من التفسير الموضوعي إلى فلسفة التاريخ١

قراءة في «السنن التاريخية في القرآن» لمحمد باقر الصدر

(١) مقدمة: الموضوع والمنهج

بالرغم من وفرة التراث التاريخي عند القدماء، الطبري، وابن كثير، وابن الأثير، والبلخي وغيرهم من كبار المؤرخين، إلا انه اعتمد على الروايات وقصص الأنبياء والإسرائيليات ومعرفة أخبار الأولين؛ وراثةً للشعر العربي الذي دوَّن فيه العرب سِيَرهم وملاحمهم، واقتفاء الأثر والأسفار ومصادر المعرفة في الثقافة العربية القديمة. وتم الدفاع عن التاريخ ضد من يعتبره من أساطير الأولين مثل «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ» للسخاوي، ولكنه ظل التاريخ المروي شفاها أو تدوينًا، فنًّا لا علمًا.

ولأول مرة يتحول التاريخ من روايةٍ إلى علم، ومن نصٍ إلى واقع، ومن ذاكرةٍ يعتريها النسيان إلى عقلٍ يستنبط، ورُوحٍ تُدقِّق وتنتقد عند ابن خلدون، الذي يبدأ «المقدمة» لكتابه في التاريخ بالتنبيه على أغلاط المؤرخين، الذين يعتمدون على الروايات دون التحقق من صحتها، مؤسسًا بذلك علم نقد المصادر التاريخية، اعتمادًا على مصطلح الحديث قبل الغرب الحديث.

ومع ذلك لم يتحوَّل علم التاريخ إلى فلسفةٍ في التاريخ، بل اقتصر على الفلسفة الاجتماعية والسياسية وتطوُّر المجتمعات، نشأة الدول وسقوطها. لم يتحول إلى وعيٍ تاريخي. حضر التاريخ فنًّا ثم علمًا، ومع ذلك غابت فلسفة التاريخ باعتبارها وعيًا بالتاريخ.٢
ومن هنا تأتي أهمية «السنن التاريخية في القرآن» للشهيد محمد باقر الصد.٣ وهو كتابٌ صغير الحجم عظيم القَدْر. يتناول هذا الحاضر الغائب لمعرفة دور الإنسان في حركة التاريخ، فإذا كان الغرب هو واضع فلسفة التاريخ، فكيف يمكن تلمُّس عناصر فلسفة للتاريخ عندنا في المصدر الأول للمعرفة، القرآن، والتعرف على التاريخ من خلال قصص الأنبياء، وكشف حقائقه وصِيَغه؟ ويُضاف إلى رصيد الشهيد في إصدارات التمايُز بين الأنا والآخر في «فلسفتنا» و«اقتصادنا»، ومن أجل كتابة «فلسفتنا في التاريخ»، وبعد أن حاول نقد المنهج التجريبي الذي يعتز به الغرب، واهمًا بأنه من إبداعه في «الأسس المنطقية للاستقراء»، وإبراز منهجنا الاستنباطي الاستقرائي، العقلي المصلحي في دراساته العديدة عن «علم أصول الفقه».٤
والمصطلحات في معظمها ليست جديدةً باستثناء مصطلح أو اثنَين، مما يكشف عن نيةٍ صادقة للتنظير. «الاتجاه الجزئي» ليس مصطلحًا بل هو مجرد وصف للتفسير القديم، الذي يبدأ من سورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس، ربعًا ربعًا، وجزءًا جزءًا، وسورةً سورة، وآية آية، ولفظًا لفظًا. و«التفسير التوحيدي» تعبيرٌ مقابل يدل على تجميع الآيات حول موضوعٍ واحد. وهو أيضًا «التفسير الموضوعي»، ويشبه الدراسة الموضوعية في الواقع وتقييمه قرآنيًّا. والموضوعية ليست مصطلحًا جديدًا؛ إذ تعني فقط البداية بالعالم الخارجي. إنما المصطلح الجديد هو «المركب النظري» القرآني أو النظرية. وهو الموقف القرآني في موضوعٍ ما؛ أي نظرية القرآن في أحد الموضوعات، بناءً على التفسير الموضوعي للنصوص والتحليل الموضوعي لنفس الموضوع في العالم الخارجي.٥ وهناك عجمةٌ لغوية في بعض المصطلحات، تعريب غير مألوفٍ مثل الفسلجية تعريبًا للفظ Physiologism.٦
ويستعمل الشهيد أسلوب الحوار، والرد على الاعتراضات مسبقًا حتى يبني الفكر ويوحد بينه وبين الموضوع؛ فالاعتراض هو الجانب الآخر من الموضوع الذي يراه الآخر، والذي لا يرى الوجه الأول الذي تراه الأنا. وقد يكون الاعتراض في صيغة السؤال وجواب. وهو الأسلوب المميز للفكر الأصولي، في أصول الدين وأصول الفقه.٧

لم يحضُر التاريخ في تراثنا القديم حضورًا بارزًا في العلوم النقلية الأربعة، الكلام والفلسفة والتصوف والأصول؛ ففي الكلام يظهر التاريخ العام من ماضي البشرية في النبوة إلى مستقبلها في المعاد، ويتحول إلى تاريخٍ سياسي في الفرد والأمة، وفي المواطن والدولة، في الإيمان والعمل وفي الإمامة، فإذا كان التاريخ يمثل ارتقاءً من الماضي إلى المستقبل، من الباقيات الصالحات إلى عموم الأمة، ومن النخبة الواعية إلى زمرة المساكين، فإن التاريخ السياسي يبدأ فيها من النبوة إلى الخلافة، ومن الخلافة إلى الملك. «خير القرون قرني ثم الذي يلونهم.» «الخلافة من بعد ثلاثون سنة تتحول من بعدها إلى ملكٍ عضود.» وقد قابل السنة والشيعة هذا الانهيار بالارتقاء والنهوض من جديد عن طريق المهدي المنتظر، عند أهل السنة من علامات الساعة في آخر الزمان، وعند الشيعة عندما يحين الوقت، ويخرج من السر إلى العلن، فيملأ الأرض عدلًا كما مُلِئَت جورًا قبل نهاية الزمان.

ولم يحضُر التاريخ في علوم الحكمة كمبحثٍ مستقل؛ نظرًا لقسمتها الثلاثية إلى منطق وطبيعيات وإلهيات. وخرج حثيثًا عند إخوان الصفا لإضافتهم قسمًا رابعًا «في العلوم الناموسية الإلهية والشرعية»، ونظرًا لأصولهم الإسماعيلية ظهر قصص الأنبياء لديهم، كإحدى صياغات فلسفية التاريخ، وكما هو الحال عند أبي يعقوب السجستاني في كتاب «النبوات» وفي كتاب «الينابيع».

كما ظهر عند الصوفية خاصة ابن عربي في «فصوص الحكم»، حيث يتجلى الحق والخلق تدريجيًّا، نبوة وراء نبوة، لا فرق بين تاريخ المعرفة وتاريخ الوجود، بين النبوة والتاريخ. ولقد عرف الحكماء والصوفية المراتب في الفيض وفي الإشراق، ولكنها مراتب راسية وليست أفقية، تاريخًا روحيًّا صاعدًا أو كونيًّا نازلًا، وليس تاريخًا إنسانيًّا أفقيًّا، يتقدم أو يتأخر. المقامات طريقٌ صاعد من الفناء إلى البقاء، درجاتٌ على الرقي الروحي الفردي، وليست مراحلَ لتاريخٍ أفقي من البداية إلى النهاية، مراحل على التقدُّم الجماعي، فيُصبِح الأعلى هو الأمام والأدنى هو الخلف، والتحوُّل من التقدم الروحي إلى التقدم في التاريخ.

