الثقافة والوطن١

قراءة في «الجمر والرماد» لهشام شرابي

(١) الثقافة الوطنية

منذ فجر النهضة العربية حمل المثقف العربي هموم الفكر والوطن. فقد دفعت «صدمة الحداثة» إلى التفكير في سؤال شكيب أرسلان الذي صاغه من بعد «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟» سواء عندما كان العرب جزءًا من الخلافة العثمانية وبداية حركة القوميين العرب أو عندما أصبحت العرب دولًا تحت الاحتلال وبداية معركة الاستقلال وحركات التحرر الوطني. وفي كلتا الحالتين كانت معركة التحديث هي الأهم. فعندما كان العرب ولايات عثمانية ثم أقطارًا تحت الحماية أو الوصاية أو الاحتلال ثم أصبحوا دولًا مستقلة كان التحديث هو المطلب الرئيسي، فالقضاء على التخلف في الداخل هو شرط الاستقلال عن الخارج.

الفكر بلا وطن تجريد وصورية، ونضال في غير ميدان، وهروب من الموقع، ورصاصات طائشة في الهواء لا تدافع عن أحد، ولا تصيب أحدًا. والفكر الوطني التزام ومقاومة، تحليل وتغيير، فهم وتطوير. هو الفكر العملي، مضمونه موضوعه، وحياة المفكر قدره. والعلم بلا وطن تكسب دون تضحية، وأخذ دون عطاء، وهجرة بلا علم عاطفة هوجاء، ومغامرة غير محسوبة العواقب، وشهادة دون سياسة، وحلم دون واقع، وخيال دون تاريخ.

المثقف الوطني هو الشاهد على عصره، الشهيد في زمنه. لا يهاجر أثناء القتال باسم العلم، ولا يناضل على مقاعد الدراسة وفي مدرجات الجامعة باسم القتال.٢ كانت تلك أزمة الشباب، وثنائية جيل قديم من المناضلين لم يعرف بعد «المثقف العضوي».٣ وقد تطوع بعض الطلاب العرب في الجامعة الأمريكية في ١٩٤٧ قبل النكبة ولم يذهب بالفعل إلا عدد ضئيل.٤ المثقف هو الذي يعيش جيله، ويقوم بدوره التاريخي الذي يحدده العصر لا دور جيل مضى فيصبح سلفيًّا ولا دور جيل قادم فيصبح علمانيًّا. جيلنا هو هذا الجيل المخضرم الذي ينتقل من القديم إلى الجديد، ومن التراث إلى المعاصرة، ومن العقيدة إلى الثورة، ومن النقل إلى الإبداع.٥

كانت الجامعة الأمريكية في بيروت ثورة للحياة الوطنية الفلسطينية وللتيارات الفكرية في الوطن العربي كما كانت الجامعة المصرية في ١٩٢٥ نتيجة للحركة الوطنية المصرية التي تبلورت في ثورة ١٩١٩.

ارتبطت الثقافة بالمقاومة، المقاومة بالثقافة، والثقافة بالمقاومة.٦ توحدت الثقافة والمقاومة في المثقف الوطني. يعيد بناء الثقافة كي تصبح أداة للمقاومة، ويكمل المقاومة بالسلاح بوضع ثقافة المقاومة. فهل يتم ذلك في ثلج الهجرة أم في دفء الوطن؟ ومهما دام الثلج فإنه ينتهي إلى الذوبان.٧ وإذا ما استمر الدفء فإنه ينتهي حتمًا إلى الخصوبة والنماء مهما كانت آلام المخاض.٨

