: «مَثَلٌ فيَ الجَهْل والغَفْلة، وفي قِلَّة المعرفة، وغِلَظِ الطبيعة.»٦٣ ويقول أيضًا: «وصَفَ أبو الأخَزَر الحِماني الحِمار وعَيْر العانة خاصَّة … فذكر كيف يضربُ في الأُتُن، ووَصَف استبهامَه عن طلب الولد، وجَهْله بموضع الذَّرْء، وأن الولد لم يجئ منه عن طلبٍ له، ولكن النُّطفة البريئة من الأسقام، إذا لاقت الأرحام البريئة من الأسقام حدث النِّتاج على الخلقة، وعلى ما سويت عليه البينة.»٦٤ والحمار في الشعر لا يوردُ أتُنَه الماءَ إلا إذا أيقن أن الموردَ آمنٌ، إنه يتوقف ويختار ويتأمَّل فإذا ما تَيَقَّنَ الأمنَ قادَ أُتُنَه، ولكن لا يَلْبَثُ هذا الأمن أن يتكشَّفَ عن الخطر، ويَدهَمُها الصائد بسهامه! إنه التفكير وإنعام النظر واختيار «الخطأ» حيث الموتُ خبيئة القدر.
-
ويُلْمَحُ في عمل الصائد نموذجًا للفعل الناقص، الفاشل على الرغم من الدُّرْبَة والأهليَّة، فالقُدْرة والمهارة ليست بمفردها كفيلةٌ بامتلاك الأشياء أو حيازتها؛ فالصائد دومًا معلوم، مذكور باسمه العَلَمَ أو بقبيلته أو بوصفه، وهو حينئذٍ مشهورٌ فيما يقوم به من مهمة، نموذجٌ مثالي للأداء فيها، ومع ذلك يُخْفِق لتنجو الأُتُن ما دامت في غير مقام الرِّثاء، وإذا كان الحمار صيدًا عظيمًا إذ تقول العرب «كُلُّ الصَّيْد في جوف الفَرَا»٦٥ وكان عندهم مَضْرِب المثل في جودة الصيد، فما هو مَثار عجب أن يتعَمد الشعر غالبًا الأنثى دون الذكور، على الرغم من أن «الجِنْس في العَيْر والأتان لا تتميز ذكورته في العين من إناثه، تُقبل فلا يَنْفَصِلُ في العين الأنثى من الذكر.»٦٦
والسرد عن الحمار الوحشي كما يقدمه الشعر نموذجًا للتغير وسطوة التحول؛ فالحمار الذي عاش حياةً رغدة هانئة تتحول به ليلاقي الحَرَّ والهجير والجفاف على نحو ما نجد هنا في المفضليات: ﻣﻔ (٣٨) ب (١٠)، ﻣﻔ (٣٩) ب (٢٥–٢٦)، ﻣﻔ (١٢٦) ب (١٨–٢٢). إننا لا نكاد نجد الجأبَ مقيمًا بأتُنه عند ماءٍ واحدٍ ينهل منه رضاب الحياة، ولكنه أبدًا منطلق نحوه، أو منه نحو غيره.
إن القصة تمثل حكمة المجتمع العميقة على مستويات عِدَّة الفرد، الأسرة، الأنثى/الذكر، الحياة، الموت … وإذا كان الثور في السرد السابق أسطورة في الدفاع والتصدي فإن الحمار الوحشي في الغالب أسطورة للغيرة والقوة والشهوة، أسطورة للفرار ومحاولة النجاة، كما هو مثال للحماية والمسئوليَّة كما تغدو الأتان أسطورةً للفزع والفرار، كما هي أيضًا أسطورة للتمرد والطاعة والألفة والرِّضا.
-
وتبدو عناصر الطبيعة في هذا السرد معالم رئيسة للحياة ورموزها، فانتقال الجأب والعانة من مكان لآخر كان استجابةً للتحول في الخصوبة، كان استجابةً لانقطاعها وبحثًا عن مكان آخرَ راتعٍ، مقاومةً للموت والجدب والفناء.
-
إن الأنثى (الأتان) عند مُتمِّم بن نُويرة ﻣﻔ (٩) ب (٩) «مُلْمِع»، وهي التي «حملت وأشْرَقت أطباؤها باللَّبن»٦٧ (امتلأت فضاقت)؛ ومن ثَم فالأتان هنا هي الأنثى التي أُخْصِبتْ، هي التجدد والولادة والحياة والمستقبل. في حين كانت الإناث عند أبي ذُؤيب الهُذَلي ﻣﻔ (١٢٦) ب (١٦) — وفي مقام الرثاء، في مقام الموت — «جدائد». والجدائد: جمع جَدُودٍ وهي التي لا ألبان لها، ومن هذا القبيل: فلاة جَداء، إذا لم يكن بها ماء.٦٨⋆ لقد جَفت ألبان الأتُن في سياق الموت، حيث الانقطاع والتناهي والفناء.