وعرف أصول الفقه التاريخ، من النص إلى الواقع، من الكتاب إلى السنة كتعيُّنٍ أول، ومن السنة إلى الإجماع كتعيُّنٍ ثان، ومن الإجماع إلى الياس كتعيُّنٍ ثالث؛ إذ يتم الانتقال من الوحي العام في القرآن إلى الوحي الخاص في السنة في لحظةٍ تاريخية معينة. ومن الوحي الخاص للرسول إلى وراثة الأمة في الإجماع؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، ومن وراثة الأمة إلى الاجتهاد الفردي القادر على الحكم بروح الوحي على الواقع المتجدد في الزمان والمكان.

وهناك فلسفةٌ للتاريخ عند الشيعة ابتداءً من الفلسفة التاريخية، والثورة على الحاكم الظالم عن طريق بيان انتصار الأنبياء السابقين، كما فعل أوغسطين في «مدينة الله» مبينًا انتصار الانبياء، بالرغم من هزيمة المسيحيين أمام غزو الفاندال روما بقيادة ألاريك؛ فمدينة الله لا تُهزم أبدًا أمام مدينة الأرض. أما عند المنتصر مثل أهل السنة، فلا تنشأ فلسفة التاريخ إلا لتمجيد الفرقة الناجية، وأن الانهيار في التاريخ يظل مستمرًّا إلى يوم الدين، حتى المهدي المنتظر كعلامةٍ من علامات الساعة؛ فالانهيار قدَرٌ لا يمكن الثورة عليه أو الوقوف أمامه إلا بحركةٍ إصلاحية، تظهر على رأس كل مائة عام «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يُجدِّد لها دينها.»

والهدف من هذه الدراسة استئناف تطوير التاريخ، من فن التاريخ إلى علم التاريخ، ومن علم التاريخ إلى فلسفة التاريخ إلى الوعي التاريخي، ومن الوعي بالتاريخ إلى تحقيب التاريخ، إجابةً على سؤال: في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش؟

ولا يكفي عرض السنن التاريخية في القرآن، تكرار مادته، وشرح أفكاره أو تلخيصها، وكأننا ما زلنا في عصر الشروح والملخَّصات، حيث يتوارى الباحث وراء موضوعه تحت وهم الموضوعية والحياد، مع أنه جزءٌ من المادة ومسئول عنها مسئولية القدماء؛ فهو ابن الحضارة الإسلامية وليس متفرجًا عليها، من داخلها وليس من خارجها، وهو مسئول عن تطويرها، وليس فقط مدحها وتقريظها أو بيان مثالبها وعيوبها؛ فهو باحثٌ وطني، ينتمي إلى التراث، وليس مستشرقًا غربيًّا ينفصل عنه. هو صاحب دار وليس ضيفًا عليها.

ومن هنا أتت أهمية القراءة والتأويل باعتباره منهجًا؛ فالعلم تراكمٌ تاريخي على مراحل، ولا أحد يبدأ من الصفر ولا حتى الأنبياء؛ إذ يبدأ كل نبي بمراجعة تجارب الأنبياء السابقين والإحالة إليهم؛ ربطًا للحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر، في جدل الاتصال والانقطاع. تعني القراءة البداية بنقطة التقاء بين الباحث والموضوع، اتفاقًا أو اختلافًا، في مسئوليةٍ مشتركة بهدف إكمال الموضوع أو إعادة بنائه من عصرٍ إلى عصر، وإعادة تركيبه من مستوًى إلى مستوًى، وإعادة البرهنة عليه من النقل إلى الواقع، ومن النص إلى التجربة، ومن الشواهد النصية إلى الشواهد التاريخية. السابق يبدأ، واللاحق يبدأ بداية ثانية في مسارٍ متواصل، من جيلٍ إلى جيل. ولمَّا تعدَّدَت القراءات طبقًا لتعدُّد العصور واختلافها، فإن كل قراءة تأويل. وهذا لا يعني الخروج عن التحليل «الموضوعي» للنص؛ فالنص ليس جثةً هامدة، أثرًا ميتًا، بل هو حاملٌ حي لمجموعةٍ من التجارب، تتكرَّر في عصر، ويتحملُ مسئوليتَها الجميع. التأويل قراءةٌ واحدة من عدة قراءاتٍ محتملة. القراءة تناصٌّ بين النص القديم والنص الجديد، والتأويل فهمٌ وإدراك وإثارة للتساؤل وفتح لباب الاجتهاد.٨
ويصعب تطبيق منهج تحليل المضمون على «السنن التاريخية في القرآن»؛ لأنه ليس نص المؤلف بل إعادة صياغة عباراته وترتيب أفكاره من شخصٍ آخر، وربما كان التبويب أيضًا منه؛ فأغلب الظن أنها محاضراتٌ شفاهية مثل كثير من أعمال الشهيد على علم أصول الفقه.٩
ليس المطلوب تقريظ أحد أو تقليده ولا حتى الإمام المعصوم؛ فالتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم. أما الاجتهاد وهو أحد مصادر التشريع، فهو مصدرٌ للعلم، «هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم»، كما حدَّد أمين الخولي صلته بالتراث القديم. لا يكون تعظيم القدماء واحترامهم وتقديرهم عن طريق تقليدهم بل تطويرهم وتجاوزهم؛ فالتقدم سنة الكون، والعلم تراكُمٌ تاريخي. ولولا نقد أفلاطون لأرسطو لما كان أفلاطون ولا أرسطو. ولولا نقد ماركس والهيجليين الشبان لهيجل، لما كان هيجل ولا ماركس ولا اليسار الهيجلي. ولولا نقد المسيحية للممارسات اليهودية والمسيحية، لما تأكَّدتْ وحدة الأديان واكتمالها، ولما حدَث تحققٌ لها في التاريخ. وهو معنى الفعل الألماني Aufheben الذي يستعمله هيجل كثيرًا، والذي يعني في نفس الوقت النفي والإثبات، والوضع والرفع، والتنزيل والتأويل.١٠