(٢) القومية والاشتراكية

ولما كانت الشام موطن العروبة. وفيها وفي العراق نشأ مفهوم القومية، تأسس «الحزب القومي السوري الاجتماعي» لضم الشام والعراق في «الهلال الخصيب» مما ألهب خيال القوميين والاشتراكيين العرب بعد ارتباط القومية بالاشتراكية وبالعدالة الاجتماعية.٩ سوريا هي المركز، ولبنان امتداد غربي لها. والعراق امتدادها الشرقي. وفلسطين امتدادها الجنوبي. مع أن فلسطين أيضًا هي المدخل الشرقي لمصر. جاءت غزوات الشرق منها منذ الهكسوس حتى التتار والمغول. ووحدة مصر وسوريا ضمان لوحدة العرب كما ثبت أيام صلاح الدين. وماذا عن أفريقيا والمشرق العربي كله فيها؟ لماذا تفضيل الجناح الآسيوي للوطن العربي على جناحه الأفريقي الذي قد يحدث رد فعل عند الجناح الأفريقي على الجناح الآسيوي.١٠ وقد يصل الحزب السوري الاجتماعي في تصوره للقومية إلى حد العرقية أسوة بما كان في ألمانيا في نفس الفترة. وربما كان لبعد مؤسسه عن الوطن والحنين إليه أثر في تكوين هذا الجانب الرومانسي أسوة بشعراء المهجر. وقد أمن الحزب بالانقلابات العسكرية وبتكوين المليشيات المسلحة لتحقيق أهدافه السياسية وربما ممارسة العنف كما كان الحال في «مصر الفتاة» في مصر في هذه الفترة.

وقد كانت الطائفية أحد أسباب اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ١٩٧٥وأحد أغطيتها ومبرراتها النظرية. لذلك استبعد الحزب القومي السوري الدين في صياغة الأيديولوجيات السياسية وفي بناء الأوطان. فكان حزبًا علمانيًّا خالصًا يمثل التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف.

في حين أن الحركة الإصلاحية التي أسسها الأفغاني وتلاميذه خاصة عبد الله النديم ترى أن الدين في الأوطان المحتلة، المتخلفة يكون عاملًا على الثورة ضد الاحتلال في الخارج. فقد صاغ الأفغاني الإسلام بأنه، ثورة على الاستعمار في الخارج ونضال ضد الطغيان في الداخل؛ دفاعًا عن الحرية في كلتا الحالتَين. وقد اغتيل حسن البنا عام ١٩٤٩م على يد القصر والإنجليز، وهو نفس العام الذي أُعدم فيه أيضًا أنطون سعادة بعد أن سلَّمَته لبنان إلى سوريا بمحاكمةٍ صورية بتهمة تدبير انقلابٍ عسكري لتوحيد سوريا ولبنان بالقوة. وقد دفع ذلك إلى التفكير في مصير النضال الوطني، الشيوعي والقومي والإسلامي، واتهام الجميع بالخيانة من الأنظمة السياسية.١١
وبعد استشهاد أنطون سعادة تَمَّ التحوُّل من القومية إلى الاشتراكية والالتحاق بجمعيةٍ سرية لتحرير الوطن العربي وتوحيده. وكانت هذه الجمعية نواةً لحركة القوميين العرب، وبعد الشك في معنى الأمة، سورية أم عربية.١٢ وقد كان الإحساس الطبقي غامرًا عند صفوة المثقَّفين في ذلك الوقت وإن كانوا ينتسبون إلى الطبقة العليا. كانت الطبقة شيئًا والوعي الطبقي شيئًا آخر.١٣

(٣) الاستعمار والصهيونية

كان الاستعمار الفرنسي في لبنان هو العامل الخارجي في ثقافة المقاومة كما كان الاحتلال البريطاني في مصر. وكان المثقَّفون الوطنيون يشعرون بالامتهان كل يوم باحتكاكهم بسلطات الاحتلال في الحياة اليومية.١٤

وكانت الصهيونية مثل الاستعمار، استعمارًا استيطانيًّا، لا فرق بين الاستعمار الفرنسي للبنان وسوريا والاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. كلاهما عنصرية، عنصريةٌ صهيونية تقوم على الاختيار للشعب المختار والوعد بأرض الميعاد والنصر والغنم والمدينة والمعبد والهيكل، وعنصريةٌ غربية تقوم على القوة الرومانية والمركزية الأوروبية ونقاء البشرة البيضاء.

