التاريخ والتراث والسياسة١

دراسة في ثلاثية معاصرة (علي أومليل ١٩٤٠م-…)

(١) مقدمة: المفاهيم الثلاثة

يبدأ بعض المفكرين العرب المعاصرين بعدة مقولات تتأسس عليها مشاريعهم الفكرية مثل «نقد العقل العربي»، «نقد العقل الإسلامي»، «من التراث إلى الثورة»، «التراث والتجديد». ويُفضِّل البعض الآخر البداية ببعض المقولات الأساسية كنقاط بداية مثل «التاريخ والتراث والسياسة». والغالب على البعض منها في كلتا الحالتَين الإيقاع الثلاثي، إما كبنيةٍ طبيعية في الذهن، كما هو الحال عند كانط، أو في الجدل مثل هيجل، أو في الموقف الحضاري مثل ثلاثية الموروث والوافد والواقع المعيش، ومنها «التاريخ والتراث والسياسة».

وقد توالت عدة أجيال من المفكرين في المغرب الأقصى من أصحاب المشاريع التي بدأَت معظمها بعد هزيمة يونيو-حزيران ١٩٦٧م، أو قبلها بقليل مواكبة للثورة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين ابتداءً من الخمسينيات. ويمكن التعرف على أجيالٍ ثلاثة؛ الأول جيل محمد عزيز لحبابي (١٩٢٣–١٩٩٣م) الذي طوَّر مشروعه ابتداء من «الكائن إلى الشخص» انطلاقًا من مونييه إلى «الشخصانية الإسلامية» لإعادة اكتشاف الشخصانية في الموروث بدلًا من نقلها من الوافد حتى «العالمية الثالثة» في مرحلة ظهور كتلة العالم الثالث إبَّان الستينيات وصولًا إلى «الغادية» بعد ازدهار علوم المستقبليات. والثاني جيل عبد الله العروي (١٩٣٥م-…) الذي تطوَّر أيضًا من «تاريخ المغرب» إلى «الأيديولوجية العربية المعاصرة» إلى «العرب والفكر التاريخي» خاصة «المثقفون العرب والغرب» إلى تحليل المفاهيم مثل الأيديولوجيا والدولة والحرية والعقل والتاريخ. وينضم إليه محمد عابد الجابري (١٩٣٦م-…) في رباعية «نقد العقل العربي»، التكوين ثم البنية ثم تطبيقها في السياسة والأخلاق.٢ والثالث علي أومليل (١٩٤٠م-…) انطلاقًا من التاريخ والتراث والسياسة، ومعه طه عبد الرحمن ابتداءً من اللغة والمنطق والجدل والمناظرة أو نقيضها في الإلهامات الصوفية والإشارات الإلهية وتحت مصطلحاتٍ جديدة، مع إزاحة الأجيال السابقة لإفساح المجال للجيل الجديد لفرض نفسه على الساحة الفكرية والفلسفية.٣ وفي الدول الشابة تتلاحق الأجيال ربما كل عشر سنوات، وليس كل أربعين عامًا كما قال قدماء اليونان وابن خلدون.٤

والعنوان «التاريخ والتراث والسياسة» من تطور المؤلفات الستة الرئيسية؛ اثنان في التاريخ: «الخطاب التاريخي، دراسة في منهجية ابن خلدون ١٩٧٧م»، «الإصلاحية العربية والدولة الوطنية ١٩٨٥م». واثنان في التراث؛ «في التراث والتجاوز ١٩٩٠م»، «في شرعية الاختلاف ١٩٩١م». واثنان في السياسة؛ «السلطة الثقافية والسلطة السياسية ١٩٩٦م»، «مواقف الفكر العربي من التغيرات الدولية، الديمقراطية والعولمة ١٩٩٨م».

وهي أيضًا مقولات أولية في رسالة «الخطاب التاريخي».٥ فمن التاريخ المقولة الأولى تنبثق منذ البداية المقولتان الأخيرتان التراث والسياسة؛ فالتاريخ هو بالضرورة تاريخ التراث وتاريخٌ سياسي في آنٍ واحد. والتراث من وضع التاريخ، ويعكس الصراعات السياسية. والسياسة هو التاريخ في تفاعلاته التي تُنتج تراثًا بعد التدوين. التاريخ يحفظ التراث، والتراث يُدوِّن التاريخ. والتراث من تدوين السلطان السياسي وهو الفاعل في التاريخ. كما يُدرس التراث بمنهجٍ تاريخي، والتاريخ هو تاريخ التراث؛ فالتاريخ منهج وموضوع. وفي التاريخ تقع النزعات اللاتاريخية مثل التصوف الذي يريد الخروج من التاريخ ثم اللحاق به والعودة إليه بصورةٍ أخرى.