(٢) الموروث والوافد

ينهل الفكر العربي الإسلامي المعاصر من مصدرَين: الأول الموروث القديم الذي ما زال حيًّا في الثقافتَين العلمية والشعبية، عند النخبة وعند الجماهير. والقابع في النفس من أغوار التاريخ، سواء كانت الأصول الأُولى، القرآن والحديث أم العلوم الإسلامية التي صدَرتْ عنهما، العقلية النقلية؛ الكلام والفلسفة والتصوف والأصول. والنقلية الخالصة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، وربما العقلية الخالصة الرياضية كالحساب والهندسة والفلك والموسيقى، أو الطبيعي كالطب والصيدلة والنبات والحيوان والمعادن، أو حتى الإنسانية مثل اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ. والثاني الوافد من الغرب الحديث منذ مائتَي عامٍ منذ عصر الترجمة الثاني عن الغرب في القرن التاسع عشر الميلادي، المشابه لعصر الترجمة الأولى في القرن الثاني الهجري، وكما تمَّت الترجمة الأولى عن اليونانية والفارسية أساسًا واللاتينية والهندية فرعًا، كذلك تمت الترجمة الثانية عن الإنجليزية والفرنسية أساسًا، وعن باقي اللغات الأوروبية، الألمانية والإيطالية والإسبانية فرعًا. أما الواقع المعاصر فهو الدافع على التأليف، هو هَمُّ العصر، أحزانه ومآسيه. وهو ما يتفاعل الموروث والوافد فيه. هو المصب للرافدَين، والقلب للرئتَين، والعقل للعينَين. ولما كان المصدر الأول أبعد في التاريخ على مدى خمسة عشر قرنًا، فإنه أعمق في الوعي التاريخي، وأكثر اتساعًا من المصدر الثاني الأحدث والأضيق، والذي لا يتجاوز مائتَي عام. المصدر الأول أكثر انتشارًا عند الجماهير والنخبة على حدٍّ سواء، في حين أن المصدر الثاني أكثر حضورًا عند النخبة. ولمَّا كانت النخبة هي الحاكمة، أصبح المصدر الثاني أكثر تأثيرًا من خلال الجامعات ومراكز الأبحاث. والمصدر الأول أكثر اتساعًا من خلال أجهزة الإعلام والجامعات التقليدية والتعليم الديني. أما الواقع المعاصر فهو الباعث الدفين في الوعي الشعبي، الذي قد يتحرك عن لا وعي عند الجماهير دون وعيٍ نظري، وعند النخبة في التساؤل والبحث النظري؛ ومن ثَمَّ يكون السؤال: كيف يتحول هذا الواقع من مستوى اللاوعي النظري إلى مستوى الوعي النظري عند الجماهير في شكل ممارسة، وعند النخبة من مستوى الوعي النظري إلى المستوى الوجودي الحياتي، للإجابة على سؤال: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟

بالنسبة للمصدر الأول، لفظ «سنن» لفظٌ قراني، ورد في القرآن مفردًا أكثر منه جمعًا، وغير مضاف إلى ضمير إلا مرة واحدة، ضمير المتكلم الجمع «سنتنا» إشارةً إلى الله وحده؛١١ فالسنن لا تُضاف إلا إليه، وفي المفرد تُضاف إلى الأوَّلِين وإلى الذين خلَوا من قبلُ؛ أي إنها قانونٌ تاريخي، تحقَّق في الماضي، ويستدعي النظر والتأمل فيه؛ فالماضي حاضر، والتاريخ شاهد. وتعني الثبات والاطراد ضد التحوُّل والتبدُّل. تعني سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ قوانين الشعوب السابقة، والتي تنطبق على الشعوب الحالية؛ ومن ثَمَّ فهي مَدْعاةٌ للعظة والاعتبار، ثم الإيمان بالله الذي وضع هذه السنن في التاريخ، وهو نفس استعمال سُنَّةَ اللهِ في الذين خلَوا من قبلُ، لا فرق بين أفعال الله وقوانين التاريخ، كلاهما حتمي. وهو المعنى الذي يُعاد تأكيدُه عدة مرات. ويُستعمل تعبير سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مرةً واحدة؛ أي سنن الوحي والنبوة، قوانين التاريخ وأفعال الله المدوَّنة. ومرةً واحدة يُستعمل لفظ «سنن» غير مضاف قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؛ فالسنن لها وجودٌ موضوعي بصرف النظر عن إرادة الله وإرادة البشر.
وتختلف الأقسام التسعة في «السنن التاريخية في القرآن»، في مقدار الاعتماد على الشواهد النقلية من القرآن والحديث، مما يجعلها متباينة في الحجم، وتغلبُ آيات القرآن على الحديث على عكس ابن خلدون، الذي اعتمد في ذكر أمر الفاطمي في «المقدمة» على أكثر من خمسين حديثًا في نهاية الزمان ونهضة التاريخ.١٢ وهناك فصلان عقليان خالصان؛ الأول للتنظير «التفسير القرآني بين التجزيئي والتوحيدي». والثاني «علاقة النظرية القرآنية بالتشريع الإسلامي».
ومن الموروث يُذكر الأنبياء والأولياء والائمة والمؤرخون والخلفاء والمصلحون وبعض أقارب النبي وزوجاته، ويأتي في المقدمة «الرشيد» نموذج حب الدنيا وإيثاره على حب الله، ثم الإمام علي أمير المؤمنين وابن القرآن مع الاستشهاد بقولَين له، ثم الطبري نموذج التفسير التجزيئي، ثم الطوسي والحلي. ومن الأنبياء يأتي الرسول أولًا كنموذجٍ للمثل الأعلى، ثم موسى كنموذجٍ لقيام الأمم وسقوطها. ثم يُذكر موسى بن جعفر الذي سجنه الرشيد ونموذج الإمام. ثم تُذكر خديجة زوجة الرسول وأبو طالب عمه. ثم يتوالى الأئمة مثل الحسن والحسين والإمام المعصوم، والمؤرخون مثل الرازي وابن باجه، والخلفاء مثل عثمان وعمر، والمؤرخون مثل ابن خلدون، والمصلحون مثل رضا خان في إيران وأتاتورك في تركيا، والذين آثروا الدنيا على الآخرة مثل عبد الرحمن بن عوف، والقتلة مثل عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي الذي قال: «فُزتُ وربِّ الكعبة.»١٣
وتُذكر أربعة أحاديث للرسول تحُثُّ على إيثار الآخرة على الدنيا.١٤ وتُبيِّن أن ميراث الأنبياء ليس الذهب والفضة والعقار بل العلم والحكمة. وكلها مجمعة في نهاية المطاف، حديث الروح. كما يُحال إلى كتاب «الجواهر»، وهو شرحٌ شامل لروايات للكتب الأربعة، أشبه بالفقه على المذاهب الأربعة. لا يبدأ بروايةٍ رواية، وإنما يصنف روايات الكتب الأربعة طبقًا للموضوعات، مثل البيع والجعالة وإحياء الموات والنكاح، ثم يقارن بينها، ويخرج منها بنظرية لأنه لا يمكن الوصول إلى الحكم الشرعي من روايةٍ رواية، بل من بنيةٍ نظرية لمجموع الروايات في حكمٍ واحد. وهو الاتجاه الموضوعي في شرح الأحاديث.١٥ كما أن الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الأعظم، لم يتلقوا النظريات بصِيَغٍ عامة، بل تلقَّوها إجماليًّا ارتكازيًّا. انتقشَت في الأذهان وسَرتْ في الأفكار. وساعد على ذلك الجو الاجتماعي والفكري، خاصةً بعد التفاعل بين الحضارة الإسلامية وباقي الحضارات المجاورة. كما يُحال إلى الرسول كمناسبةٍ لنزول آية وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ، عندما استعجل الكفار الرسول بالعذاب تحديًّا له.١٦
ثم يأتي ذكر علي بن أبي طالب، ويَستشهِد بالعديد من أقواله لإثبات نظرية التفسير التوحيدي؛ فهو ابن القرآن القائل: «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق ولكن أخبركم عنه. ألا أن فيه علمَ ما يأتي والحديث عن الماضي، ودواءَ دائكم ونظمَ ما بينكم.» وهو أفضل تعبيرٍ عن التفسير الموضوعي بالحوار مع القرآن، وطرح المشاكل الموضوعية عليه؛ أي الحصول على الإجابة القرآنية بعد طرح الأسئلة عليه، وليس الحديث عن القرآن من طرفٍ واحد، موضوعٍ بلا ذات، مجرد تسجيل لوقائعَ جزئيةٍ دون تنظيرٍ عقلي موضوعي. وتُذكر أقوالٌ أخرى تُميِّز بين ثلاثة أنواعٍ من العلماء؛ العالم الرباني، والعالم على سبيل النجاة، والهمج الرعاع فقهاء السلطان سبب الفساد في المجتمع الصالح. وليس لهؤلاء العلماء عقلٌ مستقل ولا إرادةٌ مستقلة. مهمة المجتمع تحويلهم إلى القسم الثاني، العالم لنفسه ثم إلى تابعٍ بإحسان على حد التعبير القرآن إلى مقلدٍ بوعي وتبصُّر بتعبير الفقه، في حين تريد الفرعونية توسيع هذا القسم الثالث والإكثار منهم. وتُذكر أقوالٌ أخرى في استصغار الدنيا والزهد فيها، وأنها مكان لإقامة الحق ودحض الباطل، ورؤية الله في كل شيء، ويشارك عليٌّ فلاسفة الإغريق في الاعتقاد، ويزيد عليهم حب الله.١٧
وتُؤخذ سيرة علي بن أبي طالب على أنها السيرة الفاضلة التي تُحقِّق المثل الأعلى؛ فقد كان يعمل لله وليس لدنياه، يحذو حذو الرسول. كان أطوعَ الناس له في حياته وبعد مماته، وأكثر الناس عملًا في سبيل الدين، وتضحيةً في سبيل الإسلام. وقد جعل حبُّ الله عليًّا يقف موقف الشجاعة، شجاعة الحرب، وشجاعة الرفض، وشجاعة الصبر. شَدَّ حزامه وقد ناهز الستين، وهجم على الخوارج وحده فقتل أربعة آلاف، لأن حب الله أسكره، وهي مبالغةٌ يثيرها الخيال تقريظًا للبطولة. وصبر على حقه في قمة شبابه؛ حفاظًا على وحدة الأمة، ما دام خصومه يحافظون على شعائر الإسلام. ورفض البيعة عندما عُرِض عليه أن يُبايع على شروطٍ، تخالف كتاب الله بعد مقتل الخليفة الثاني. وهو نموذج العلم، فكل طالب علمٍ حاله حال علي بن أبي طالب.١٨
والحسينُ أطهر الناس وأزكاهم وأطيبهم وأعدلهم، وقع عليه الظلم كما وقع على موسى، فقد قُتل هو وأصحابه وأهل بيته، كما وقع على موسى العذاب، والتيه أربعين يومًا مع قومه، جزاءً على الظلم والطغيان والتمرُّد؛ فقد شمله الظلم وهو أطهر الناس وأزكاهم وأشجعهم؛ لأنه جزءٌ من الأمة.١٩
وعلى الطرف الآخر نموذجُ هارون الرشيد، نموذج حب الدنيا؛ فقد سجن الإمام موسى بن جعفر نموذج حب الآخرة. وهو نموذج عبد الرحمن بن عوف في خياره بين عثمان وعلي، عالمًا بفضل علي على عثمان، الذي فتح باب الفتن إلى آخر الدهر. وقد سمع ذلك من عمر نفسه؛ فقد خان عبد الرحمن بن عوف الأمانة، وهو يعلم أن الرسول قد جعل عليًّا خليفة من بعده.٢٠
ويضرب المثل بقوم لوط على أن الشذوذ الجنسي معارضٌ لسنن التاريخ، ويُؤدِّي إلى خراب المجتمع وفنائه. كما يضرب المثل للحوادث التي لا تنطبق عليها سنن التاريخ، بل القوانين الفيزيائية وقوانين الكون، مثل موت أبي طالب وخديجة في سنٍّ مُعيَّن، وأثر الجسد والشيخوخة في انقضاء أجل عثمان الذي ناهز الثمانين. وقد أثَّرتْ هذه الحوادث الطبيعية في تاريخ الإسلام. ولو أن عثمان مات مبكرًا وأتى علي بعده، لما حدثَت الفتن التي حدثَت بعد ذلك، والتاريخ لا يعرف «لو»؛ لأنها تفتح باب الشيطان.٢١
ويتقد الإمام الشهيد المؤرخين القدماء رغبةً في تجاوزهم؛ فالطبري نموذج المنهج التجزيئي في التفسير مع ابن ماجه والرازي والشيخ الطوسي، بالإضافة إلى التكرار الجامد الذي لا حياة فيه. ولا تتحكم سنن التاريخ في كل المساحة التاريخية، وفي كل القضايا التي يتناولها الطبري في تاريخه؛ فالتاريخ كتابٌ مفتوح وليس كتابًا مغلقًا كتاريخ الطبري. وتتغير مناهج التاريخ بتغيُّر العصور؛ فعصر الشيخ الطوسي غير عصر المُحقِّق الحلي. وعيب التفسير بالمأثور الوقوع في خطأ الروايات وأغلاط السابقين، ودخول خرافات القدماء والإسرائيليات والديانات السابقة. وأخيرًا أتى ابن خلدون في دراسته للتاريخ، وكشف عن سنه وقوانينه.٢٢