وكانت هزيمة يونيو-حزيران ١٩٦٧م، قمة العدوان الصهيوني الاستعماري؛ استئنافًا لعدوان ١٩٥٦م الذي لم يُحقِّق أهدافه.١٥ وكانت في نفس الوقت قمة الإحباط وإجهاض الحلم القومي العربي الاشتراكي التقدُّمي. وأدرك العرب أن العيب في الداخل قبل الخارج، وفي التخلُّف قبل الاستعمار.

(٤) المجتمع الأبوي

كانت بَذرة التخلف وجذره الأول «المجتمع الأبوي»، سلطة الإدارة الجامعية، وسلطة الأستاذ، وسلطة الأسرة، وسلطة التقاليد، وسلطة الحاكم.١٦ كانت ثقافة المجتمع كله تقوم على القطعية، وامتلاك كل طرفٍ فيه الحقيقةَ المطلقة. والفكر وعظٌ وإرشاد وتبليغ وليس تحليلًا أو نقدًا. وكانت المصطلحات الجديدة مثل النقد والنظرية والفرض والتصوُّر، وألفاظ أخرى تردَّدَت في جامعة شيكاغو مثل «على الأرجح»، «نوعًا ما»، «إلى حدٍّ ما» مما يميز ثقافةً أخرى تقوم على النسبية في الحكم، وعلى البحث عن الحقيقة وليس معرفتها.١٧ وكان هذا النظام الأبوي في فلسطين وفي كل الوطن العربي بكل تياراته، الإسلامي والعلماني. وكان النقد في ذلك الوقت مجهولًا. وابتداءً من هذه التجربة الثقافية الاجتماعية التاريخية بدأ تشكُّل مفهوم «المجتمع الأبوي» وجذوره القبلية والعائلية وأشكاله في السلطة والخضوع، والتبعية والولاء، وامتداداته التاريخية في الإقطاع والرأسمالية، ونتائجه في الإمبريالية، وطرق مواجهته الممثَّلة في الخطاب الإصلاحي أو الخطاب العلماني العقائدي، لا فرق بين الوعد الأصولي الممثَّل في العصر الذهبي أو الوعد العلماني بالمدينة الفاضلة القادمة على نموذج الغرب الحديث، وضرورة النقد الجذري للثقافة الأبوية المستحدَثة والتخلُّص من هيمنة البرجوازية الصغيرة، وأهمية الفكر النقدي، وضرورة التحوُّل الديمقراطي.
كان يمكن مد الجذور للمجتمع الأبوي في الموروث القديم، في التصوُّر الهرمي للعالم ونظرية الفيض، وفي دور العقل في تبرير المعطيات.١٨ كان يمكن أيضًا الاقتراب من المحرَّمات الثلاثة في الثقافة الموروثة، الدين والسلطة والجنس، الله والدولة والمرأة. وهو ما تمَّت دراسته أولًا في «مقدمات لدراسة المجتمع العربي»، سواء بنية العائلة أو قيم الثقافة، الاتكالية والعجز والتهرُّب، وكيفية مواجهتها بالوعي والتغيير والتحدِّي الحضاري، والتوجُّه المستقبلي، والتربية والتثقيف الاجتماعي حتى ينتهي المجتمع البطريركي ويبدأ المجتمع الديمقراطي.١٩

