تجديد علم الأصول١

قراءة في الإمام الشهيد محمد باقر الصدر

أولًا: كتابات الإمام في علم الأصول

علم الأصول له شِقَّان؛ علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. علم أصول الدين هو علم العقائد أو علم الكلام، أو علم التوحيد أو علم الذات والصفات. وهو علمٌ نظري يضع أصول النظر أي التصوُّرات العامة للعالم، مثل التوحيد والعدل بلغة الاعتزال أو الذات والصفات والأفعال بلغة الأشعرية. وعلم أصول الفقه علمٌ عملي، يضع قواعد النظر واستنباط الأحكام. هو علمٌ نظري عملي يضع قواعد الاستدلال من أجل تطبيق الأحكام. علم أصول الدين أشبه بالعقل النظري، وعلم أصول الفقه أشبه بالعقل النظري العملي. أما علم الفقه فهو العقل العملي.

واختيار علم أصول الفقه للتجديد فيه، هو اختيار لأهم مواطن الإبداع في العلوم الإسلامية؛ فعلم الأصول هو العلم الإسلامي الإبداعي بالأصالة. تأسَّس بشِقَّيه قبل عصر الترجمة؛ ومِن ثَمَّ فهو سابقٌ على الفلسفة، وكما لاحظ الشيخ مصطفى عبد الرازق ضد اتهامات المستشرقين للفكر الإسلامي بتبعيته لليونان.٢

وهو العلم الذي يُعبِّر عن روح الحضارة الإسلامية، التوجُّه نحو الواقع من أجل السيطرة عليه عن طريق تنظيم الأفعال الإنسانية فيه، ووضع قواعد السلوك البشري. ليست غايته الآخرة بل الدنيا، وليس الدين بل عمارة الأرض، وليس الله بل العالم؛ فالله هو الشارع، واضع الشريعة. ولمَّا كانت الشريعة، وضعية لها بنيتها في الواقع الاجتماعي، وفي الموقف الإنساني، لم تكن هناك حاجةٌ إلى تشخيص الشريعة في شخص الشارع، وليس الإشراقيات والاتصال بالعقل الفعال، بل العقل الاستنباطي والاستقراء التجريبي مع مباحث اللغة وتحليل الألفاظ.

لذلك اهتم الإمام الشهيد بعلم الأصول، وخصَّص له كثيرًا من أعماله، على الأقل خمسة:
  • (١)

    مباحث الدليل اللفظي (ثلاثة أجزاء). يضُم بعد التمهيد في تعريف العلم وموضوعه وتقسيمه، والمدخل في الدلالة والاستعمال وعلامات الحقيقة وتشخيص المعنى والتطبيقات، قسمَين؛ البحوث اللفظية التحليلية وتضُم الحروف والهيئات، والبحوث اللفظية اللغوية مثل الأوامر والنواهي، صِيَغها ودلالاتها وعلاقتها مع بعض المفاهيم الرئيسية فيها مثل الخاص والعام، والمطلَق والمقيَّد، والمُجْمَل والمُبيَّن.

  • (٢)

    مباحث الحجج، والأصول العملية (أربعة أجزاء). الجزء الأول عن الحُجج والأمارات. ويتوجَّه نحو منطق الاستدلال، وقِسمتُه إلى قطعٍ وظن، وتفسير الظن في السيرة والظواهر والإجماع والشهرة والأخبار، ومُطلَق الظن عندما تَنسَد الدلائل كلها. والقطع يستبعد التجرِّي وهو العمل بلا دليلٍ يقيني. والدليل هو أساسًا الدليل العقلي على عكس ما يُقال في الأصول الشيعية التقليدية من تقليد الإمام المعصوم أو إجماع آل البيت، آل العترة، الإجماع الخاص وليس الإجماع العام. والثاني عن البراءة والتخيير والاحتياط، وهي من مقولات الفعل التي تؤكد على البراءة الأصلية، وأن الأشياء في الأصل على الإباحة، وعلى حرية الأفعال، وأن الإنسان على التخيير، كما هو الحال في المندوب والمكروه، وعلى الاحتياط والحذَر والبُعد عن الشبهات؛ حرصًا على راحة الضمير. والثالث عن الاستصحاب، حُجيَّته، والأقوال فيه، ومقدار ما يثبت به، ثم تطبيقات عليه. والرابع في تعارُض الأدلة الشرعية، وتقسيمه إلى غير مُستقِر ومُستقِر.

  • (٣)

    دروسٌ في علم الأصول (ثلاث حلقات في جزأين). ويتضمن ثلاثة مباحث بعد المقدمات التمهيدية الأُولى، كلها في الأدلة. الأول الأدلة المحرزة، الدليل الشرعي، والدليل العقلي. والثاني الأصول العملية التي تتركز في الاستصحاب. والثالث في تعارُض الأدلة.

  • (٤)

    المعالم الجديدة للأصول. وينقسم بعد المدخل التمهيدي الأول إلى جزأين؛ الأول عن الدليل، وأنواعه اللفظي والبرهاني والاستقرائي، والثاني الأصل العملي مثل الاستصحاب، وهي نفس القسمة في المؤلَّفات السابقة مع تلخيصٍ شديد.

  • (٥)
    الأسس المنطقية للاستقراء. بالرغم من أنه ليس في علم أصول الفقه مباشرة، إلا أنه تنظيرٌ له، بحيث يصبح منطقًا خالصًا يجمع بين الاستنباط والاستقراء، بين استنباط الأصل واستقراء الفرع، بعد نقد المنطق الصوري الخالص، ونقد المنطق التجريبي الخالص من أجل تأسيس منطقٍ ذاتي للمعرفة.٣
بالرغم من أن العملين الأوَّلَين من تأليف السيد محمود الهاشمي، إلا أنهما من دروس الإمام الشهيد. الأفكار له والتحرير لأحد تلاميذه، وذلك مثل نسبة أفكار مقالات «العروة الوثقى» للسيد جمال الدين الأفغاني، بالرغم من أن التحرير والصياغة للإمام محمد عبده.٤

وإذا كان في علم أصول الدين اختلافٌ واضح في العقائد بين السنة والشيعة، فإن علم أصول الفقه يقل فيه الخلاف إلى أقصى حد. إنما يظهر التوتُّر فيه بين قُطبَيه، الأصل والفرع، النص والمصلحة، التقليد والاجتهاد، وهو توتُّر يُشارك فيه أصول الفقه السني والشيعي على حدٍّ سواء.

وتُوجد مصطلحات غير مألوفة في أصول الفقه الشيعي مثل المجزية، التعهد، المرآتية، العلامية، التبادُر، التعبُّدي، التوصُّلي، التجرِّي، الانتزاعي، الظواهر، الانسداد، الاحتياط، التزاحم، التعارُض غير المستقر، التعارُض المستقر، الورود، الأدلة المحرزة … إلخ، تجعل الأصولي السني يشعر ببعض التجريد على مستوى المعنى، وعدم الألفة والغرابة على مستوى للفظ.٥
ومع ذلك تُوجد مصطلحاتٌ مشتركة بين الشيعة والسنة؛ مثل: الوضع، الأوامر والنواهي، الحقيقة والمجاز، المطلق والمقيد، الخاص والعام، الواجب، الشرط، الصفة، الضد، القطع، الظن، الحجة، الأمارة، القرينة، الدليل العقلي، الدليل الشرعي، الامتثال، الإجماع، البراءة، الاستصحاب، التعارض، الترجيح … إلخ، تجعل من السهل عقد المقارنة بينهما.٦

ثانيًا: دلالات المباحث اللفظية

من الواضح تركيز الإمام الشهيد العلم كله على قطبٍ واحد كما يقول الغزالي، وهو طرق الاستثمار وليس الثمرة (الأحكام) أو المستثمَر (بفتح الميم)، وهي الأدلة الشرعية الأربعة، أو المستثمِر (بكسر الميم) وهو الفقيه أو المفتي أو المجتهد. العلم هو منهجه قبل أن يكون موضوعه وغايته. ولمَّا كان المنهج يتعلَّق بطرق الاستدلال فقد غلب عليه المنطق. ولمَّا كان منطق الاستدلال يتعامل مع النص وهو الأصل والواقع وهو الفرع، أصبحت مباحث الألفاظ أهم جانب في منطق الاستدلال. ولمَّا كان الفرع هو الواقع الجديد الذي في حاجةٍ إلى دليل، ظهر دور العقل والدليل العقلي على التقابُل. ولمَّا كان منطق الاستدلال لا يتم عن طريق ربطٍ آلي بين الدليل اللفظي والدليل العقلي ظهر الاستصحاب.