وقد استأنف الغرب ما بدأه ابن خلدون؛ إذ اتجه الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة إلى تجسيد المفهوم، الذي حقَّقه المسلمون الذين لم يتوغلوا في أعماقه. وتنوَّعَت الأبحاث عند الأوروبيين في فهم التاريخ ومعرفة قوانينه، ونشأت تياراتٌ فكرية مثالية ومادية ومتوسطة ومدارسُ متعددة، أشهرها المادية التاريخية بعد أن نبه القرآن عليها؛ فالمادية التاريخية استئنافٌ لطريق القرآن. ويبقى للقرآن الكريم وحده أنه طرح هذه الفكرة، لأول مرة على ساحة المعرفة البشرية؛ ومن ثَمَّ تصبح دراسة نظريات القرآن أكثر إلحاحًا، خصوصًا مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، بما يملك من رصيدٍ كبير وثقافةٍ متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية، حيث وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظرياتٍ كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان من الضروري لتحديد موقف الإسلام من هذ النظريات استنطاقُ نصوصه، لمعرفة مواقفه إيجابًا أم سلبًا، ولمعرفة هذه النظريات الإسلامية التي تعالج نفس الموضوعات، التي عالجتها التجارب البشرية الأخرى. وقد أثَّرَت الحضارات المجاورة قديمًا في التفسير الموضوعي للتاريخ؛ فقد قدَّمَت الحضارات القديمة عروضًا نظرية لعديدٍ من الموضوعات في المنطق والطبيعيات والإلهيات، فاضطُر الحكماء إلى مقابلةِ نظريةٍ بنظرية، ونسَقٍ بنسَق، وحكمةٍ بحكمة، فلما أنتج الغرب الحديث فلسفة التاريخ، لم ينتج المسلمون المعاصرون فلسفةً مقابلة للتاريخ؛ فأوروبا المعاصرة هي المرآة التي تتراءى فيها صورة العالم الإسلامي.