(٢) التاريخ

  • (أ)
    ويبدأ التفكير في التاريخ منذ رسالة الدكتوراه «الخطاب التاريخي، دراسة لمنهجية ابن خلدون» ١٩٨٥م.٦ وهي ثاني أكبر المؤلفات.٧ يظهر فيها العقل في التاريخ بتعبير هيجل ولكن على أساسٍ نقدي، والعقل في الجغرافيا؛ أي النظرية الجغرافية المعروفة عند مونتسكيو وهردر. كما يصف أغلاط المؤرخين السابقين، ويُبيِّن ضرورة نقد الروايات قبل استعمالها كمصادر للتاريخ، تحولًا من النص إلى الواقع، ونقد منهج الإسناد كما فعل القدماء؛ فصحة المتن مشروطة بصحة الإسناد.٨ وابن خلدون جزء من الثقافة العربية في المغرب وأحد مُكوِّناته لما فيه من منهجية وعقلانية يتسم بها الفكر المغربي.٩

    وتتجاوز الدراسة عرض المقدمة كما يفعل المشارقة وتكرارها، بل يبين نموذج انبثاق السياسة من التاريخ، والتحول من القبيلة إلى الدولة، مع دقة المغاربة في التحليل والتنظير كما هو الحال عند ابن خلدون، مما دفع البعض إلى التمييز بين المغاربة نموذج ابن رشد وابن خلدون، والمشارقة نموذج ابن سينا والغزالي. وفي نهاية كل فصل «استخلاص»، بالإضافة إلى «الاستخلاص العام» في نهاية الدراسة حتى يعي القارئ النتائج الجزئية والكلية.

    ويتأكد التركيز على التاريخ في ثنايا الدراسة قبل ابن خلدون وبعده مثل الرؤية التاريخية للتاريخ عند الطبري، والصلة بين تاريخ المغرب والتاريخ العام، وما هو الخاص في التاريخ وما هو العام، وأهمية ابن خلدون في العودة إلى الواقع وإلى التجربة التاريخية، ونهاية بتفسير التاريخ. وتحاول الدراسة إدخال «المقدمة» في تصنيف العلوم اعتمادًا على «إحصاء العلوم» للفارابي في إطار علوم الحكمة. وقد بدا ذلك صعبًا للغاية لأن الفارابي لا يدخل التاريخ ضمن إطار علوم الحكمة. كما يصعب اعتبار التاريخ ضمن هذه العلوم. إنما «المقدمة» تند عن التصنيف لأنها تعبر عن نهاية المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية، مرحلة النشأة والتطور والاكتمال ثم النهاية في القرون السبعة الأولى، قبل أن تبدأ المرحلة الثانية عصر الشروح والملخصات في القرون السبعة التالية، والتي انتهت بعصر الإصلاح الديني والنهضة العربية الأولى قبل أن يكبُوَا تدريجيًّا حتى هذا الجيل.١٠
    يُقدم الفصل السادس نموذجًا تطبيقيًّا لبنية «المقدمة» ليتحقَّق من صحتها. ويُبين مسار العرب من الشعب والقبيل إلى الدولة والخلافة حتى الحضارة والتدهور مع التركيز على دور التصوف في التاريخ، وبيان الاستثناءات في التاريخ، وحدود البنية لرصد وقائع التاريخ الكلي.١١
  • (ب)

    «الإصلاحية العربية والدولة الوطنية». وهنا يتم الانتقال من التاريخ القديم إلى التاريخ الحديث، من ابن خلدون نهاية العصر القديم إلى الإصلاح بداية العصر الحديث، ومن الخلافة إلى الدولة الوطنية.