(٥) الفلسفة المثالية

كانت بداية التفلسُف التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية بفضل شارل عيساوي، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية. ثم كان الوقوع على هارتمان والمثالية الدينية غير السياسية. وربما كان ذلك تحت أثَر شارل مالك مؤسس المثالية الدينية كأساسٍ أيديولوجي لليمين الرجعي، مهاجمة الشيوعية ومدح المسيحية ودعم الحرب الباردة، والذي عاد إلى لبنان ليصبح أيديولوجيَّ اليمين المسيحي المتعصب. وقد ولَّد رَد فعل صاحب «الجمر والرماد» ليُصبح أيديولوجي اليسار العلماني المتسامح. وتَمَّ التعرُّف على نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» وفي «هذا هو الإنسان» سيرته الذاتية. كما تم التعرُّف على مؤلفين من نفس النوع، المثالية الدينية الوجودية مثل كيركجارد وبرديائيف أو العقلية عند جاك مارتيان أو العلمية المنطقية عند ديوي في «طلب اليقين».٢٠ وربما أعجب لنفس الأسباب مفكرٌ آخر بهوسرل وبرجسون، جمعًا بين الحدس والبرهان، والدين والعقل، بالإضافة إلى النظرة الجمالية للعالم. وفي باريس تَمَّ التعرُّف على ميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران كأُدباءَ رومانسيين، وعلى فرويد وماركس وريكير. ووجد في هؤلاء صدًى لآراء زكي الأرسوزي «في المدرحية». وكان بدوي قد نقل من قبلُ فلسفة هيدجر، كما لاحظ جان فال. كما تم التعرُّف على محسن مهدي وماجد فخري اللذَين أصبحا من أساتذة الفلسفة الإسلامية المرموقين. كانت رسالة الدكتوراه عن هارتمان فيلسوف القيم المثالي. وكان كارناب من لجنة الدفاع. ولم يمنع فيلسوف الوضعية المنطقية من إعطاء المثالي الديني أعلى الدرجات.
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الشهير: «هل لدنيا فلاسفة؟» ويكون الحكم القطعي: «ليس لدينا فلاسفة.» دون تعریف ماذا يعني الفيلسوف؛ حتى لا تُردَّ معاني الفيلسوف كلها إلى معنًى واحد، صاحب النسق النظري، ومتى يظهر حتى لا تُردَّ الظروف إلى ظرفٍ واحد، القطيعة المعرفية مع الماضي، ورفع الغطاء النظري عن الواقع، وسقوط الوئام النظري بين الأنا والواقع والحاجة إلى وئامٍ نظري جديد.٢١ وهو معنى الفيلسوف وظروف نشأته في العصور الحديثة في الغرب؛ فمن الظلم قياس كل فلسفة في كل مجتمع على الفلسفة الغربية الحديثة؛ فالمجتمع العربي مثلًا يمر فكريًّا بعصرٍ مشابه لعصر النهضة الأوروبية أو بالأحرى بين الإصلاح الديني وعصر النهضة، بين مارتن لوثر، وجيوردانو برونو؛ فنحن ما زلنا مع الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب، وتنازل كل جيل عن منطلقات الجيل الآخر حتى انقلبنا إلى النقيض، وأصبحَت النهايات غير البدايات. وقد حدثَت الكبوة أيضًا في التيار العلمي العلماني من شبلي شميل إلى فرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسی وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، بالحديث الآن عما بعد الحداثة والمرأة والانبهار التام بموضات الفكر الغربي. والمقارنة الدالة الأكثر عدلًا تكون المقارنة بين النظام الأبوي عندنا والنظام الأبوي في عصر النهضة الأوروبي، والفيلسوف عندنا بفيلسوف عصر النهضة الأوروبي قبل عصر الأنساق الفلسفية في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر.