وهو نوعٌ من الأدلة لا تمايُز فيه بين النص والعقل، بل الدوران مع المصلحة العامة؛ فالمصلحة أساس التشريع. وهذا هو السبب في قسمة علم الأصول قسمةً ثلاثية؛ الدليل اللفظي، والدليل العقلي، ودليل الاستصحاب. وهو نفس موقف رشد في «الضروري في علم أصول الفقه»، ملخصًا المستصفى للغزالي وأقطابه الأربعة إلى قطبٍ واحد، هو نفس قطب الإمام الشهيد طرق الاستثمار؛ فقد كان هم ابن رشد هو نفس الهم، كيفية الاستدلال وإعمال العقل بين النص والواقع، بين الكليات والجزئيات.٧ وقد بلغَت مباحث الألفاظ من الأهمية لدى الإمام الشهيد، أنه خصَّص لها مؤلَّفًا بأكمله من أجزاءٍ أربعة «مباحث الدليل اللفظي».
ومن مجرد المصطلحات تبدو حداثة الإمام الشهيد في استعمال لفظ «الدلالة»، وهو الذي أصبح موضوعًا بأكمله في أحد فروع اللسانيات الحديثة هو «علم الدلالة». كما يستعمل لفظ العلامة الذي أصبح هو أيضًا موضوعًا لعلمٍ مستقل في اللسانيات الحديثة هو علم العلامات.٨ تُوضَع الدلالة اللفظية في النظرية العامة للدلالة على المعنى الحقيقي. ويعرض عدة نظرياتٍ فيها مثل نظرية التعهُّد ونظرية الاعتبار، ثم ينتقل منهما إلى نظرية الوضع. والدلالة الوضعية ليست تصوُّرية أو تصديقية، بل متوقفة على الإرادة دون أن تكون قيدًا عليه. الدلالة جماع الموضوع والذات، الوضع والقصد، اشتراك علاقة بين طرفَين. ويدخل المعنى المجازي في نظرية الدلالة؛ فاللفظ يدل حقيقة كما يدل مجازًا. الحقيقة والمجاز أَوَّل ثنائيٍّ لغوي في مبحث الألفاظ التقليدي، يتحول عند الإمام الشهيد إلى جزءٍ من كل. كما يُوضع في نظرية الدلالة كل ألفاظ الاشتباه، عندما يدل اللفظ على أكثر من معنًى ابتداءً من الحقيقة والمجاز، والظاهر والمُؤَوَّل، والمطلَق والمقيَّد، والمحكَم والمتشابِه، والمُجمَل والمُبيَّن، والمستثنى والمستثنى منه، بل الخاص والعام، والأمر والنهي؛ كلها من مباحث الألفاظ.
والعلامات ليست مجرد رموزٍ اصطلاحية، مواصفاتٍ اتفاقية، بل هي علاماتٌ حقيقة لتشخيص المعنى، وتحويله من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان. وهي على أنواع؛ علامات التبادُر، وعلامات صحة الجمل وعلامات الاطراد، وعلامات التعارُض، وكلها علاماتٌ على الحقيقة لها أثرها العملي.٩

وكما أن هناك منطقًا صوريًّا، ومنطقًا تجريبيًّا ومنطقًا للاستعمال، تأتي نظرية الاستعمال بعد نظرية الدلالة. وإذا كان علم أصول الفقه هو علمٌ نظري عملي، كان من الطبيعي أن يكون منطقه منطقًا للاستعمال. ولا يعني الاستعمال مجرد كيفية العامل مع الأداة، بل هو مرآةٌ وعلامة. وهي مصطلحاتٌ وتصوُّراتٌ مُستحدَثة في علم الأصول. والاستعمال إيجاد، أقرب إلى الفعل الخلَّاق منه إلى الأداتية والوسائلية.

ويُدخل الإمام الشهيد واضع «الأسس المنطقية للاستقراء» الدليل الاستقرائي مع الدليل اللفظي والدليل البرهاني أو العقلي، بل إنه يعتبر القياس خطوة من الاستقراء، ويعتبر المصادر الظنية الخارجية مثل الإجماع والشهرة، والخبر، وسيرة المتشرِّعة، والسيرة العقلانية من الدليل الاستقرائي غير المباشر. ويعني الاستقراء تكرار الأفعال الجزئية من أجل استخلاص قاعدةٍ عامة، ثم أصبح مجموع هذه القواعد عِلمًا مستقلًّا هو «علم القواعد الفقهية»، وهو ما يُسمَّى أيضًا عند أهل السنة علم «الأشباه والنظائر»، والذي ألَّف فيه ابن نجيم والسيوطي. ويُسمِّيه الشاطبي «الاستقراء المعنوي»، ويعني تكرار أحكام رفع الحرج أو الضرر، حتى يمكن الانتهاء إلى الأحكام العامة، حتى ولو كان الاستقراء ناقصًا.١٠
ويغلب على كثيرٍ من مباحث الألفاظ ما وضعَه أهل السنة ضمن المقدمات الأولى عن المبادئ اللغوية، كما هو الحال في المستصفى للغزالي مثل الحديث عن أقسام الكلام، الاسم، والفعل، والحرف، والمعرفة والنكرة، وأزمان الفعل، وصيغ الخطاب؛١١ فعلم أصول الفقه يستمد بعض مواده من العلوم الأخرى، فيما يتعلق بالأخبار، التواتُر والآحاد، مثل علم اللغة في مقدمة مبحث الألفاظ، وعلم الحديث في الدليل الثاني، السنة، وعلوم القرآن، فيما يتعلق بالنسخ في الدليل الأَوَّل، والمنطق وأشكال القياس فيما يتعلَّق بالدليل الرابع.
لذلك يُقسِّم الإمام الشهيد مباحث الألفاظ إلى تحليليةٍ ولغوية. التحليلية هي التي يُسمِّيها أهل السنة المبادئ اللغوية، وهي مباحث الألفاظ التقليدية. وتضم التحليلية الحروف والهيئات؛ أي صيغ الخطاب مثل الخبر والإنشاء والشرط، والهيئات الإرادية وهي هيئة الفعل والمصدر والمشتقَّات، ثم وضع الحروف بالهيئات، وأثر ذلك في الممارسات العملية.١٢
ومبحث الأوامر والنواهي هو صلب مباحث الألفاظ التقليدية. وهي أيضًا مبحث من مباحث الدلالات العامة؛ دلالة مادة الأمر أي مضمونه، من حيث العُلُو والاستعلاء أو الوجوب أو الطلب؛ فالأمر فعلٌ إرادي أو طلب فعل، وأهم صيغه التعبُّدي والتواصُلي مع دلالته على الوجوب النفسي وتَكْراره.١٣ أما أجزاء الأمر فتتعلق بالوقت أي زمان الفعل. ومقدمة الواجب تعني شرطه أو إطلاقه بلا شرط، وهو واجبٌ تجاه النفس وتجاه الغير. ومبحث الضد تقليدي، وهي مسألة هل الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده. وفي الحالات الخاصة تُثار مسائل الأمر بعد الأمر، والأمر بالأمر، ونسخ الأمر. وفي كيفيات الأمر يُبحث موضوع التخيير، والكفاية، والعين، والفور والتراخي والقضاء، والضيق والموسَّع، وكلها تحقيق الأمر في الزمان؛ فالأمر على هذا النحو أشبه ببنيةٍ تجمع بين النص والواقع وفي وسطها الفعل. له أبعادٌ لغوية وسلوكية وواقعية في تأدية الفعل في الزمان أكثر منه في المكان.١٤

ويتم التعرُّض لموضوع النواهي بنفس الطريقة. ويُقسِّمها إلى قسمَين؛ الأول بحوث النواهي وتشمل الصيغة، واجتماع الأمر والنهي والفساد. والثاني المفاهيم وتضم معنى المفهوم، ثم بعض المباحث اللغوية التقليدية مثل الخاص والعام، والمطلَق والمقيَّد، والمُجمَل والمُبيَّن؛ فصِيَغ النهي تدُل على الاستغراق، وتستدعي الامتثال، وتوفُّر الدواعي «الجامع الانتزاعي». وقد تجتمع الأوامر والنواهي في نفس الصيغة؛ فالفعل تركٌ إيجابي، والترك فعلٌ سلبي. ولمَّا كان الأمر طلبًا للصلاح، فإن النهي كفٌّ عن الفساد. أما المفاهيم فإنها الأُسس التي يرتكز عليها النهي، مثل الشرط والوصف والغاية والاستثناء والحصر، مما يدل على رغبة الإمام الشهيد في العرض النظري، وتحويل علم الأصول إلى منطقٍ شعوري خالص.