    كانت هناك مقدمات للإصلاح وذلك بانتشار بعض المفاهيم مثل الدستور لتقييد سلطة الملك أو الأمير؛ فأقصى ما كان ينادي به الإصلاح هي الملكية المقيَّدة بالدستور، ومثل الاستبداد العادل الذي دافع عنه الأفغاني كنوعٍ من الإصلاح للدولة العثمانية. ومثل الحسبة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الإسلاميين كنوعٍ أيضًا من الرقابة على الحاكم، ومثل الغرباء الذين يصلحون في الأرض عند فساد الناس. هم العلماء ورثة الأنبياء، وهم الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنةٍ لتجديد الدين.

    ويقوم الإصلاح على تأكيد الفطرة والحالة الطبيعية من أجل إعادة النظر في نظام المجتمع. ويُحال إلى مصادرها القديمة لدى «حي بن يقظان» لابن طفيل، وابن خلدون، والشاطبي في مقاصد الشريعة، والحُسن والقُبح العقليَّين عند المعتزلة؛ فالطبيعة خيِّرة وعاقلة، والتسامُح جزء من الفطرة. يعطي حق الخلاف والاختلاف. وهو ليس مفهومًا محايدًا، مجرد تعبير عن الفطرة، بل هو أساس الإصلاح ضد التسلُّط والتفرد بالرأي.

    وبمجرد أن خبا الإصلاح نشأ الصراع بين السلفيين والعلمانيين، وبين السلفيين والليبراليين. حاول الإصلاح الجمع بينهما في سلفيةٍ جديدة قابلة للحداثة، أو علمانيةٍ جديدة قابلة لأن تمتد جذورها في الموروث العقلاني الطبيعي القديم. وبالرغم من دراسة الموضوعات نفسها دون الأشخاص إلا أنه يُفصِّل مشروع طه حسين العلماني ويُبرِز التقابل بين الديني والمدني.

    فلما أتت الدولة الوطنية بدأ السؤال حول دور الإسلام فيها؛ فقد خرجت معظم حركات التحرر الوطني من جبة الإصلاح الديني. فلما نشأت الدولة الوطنية تم استبعاد الحركة الإسلامية من بعض الدول لصراعٍ على السلطة. هكذا نشأت مشكلة الجزائر والحرب الدائرة بين الإسلاميين والدولة. كما نشأت أيضًا مشكلة الهند وانفصال باكستان باسم الإسلام عن الهند العلمانية. وما زالت الإصلاحية العربية الليبرالية أو الإسلامية في مشكلة الدولة التي تحكم باسم السلطة ولا تطلب من الناس إلا الطاعة. وهو ما يرفضه الليبراليون والإسلاميون.

    ويظهر ابن خلدون من جديد كعالم ومواطن من الكتاب إلى الدولة، نموذجًا للمثقف المغربي. ومع ذلك يحضر الغزالي أيضًا في المغرب العربي وكأن المغرب قد جمع بين النقيضَين، التصوف للشعب والعقل والتاريخ للنخبة. كان من الطبيعي أن يلجأ الغزالي إلى التصوف كحركة إحياء للإيمان في القلوب أثناء الحرب الصليبية الأولى دون ذكرها أو الإشارة إليها في أيٍّ من مصنفاته.

    ولما كان المثقف العربي بين ثقافتَين، العربية والغربية، فقد تمت المقارنة بينهما في تحليل الفطرة والإشارة إلى هيجل، وفي تحليل الطبيعة والإشارة إلى روسو، مع تعريب بعض الألفاظ مثل «ريفورم» أي الإصلاح و«توليرانس» أي التسامُح.

    وقد تبدو هذه التحليلات النظرية خالصة بلا هدف أو قصد مثل بعض المفكرين الغربيين المعاصرين إيغالًا في التحليل وبحثًا عن المتناهي في الصغر إلا أنها في نفس الوقت تكشف عن وعيٍ عميق بمسار الأمة الإسلامية في التاريخ ليتواصل حاضرها في ماضيها. وربما يظل السؤال قائمًا لماذا التوقف على الدولة الوطنية دون اختياراتها الليبرالية أو الاشتراكية؟ وهل جمع المؤلف بينهما كما فعل العروي من قبلُ في «العرب والفكر التاريخي» في الماركسية العربية أو الماركسية التاريخانية؛ أي الماركسية الليبرالية؟

(٣) التراث

  • (أ)

    «في التراث والتجاوز» (١٩٩٠م). وهي قضية المفكرين العرب المعاصرين. كيف يمكن تحليل التراث باعتباره مخزونًا نفسيًّا وموروثًا ثقافيًّا في العصر من أجل تجاوزه، والتحرر من عقاله، ويصبح باعثًا على التقدم بدلًا من أن يكون عائقًا عنه؟ يكتفي بعض المفكرين بالوصف والتحليل مثل مشروع «نقد العقل العربي» و«نقد العقل الإسلامي» دون التجاوُز الصريح، وإن كان يمكن استنباط التجاوُز الضمني.