وترتبط فلسفة التاريخ في الغرب بالاستعمار؛ إذ إن تحقيب التاريخ لا يتم إلا في حضارةٍ منتصرة، في ذروتها أو في نهاية التاريخ. أما الأمة الإسلامية بعد أن ضاع منها المثل الأعلى، فقد تداعت أمام الغزو العسكري من الخارج، أو انصهَرتْ في مثلٍ أعلى أجنبي، كما فعل رضا خان في إيران وأتاتورك في تركيا؛ انبهارًا بالمثل الأعلى للإنسان الأوروبي المنتصر، بعد أن أضاعوا مثلهم الأعلى. أما الحركة الإصلاحية فقد اختارت إعادة المثل الأعلى من جديد. وقد انهار المثل الأعلى الأوروبي، كما تنبأ بذلك القرآن في وصفه لقوانين انهيار المجتمعات مثل: كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ؛ فقد سيطر هتلر والنازية في جزءٍ من أوروبا ليُحطِّم كل ما فيها من خيرٍ وإبداع، ويقضي على مكاسب ذلك المثل الأعلى الذي رفعه الإنسان الأوروبي الحديث، والذي تحوَّل بالتدريج إلى مثلٍ تكراري.٢٣
وتفسير القرآن للتاريخ ليس تفسيرًا غيبيًّا، بل هو تفسيرٌ علمي موضوعي، وليس تفسيرًا إلهيًّا مثل التفسير الإلهي عند أوغسطين وغيره من المفكرين المسيحيين اللاهوتيين.٢٤ كما ينتقد الإمام الشهيد التفسير الليبرالي للتاريخ الذي يجعل لإرادة الإنسان الفردي الحر، الأولوية على إرادة المجتمعات والشعوب وقوانين التاريخ الموضوعية؛ فقد فات الإنسانَ الأوروبي المحتوى والمضمون حين جعل الحرية هدفًا، وهذا صحيح، ولكنه صيَّر هذا الهدف مثلًا أعلى، بينما هو إطار إذا خرج عن محتواه أدَّى إلى الويل والدمار، الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم. تصوَّر الغرب أن هناك تناقُضًا بين سنن التاريخ وإرادة الإنسان، ووقع في وهم التناقُض بين الضرورة والحرية، ثم ضحى بالتاريخ لصالح الإنسان، وعظَّم دور البطل في التاريخ، كما فعل كارلايل في «البطل والبطولة»، ومُطبقًا ذلك على محمد بحجة أنه ما دام الإنسان مختارًا، فلا بد من استثناء المساحة التاريخية من الساحات الكونية في مقام التقنين الموضوعي. وعلى الضد تَوهَّم بعض المفكرين الأوروبيين مثل هيجل، أن المجتمع كائنٌ عملاق له وجود وحدوي عضوي متميز عن سائر الأفراد، وكل فردٍ خليةٌ فيه. وهو تصورٌ أسطوري؛ إذ لا يوجد إلا الأفراد دون هذا العملاق وراءه، لا يوجد إلا زيد وبكر وخالد. إن مناقشة هيجل فلسفيًّا تخرج عن إطار البحث، وهو موقفٌ مرتبط بكامل الهيكل النظري لفلسفته، وهو غير صحيح. لا حاجة لمثل هذا الافتراض الأسطوري للتمييز بين عمل الفرد وعمل المجتمع. المجتمع هو البعد الثالث للفرد بعد السبب والغاية، مادته وأرضيته تجعله يدخل في كتاب الأمة الجاثية أمام ربها. والحقيقة أن تصوُّر هيجل للمجتمع العضوي أقرب إلى تصور الأمة، ولا تناقُض بين إثبات ذاتية الفرد وذاتية الأمة كما هو الحال عند إقبال. ويستعمل الإمام الشهيد ألفاظ أرسطو في وصف الأبعاد الثلاثة لعمل الفرد والأمة؛ العلة الفاعلة والعلة الغائية والعلة المادية.
ويحظى ماركس والمادية التاريخية بالنصيب الأوفر في التعامل مع فلسفة التاريخ في الغرب؛ لأنها أشهرها وأكثرها أثرًا وربما أخطرها؛٢٥ فكما أن عليًّا في الموروث هو الأكثر تردُّدًا، فإن ماركس في الوافد هو الأكثر ذكرًا، مما يفرض إمكانية تأويل علي بماركس، وماركس بعلي،٢٦ ومع ذلك فإن المادية التاريخية تعطي نظريةً ضيقة لتفسير التناقُض في المجتمع؛ فبالرغم من الذكاء الخارق لماركس، لم يستطيع تجاوز حدود النظرية التقليدية للإنسان الأوروبي، الذي يرى أن العالم ينتهي خارج أوروبا، كما يعتقد اليهود أنهم هم الإنسانية كلها. وهو نقدٌ يقدمه الإمام الشهيد للمركزية الأوروبية وللعنصرية اليهودية.٢٧ كما أن الأوروبي لم يستطع التخلُّص من هيمنة العامل الطبقي، الذي لعب دورًا في المادية التاريخية، وكأن التناقُض كله طبقي، بين من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملك شيئًا، ويعمل لصالح الطبقة الأولى، ولا ينال إلا الكفاف. ويشتد هذا الصراع مع تطوُّر الآلة الصناعية، الذي يُؤدِّي إلى تخفيض مستوى المعيشة، ويعطي فرصة للطبقة المالكة لتخفيض أجر العامل. كما أن الآلة تُوفِّر العمال، فتطرد الرأسمالية الفائض منهم، مما يؤدي إلى ثورة العمال، لتقضي على التناقُض الطبقي؛ وبالتالي تنتهي كل التناقضات الأخرى. وهو زعمٌ من المادية الجدلية والثورة المادية، نظرةٌ ضيقة لا تتفق مع الحقيقة والواقع والتاريخ. التناقُض الطبقي ليس وليد تطوُّر الآلة، بل من صنع النظام الرأسمالي، إنما هو الإنسان الأوروبي الذي أفرز نظامًا رأسماليًّا بفضل الآلة. الإنسان هو الذي يصنع الاستغلال، ويفرز النظام الرأسمالي حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية. اعتقدت المادية التاريخية أن الآلة تصنع الاستغلال والنظام المتناسب معها، في حين أن الآلة ليست هي الصانع، الآلة إمكانية. أما الصانع فهو الإنسان بمحتواه الداخلي لمثله الأعلى.
وطبقًا لنبوءة ماركس كان من المفروض أن يقع تناقضٌ وصراعٌ طبقي، بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الأوروبية الصناعية، التي تطورت فيها الآلة تطورًا كبيرًا مثل إنجلترا وأمريكا وفرنسا وألمانيا. كان من المتوقع إيمان العامل الأوروبي بضرورة الثورة لتصفية التفاوت الطبقي. والواقع أن الرأسمالية قد ترسَّخَت ولم تنهار المجتمعات الأوروبية والأمريكية، بينما تحقَّقَت نبوءة ماركس في دولةٍ غير صناعية مثل روسيا والصين؛ فلم يعِش هذان البلدان التناقُض الطبقي بالمعنى الماركسي، وانهارت بالرغم من أنها لم تكن دخلَت بعدُ عصر الثورة الصناعية. وازداد العمال رخاءً في الدول الرأسمالية، وتحوَّلَت النقابات العمالية إلى هيئاتٍ شبه ديمقراطية دون وقوع ثورة، تتصافح مع أصحاب رءوس الأموال للتسليم بحقوق العمال عن طريق البرلمانات والنقابات والانتخابات، فوقع العمال في حالةٍ من الاسترخاء السياسي، فهل كان ماركس سيئ الظن بالرأسماليين، وضاعت نبوءاته لهم، أم أن هؤلاء الرأسماليين دخل الرعب في قلوبهم من الماركسية وتوريثها، فحاربوها حتى لا يثور العمال ضدهم؟ هل دخل الإسلام قلوبهم؟ هذه كلها احتمالاتٌ غير واردة. هناك تناقضٌ آخر قبل الصراع الطبقي لم يكتشفه ماركس، التناقض بين الأغنياء والفقراء على مستوى الشعوب وليس داخل المجتمعات، بين أوروبا وأمريكا في مقابل شعوب العالم الثالث؛ فقد خرج الأوروبي خارج أرضه لاكتشاف كنوز غيره في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ ماس تنزانيا، وحديد ورصاص ونحاس ويورانيوم أفريقيا، وقطن مصر، وتنباك لبنان، وخمر الجزائر. وهو التناقُض بين المحور الرأسمالي بطَبقيَّته وباقي شعوب العالم. لقد رأى الرأسمالي الأمريكي أن من مصلحته أن يُقاسِم العالم شيئًا من الغنائم، لاستمرار النظام الرأسمالي على مستوى الشعوب وليس على مستوى الطبقات. التناقض إذن له صيغٌ متعددة وأصل واحدٌ، هو التناقض الرئيسي الجدلي الإنساني. وهو ليس في حاجةٍ إلى صيغ. هو التناقض داخل الإنسان الذي يُفرِغ صيغه الخارجية، وهي نظرية الجهادَين، الأصغر للنفس، والأكبر للعدو. وهي نظريةٌ واقعية منفتحة تثبتها التجربة البشرية في مقابل النظرية الضيقة للصراع الطبقي، والتناقُض الاجتماعي، وسيطرة القوي على الضعيف؛ ومن ثَمَّ ينقل الإمام الشهيد الصراع من المجتمع إلى الإنسان أولًا وإلى الشعوب ثانيًا.٢٨