أما مباحث العام والخاص، والمُطلَق والمُقيَّد، والمُجمَل والمُبيَّن، فإنها مباحثُ تقليدية مع قَدْرٍ كبير من التجريد، دون إعطاء أمثلةٍ توضيحية من الفقه، أو الدخول في مناقشاتٍ كلامية؛ نظرًا للتمييز بين العِلمَين؛ أصول الدين وأصول الفقه. إنما يزيد الإمام الشهيد تحليل الخطاب الشفاهي، ويضيف مفهومَي الموافقة والمخالفة من لحن الخطاب ومفاهيم السياق عند أهل السنة. ويسترجع بعض المفاهيم الفلسفية الخالصة، لمساعدة التحليل الأصولي على الوصول إلى درجةٍ عالية من التجريد، مثل قسمة المُجمَل إلى مُجمَلٍ بالذات ومُجمَلٍ بالعرَض.

ثالثًا: منطق الاستدلال وعلم القواعد الفقهية

وهو البعد الثاني في علم الأصول بعد مباحث الألفاظ والتحليلات اللغوية؛ انتقالًا من منطق اللغة إلى منطق العقل. ويتكون من أربعة أقسام؛ الأول الحُجج والأمارات التي تؤدي إلى اليقين أو الظن، أهم مقياسَين في المعرفة. وفي الأصول يُسمَّى اليقين القطع، كما هو الحال في التعبير المشهور «قطعي الدلالة ظني الثبوت»، والقطع عكس التجرِّي، القطع يقينٌ نظري وعملي، في حين أن التجرِّي ظنٌّ نظري ويقينٌ عملي، وهو ما يُعادل وضع خبر الواحد عند أهل السنة. التجرِّي هو ظنية الدلالة، ومع ذلك يتم تنفيذ الفعل جريًا وراء العادة أو العرف.١٥ ويُثبِت الإمام الشهيد حُرمة التجرِّي؛ دفاعًا عن القطع وضرورة اليقين المعرفي المُسبَق.
والقطع يقينٌ مُسبَق، لا تكفي فيه الأمارة أو العلامة أو القرينة. الأمارة مُؤشِّر على اليقين ودليلٌ عليه، وليس برهان اليقين ذاته؛ لذلك كان الدليل العقلي قطعي الدلالة؛ لأنه برهان اليقين ذاته، الذي يقوم على الاتساق، وليس على مجرد مؤشراتٍ خارجية. اليقين الذاتي يتطلَّب «موافقةً التزامية»؛ أي تصديقًا برهانيًّا ذاتيًّا وانتسابًا إليه؛ فالالتزام ليس فقط في السياسة والمواقف العملية، بل أيضًا في المعرفة النظرية. والدليل العقلي ليس مجرد برهانٍ عقلي، بل هو مفتوحٌ على لحظة «الجعل»؛ أي رؤية الحقيقة نفسها وهي تتخلَّق، ولحظة «الكشف» وهي رؤيةٌ مباشرة وإدراكٌ حدْسي لحظي، ولحظة «التنجيز» أي المشاركة في الحقيقة بإدراكها؛ أي بإكمال خلقها، وهذه هي بقايا الجوانب العرفانية في أصول الفقه الشيعي. وفي نهاية المعرفة القطعية يتم الإنجاز ويتحقق الامتثال الإجمالي، كما يقول الشاطبي في «الموافقات»، وضع الشريعة للامتثال في أحكام الوضع.١٦
أما مباحث الظن فتدور كلها حول الحُجج الظنية، وهي ما يُسمَّى بالحجج النقلية بمصطلحات علم الكلام، العقل في مقابل النقل. وهي حُججٌ خارجية وليست داخلية، شواهد وليست مشاهدات، وهي ست حُجج؛ الأولى حُجة السيرة، وهي نوعان؛ السيرة الشرعية مثل سيرة الرسول والصحابة والتابعين، أو حتى سيرة الإمام المعصوم، السيرة الفاضلة، السيرة العطرة والتي هي موضوع علم السيرة. وهي حُجةٌ ظنية نظرًا لصعوبة الرواية، والتمييز بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين الشخصي والعام، وهو ما سمَّاه أهل السنة بين التأسِّي والقدوة، أما السيرة العقلانية فهي أكثر يقينًا؛ لأن السيرة الذاتية رؤية الحقيقة، وهي تتخلَّق كبرهانٍ ذاتي وجودي، تتكشَّف فيها الحقيقة، لا فرق فيها بين الذات والموضوع، مع أن فن السيرة الذاتية لم يكن شائعًا في التراث الإسلامي.١٧

والثانية حُجة الظواهر أو الظهور أي الكشف؛ فالظاهر هنا له معنًى باطني، وليس كأهل الظاهر الذين يأخذون بظاهر النصوص. وقد يكون الظهور للسيرة الشرعية أو السيرة العقلية. وكل ظهور أصيل، يُعبِّر عما يظهر. الظهور ذاتي وموضوعي، تجلٍّ مُدرك، رؤيةٌ كاشفة. ويثبت بالبرهان.

والثالثة حُجة الإجماع، وهي حجةٌ ظنية. إذا ما قُورنَت بالحُجة العقلية كانت لطفًا. تقوم على دليلٍ شرعي؛ إذ الإجماع المنقول أضعف من الإجماع المركَّب؛ أي الوعي بالإجماع الذي يثبُت بقانون العقل النظري، ويكشف عن الواقع، التجربة المشتركة الباطنية التي يُمحى فيها الفرق بين الماضي والحاضر.١٨

والرابعة حُجة الشهرة، وهو ما يُعادل المشهور في علم الحديث، والمأثور في الأقوال عن السابقين. وقد يستند القول المشهور إلى قاعدةٍ، فيقل ظنُّه ويزداد يقينُه، وقد يعتمد على مجرد الروايات الخاصة، فيزداد ظنُّه ويقل يقينُه.

والخامسة حُجة الأخبار، المتواتر أو الآحاد. وهي ظنيةٌ كما هو الحال عند النظَّام، الذي ينكر حُجة الخبر والإجماع؛ لأنهما شاهدان خارجيان عن يقين العقل.١٩ مع أن شروط التواتُر تجعله أقرب إلى اليقين، مثل العدد الكافي من الرواة واستقلالهم، وتجانُس انتشار الرواية في الزمان، والإخبار عن حسٍّ مع الاتفاق مع مجرى العادات؛ فيقين التواتُر تجريبي، ويقين خبر الآحاد في تحليل شعور الراوي وضبطه، والاتفاق بين السمع والحفظ والأداء.

والسادسة حُجة الظن المطلق ودليل الانسداد. وهو أقرب إلى الموقف المعرفي المبدئي، باستحالة الوصول إلى اليقين، كما هو الحال في موقف الشكَّاك؛ فلا يُوجد إلا الظن، واليقين وَهْم.

ويتعرَّض الجزء الثاني للبراءة، والتخيير، والاحتياط، وربما الاستصحاب. وهي أقرب إلى الأصول العملية منها إلى الحُجج النظرية؛ فالحُجة ليست مجرد برهانٍ منطقي أو هندسي، بل هي بحثٌ عن أساسٍ نظري للعمل ويقين للسلوك؛ لذلك تم الجمع في عنوانٍ واحد «مباحث الحجج والأصول العملية». ويعني الأصل العملي اليقين النظري، الذي يستند إليه الحكم الشرعي. ولا فرق بين الأصل والأصالة في البراءة والتخيير.

وتعني أصالة البراءة أن الأشياء في الأصل على الإباحة، وأن التحريم طارئٌ عليها في أصول الفقه السني. وعند الإمام الشهيد نوعان؛ البراءة العقلية والبراءة الشرعية؛ فالعقل لا يعرف الإثم، إنما تأتي الآثام من الأهواء والنزوات؛ لذلك كان من صفات الله الإرادة؛ أي عدم اتباع الأهواء. وهناك أدلةٌ نقلية من الكتاب والسنة على البراءة الشرعية، مثل رفع الحرج وعدم جواز تكليف ما لا يطاق، وعدم جواز المساءلة قبل بعثة الرسل، واستقلال الإنسان عقلًا وإرادة. كما ثبت البراءة الأصلية بالاستصحاب؛ أي بطبائع الأمور ومجرى العادات. والبراءة لا تنفيها الشبهة الذاتية والموضوعية لأن البراءة أصل. وعلى أصل البراءة تقوم التكاليف غير الإلزامية.