    ونموذج التجاوُز في التأويل والتوازُن عند ابن رشد، فإذا كان التراث يقضي بإرجاع الفرع إلى أصلٍ سابق، وبالتالي يكون الأصل هو الأساس، ما اتفق معه يُضم إلى التراث. وما اختلف معه يصبح بدعة فإن التأويل اجتهاد يعتمد على المقاصد الكلية للشريعة. يتجه إلى الأمام وليس إلى الخلف. والأصل ليس نصًّا يختلف عليه المتأولون بل هو قصد وغاية وقيمة ومبدأٌ عام لحقوق الإنسان والشعوب.

    وتلك أصالة الفكر الخلدوني في التراث والتجاوُز من البدو إلى الحضر، ومن العصبية إلى الحضارة، ومن التاريخ إلى العمران، ومن الصحراء إلى المدنية. هو تجاوزٌ تاريخي وليس فقط تجاوزًا عقليًّا.١٢

    ولما كانت الفلسفة تأملًا في المجتمع وتحليلًا له فقد تم التركيز على «مفهوم المجتمع» في الفكر العربي من خلال الدرس الاجتماعي في المشرق والمغرب. لقد غاب المفهوم في بداية نشأة الجامعات المصرية. ثم ولد فقط في منتصف القرن الماضي بالرغم من ظهور مفاهيم الاجتماع والجماعة في الفكر الفلسفي القديم عند الفارابي وابن سينا وابن باجه وفي الفكر الفقهي؛ لذلك كان صاحب الثلاثية أقرب المفكرين العرب إلى الفكر الاجتماعي والسياسي نظرًا لانتسابه إلى اليسار العربي التقدُّمي.

  • (ب)

    «في شرعية الاختلاف» (١٩٩١م). وهو ما سُمي «حق الاختلاف» أي عدم شرعية التفرد بالرأي وضرورة الاستشارة؛ فالكل رادٌّ، والكل مردود عليه. وهي دعوةٌ موجهة للطرفَين المتنازَعين، للإخوة الأعداء، السلفيين والعلمانيين، في المعارضة أو في الحكم؛ فالسلفيون يرفضون شرعية الاختلاف، ويحتكرون الرأي إلى حد قد يصل إلى التكفير. والعلمانيون يُخوِّنون السلفيين. والسؤال هو: كيف يكون للفريقَين حق الوجود الشرعي والتحرك في إطار الشرعية؟ إذا كان العلمانيون في الحكم باسم الدولة الوطنية فكيف يُعطى للسلفيين في المعارضة حق الشرعية؟ وإذا كان السلفيون في الحكم باسم الحاكمية فكيف يُسمح للمعارضة بالوجود الشرعي؟ حق الاختلاف إذن ضد المنطق المزدوج للتكفير والتخوين، وضد منطق الإبعاد المتبادَل، والإقصاء المزدوج لصالح فريقٍ واحد يمتلك الحقيقة كلها دون الآخر الذي هو في ضلالٍ مبين. ومن هي الفرقة الناجية؟ هي في الغالب فرقة السلطان؟ ومن هي الفرق الضالة الهالكة؟ هي في الغالب أحزاب المعارضة. إن حق الاجتهاد مكفولٌ للجميع، فمن الذي أغلق باب الاجتهاد؟ من الذي يملك المفتاح لغلقه أو لفتحه؟