(٣) التفسير الموضوعي

يجمع «السنن التاريخية في القرآن» بين المنهج والموضوع. المنهج هو «التفسير الموضوعي» أو «التفسير التوحيدي»، تفسير آيات القرآن، وتجميع الآيات المتعلقة بموضوعٍ واحد، وتفسير بعضها ببعض؛ فالمنهج نظرية التفسير.٢٩ المنهج نصٌّ وليس واقعًا، نقلٌ وليس نقدًا، روايةٌ وليس ملاحظة ومشاهدة، ويتكون من خطواتٍ ثلاث:
  • (أ)

    تجميع الآيات حول موضوعٍ واحد، ويسهل ذلك من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن. المهم إيجاد بنيةٍ عقلية أو واقعية بعد تبويبها، من حيث الشكل اللفظي أو من حيث المضمون؛ أي المعنى والعلاقات. وهو الموضوع على مستوى التعبير.

  • (ب)

    تحليل المضمون في العالم الخارجي، خارج النص، وهو ما سمَّاه الأصوليون القدماء تحقيق المناط؛ فالموضوع في النص وخارج النص، في الوحي وفي العالم، في الكلمة وفي الشيء، في اللغة وفي الوجود؛ ومن ثَمَّ لا فرق بين استنباط قوانين التاريخ من النص واستقرائها في الواقع، نظرًا لوحدة النص والواقع، وكما وضح من «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». وهو الموضوع على مستوى العالم.

  • (جـ)
    انكشاف الموضوع في النص وفي العالم، وفي الشعور كتجربةٍ حية؛ فالنص في النهاية مستوًى صوري، يتم فهمه بالعقل الخالص. والعالم الخارجي مستوًى مادي تتم ملاحظته بالحواس. وكلا المستويَين يصُبَّان في الشعور، تجربةً حية؛ فالعقل مرتبط بالحدْس، والعالم تجربةٌ شعورية. وهو الموضوع على مستوى الشعور.٣٠
وتبويب الفقه القديم أول نوع من التفسير الموضوعي، وجمع القرآن خاصة الأحاديث حول موضوعات واحدة، مثل «الفقه على المذاهب الأربعة»، أو «الخمسة» بعد إضافة الفقه الجفري، بعد أن اعتبره الشيخ شلتوت المذهب الفقهي الخامس، ومثال ذلك كتاب «الجواهر الأربعة» في الفقه الشيعي.٣١

وعلم الحديث أيضًا نوعٌ من التفسير الموضوعي؛ لأنه تجميعٌ للأحاديث حول موضوعٍ واحد. ويمكن إضافة علم السيرة أيضًا؛ لأنه تجميعٌ لعديدٍ من الأحاديث طبقًا لسيرة الرسول منذ مولده حتى وفاته، بل إن علوم القرآن أيضًا تأسَّسَت نتيجة للتفسير الموضوعي؛ لأنها تجميعٌ للآيات حول موضوعٍ واحد على مستوى اللغة؛ الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤَوَّل، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، والخاص والعام، والأمر والنهي، والمستثنى والمستثنى منه، أو على مستوى الزمان مثل الناسخ والمنسوخ، أو المكان مثل «المكي والمدني»، أو على مستوى الموقف الإنساني مثل «أسباب النزول».

التفسير التجزيئي هو نموذج التفسير القديم عند الطبري والرازي والطوسي، يخلو من التراكم المعرفي، وجمع جوانب الموضوع في رؤيةٍ كلية واحدة؛ لذلك قد تقع التحليلات الجزئية في تناقُضات بيَّنها عند المفسر الواحد، لغياب منظومةٍ كلية للوحي كتصور للعالم. كما يخضع المنهج التجزيئي إلى الأحكام المسبقة والتفسيرات المذهبية والعقائدية، مثل موضوع الجبر والتفويض، فأصبح التفسير الجزئي تشريعًا للمذهب المسبق. خرج التفسير من المذهب، ولم يخرج المذهب من التفسير. يستهدف مفهوم الله لأنه بؤرة الدين، ومظان الخطر من الديانات المجاورة، التي تحمل تصوراتٍ مختلفة في حاجةٍ إلى تصحيح، وقد تغيرت مظان الخطر الآن من عقيدة الأمة إلى ثرواتها وأرضها واستقلالها ووحدتها.