ويعني أصل الاحتياط الحذَر العقلي والحذَر الشرعي وعدم المخاطرة، ويثبُت بنص الكتاب مثل عدم إلقاء النفس إلى التهلكة، والاحتكام في حالة النزاع، والتقوى الباطنية، وعدم الفتوى بغير علم؛ فالاحتياط حذرٌ علمي وعدم المجازفة بإطلاق الأحكام دون دليلٍ كافٍ. والبراءة والاحتياط لا يتعارضان. البراءة يقينٌ أصلي في حين أن الاحتياط ظنٌّ طارئ. البراءة أصل، والاحتياط فرع. البراءة قاعدة، والاحتياط استثناء. البراءة يقين، والاحتياط شك. والاحتياط واجبٌ في الشبهات، وهو الذي يؤدي إلى قاعدة التسامُح في أدلة السنن، وعدم ضرب الأخبار بعضها ببعض، وافتراض حسن النية في الرواة، وتصديق المتون مهما بلغ الاختلاف في صياغاتها اللفظية. التسامُح نوعٌ من الاستحسان، كما أن الاستصحاب نوعٌ من الاستصلاح. وعلى أصالة الاحتياط يتم الترخيص أخذًا بالأحوط ورفع الضرر. الاحتياط إنجازٌ للعلم دون الوقوع في الشبهات، إقدامٌ وإحجام، تقدمٌ وتراجع، يقينٌ وظن، ثقةٌ وشك، قاعدةٌ واستثناء، معرفةٌ وابتلاء، علمٌ إجمالي في موقفٍ خاص.٢٠
وتعني أصالة التخيير أن الحرية الإنسانية هي نسيج الأفعال، وأن الأوامر والنواهي ليست قوالبَ مفروضة على طبائع البشر، وأن الأحكام الشرعية فرضٌ والتزام. صحيحٌ أن في السلوك الإنساني يقينٌ مطلق، يتمثَّل إيجابًا وسلبًا في الواجب والمحرم. ولكن هناك أفعالٌ إنسانية على الاختيار، طبقًا لقدرات كل فرد إيجابًا وسلبًا أيضًا، وهما المندوب والمكروه. أما المباح فهو فعل البراءة الأصلية، وكأن شرعية الأفعال في وجودها، وكأن الطبيعة والشرع نظامٌ واحد. والتخيير في التوصُّليات والتعبُّديات في آنٍ واحد، في الفرق بين الفروض والسنن. وهو ما يسمح بالتمايُز بين الأفراد، والسبق والتنافُس وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ.٢١
وهناك أصولٌ أخرى أشبه بالقواعد مثل الأقل والأكثر. وهو المقياس الكمي في الأفعال، شرائطها والتخيير بينها، ويكون ذلك عن طريق الاستصحاب. وهو اختيارٌ بين الميسور والمعسور، طبقًا لقاعدة الميسور ودون شك في الزيادة، وطبقًا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار.٢٢
ويعرض الجزء الثالث للاستصحاب، وهو بيت القصيد، وما يجتمع عليه أصول الفقه السني والشيعي؛ فهو الدليل الرابع من الأدلة الشرعية عند الغزالي في «المستصفى»، ويُسمِّيه دليل العقل أو الاستصحاب.٢٣ ويعني مصاحبة الدليل ثقة فيه، حتى ولو كان ينقصه اليقين النظري المطلق. وهو أقرب إلى الذوق الفطري، الذي يعتمد على اللغة والمصلحة، شاقًّا طريقه بينهما باسم العقل والفطرة والذوق والطبيعة الخَيِّرة، واجتماع مصادرَ معرفيةٍ متباينة ظنية تصبح نوعًا من اليقين، وتُحوِّل أنصاف الشكوك إلى شبه يقين. هو استصحابٌ للكلي من مجموع الأجزاء.

ويثبُت الاستصحاب بتحليل مصادر المعرفة وأُسسها العملية، وبالحُجج النقلية وبالسيرة العقلية. وعادةً ما يُستخدَم في لحظات الشك التقديري وغياب اليقين المطلق، فيكون استصحابًا للكلي أي مجموع القرائن والإمارات، واستصحاب الأمور المقيدة بالزمان والعصر؛ أي الأعراف والعادات والمصالح المتعارَف عليها، واستصحاب النسخ إحساسًا بالتقدُّم والتغيُّر سلبًا أم إيجابًا نحو المنسوخ أو نحو الناسخ؛ فالتغيُّر ليس خطيًّا بالضرورة، قد يكون تقدُّمًا وقد يكون نكوصًا.

ومع ذلك تظل الأمارات والقرائنُ أقوى من الأصول العملية؛ فالأمارات مؤشِّرات على اليقين وطريقٌ إليه، والأصول العملية اجتهادٌ في الحصول عليه؛ لذلك تتقدم الأمارات على الأصول، تتقدَّم بالورود وبالحكومة وبالقرينة على أصالة البراءة والاستصحاب.

فإذا ما تعارضَت الأصول العملية يتقدَّم الأصل المحرز والسببي على غير المحرز السببي. وهنا يدخل التعليل عند أهل السنة كأحد طرق رفع التعارض بين الأصول العملية، فإذا كان التعارض عرضيًّا بينها، كان تزاحمًا على الأصل في مرحلة الامتثال، وتدافعًا على منجزية الأفعال.٢٤
ونظرًا لأهمية تعارُض الأدلة الشرعية، يصبح هو موضوع الجزء الرابع، وقد يُخفَّف لفظ التعارُض بلفظ التزاحُم؛ أي تدافُع الأدلة نحو الإثبات نحو اتجاهاتٍ متباينة في الفعل وكلها صحيحة. التزاحُم مقبول والتعارُض له تراجيحُ بمصطلح أهل السنة. وينشأ التعارُض في الأدلة الشرعية في الروايات، إما لجوانبَ ذاتيةٍ فيها أو مراعاةً لظروف الراوي أو للتقية، أو بسبب سوء النية والقصد للدس والتزوير.٢٥

والتعارُض نوعان؛ غير مستقر ومستقر طبقًا لنظرية الورود؛ أي تقابُل الأدلة وتقاطُعها وتزاحمها. ويكون الحل بالتراجيح؛ أي أولويات الأدلة طبقًا للقوة والضعف. القدرة العقلية مقدَّمة على القدرة الشرعية، وترجيح القدرات الشرعية بعضها على البعض الآخر، طبقًا لأولوياتها في القوة، وترجيح الأقل شكًّا على الأكثر شكًّا، والأكثر يقينًا على الأقل يقينًا. وقد تكون الأهمية مقياسًا للترجيح طبقًا للقدرة الشرعية، وترجيح الأسبق زمنًا على الأحدث في الرواية وليس في النسخ.

وقد يُغني التزاحُم عن الترجيح طبقًا لأحكام التزاحُم، وهي أنه لا يحدث إلا في المتضادين، فيخرج الورود عنه إذا توافرت القدرة الشرعية في الحالتَين وكانا متزامنَين، وإذا توقف فعل الواجب على فعل المحظور. ولا يقع التزاحُم إلا بين الواجبات الضمنية مثل الضيق والموسَّع.

وقد تكون المرجِّحات أدلةً عقلية أو نقلية أو قرائنية، العقل أو النقل أو الطبيعية أي الواقع الحسي. والقرينة قد تكون نوعيةً كلية أو شخصيةً فردية. وظيفتها تخصيص العموم أو تعميم الخصوص، إطلاق المقيَّد أو تقييد المطلَق. وقد تكون منفصلةً أو متصلة، والمتصلة أقوى دلالة وأظهر بيانًا.٢٦

أما التعارض المستقر فهو التعارض الذي يبدو أحيانًا بين الأدلة، في مقابل غير المستقر الذي يبدو عند البعض دون البعض الآخر أو في حالةٍ دون أخرى. وينشأ من عدم المقدرة على استيعاب الرؤية الكلية للواقع المتشابه، وللوجود الإنساني المُحمَّل بالإمكانيات المتباينة. ويُحل التعارُض عن طريق تحديد مركزه بين الدليلَين، تأسيس الأصل الذي يقومان عليه. وكل تعارُضٍ بين دليلَين له حلٌّ ثالث، خلافًا لمبدأ الثالث المرفوع في المنطق الصوري. ولا يتعارض الوضع والحكم لأن الأحكام وضعية بمصطلحات الشاطبي، ولا يتعارض الشمول مع البدل كما لا يتعارض الكلي مع الأجزاء. ويُحل التعارُض عن طريق تغيير النسبة بين الدليلَين المتعارضَين.