    والنموذج التاريخي لذلك هم الموريسكيون الذين صمدوا في إسبانيا ضد محاولات التنصير أو التهجير. وهم الذين حملوا لواء المعارضة داخل إسبانيا المسيحية، نصارى في الظاهر، ومسلمون في الباطن. حملوا مشعل النهضة التي كانت علنية قبل سقوط غرناطة. ورفضوا تحريف الكتاب المقدَّس وحرفية التفسير.١٣ وهو ما زال يحدث في الفكر العربي المعاصر، قراءة للماضي في الحاضر، وللحاضر في الماضي، وتحليلًا لحاجات العصر وتأصيلها في الموروث القديم كنوعٍ من حوار الحضارات أو حوار الأديان، جمعًا بين هموم العلم وهموم الوطن. وهي موضوعاتٌ جديدة لم يتطرق إليها معظم المفكرين العرب المعاصرين. تبرُز قضية في تاريخ الأديان المقارن في قراءة تقوم على التعدُّدية الفكرية، وتُؤكِّد على الخلاف بين المذهب الواحد وليس فقط بين المذاهب. وتجمع بين هموم القدماء وهموم المحدَثين. كما يعرض الكتاب موضوعًا رئيسيًّا هو «أسباب النزول أو تاريخ فوق التاريخ»، وأن الوحي نزل في المكان والزمان، المكان في أسباب النزول، والزمان في الناسخ والمنسوخ؛ فالأحكام تتغير بتغير المكان والزمان. له تاريخ في التاريخ.
    والمنهج المتبع هو المنهج التحليلي «الميكروسكوبي» لرؤية المتناهي في الصغر كردِّ فعلٍ على الأحكام العامة في المشرق، والتنظيرات المجردة في المغرب. وتُستعمل بعض المفاهيم الغربية الأثيرة عند بعض المفكرين المغاربة مثل «القطيعة المعرفية» مع أن الإسلام يقوم على التواصل؛ فالمسيحية قراءةٌ روحية لليهودية، والإسلام اختيار حر بين الشرعية والمحبة وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. أحيانًا يبدو إغراق في الحداثة، وغلبة الحداثة على الموروث القديم، وبعض التشيع في العلم، واستئصال موضوع من تربته لغرزه في تربةٍ أخرى. وتلك صعوبات أمام الباحث والفكر العربي المعاصر وهو يستكشف الطريق بين القديم والجديد، بين تراث الأنا وتراث الآخر، والمقارنة بين ثقافتَين دون مراعاة اختلافهما في المسارَين التاريخيَّين، الأولى في مرحلةِ ما قبل الحداثة، والثانية في مرحلةِ ما بعد الحداثة.

(٤) السياسة

  • (أ)
    السلطة الثقافية والسلطة السياسية (١٩٩٦م). يبدو أن المقولة الثالثة «السياسة» هو مرُكَّب الموضوع بين التاريخ كموضوع والتراث كنقيض موضوع. ويتعرض لموضوعٍ شائك في الفكر العربي المعاصر وتأصيل جذوره في التراث القديم وهو صلة المثقف بالسلطة بالتعبير المعاصر، أو الكاتب بالسلطان بالتعبير القديم. ويعطي نماذج من الماضي، سياسة الكُتاب تجاه السلاطين، وسياسة السلاطين تجاه الكُتاب؛ فقد امتهن الجاحظ مهنة الكتابة للسلطان. ووقف التوحيدي على باب الله وعلى باب السلطان في آنٍ واحد. وأحاط السلاطين أنفسهم بمجالس الفقهاء والأدباء والحكماء والشعراء والظرفاء. وانتحل الكُتاب عهودًا ورسائل وأشعارًا تُبيِّن قدرتهم على الإبداع.١٤ كل ذلك من أجل الإجابة على سؤال: كيف تنشأ السلطة العلمية في المجتمع؟ كان النسق عند القدماء أن الدين والملك توءمان؛ أي الجمع بين السلطتَين، الثقافية والسياسية، وكما قال الفارابي: سواءٌ قلت النبي أو الملك أو الإمام أو الفيلسوف فإنني أعني نفس الشيء.

    ثم طبَّق هذا النموذج على الفلاسفة باعتبارهم النموذج القديم للمفكرين المعاصرين؛ فقد صاغ بعضهم مدنًا مثالية بعيدًا عن نقد النظم السياسية القائمة؛ فالخيال أفضل من الواقع، في حين آثر ابن رشد نقد ثقافة السلطان. ودافع عن الفلسفة إيجابًا في «فصل المقال» من أجل التأكيد على حق النظر ووجوبه بالشرع. كما دافع عنها سلبًا في «تهافت التهافت» بعد أن أقصاها الغزالي لصالح السلطان. ونقد علم الأشعرية وهو الأساس النظري الذي قامت عليه الأموية. وأعاد إقامة الفقه على أسسٍ أخلاقية. وكتب «الكليات» في الطب في العلم الخالص، العقل والتجربة، كأساسَين للوحي.