أما التفسير الموضوعي فيتجاوز التفسير بالمأثور، والرواية التي تثير مشكلة صحتها التاريخية، ومدى اتفاقها واختلافها مع العقل. كما يتجاوز التفسير بالمأثور عن المعصوم أو عن السلف إلى التفسير بالمعقول، خطوة نحو الاعتزال الجديد، ويتجاوز التفسير اللفظي للمفردات، وشرح المصطلحات إلى تفسيرٍ اجتهادي مبدع، يذهب إلى ما وراء المدلول اللفظي، كما يتجاوز التفسير البلاغي والأدبي للقدماء، والكلامية والصوفية والفقهية طبقًا لمنظومة العلوم القديمة. كما يتجاوز التفسيرات التشريعية والاجتماعية في الحركات الإصلاحية الحديثة، مثل «تفسير المنار» لرشيد رضا. التفسير الموضوعي هو تفسيرٌ بالمضمون وليس تفسيرًا بالشكل، مثل كل التفسيرات اللفظية والبلاغية والأدبية. كما يتجاوز التفسير المتحيز، وهي التفسيرات العقائدية والفلسفية العقائدية، التي تشُد النص القرآني وتُؤَوِّله كي يتفق معه. وهو تفسيرٌ غير منحاز بالرغم من صعوبته، واستحالة بداية التفسير دون أن يكون موجهًا نحو هدفٍ معين، وإلا وقع في تحصيل الحاصل والتكرار والشروح اللفظية واللغوية. لا يعني لفظ الموضوعي «الموضوعي» في مقابل «المنحاز»، بل الذي يحيل إلى العالم الخارجي. التوحيد إذن ليس مجرد عقيدة أو تصور للعالم، أو نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي وتربوي، وتوحيد الشخصية الإنسانية وتوحيد الأسرة، وتوحيد المجتمع، وتوحيد الإنسانية، بل هو منهجٌ في جمع المتشابهات بناءٌ على الأشباه والنظائر، كما حدث في علم «القواعد الفقهية». التفسير الموضوعي للتاريخ ليس مجرد تفسيرٍ نظري، بل هو جزءٌ من حركة التاريخ، لا فرق بين النظر والعمل، بين الفهم والتطور، بين التفسير والتغيير. ومن هنا أتت قضية الفاعلية والأثر، دور الإنسان في حركة التاريخ، ورسالته إلى الأمة.٣٢
وبالمقارنة بين المنهجَين؛ التفسير التجزيئي يكتفي بالدلالات الجزئية، في حين أن التفسير الموضوعي يتجاوزه إلى المركَّب النظري، التفسير التجزيئي ثابتٌ خارج الزمان والمكان، في حين أن التفسير الموضوعي يتجدد بتجدُّد الزمان والمكان، ويتغير بتغيُّر العصور. التجزيئي لا يُعبِّر إلا عن حاجات عصره، مثل تفسير الشيخ الطوسي وتفسير المحقق الحلي، في حين أن الموضوعي يتجاوز العصور ويتجدد بتجدُّدها، يُعبِّر عن حاجة هذا العصر، عصر النظريات والأيديولوجيات في وقتٍ يتحدَّى فيه الغرب، ويتساءل: هل الإسلام قادرٌ على الدخول في عصر الأيديولوجيات الكبرى؟ ما الصلة بين الإسلام والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية والتقدم والتنمية والعلم والفن والعولمة؟ التفسير التجزيئي عائقٌ لأنه لا هدف له، ولا يبغي تحقيق شيء أو الاعتراض على شيء، أو إلى المساهمة في صنع التقدم. في حين أن التفسير التوحيدي يهدف إلى تحريك الواقع وتغييره، والمساهمة في صنع التقدم. المفسر التجزيئي دوره سلبي، ليست لديه افتراضاتٌ مسبقة أو أفكارٌ موجهة، على عكس التفسير الموضوعي، الذي يبدأ من واقع الحياة والتجربة الإنسانية مستنطقًا القرآن، وقارئًا العالم في القرآن؛ فالقرآن اسم فعل يُوحد به القارئ والمقروء.٣٣ التفسير التجزيئي هو التفسير الطولي الذي يبدأ من سورة الفاتحة حتى سورة الناس. في حين أن التفسير التوحيدي أو الموضوعي هو التفسير العرضي، الذي يخترق فيه الموضوع كل آيات القرآن.٣٤
والحقيقة أن التفسير التجزيئي والتفسير التوحيدي كليهما ظاهرةٌ اجتماعية. الأول يدل إما على غياب الهدف أو القصد، والوقوع في تحصيل الحاصل والسكون، الذي ينتهي إلى التجزيء أو إلى تبرير العقائد المسبقة، التي هي في الغالب عقائد السلطة السياسية، مثل الجبر والتفويض وعلى نحوٍ انتقائي؛ فالتجزيء هنا انتقاء وتبرير.٣٥ والثاني هادفٌ يتضمَّن سد النقص النظري الأيديولوجي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، أمام الأيديولوجيات الوافدة مثل الليبرالية والرأسمالية والاشتراكية والقومية، ووضع خطط لتغيير الأوضاع القائمة، بما يتفق مع المقاصد الكلية للشريعة.

(٤) قوانين التاريخ

وهو لب فلسفة التاريخ وأهم جزء في «السنن التاريخية في القرآن» وأكبره حجمًا، يعتمد أساسًا على قصص الأنبياء الذي يكشف عن نهضة الأمم وسقوطها، وقيام الحضارات وانهيارها في تصورٍ دائري حلزوني، نظرًا لما يحدث في كل مرحلة من تراكمٍ كمي، يُحدث تغيرًا كيفيًّا في الوعي بالله، والتحرَّر من قهر المادة والسلطان.

وسنن التاريخ ثابتة وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، متحققة في التاريخ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. هي كلمة الله تتحقق في التاريخ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ، والتاريخ ميدان كلمة الله أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا؛ من أجل النظر والاعتبار وبلورة الوعي التاريخي أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

وسنن التاريخ ليست قوانين الطبيعة الحتمية، بل هي قواعد السلوك الإنساني ومعاييره أي الأخلاق؛ فالأخلاق هي سنن التاريخ الإنساني مثل التقوى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا …، والاستقامة وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ، والطاعة وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، والصبر فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا، ضد الاستكبار في الأرض والمكر السيء فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ، والبداية بالداخل قبل الخارج، وبالفرد قبل الجماعة، وبالأخلاق قبل السياسة إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.

والتاريخ تجارب وعذاب وآلامٌ مثل تاريخ الأنبياء، مثل أولي العزم من الرسل، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وتاريخ الأئمة مثل شهادة علي والحسين. هو تاريخ الجهاد والتشبث بالأرض وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، وألم القعود أقسى من ألم الجهاد إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الجهاد مكتوبٌ وقدَر على المسلمين؛ فالحياة صراع. ويألم المسلمون كما يألم الآخرون، ولكن إيلام المسلمين للحق، وإيلام الأعداء للباطل إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.

والأمم لها أعمارٌ مثل الأفراد، ولا تبقى أمة إلى الأبد في التاريخ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، لكل أمةٍ أجل، ولكل أجلٍ كتاب وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، ومَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ. ومسئولية الأمم مثل مسئولية الأفراد وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. ولكل أمةٍ إيداعها، ولا يجوز تقليد أمة لأمةٍ أخرى إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.

وتنهار المجتمعات وتتبدل الأمم عن طريق الطبقة المترفة، وقيم الاستهلاك أي الفساد الاقتصادي وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا. والمترفون هم الذين يُسيطِرون على خيرات البلاد، ويرفضون تغيير الوضع القائم وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. والتسلط السياسي أيضًا أحد أسباب انهيار الأمم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا. ويعتبر الغرب سطوة المال والسياسة عنصر قوة وليس عنصر ضعف. تنهار المجتمعات بالتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، أو البطش بالناس وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا.٣٦

وتتسم سنن التاريخ بخصائصٍ ثلاث يُسمِّيها الإمام الشهيد «حقائق قرآنية» عن سنن التاريخ؛ الأولى الاطراد؛ أي عمومها وسريانها دون حذف أو استثناء؛ لأنها نتيجة إحصاءٌ شامل لقيام الأمم وسقوطها، ونهضة الشعوب وانهيارها.