أما التعارُض في الروايات فحلُّه الاتفاق أو الاختلاف مع الكتاب، مثل أخبار الحلاج وابن الرواندي. كما يتم الترجيح بالشهرة والذيوع أو الروايات القريبة من الحدث أو بالصفات أي الاتفاق مع العقل؛ فنقد المتن مكملٌ لنقد السند.٢٧

رابعًا: تجاوز القدماء

لقد استطاع الإمام الشهيد تجاوُز أصول الفقه الشيعي عند القدماء، وأصبح من الأئمة المجتهدين المعاصرين. كان لديه إحساس الجدَّة وبضرورة التطوير على ما يبدو من بعض عناوين مؤلَّفاته في علم الأصول، مثل «المعالم الجديدة للأصول»، وفي تاريخه للعلم يلاحظ ظهور «مدرسة جديدة» في علم الأصول؛٢٨ فالعلم نشأ وتطوَّر وانتهى في دورته الأُولى طبقًا لتطوُّر الحضارة الإسلامية. ويمكن أن يُعاد بناؤه من جديد في النهضة الإسلامية الثانية، التي بدأت منذ القرن الماضي. وتلك مسئولية العلماء المجتهدين؛ فالزمان يتغير، والعصر يتبدل، والمصالح لا تثبت على حال. ولمَّا كان علم الأصول هو علم المصالح المتجدِّدة، وجبَت إعادة بنائه طبقًا لظروف العصر؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، وليسوا من المستشرقين الراصدين للماضي، أو للمُقلِّدين الذين يُكرِّرون ما أبدعه الأسلاف في ظروف عصرهم، الخارجين على الزمان والتاريخ.٢٩ لقد توقَّف علم الأصول عن التجديد بسبب التقليد، والتحجُّر في الأصول الرسمية باسم السنة، وسبق السنة على الأصول وسيادة مدرسة الإخباريين التي يمثلها الإسترآبادي، بالرغم من رد محسن الأعرجي عليه في «الرد على الإخباريين»، والتقوقُع في المذهبية.٣٠
علم الأصول هو منطق الفقه، هو نظر العمل وأساس الفعل، علم القواعد العامة للسلوك البشري. هو العقل النظري العملي الذي يجمع بين النظرية والتطبيق. يتفاعل الفكر الأصولي مع الفكر الفقهي، الكل مع الجزء، القاعدة مع المثل؛ لذلك خرجَت قواعدُ عدم جواز التكليف بما لا يُطاق، ولرفع الحرج، ولا ضرر ولا ضرار. ليست الغاية من علم الأصول وضع مجرد مناهجَ للاستنباط من أجل الاتساق المنطقي وإحكام أشكال القياس، بل الغاية هو العمل؛ لذلك سُمِّي المنطق الأصولي منطق الاستعمال.٣١
ويتمثل التجديد في نقد المدرسة الإخبارية التي تعطي الأولوية للرواية على الدراية، وللمنقول على المعقول، مدرسة الأثَر التي تعطي الأولوية للنص على الواقع، وكأن الغاية هي إثبات صحة النصوص، وليس حماية المصالح، كما قال أحد الشعراء المعاصرين «واحتمى أبوك بالنصوص فدخل اللصوص.» فللدليل العقلي الأولويةُ على الدليل النقلي، واليقينُ الداخلي يأتي من العقل والخارجي، بما في ذلك مصادر التشريع والنصوص المدوَّنة، والأخبار المروية لا تُعطي إلا الظن بالرغم من التلازُم، على مستوى المبدأ بين حكم العقل وحكم الشرع. ويتم الدفاع عن العقل ضد منتقديه والمنتقصين فيه، وهو يُشبِه ما قاله علماء الكلام المتأخرون مثل الإيجي في «المواقف»، إن كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيءٍ صحيح ما أثبتَتْه، ولظل ظنيًّا، ولا يتحول إلا بحجةٍ عقلية ولو واحدة. وبالرغم من تميُّز علم الأصول عن علم الكلام، إلا أن التحسين والتقبيح العقليَّين الشهيرَين عند المعتزلة كأحد أصولهم، إحدى القواعد الفقهية في علم الأصول الجديد، والتي يمكن استنباطُ قواعدَ فقهية أخرى منها مثل «قبح العقاب بلا بيان». الدليل العقلي هو الدليل البرهاني، والسيرة وهي إحدى الحُجج الظنية التي تُعادِل الحديث نوعان؛ سيرةٌ شرعية تعتمد على الروايات، وسيرةٌ عقلية التي يتم فيها تحكيم العقل أقرب إلى اليقين.٣٢
والدليل الاستقرائي هو الوجه الآخر للدليل العقلي؛ فالقياس خطوة من الاستقراء.٣٣ العقل لا يُواجه نفسه بل يُواجه العقل، ولا يعمل بمفرده بل بالاشتراك مع الحس، ودون الوقوع في الاستقراء التجريبي الصرف، الذي لا يمكن الانتهاءُ فيه من الجزئيات إلى الكليات؛ فالاستقراء له أسسٌ منطقية. ويُسمِّيه الشاطبي الاستقراء المعنوي؛ أي «تواتر الجزئيات على صحة الكليات»،٣٤ وهي نفس بيِّنة «الأسس المنطقية للاستقراء» في نقد المنطق العددي؛ أي الصوري الخالص، ونقد المنطق التجريبي، لصالح المذهب الذاتي للمعرفة ابتداءً من التوالُد الموضوعي، وهو منطق الاحتمال إلى التوالُد الذاتي حتى الوصول إلى المذهب الذاتي؛٣٥ فالمنطق ليس لصور الفكر وأشكال القياس، ولا للربط بين الوقائع الجزئية، بل هو منطق الذاتية والكشف.٣٦

وكل هذه الأدلة مرتبطة بالوجدان؛ فالعقل والحس، الاستنباط والاستقراء، كلاهما في الشعور، وسائل إثباتٍ وجداني؛ فالشريعة ليست مجرد أوامرَ ونواهٍ مفروضة على الإنسان، ويقوم بتنفيذها على نحوٍ آلي، بل هو تقابل الشرع والطبيعة، الوحي والوجدان كنوعٍ من الضمان النظري لتلقائية الطبيعة. الأحكام الشرعية لها أسسٌ نفسية، والوجوب والحظر نفسيان، واللغة لها مدلولٌ نفسي، بل إن الأدلة الشرعية الظنية كالخبر والإجماع والسيرة المُتشرِّعة والدليل اللفظي تقل ظنيتها باليقين الوجداني، بل إن مصادر الشرع هي مصادر الإلهام، أي الجانب الوجداني الذاتي في المعرفة الشرعية؛ لذلك أصبح للاستصحاب دورٌ رئيسيُّ في علم أصول الفقه. والاستصحاب هو جماعُ الأدلة العقلية والنقلية والوجدانية، البداهة العقلية ونزول الوحي والطبيعة التلقائية. هو نوعٌ من الذوق الفطري، القادر على معرفة أحكام الشرع؛ فهو مثل الأدلة الشرعية غير اللفظية، مثل دلالة السكوت والسيرة.

ومصادر الإلهام هي البحوث التطبيقية في الفقه التي يُسمِّيها المغاربة «النوازل»، والكلام، والفلسفة؛ رغبة في تطوير العلم إلى أقصى درجةٍ من التجريد والتنظير، والظرف الموضوعي أي المجتمعات الراهنة، وعامل الزمن أي اللحظة التاريخية الراهنة، وأخيرًا عنصر الإبداع الذاتي، وشجاعة المجتهد وغَيْرته على مصالح الأمة وعلى بقائها في التاريخ.

والطبيعة البشرية لا تعرف الجبر وأحادية الاتجاه؛ لذلك جاء «التخيير» ضمن الأصول العملية للاستدلال؛ فالطبيعة مملوءة بالإمكانيات، والفعل الشرعي بالرغم من أن له صيغةً وجوبية فقط في الأفعال، بل يكون أيضًا في الروايات طبقًا لباقي الأدلة. الدلالة تابعة للإشارة وليست مجرد معنًى مجرد؛ لذلك يظهر مفهوم الامتثال الكلي؛ فالشريعة موضوعة للامتثال كما هو الحال عند الشاطبي؛ أي أن تتحول إلى طبيعةٍ أولى أو ثانية. الأفعال لها زمنٌ مُضيَّق أو مُوسَّع، أداء أم قضاء، على الفور أم على التراخي.