(٦) التشاؤم أم التفاؤل؟

والإنسان توتُّر بين قطبَين المثال والواقع، الإقدام والإحجام، الخيال والعقل، الأنا والآخر، الهوية والاختلاف، الفرح والحزن إلى آخر ما وصفه الصوفية من أحوال هو «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة» كما يقول جرامشي. أحيانًا يكون الرماد في تشاؤم اليأس والهجرة بعد أن توحَّدَت حياة المواطن بحياة الوطن وعاش صمت المنفي وهجرة الوطن. وهو الأقل.٢٢ وأحيانًا يكون الجمر هو الغالب يُنير فجرًا جديدًا، فجر العودة بعد الهجرة، والتقدُّم بعد الانهيار، والديمقراطية بعد الأبوية. وبعد حرب أكتوبر–تشرين ١٩٧٣م قرَّر العودة نهائيًّا إلى أرض الوطن ليشارك في بنائه في مرحلةِ ما بعد النصر والثقة بالذات والأمل في الاسترداد، استرداد الكرامة أولًا ثم استعادة الأرض ثانيًا.٢٣
ولم يمنع هذا التوتُّر الخلَّاق من سمات الهدوء، والصوت المنخفض والصمت الذي يشوبه الحزن والتواضع والوداعة، والتحضُّر في القول والعمل.٢٤

(٧) جمر أم رماد؟

«مذكرات مثقف عربي» فصولٌ خمسة بلا عناوين. الثاني أطولها وأقلها دلالة على الموضوع، مجرد علاقاتٍ شخصية، مثل «قضية نفس» و«قضية عقل». وأصغرها الخامس استشهاد أنطون سعادة، أحد مظاهر الرماد.٢٥ يمكن أن تتحوَّل إلى شريطٍ سينمائي عن عصر من خلال شخص، وشخص من خلال عصر. تتخللها سيرةُ مكشوفة مثل «أزهار الشر» لبودلير.٢٦ كما تُعرَّب بعض المصطلحات بالرغم من وجود ترجماتٍ لها.٢٧

«الجمر أم الرماد» تُمثِّل البُعد الثالث في الموقف الحضاري للمثقف العربي منذ فجر النهضة العربية حتى الآن؛ فالموقف الأول الموقف من التراث القديم وأثره في الواقع المعاصر مثل «النظام الأبوي» و«إشكالية تخلف المجتمع العربي». والموقف الثاني الموقف من الغرب من خلال صلة المثقَّفين العرب به في «المثقفون العرب والغرب». أما البعد الثالث فهو الموقف الحاضر والتنظير المباشر له من خلال السيرة الذاتية مثل «الجمر والرماد» أو «صور من الماضي» حيث يبرُز الموقف الحضاري من خلال التجربة الحياتية لفرد العصر. ومنها «مقدمات لدراسة المجتمع العربي» و«النقد الحضاري للمجتمع العربي في القرن العشرين» و«السياسات والحكومات في الشرق الأوسط» و«الدبلوماسية والإستراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي»؛ فالواقع العربي هو المنطلق، والموروث القديم، والوافد الغربي يُعدَّان فرعيَّين فيه.

فهل المثقَّف الوطني الذي حاز ثقة شعبه واحترام الخصم هو القادر ربما على قيادة شعبه في واقع العالم الجديد، بدلًا من الخطابة والإنشاء من جانب القادة والحماس المبدئي من جانب الشعوب؟

تلك قراءة «الجمر والرماد» ضمن حوار الأجيال نُقدِّم نصوصًا مختارة منها، وتجمع بين السيرة والعمل. كنتُ أتمنى أن تكون سيرةً شاملة تُعرَض من خلالها المؤلَّفات الكاملة. ومن يدري؟ فربما تَمَّ ذلك في العيد الثمانين.