    ويتم استعراض نفس القضية ابتداء من التراث الغربي، لمعرفة كيفية ظهور سلطة المثقفين في الغرب، خاصة في فرنسا وألمانيا للمقارنة مع ظهور سلطة المثقفين في تاريخ العرب الحديث. ويتردد أسماء القدماء أكثر من أسماء المحدَثين مثل السوسي واليوسي والرازي وابن باجه والفارابي وابن سينا وابن رشد ومن قبلهم سقراط.

    ومع ذلك لم تظهر رؤيةٌ جديدة لعلاقة المثقف بالسلطة أكثر مما هو معروف في النظريات الثلاث الشهيرة، المثقف ضحيةٌ للسلطة أو عميلٌ لها أو تجسيرٌ بين السلطة والشعب لتخفيف أخطار السلطة وتحقيق ما يمكن تحقيقه من مصالح الشعب.

    الدراسة جديدةٌ تشبه دراسة بعض المفكرين الغربيين المعاصرين مثل دريدا في علم الكتابة. وليست دراسةً ميتافيزيقية نظرية خالصة. تجمع بين القدماء والمحدَثين، وتقرأ الحاضر في الماضي والماضي في الحاضر، جمعًا بين المحلية والعالمية، بين التاريخ الخاص والتاريخ العام.

  • (ب)

    «مواقف الفكر العربي من المتغيرات الدولية، الديمقراطية والعولمة» (١٩٩٨م). وهي أصغر الموضوعات، محاضرة أُلقيَت في عمان، وجُمعَت الردود والتعقيبات عليها. وتتطرق إلى بعض الموضوعات الجديدة في الفكر العربي المعاصر مثل التحديث، وريح الشرق؛ فالتحديث قضية الجميع. والليبرالية نموذج لها. ومع ذلك هناك فرق بين ليبرالية السوق؛ أي حرية سيولة البضائع في نظم تقوم على الاقتصاد الحر، وليبرالية الفكر والنظم السياسية، حرية الفكر وديمقراطية الحكم. وهناك نموذج التجربة الآسيوية، التحديث من خلال الدولة والمشاركة الشعبية والتخطيط الاقتصادي.

    وأخيرًا تعرض الدراسة للعولمة ومستقبل الدولة القطرية؛ فالعولمة تقتضي إسقاط الحدود الجمركية، ونهاية سيادة الدولة الوطنية، وتنشيط القطاع الخاص، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني. والدولة القطرية ما زالت متمسكة بسيادتها الوطنية وحماية صناعاتها الوطنية، والرغبة في المشاركة في السوق بالإنتاج وليس فقط بالاستهلاك، فهل يستطيع العرب ذلك عن طريق إيجاد سوقٍ عربية مشتركة وتعاونٍ متبادل من أجل خلق سوقٍ إقليمي يجمع الدول العربية والآسيوية في مواجهة السوق الأوروبية المشتركة والسوق الأمريكية المتمثلة في الشركات المتعددة الجنسيات؟ وهل العرب استثناء؟