ثم يبرز مفهوم «البراءة» للتأكيد من جديد على أن الطبيعة خيرة، وأن الأشياء في الأصل على الإباحة، وأن الشر طارئ على الإنسان، وأن الإنسان بريءٌ بفطرته خالٍ من الشر، على نقيض الشريعة المسيحية التي تقوم على الافتراض الآخر، أن الشر فطري في الإنسان بفعل الخطيئة؛ ومن ثَمَّ فهو في حاجةٍ إلى مُخلِّص.٣٧
وذلك لا يمنع من الاحتياط والحذَر؛ فالبراءة لا تعني الثقة الكاملة بالنفس بل الاحتراز من الشبهات. الطبيعة محمَّلة بإمكانياتٍ عديدة في كل الاتجاهات، والشرع يساعدها على الاتجاه نحو الكمال؛ فالاحتياط هي محطةُ إنذارٍ في اتجاه الطبيعة نحو الأقل كمالًا.٣٨
وأخيرًا تظهر مفاهيم الواقع والوضع والعرف، لتدُل على «أن غاية الشريعة هو العالَم والتوجُّه نحوه، والدخول فيه، والكدح والعمل من أجل عمران الأرض وصلاحها.» وتتفرع مباحث الوضع بدل حقيقة الوضع، وتشخيص الوضع، وأقسام الوضع، وإلهية الوضع وبشريته؛ فالشريعة وضعية أي بناؤها في العالم، وأحكام الوضع يصفها الشاطبي في خمسة؛ السبب، والشرط، والمانع، والعزيمة والرخصة، والصحة والبطلان. وفي حالة التعارُض بين الأدلة يتم الجمع بينها عن طريق العرف. والعرف هي قوة الاستعمال والعادة والألفة والزمن، والعرف هو جزءٌ من الواقع. والدليل جمعٌ بين الظاهر والواقع، والعقل النظري كشفٌ عن الواقع، وليس كشفًا عن نفسه؛ فالظهور ذاتي وموضوعي، عقلي وواقعي.٣٩

خامسًا: تجاوز المحدثين

وكما تجاوَزَ المحدَثون القدماء يمكن للمحدَثين أن يتجاوزوا المحدَثين الذين أصبحوا قدماء بفعل الزمن؛ فما زالت هناك بعض الموضوعات في علم الأصول عند الإمام الشهيد في حاجةٍ إلى مزيد من التجديد؛ فبالإضافة إلى الأسلوب الشفاهي، أسلوب المحاضرات، وبالإضافة إلى التكرار الذي يمكن تجنُّبه مع مزيدٍ من التركيز، يمكن التخفُّفُ من العجمة اللغوية التي تُثقل أحيانًا عمق التحليل النظري، قد تمنع علماء الأصول المحدَثين من الدخول في علم الأصول الجديد.

وما زالت عقيدة الإمام المعصوم قابعةً داخل علم الأصول، مع أنه علمٌ له بناؤه الذاتي المستقل، ويقينه الداخلي الذي يتجاوز حتى الأدلة الشرعية التقليدية، اللفظية والظاهرية والإخبارية والسيرة الشرعية بل حتى الإجماع. يتمايز علم أصول الفقه عن علم العقائد، وعصمة الأئمة من عقائد الشيعة التي يمكن إخراجها من البنية الداخلية للعلم؛ فما دام الزمن متجددًا بعد زمن الإمام المعصوم، فلِمَ التوقُّف على زمنه وتحويله إلى أصلٍ أو دليلٍ ثابت؟

كما أن الحديث عن الواجب التوصُّلي والواجب التعبُّدي يُدخل العبادات داخل علم أصول الفقه المتعلق بالمعاملات؛ فالعبادات لا استدلال فيها. أما المعاملات المتجددة فهي التي في حاجةٍ إلى اجتهادٍ مواكب لها.٤٠
ويمكن إعادة عرض الأدلة الشرعية الأربعة؛ الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإبراز أهم صفتَين في الكتاب؛ أسباب النزول والناسخ والمنسوخ؛ أي حضور المكان والزمان داخل الوحي. الواقع يسأل والوحي يجيب؛ فالأولوية للواقع على الفكر، وهو ما يظهر في ألفاظ الواقع والوضع في علم أصول الفقه الجديد. وقد تبرز أسئلةٌ جديدة تحتاج إلى إجابات من الوحي، مثل السؤال عن الاستعمار والتخلُّف والصهيونية والفقر، والقهر والتجزئة والتبعية والعولمة والعالم ذي القطب الواحد، فماذا يقول الوحي؟ ومثل الإحساس في بعض جوانب الفقه، بأنها قد ولَّى زمنها وعصرها مثل فقه العبيد، وفقه الغنائم، وفقه العلاقات الدولية مثل: الإسلام أو الجزية أو القتال، ومثل بعض جوانب فقه النساء.٤١
ويمكن التحوُّل في السنة من نقد السند إلى نقد المتن، من تحليل شروط التواتر والآحاد والمشهور والمرسَل والمقطَّع إلى نقد المتن نفسه، ومدى اتفاقه مع العقل والحس والوجدان والمصلحة العامة المتجددة. السنة بيانٌ للقرآن وتوضيحٌ عملي لبعض مبادئه؛ ومن ثَمَّ تكون علاقة القرآن بالسنة مثل علاقة السنة بالعصور المتتالية، وقياس مدى الفارق الزماني في التطور بين الأصل والفرع. السنة تجربةٌ متميزة مثل التجارب النموذجية في حياة الأبطال.٤٢

ويمكن أن يتحول الإجماع إلى تجربةٍ جماعية مشتركة، ولا يلزم الإجماع السابق الإجماع الحالي نظرًا لتغير الظروف، فيتحول من ظنٍ خارجي إلى يقينٍ داخلي، ويظل السؤال من هم المجمعون؟ من هم أهل الحل والعقد؟ من هم علماء الأمة، فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس أم فقهاء الأمة، فقهاء الثورة والغضب؟

أما القياس فما زال آليًّا شكليًّا صوريًّا، مجرد قياس فرعٍ على أصل، واقعٍ على نص، مصلحةٍ عينية على أصلٍ لفظي. في حين أن هناك إشكالاتٍ عدة للاجتهاد، تم التركيز فيها على الاستصحاب كأصلٍ عملي. وهناك أيضًا الاستحسان والاستصلاح، وكل أشكال المصالح المرسلة؛ فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن.

وما يدعو للتجديد أيضًا هو أولويات الأدلة الشرعية الأربعة. كانت عند القدماء ترتيبًا تنازليًّا، الكتاب فالسنة، فالإجماع فالقياس؛ لأن الوحي كان ما زال حديث العهد، وكان النبي ما زال بين أصحابه في حديثه المشهور إلى معاذ، قبل أن يتوجه لتولي القضاء في اليمن. أما الآن فيمكن إعادة ترتيب الأدلة ترتيبًا تصاعديًّا من القياس إلى الإجماع إلى السنة إلى الكتاب؛ إذ تستلزم تحديات العصر الرئيسية، مواجهة الاستعمار والصهيونية والتخلُّف والتبعية والتشرذم، البداية بتحليل الواقع مباشرة ومعرفة علله أي بالاجتهاد، فإن صعُب يمكن التوجه إلى أهل الاختصاص لمعرفة الحلول الجماعية، فإن صعُب يمكن بعد ذلك قراءةُ السابقين في مُدوَّناتهم، ابتداءً من الخبرات المتميزة حتى حكمة الشعوب على مر السنين.٤٣

ويمكن إعادة قراءة مباحث الألفاظ واكتشاف البُعد الفردي الحر فيها، حتى يمكن التخفُّف من تصوُّر الشريعة كقهر وإجبار؛ فالحقيقة والمجاز يدلان على بُعد الصورة الفنية، وأن الغاية من الحكم الإقناع قبل الامتثال، وأن الخيال لا يقل أهمية عن العقل، والظاهر والمُؤَوَّل يدلان على اختلاف الناس في فهم النصوص، طبقًا لأعماق النص المساوقة لأعمال الشعور. الناس مُتفاوِتة في فهمها والنص مُتنوِّع في دلالته؛ ومن ثَمَّ لا يُوجد فهمٌ واحد ووحيد للنص، مما يسمح بالفروق الفردية في فهم الأحكام. والمُحكَم والمتشابه يشيران إلى أن الحكم أحادي الجانب، ينزل على واقعٍ متشابه فيحتاج إلى أحكام. وهو ما ظهر في أسلوب الفقه القديم بالتعبير الشهير «فيها قولان»؛ فالنص أُنزل لواقعٍ واحد ولكن لفهمَين وذهنَين حتى تتعدد التفسيرات، وتكون صالحة لكل زمانٍ ومكان، والعصر هو الذي يحكُم المتشابه. والمُجمَل والمبين يشيران إلى أن النص يوحي بمجموعةٍ من المبادئ العامة التي تتكيف حسب ظروف كل عصر، وأن هناك مساحة واسعة للاجتهادات في الفهم والتفسير، طبقًا لطبيعة المجتمعات وتبايُنها. والعام والخاص يُبرزان البعد الفردي للأحكام، وحضور الفرد داخل الحكم. والأمر والنهي يتعلقان بالأفعال، وأن غاية الشرع أن يصبح منطق سلوك، وأساسًا نظريًّا للفعل بين الإقدام والإحجام.