١  مقدمة الجمر والرماد، ذكريات مثقف عربي، اتحاد الجمعيات الفلسفية العربية (٧)، القاهرة ٢٠٠٣.
٢  «كذلك لم يخطر على بالنا تأجيل دراستنا والبقاء في وطننا لنقاتل. كان هناك من يقاتل عوضًا عنا، أولئك الذين قاتلوا في ثورة ١٩٣٦ والذين سيقاتلون في المستقبل. إنهم فلاحون، وليسوا في حاجة إلى التخصص في الضرب. موقعهم الطبيعي هنا، فوق هذه الأرض. أما نحن المثقفين، فموقعنا في مستوى آخر. نحن نصارع على جبهة الفكر، ونقاتل قتال العقل المرير»، هشام شرابي: الجمر والرماد، ذكريات مثقف عربي، طبعة جديدة ومنقحة ومزيدة مع مقدمة. دار نلسن، بيروت ١٩٩٨ ص٢٠-٢١.
٣  قال طه باشا للطلاب «يا أبنائي، القتال ليس لشبان مثلكم، نصیحتي إليكم العودة إلى مقاعد دراستكم أنتم أبناء عائلات ومثقفون وخدمتكم لوطنكم تكون عن طريق العلم والمعرفة لا عن طريق الحرب والبندقية. البندقية يستطيع غيركم حملها»، السابق ص٢١.
٤  «في محاولتي الآن تفسير هذا السلوك (لا تبريره) أجدني عاجزًا كل العجز. ربما كوننا مثقفين ساعد على ذر الرماد في أعيننا، فصرنا نرى أشياء من زاوية الفكر المجرد وحده. وهكذا بدت الدنيا لنا موضوعًا لكلامنا وفكرنا. لا مجالًا لتحقيق أفعالنا وأعمالنا. كأنما يكفي أن نحب وطننا بقلوبنا كلها، وأن نحلم بمستقبل عظيم لأمتنا دون أن يلزمنا ذلك بشيء سوى صدق العاطفة»، السابق ص٢٢.
٥  لذلك يصدر هشام شرابي «الجمر والرماد» بعبارة لتوماس مان في «الجبل السحري» وهي: «لا يعيش الفرد حياته الشخصية فحسب بل أيضًا حياة عصره وحياة جيله»، السابق ص٧.
٦  انظر دراستنا «ثقافة المقاومة»، جملة الكتب وجهات نظر، دار الشروق القاهرة، أكتوبر ٢٠٠١، تحية للانتفاضة الفلسطينية في عامها الأول.
٧  «ويغمرني إحساس في هذه اللحظة أن الفرصة قد فاتتني بل سأمضي ما تبقى لي من العمر هنا في هذه البلاد الغريبة وأني سأموت فيها، ولكن لا … هذا لن يحدث، شعبي هو جزء من حياتي لم أتركه يومًا. وطني أحمله في قلبي، لا أقدر أن أتخلى عنه. سأعود يومًا ما»، السابق ص١٤.
٨  «اكتشفت كما يفعل كل مثقف عائدًا لخدمة وطنه أن الشعب والوطن لا يأبهان به وبأحلامه، وأن الواقع يناقض الرؤيا»، السابق ص١٤.
٩  انضم هشام شرابي إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي عام ١٩٤٦، وكان من أهم منظريه مع مؤسسه أنطون سعادة، ومن أهم الداعين إليه كما كان عبد الرحمن بدوي في نفس الفترة منظرًا لحزب مصر الفتاة في مصر قبل أن يطلق السياسة بعد ثورة ١٩٥٢، ثم عدائه لها بعد تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي عليه وبسبب أزمة الحريات العامة وديمقراطية الحكم في مصر.
١٠  وهذا ما حدث بالفعل في ليبيا في توجهها الأخير بعد عجز العرب عن مناصرتها الفعلية وكسر حصارها في حين غامر الأفارقة لذلك.