    إن صاحب الثلاثية ما زال يمثل واحدًا من قوى اليسار العربي القومي الاشتراكي. ولم يتغير بتغير الأحداث، وبتحول الثورة العربية مائةً وثمانين درجةً أو سقوط النظم الاشتراكية في المعسكر الشرقي. ما زال يكتب للمثقفين العرب، لا للمتخصصين ولا للعامة وإن ظهرت بعض المصطلحات المعربة مثل «اللائية» أي العلمانية.١٥ ربط بين المغرب والمشرق بالرغم من الدعوة العامة في المغرب بالتمايز بين جناحَي الوطن العربي وسوء استعمال مفهوم «القطيعة المعرفية» عن قصد أو عن غير قصد. تخرج من جامعة القاهرة في ١٩٦٠م. وعاش في المغرب أستاذًا للفلسفة في جامعة الرباط. ثم عاد إلى المشرق أمينًا عامًّا لمنتدى الفكر العربي في عمان. وبعد عودته إلى المغرب عاد ثانيًا إلى قاهرة المعز سفيرًا لجلالة ملك المغرب، يثرى الثقافة العربية، ويدعم الأسرة الفلسفية، ويشارك في جمعياتها الفلسفية، جمعًا بين السفارة والفلسفة كما جمع الحكماء القدماء بين رياسة الملك ورياسة الحكمة، بين الملك والفيلسوف.
١  الكتاب التذكاري، أوراق فلسفية، القاهرة، ٢٠٠٤م.
٢  ربما تكون خماسيةً إذا ما صدر «نقد العقل العلمي».
٣  هناك جيل رابع يتشكل الآن، جيل كمال عبد اللطيف، سالم يفوت، سعيد بن سعيد، عبد السلام بن عبد العلي، محمد الوقيدي، سالم حميش، محمد مصباحي، الدواي، والمرحوم جمال الدين الطوي وغيرهم. وربما هناك جيلٌ خامس قادم الذي يمارس هواية الكتابة في مجلة «فكر ونقد» التي يشرف على إصدارها محمد عابد الجابري.
٤  في مصر هناك أربعة أجيال على الأقل؛ الأول مصطفى عبد الرازق، والثاني إبراهيم بيومي مدكور، وعثمان أمين، وعلي سامي النشار، وابو العلا عفيفي، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة، وتوفيق الطويل، وعبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود. والثالث فؤاد زكريا، وفتح الله خليف، وحسن حنفي، والمرحوم محمود رجب، والمرحوم محمود فهمي زيدان، وأحمد صبحي، وأميرة حلمي مطر، وصلاح قنصوه، وعلي عبد المعطي، ومحمد مهران. والرابع طلبة هذا الجيل الذين لم يفرضوا وجودهم الفلسفي بعدُ مثل يمنى طريف الخولي.
٥  مثلًا: الفصل الأول: التاريخ والبحث عن خطابه.
  • (١)

    أصول التاريخ والتراث.

    • (أ)

      التاريخ والتراث.

    • (ب)

      التاريخ والسياسة.

    • (جـ)

      التراث المكتوب والسلطان السياسي.

  • (٢)

    التراث ومنهجه.

  • (٣)

    التاريخ ومفهومه.

الفصل الثاني: المشروع التاريخي.
الفصل الثالث: النسخة الشرقية لتاريخ ابن خلدون.
الفصل الرابع: الحقل التاريخي لابن خلدون.
الفصل الخامس: التصوف والتاريخ.
٦  L'histoire et son discourse, essai sur la méthodologie d'Ibn Khaldun, 1977. (222p).
٧  أكبرها «السلطة السياسية والسلطة الثقافية» (٢٥٧ص).
٨  انظر دراستنا: «من نقد السند إلى نقد المتن»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة، ١٩٩٦م، ص١٣١–٢٤٣.
٩  اتجه الفكر العربي المعاصر لدراسة ابن خلدون في المغرب والمشرق وأهمها:
  • (أ)

    طه حسين، «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون».

  • (ب)

    عبد العزيز عزت، «فلسفة التاريخ عند ابن خلدون».

  • (جـ)

    ناصيف نصار، «فلسفة التاريخ عند ابن خلدون» (بالفرنسية)، باريس، ١٩٧٧م.

  • (د)

    محمد عابد الجابري، «العصبية والدولة عند ابن خلدون»، ١٩٧١م.

  • (هـ)

    زينب الخضيري، «فلسفة التاريخ عند ابن خلدون»، القاهرة، ١٩٨٧م.

١٠  «الخطاب التاريخي»، ص٤٧–٥٨.
١١  السابق، ص١٦١.
١٢  ويتضح ذلك من عناوين أجزاء الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» في مشروع «التراث والتجديد» مثل: «من العقيدة إلى الثورة»، «من النقل إلى الإبداع»، «من النص إلى الواقع»، «من الفناء إلى البقاء»، «من النقل إلى العقل». وكذلك في الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي»، من الاستشراق إلى الاستغراب في «مقدمة في علم الاستغراب». وكذلك مشروع الطيب تيزيني في بيانه الأول «من التراث إلى الثورة».
١٣  يُشار إلى: أبو القاسم الحجري، «ناصر الدين على القوم الكافرين»، الدار البيضاء ١٩٨٧م، وهو اختصار «رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب».
١٤  «من النقل إلى الإبداع»، مج١ النقل، ج٢ النص، فصل٣ الانتحال.
١٥  «مواقف الفكر العربي من المتغيرات الدولية، الديمقراطية والعولمة»، ص٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