ولم يتعرض المحدثون لمنطق السياق، فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ومفهومَي الموافقة والمخالفة كثيرًا. وهو ما يتجاوز مبحث الألفاظ إلى مباحث اللغة واللسانيات، النبرة والصوت، المنطوق والمسكوت؛ فالنص ليس مجموعة من الألفاظ، بل سياق وإيحاءات وإيماءات وتوجُّهات وإشارات كما لاحظ الصوفية. ويمكن لمباحث التعليل التي أغفلها المحدثون أن تربط بين النص والواقع، وأن تساعد على صياغة المنطق التجريبي ومنهج الاستقراء، وطرق اقتناص العلة مثل السبر والتقسيم. التعليل نموذج الجمع بين الاستنباط والاستقراء والاستصحاب.

أما المقاصد والأحكام التي حاول الشاطبي بلورتها، فإنها تُعتبر آخر ما وصل إليها آخر القدماء من تجديد لعلم أصول الفقه لأول المحدَثين، وهي نوعان؛ مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. ومقاصد الشارع خمس؛ وضع الشريعة وهي المحافظة على الضروريات الخمس: النفس أو الحياة، والعقل لمَّا كانت الحياة هي الحياة العاقلة، والدين أي الحقيقة الثابتة التي يمكن أن يلتقي عليها العقلاء في مواجهة النسبية والشك، والعِرْض بالمعنى الواسع ويعني الكرامة والعزة، العِرْض الخاص والعِرْض العام؛ فالأرض عِرْض، والمال وتعني ثروات الأمة، المال الخاص والمال العام، ثم وضع الشريعة للإفهام؛ فكل شيء في الشريعة يدركه العقل. ولا شيء في الشريعة غير معقول وإلا لم يكن ملزمًا؛ فالعقل أساس الشرع؛ ومن ثَمَّ لا يمكن تطبيق الشريعة آليًّا دون فهم، وإجبارًا دون إدراك كما يحدث حاليًّا في فرض أحكام الشريعة على المسلمين وغير المسلمين، دون إفهام الناس مآثرها ورعايتها للمصالح العامة، ثم وضع الشريعة للامتثال أي للتمثُّل وتحويلها من أمرٍ إلى فعل، ومن نهيٍ إلى ترك، ومن نصوصٍ وأحكام إلى أفعالٍ إرادية طبيعية، ثم وضع الشريعة أخيرًا للتكليف أي للتطبيق؛ فالتطبيق لا يأتي في البداية بل في النهاية، ثمرة وليس بذرة، عربة وليس حصانًا. أما مقاصد المكلَّف فهي النية؛ فالأعمال بالنيات مما يقضي استبعاد سوء النية، والتظاهُر بالفعل دون أساسٍ خاصة في العبادات.

أما الأحكام فهي أيضًا قسمان؛ أحكام الوضع وأحكام التكليف. تدل أحكام الوضع على أن كل حكم، أمرًا أو نهيًا، هو في الحقيقة ليس حكمًا صوريًّا في صيغة «افعل» أو «لا تفعل»، بل هو بينة الفعل في العالم ومجاله الحركي. وهي خمسة أيضًا. السبب أي إن كل فعلٍ له سبب، ولا تُوجد أفعال بلا أسباب؛ فلا عبث في الطبيعة، ولا يعني السبب هنا العلة الفاعلة بل العلة الغائية؛ فالسبب الفاعل هو الغاية، السبب الذي يجذب إلى الأمام أكثر من العلة التي تدفع من الخلف. ثم الشرط وهي الظروف المادية التي فيها يصبح العلم ممكنًا. هو سياق الفعل ابتداءً من القدرة حتى التحقُّق. إذا تَوافَر الشرط تحقَّق الفعل، وإذا لم يتوافَر لم يتحقَّق الفعل؛ فشرط حد السرقة الوفرة والكفاية، وإشباع الحاجات الأساسية، فإن لم يتوافَر يتوقَّف الحد. ثم المانع وهي العقبة التي تمنع من تحقيق الفعل؛ فالجوع مانعٌ من تطبيق حد السرقة. المانع هو الشرط السلبي أي غياب الشرط، وتحول هذا الغياب إلى عقبة. ثم العزيمة والرخصة وهما شكلان للفعل في حالتَيه المثلى أو الواقعية، طبقًا لقدرات الإنسان البدنية طبقًا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وأن الضرورات تبيح المحظورات، واتفاقًا مع المحافظة على الحياة المقصد الأول للشارع. وأخيرًا الصحة والبطلان، أي إن الأفعال قد تكون صحيحة من حيث الشكل، باطلة من حيث المضمون؛ حمايةً للإنسان من التحايُل على الشرع، مثل من يُسافر قصدًا للإفطار في رمضان.

أما أحكام التكليف فهي ثمرة علم أصول الفقه. وهي خمسةٌ أيضًا، اثنان في الحد الأقصى إيجابًا وسلبًا، وهما الواجب والمحظور، الفعل المطلق بين الأمر والنهي، الفعل والترك؛ ازدهارًا للطبيعة وكمالها بالفعل، وحمايةً لها وجودًا ونماءً بالترك. وهناك اثنان بين الفعل والترك اختيارًا من الإنسان لو شاء فعل ولو شاء ترك، وهما المندوب والمكروه؛ إفساحًا للمنافسة في الخير؛ فالسابقون السابقون. وأخيرًا هناك منطقة وسطى بين الإيجاب والسلب بين الضرورة والاختيار، منطقة الفعل الطبيعي الذي تُوجد شرعيته في داخله وليس في خارجه، وهو المباح؛ فالطبيعة بما تُمثِّله من براءةٍ قادرة على أن نفعل دون احترازٍ أو احتياط، وحتى لا تصبح الشريعة مُغلِّفة لكل شيء، مُغطِّية لكل فعل. الشريعة تنظيمٌ للطبيعة عن خروجها إلى حدودها القصوى نحو الأطراف.

تجديد علم الأصول تيَّارٌ مستمر عَبْر التاريخ منذ «الرسالة» للشافعي حتى «العدة» للطوسي و«الموافقات» للشاطبي و«المعالم الجديدة للأصول» للإمام الشهيد محمد باقر الصدر؛ فكما استطاع تجاوُزَ القدماء، يستطيع المحدَثون تجاوُزَه، حتى نصبح نحن المحدَثين قدماء، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