١١  «جلستُ أعالج جرحي وحيدًا في مقهى الزرقاء، ناسيًا إخوتي في النضال الشيوعي، والقومي العربي والبعثي الاشتراكي والأخ المسلم الذين يسيرون على الطريق ذاتها. كل ما نملك قدَّمناه، كلٌّ بطريقته لهذا الشعب ولهذا الوطن. فأخذوا منا كل ما نملك، وزجُّونا بالسجون، واتهمونا بالخيانة» (السابق، ص٢٧٣).
١٢  «ما يهمني اليوم هو حياة هذا الشعب المعذَّب، ومصير هذه الجماهير المستغَلَّة المستعبدة. جميع الأفكار والقيم والأهداف التي لا تدور حول حياة الشعب ومصير الجماهير لم تعُد تمسُّني أو تعني لي شيئًا» (السابق، ص٨٥).
١٣  «كان الفقر جزءًا من حياتنا، لكنه كان خارجها بعيدًا عنها كالأكواخ المتناثرة حول أحيائنا الفخمة. كان الفقراء بشرًا مساكين نرأَف بهم ونتألَّم لفقرهم لكنهم كانوا ينتمون إلى عالمٍ آخر. وكان منظر المتسولين الذين كانوا يملئون شوارع مدننا منظرًا طبيعيًّا بالنسبة لنا، فلم يزعجنا أو يدفعنا إلى تأنيب الضمير، ولم يدُر بخلَدنا أن هناك علاقةً بين ثرائنا وبؤسهم …» (السابق، ص٢٥-٢٦).
١٤  «كان الاستعمار بالنسبة إليَّ شيئًا حقيقيًّا محسوسًا. كنتُ أكره الاستعمار كما كان يكرهه جميع رفاقي، إلا أن كراهيتي كان لها بالإضافة إلى ذلك، بُعدٌ مباشر ينبع من تجربتي الشخصية كفلسطیني» (السابق، ص٧).
١٥  «في منتصف السبعينيات، أثناء كتابة هذا الكتاب كنتُ واثقًا أن العرب على عتبة حقبةٍ تاريخية جديدة. والآن، بعد مرور أكثر من عشر سنوات، أعرف أنني كنتُ على خطأ؛ عصر الانحطاط لم ينتهِ بعدُ، ونحن في مرحلةٍ جديدة منه. إن هذه المرحلة بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه هي المستقبل الذي حلمناه، مستقبل الإنجازات والانتصارات التي كنا سنُحقِّقها فيه» (السابق، ص١٧).
١٦  «لا أذكر أن أستاذًا من أساتذتي في الجامعة اعترف مرة أنه كان على خطأ أو أَقَر بجهل أو عبَّر عن شك، فامتنع عن اتخاذ موقفٍ حاسم، وآثر التروي ومراجعة الفكر. كان أساتذتي جميعًا مصادر ثقة لا يعرف الشك مدخلًا إلى قلوبهم … سلطتهم مطلقة وكلمتهم نهائية. وكانوا يعتقدون أن حُسن سلوكنا قبول سلطتهم واستسلام لها» (السابق، ص٣٥-٣٦).
١٧  «عند التحاقي بجامعة شيكاغو اكتشَفتُ أن هناك تعابير في اللغة الإنكليزية كنت أعرف معناها لكني لم استعملها إلا نادرًا مثل Probably, Somewhat, To some extent» (السابق، ص٤٠-٤١).
١٨  انظر دراساتنا الثلاث: «مخاطر في فكرنا القومي»، «مخاطر في سلوكنا القومي»، «مخاطر في وجداننا القومي» في «الدين والثورة في مصر» ١٩٥٢–١٩٨٢م، «الدين والثقافة الوطنية»، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٧م، ج١، ص٥٩–١٤٠.
١٩  صدرت الطبعة الأولى لكتاب «مقدمات لدراسة المجتمع العربي» عام ١٩٧٥م، دار المتحدة للنشر ببيروت، والطبعة السادسة، دار نلسن، بیروت، ١٩٩٩م.