-
إن الماء الذي هو حياة بما هو أصل لها ولاستمرارها مَرْصَدٌ لمقاتل الفُرْسان والوحش أيضًا، وبخاصة عندما تصبح حتميَّة الشُّرْب تعادلُ حتمية الموت، فيُسفر المُعين على الحياة عن وجهه القاتل، تُسْفر الحياة عن الموت. وليست نجاة الحُمُر من سهام الصائد سوى فُرْصة — وربما فُرَص أخرى — جديدة للصِّراع تقدمُ فيها الحُمُر آمنةً أو مُرْتابة إلى المياه، فينوشها الصائد بسهامه التي ربما نَجَت منها أو أصابتها. إن الماء في هذا السرد هو الخطر وتوجُّس الموت.
والأُطُر عند فان دايك هي أشكال معينة لتنظيم المعرفة التي نمتلكها عن العالم والمُحَددة عُرْفيًّا. هي صيغة لتنظيم أفعالٍ وأحداثٍ معقدة ومقولبة تنظيمًا عقليًّا. ومعرفة الإطار بالأساس تلعب دورًا في تفسير الأحداث الاجتماعيَّة تفسيرًا مُحَدَّدًا، وكذا في إيجاد مدلولٍ لسلوكنا الخاصِّ ولسلوك الآخرين، ومن ثم فهي تتعلق بقواعد وأعراف ومعايير وأشخاص وأدوار ووظائف وأحداث وما أشبه. يقول فان دايك عن الإطار: «إنه بنية مفهوميَّة في الذاكرة الدلاليَّة مكونة من سلسلة من القضايا التي ترتبط بأحداث مقولبة. وهذه القضايا تنتظم على نحوٍ من الأنحاء ضمن أخرى بشكل متدرج، بحيث تتغلب الخصائص الضروريَّة والأعمُّ لهذه الأحداث على معلومات عن تفاصيل فرعيَّة. إن الإطار لا يتكون من أجزاء ثابتة أو ضروريَّة، بل من عدد من نتائج متغيرة أيضًا، تمكن من استخدام الإطار ذاته لكم كبير من مواقف مشابهة».
(انظر: تون أ. فان دايك، علم النص؛ مدخل متداخل الاختصاصات، ص٢٧١).
(١) د. مصطفى ناصف: صوت الشاعر القديم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٢م.
(٢) د. نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، مكتبة الأقصى، الأردن، ١٩٧٦م.
(٣) د. على البطل: الصورة الفنية في الشعر العربي حتى أواخر القرن الثاني الهجري، دراسة في أصولها وتطورها، دار الأندلس.
(٤) د. مصطفى عبد الشافي الشورى: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط١، ١٩٩٦م.
(٥) د. محمد أبو موسى: قراءة في الأدب الجاهلي، دار الفكر العربي، ط١، ١٩٧٨م.
(٦) د. وهب رومية: الرحلة في القصيدة الجاهليَّة، مؤسسة الرسالة، ط٣، ١٤٠٢ﻫ/١٩٨٢م.
(٧) د. عبد الجبار المطلبي: قصة ثور الوحش، وتفسير وجودها في القصيدة الجاهليَّة، مقال ضمن كتابه مواقف في الأدب والنقد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، ١٩٨٠م.
(٨) د. محمد بريري: الملكة الشعرية والتفاعل النَّصِّي، مجلة فصول، المجلد ٨، العددان ٣، ٤؛ ديسمبر ١٩٨٩م.
(٩) د. ثناء أنس الوجود: رمز الماء في الأدب الجاهلي، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٠٠م.
وثمة مناقشات عدة للاتجاه الأسطوري في دراسته للأدب القديم، منها:
• د. وهب أحمد روميَّة: شعرنا القديم والنقد الجديد، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ١٤١٦ﻫ/١٩٩٦م.
• د. محمد أبو المجد علي البسيوني، اتجاه معاصر في دراسة الشعر العربي القديم؛ الاتجاه الأسطوري، عرض وتقويم، حوليات كلية الآداب والعلوم الاجتماعيَّة، جامعة الكويت، الحوليَّة ٢٢، الرسالة ٨٨، ١٤٢٢-١٤٢٣ﻫ/٢٠٠١-٢٠٠٢م.
والأرطى ثَمَره كالعُنابِ مُرَّةٌ، تأكلها الإبل، غَضَّة، وعروقُه حُمْرٌ شديدة الحُمْرة. انظر: تاج العروس، مادة «أرط».
انظر: د. أذزارد وآخرون، ملحق قاموس الآلهة والأساطير.
(١) رينيه لابات وآخرون: سلسلة الأساطير السوريَّة، ديانات الشرق الأوسط.
(٢) د. أدزارد، وآخرون: قاموس الآلهة والأساطير في بلاد الرافدين (السومرية والبابليَّة)، في الحضارة السوريَّة (الأوغاريتيَّة والفينيقيَّة).
(٣) فراس السواح: مغامرة العقل الأوَّلي؛ دراسة في الأسطورة (سوريا – أرض الرافدين).
(١) د. وهب أحمد روميَّة: الرحلة في القصيدة الجاهليَّة.
(٢) د. نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنيَّة في الشعر الجاهلي.
(٣) د. عباس مصطفى الصالحي: الصيد والطرد في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري.
(٤) د. أبو القاسم أحمد رشوان، استخدام النظرية الشفاهيَّة في دراسة الشعر الجاهلي.
انظر: الميداني، مجمع الأمثال، ٣: ١١ وما بعدها.