١  بحثٌ ألقي في ندوة «النجف الأشرف وإسهاماتها في الحضارة الإنسانية»، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، لندن، ١٧-١٨ يوليو ١٩٩٩م.
٢  مصطفى عبد الرازق، «التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ١٩٥٩م.
٣  وهو ما حاوله هوسرل في الغرب وسماه الفينومينولوجيا بعد نقد المنطق الصوري في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» ونقد المنطق التجريبي في «بحوث منطقية»، وتأسيس المنطق الذاتي الموضوعي في «الأفكار» بأجزائها الثلاثة. انظر دراستنا «تفسير الظاهريات»، باريس، ١٩٦٥م، القاهرة، ١٩٧٦م (بالفرنسية).
٤  (١) مباحث الدليل اللفظي (ثلاثة أجزاء) تقريرات الشهيد السعيد الأستاذ آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، تأليف السيد محمود الهاشمي، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، إيران، ١٩٩٦م.
(٢) مباحث الحُجج والأصول العملية (أربعة أجزاء)، تقريرات الشهيد السعيد الأستاذ آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر، تأليف السيد محمود الهاشمي، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، إيران، ١٩٩٧م.
(٣) دروس في علم الأصول (جزآن)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقُم المُشرَّفة «د.ت». وله طبعةٌ أخرى، دار المنتظر، بيروت، ١٩٨٥م.
(٤) المعالم الجديدة للأصول، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ١٩٨١م.
(٥) الأسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ١٩٨٢م.
٥  «دروس في علم الأصول»، ج١، ح١، ص٧٢-٧٣، ١٤٥؛ «المعالم الجديدة للأصول»، ص١٨٠–١٨٥.
٦  «مباحث الدليل اللفظي»، ج١، ص٧٨–٨١، ١٣٥–١٤٣، ١٦٣–١٦٧، ج٢، ص٦٣، ٨٤–٩٦؛ «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج١، ص٣٥–٦٧، ١٤٩–١٧٢، ٢٤٩–٣٠٢، ج٢ ص٧٩–١٠٦، ١١٧–١٢١، ١٦٧–٣٢٢، ج٤، ص١٣–٢٥، ٤٧–١٦١، ٢١٧–٤٣٤؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ص١٩٣–٢٠٠؛ «مباحث الدليل اللفظي»، ج١، ص٨١–١٢٣، ٢٣٨–٣٤٦، ج٢، ص١٨٧–١٩٦، ج٣، ص٢١٧–٤٤٩؛ «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج١، ص٦٩–٩٨، ١١٣–١٤٧، ١٧٣–١٧٨، ١٨٣–٤٤٩، ج٢، ص٢١–١٥٠، ج٣، ص١٧–٣٢٩، ج٤، ص٢٦-٢٧؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ص٦٢–٦٧، ٧٥، ١١٣.
٧  ابن رشد، «الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى»، جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ١٩٩٤م.
٨  علم الدلالات SEMANTICS، علم العلامات SEMIOTICS.
٩  «مباحث الدليل اللفظي»، ج١، ص٧١–١٢٧؛ «المعالم الجديدة للأصول»، ص١١٢– ١٤٥.
١٠  «مباحث الدليل اللفظي»، ج١، ص١٣١–١٥٩؛ «المعالم الجديدة للأصول»، ص١٦٠–١٧٠؛ السيوطي، «الأشباه والنظائر»، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ١٩٥٩م؛ ابن نجيم، «الأشباه والنظائر»، مؤسسة الحلبي، القاهرة، ١٩٨٦م.
١١  الغزالي، «المستصفى في علم الأصول (جزآن)»، مؤسسة الحلبي، القاهرة، طبعة مصورة عن طبعة بولاق، ١٣٢٢ﻫ.
١٢  «مباحث الدليل اللفظي»، ج١، ص٢١٩–٣٥٥، ٣٦١–٣٨١.
١٣  «دروس في علم الأصول»، ج٢، ص٢٠٧–٢٢٤؛ «مباحث الدليل اللفظي»، ج٢، ص٧–٥–٤٣٥.
١٤  «مباحث الدليل اللفظي»، ج٣، ص٧–١٣٤.
١٥  وهي فلسفةٌ معروفة في الغرب باسم فلسفة «كأن» لفايهنجر، أن يسلك الإنسان في حياته، وكأن لديه يقينًا نظريًّا مسبقًا، وهي نزعةٌ برجماتية تقوم على أُسسٍ معرفية، وليس فقط على أساسٍ عملي. وهي نفس فلسفة لسنج، الذي صنع ثلاثة خواتم مزيفة مع خاتمٍ صحيح، ووزَّعَها على أبنائه الأربعة، حتى يسلُك كلٌّ منهم وكأنه لديه الخاتم الصحيح.
١٦  «مباحث الحجج والأصول العملية»، الحجج والأمارات، ج١، ص٢٥–١٨٢؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ص١٧٢–١٨١.
١٧  هناك سيرةٌ ذاتية لحنين بن اسحق، وأخرى للغزالي، وثالثةٌ كتبها البوزجاني عن أستاذه ابن سينا.
١٨  «مباحث الحجج والأصول العملية»، الحجج والأمارات، ج١، ص١٨٣–٤٤٩؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ح٢، ص١٧٢–١٨٥.
١٩  وهو ما يقابل في المنطق الغربي حُجة السلطة ARGUMENT OF AUTHORITY في مقابل حُجة العقل ARGUMENT OF REASON.
٢٠  «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج١، ص٢٥–١٨٢، ١٨٣–٤٤٩، «دروس في علم الأصول»، ج١، ح٢، ص٣٩١–٣٩٧.
٢١  «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج١، ح٢، ص١٥١–١٦٥.
٢٢  «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج١، ح٢، ص٣٢٣–٣٩٤.
٢٣  الغزالي، «المستصفى»، ج١، ص٣١٧–٣٤٠.
٢٤  «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج٣، ص١–٣٦٢؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ص١٤١–١٤٥، ج٢، ص٤١٢–٤٤٦.
٢٥  «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج٤، ص١١–٤٢؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ص١٤٥–١٥٠.
٢٦  «مباحث الحجج»، ج٤، ص٤٣–٢١٦؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ح٢، ٤٥٢–٤٦٨؛ «المعالم الجديدة للأصول»، ص١٩٠-١٩١.
٢٧  «مباحث الحجج»، ج٤، ص٢١٧–٣١٢، ٣١٣–٤١٨. انظر دراستنا: «من نقد السند إلى نقد المتن»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة، ١٩٩٦م، ص١٣١–٢٤٣.
٢٨  «المعالم»، ص٤٦–٨٩.
٢٩  «المعالم»، ص١٣–١٦، ١٩، ١١٧؛ «دروس»، ج١، ٣١٥–٣١٩.
٣٠  «المعالم الجديدة»، ص٤٦–٨٩.
٣١  «المعالم»، ص٤٦–٨٩.
٣٢  السابق، ص٣٦، ٤٢، ٤٦، ٨٦–١٦٠؛ «دروس في علم الأصول»، ج٢، ص٢٨٨–٢٩١، ٣١٧–٣١٩؛ «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج٣، ص٢٠–٤٨، ٢٣٤–٢٣٨، ٢٥٠–٢٥٤.
٣٣  «المعالم الجديدة للأصول»، ص٩٠–٩٨، ١٦٠–١٧٠؛ «دروس في علم الأصول»، ج١، ص٣٦٣–٣٦٥.
٣٤  «دروس في علم الأصول»، ج١، ص٤١٤–٤٥١، ج٢، ص١٢٦–١٣٢، ٤٤١، ٤٥٣–٥٤٠.
٣٥  «دروس»، ج١، ص٢٧٠–٢٨٣، ج٢، ص١٧٣–١٥١؛ «مباحث الدليل اللفظي»، ج٢، ص١١١–١١٤، ٢٢١–٢٢٨؛ «المعالم الجديدة للأصول»، ص١٢٣.
٣٦  «دروس في علم الأصول»، ج١، ص٤٦٤-٤٦٥؛ «مباحث الحجج والأصول العملية»، ج١، ص١٠٤–١١١، ٢٠٢–٢٠٩، ج٢، ص١٢٧–١٣٢، ج٣، ص١٧٣–١٨٢.
٣٧  «دروس في علم الأصول»، ج١، ص٣٨٤–٢٩٦، ج٢، ص٣٣٢–٣٤٣.
٣٨  السابق، ج٢، ص٣٤٤–٣٤٦.
٣٩  «دروس في علم الأصول»، ج١، ص٤٥٩، ج٢، ٥٤٦–٥٧١؛ «مباحث الدليل»، ج١، ص٧٢–١٠٣، ٣٠٩، ٣١٦، ج٣، ص٢٩١–٢٩٥.
٤٠  «مباحث الدليل اللفظي»، ج٢، ص٦١–١٠٧؛ «دروس في علم الأصول»، ج٢، ص٢٤٤– ٢٥١.
٤١  انظر دراستنا: «الوحي والواقع»، دراسة في أسباب النزول، هموم الفكر والوطن، التراث والعصر والحداثة، القاهرة، ١٩٩٨م، ج١، ص١٧–٥٦.
٤٢  انظر دراستنا: «من نقد السند إلى نقد المتن»، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد الخامس، القاهرة، ١٩٩٦م، ص١٣١–٢٤٣.
٤٣  انظر دراستنا: «مناهج التفسير»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، القاهرة، ١٩٦٥م، باريس، ١٩٦٦م (بالفرنسية)، ص٦٣–١٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