٢٠  «كنا نرى هذا الواقع ونُعبِّر عنه بتجريداتٍ مثالية نستمدها من دیكارت وهيجل وكيركجارد وغيرهم من الفلاسفة. مكنَّتْنا ثنائية ديكارت مثلًا من وضع العقل فوق الجسد، ومثالية هيجل من إسباغ قيمةٍ نهائية على العقل، وذاتية كيركجارد من إرساء الحقيقة في داخلية الوجود الفردي» (السابق، ص٤٦).
٢١  «ليس مصادفة أن يكون مجتمعنا منذ النهضة قد عجز عن إنتاج مفكر أو عالم أو كاتبٍ واحد على مستوًى عالمي؛ فموهبة الإبداع لا تُكتسَب ولا تُستورَد ولا تُدرَس في الخارج. المقدرة الخلَّاقة تكمن في أعماق الفرد، فإذا أُتيح لها المحيط الملائم نعت وترعرعَت وازدهَرت» (السابق، ص١٥٩).
٢٢  «لقد نبذتَني يا وطني، لن ارجع إليك، لن أرجع أبدًا» (السابق، ص٢٧٨). «المرارة التي نشعر بها اليوم تنبع من هذا المستقبل الذي أفلت من يدنا وتحوَّل إلى هذا العصر. أصبحَت الحقيقة التي جمعنا حياتنا حولها رمادًا لا حجر فيه» (السابق، ص١٧-١٨). «غير أن الحقيقة تتغير وتُولد من جديد، ومن هنا فساد العدمية السائدة اليوم، القائلة بفساد كل ما هو عربي. ليس فاسدًا إلا ما نُفسده نحن. نحن نُفسِد حياتنا وليس صالحًا إلا ما نُصلِحه نحن» (السابق، ص١٨). «سنة ١٩٧٤م قررتُ أن أعود نهائيًّا إلى الوطن العربي» (السابق، ص١٣). «أين أنت يا وطني، أين سماؤك الزرقاء، وهواؤك الطيب، وشمسك الدافئة» (السابق، ص١٢٩). «أين الغد الذي حلمنا به وأعطيناه حياتنا؟ إنه اليوم، حاضرنا … إنه أمسنا. لم يَبقَ منه إلا ومضاتٌ خافتة، تأتينا حين لا نتوقعها، وتُعيد إلينا أصواتًا حبيبة غابت عنا، ووجوهًا جميلة نسيناها، وحبًّا قديمًا فقدناه. في أعين أولادنا نرى أشباح أحلامنا عندما كنا صغارًا، وفي ابتساماتهم صور المستقبل الذي تركناه ورائنا» (السابق، ص١٥٧).
٢٣  «والإحباط واليأس يُخيِّمان على الوطن العربي كله، لكن الظلام لا تشتد حلكته إلا عندما يقارب الفجر على الانبثاق. هناك بوادر فجرٍ جديد.» «من مكان غربتي التي ظننتُ منذ سنوات أنها على وشك أن تنتهي. لقد حصل العكس؛ فالهجرة من الوطن تتزايد يومًا بعد يوم، والأمل بالعودة يضعف يومًا بعد يوم، لكن المجتمع البطريركي سيزول وسينتهي عصر الانحطاط وسنرجع يومًا» (السابق، ص١٨)، «النظام الأبوي محتَّم عليه الانهيار، والمرأة العربية تكسر قيودها، والجيل الصاعد يدخُل ساحة الصراع آخر مراحل الانحطاط تحمل في أحشائها بذرة العصر الجديد» (السابق، ص١٢).
٢٤  «إني لست عبقريًّا ولا فلتة، بل إنسان كسائر الناس، لا أختلف عن زملائي ذكاءً أو فطنة، وإني لقانع أن أكون هكذا قادرًا فقط على تسيير حياتي بنفسي والتغلُّب على التعسُّر والتشويه اللذَين تعرضتُ لهما في صغري …» (السابق، ص٤٤-٤٥).
٢٥  الفصل الثاني (عدد الصفحات) (١٠٤)، الثالث (٨٦)، الرابع (٦٠)، الأول (٦)، الخامس (٤).
٢٦  حديث عن الحشيش والفودكا وكئوس الویسكي.
٢٧  مثل Freshmaen (السنة الأولى)، Somophor (السنة الثانية) (السابق، ص٦٢، ٧٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