والثانية الربانية؛ أي ارتباطها بالله عن الإرادة الإلهية. وهو عكس الاطراد ويتنافى مع موضوعية القانون، إلا إذا تم التوحيد بينهما على طريقة اسبينوزا، أن تكون صفات الله هي قوانين الطبيعة، لا فرق بين «الطبيعة الطابعة» و«الطبيعة المطبوعة»، وعلى طريقة هردر أن تكون العناية الإلهية هي قوانين التاريخ. ويعترف الإمام الشهيد بهذا التناقُض، ويُقر بالاعتراض على سمة الربانية، بأنها تدخل في إطار لاهوت التاريخ، كما هو الحال عند أوغسطين وليس فلسفة التاريخ. ويرُدُّ عليه بأن الربط بين حوادث التاريخ يتم عن طريق الحكمة، وليس عن طريق الإرادة، مع ابن رشد ضد الغزالي. وهو أفضل من اعتبار الإرادة الإلهية مع سنن التاريخ وليس ضدها، حتى لا تبطل الحجة بدليل التمانُع، والانتهاء إلى الشرك إذا اختلفَت الإرادتان، وإلى التكرار وعدم الفائدة إذا ما اتفقَت الإرادتان.

والثالثة اختيار الإنسان وإرادته. وهي سمة خارج القانون وليست داخلةً فيه، أقرب إلى وسيلة تحقيق القانون وتجلِّيه في التاريخ. كما أنها تُناقض السمة الثانية، الربانية، إلا بتأويلٍ للإرادة الإلهية على أنها مجال الحدث، وميدان الفعل الطبيعي المستقل عن إرادة الإنسان، وميدان فعله ومجال حريته واختياره. ويُفضِّل الإمام الشهيد تأويل ذلك بأولوية الداخل على الخارج، والمبادرة الفردية على التغيير الاجتماعي إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ فالتاريخ له هدفٌ وغاية، ولا يكون قانونًا إلا بالسبب والغاية، بالعلة الفاعلة والعلة الغائية. في حين أن الطبيعة لا تعرف إلا السببية دون الغائية. السببية مقولةٌ طبيعية في حين أن الغائية مقولة إنسانية. يتحقق التاريخ في الطبيعة؛ فالطبيعة هي مجال تحقق التاريخ، وقوانين الكون والطبيعة سندٌ لقوانين التاريخ.٣٧
لذلك جاءت السنن التاريخية في القرآن في ثلاث صيغ؛ الأولى القضية الشرطية مثل مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، وذلك لفتح المجال للحرية الإنسانية؛ فهي ليست مجرد ملاحظةٍ لغوية، بل مُوجِّهٌ عملي للإنسان في حياته، وهي نفس صيغة الميراث. والثانية القضية الفعلية الناجزة، التقرير أو الحمل عكس الشرط؛ فقانون التاريخ حقيقةٌ وواقع. والثالثة الاتجاه الطبيعي في حركة التاريخ، والمساواة بين القانون التاريخي وطبائع الأشياء وسنن الكون، مثل انهيار قوم لوط بسبب الشذوذ الجنسي، وتقسيم العمل بين الرجل والمرأة؛ فالتاريخ سلوكٌ إنساني فطري طبيعي، والتاريخ هي ذاكرة الكون.٣٨
ولذلك أيضًا كان الفصل السادس «دور الإنسان في حركة التاريخ»، أهم فصل لإثبات دور الإنسان في التاريخ ضد الأشعرية التقليدية، التي تُقلِّل من دور الإرادة الإنسانية لحساب الإرادة الإلهية، كما هو الحال في نظرية «الكسب» الشهيرة؛ فللإنسان إرادته واختياره، وهو مسئولٌ عن أفعاله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. ومسئولية الأفراد مثل مسئولية الأمم؛ ومن ثَمَّ يسير الإمام الشهيد مع المصلحين المعاصرين مثل الأفغاني في تصوُّره لحركة التاريخ، كتفاعُل بين الإرادة الإنسانية وسنن التاريخ.٣٩
ولمَّا كان المجتمع هو التاريخ في وحداتِه الأولى، والتاريخ هو تراكُم التطوُّر الاجتماعي، ارتبطت قوانين التاريخ ببيئة المجتمع. وهناك عناصرُ ثلاثة منها المجتمع؛ الإنسان وخلافته لله في الأرض، الأرض أو الطبيعة، وصلة الإنسان بالطبيعة أو الأرض، ولهذه العلاقة صيغتان؛ الأولى ثلاثية، علاقة الإنسان بالإنسان بالطبيعة، والثانية رباعية بإدخال الله مع الإنسان، والإنسان والطبيعة في نظرية الاستخلاف؛ مستخلِف، ومستخلَف، ومستخلَف فيه، ومستخلَف عليه؛ فالخلافة هي الوجه الفاعل والعطائي للإمامة، والإمامة هي الوجه التقبُّلي للخلافة؛ ومن ثَمَّ تنقسم الفاعلية قسمَين؛ ربانية من الله المستخلِف، وإنسانية من الإنسان المستخلَف، عودًا إلى نظرية الكسب الأشعري. وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الإنسان بالإنسان علاقةٌ طردية، كلما قويَت علاقة الإنسان بالإنسان، قويَت علاقة الإنسان بالطبيعة، كما هو الحال في المجتمع الإسلامي. وكلما ضعُفَت علاقة الإنسان بالإنسان، ضعُفَت علاقة الإنسان بالطبيعة، كما هو الحال في المجتمع الفرعوني.٤٠
وتتكون طوائف المجتمع الفرعوني من أربع طوائف؛ الظالمون أهل الاستكبار، والحاشية المتملقون، فقهاء السلطان، والهمج والرعاع بتعبير علي ابن أبي طالب، والمستضعفون، والعدل أساس الملك. وهو الذي يُحدِّد علاقة الإنسان بالإنسان. والثورة ضد الظلم قانونٌ تاريخي يناقض استنكار الظلم في النفس، وهو أضعف الإيمان، والتهرُّب من مسرح الحياة بالرهبنة افتعالًا أو بدعة.٤١
ويقوم المجتمع الإسلامي على محورية المثل الأعلى في حياة المسلمين. ويصف الإمام الشهيد حضور هذا المثل الأعلى في الشعور الفردي والشعور الجماعي. ويُبيِّن دوره في حركة التاريخ، ميدان التفاعل بين الداخل والخارج، بين الفرد والأمة، بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي. المثل الأعلى في حياة الأمة محوري، هو الدافع والباعث والمحرك، كما هو الحال عند إقبال وفشته. وينقسم المثل الأعلى إلى ثلاثة أقسام؛ الأول الواقع النفسي والاجتماعي وضرورات الحياة، وحاجاته الرئيسية مثل الألفة بين الإنسان والإنسان، وضرورة السلطة في المجتمع الفرعوني. وسرعان ما ينتهي هذا المثل إلى الجمود ثم إلى الانهيار؛ لأنه يخلد إلى الأرض أكثر مما يدفع إلى السماء، ويعبر عن حاجات البدن أكثر مما يدعو إلى متطلبات الروح. والثاني الطموح مثل الإنسان الأوروبي الذي جعل الحرية مثاله، وعمَّم الجزء على الكل واقعًا بذلك في التعميم الأفقي الخاطئ، ظانَّا أن مستقبله مرهون بحاضره وماضيه، أو التعميم الزمني الخاطئ، ظانًّا أن التجربة الزمنية باقية إلى الأبد، ويمكن استعادتها إما بالفاعلية والتجديد، أو بالكبر والتسلط والانقياد، أو بالامتداد والاستيعاب والوراثة، أو بالتسلط والإجرام كما حدث أيام النازية في أوروبا؛ ومن ثَمَّ يسقط المثل الأعلى فينهار التاريخ. والثالث المثل الأعلى الحقيقي الذي حملَه الأنبياء والعلماء والأئمة. ويقوم على الكدح في الأرض وإحداث التغيير الكيفي والكمي المطلوب. ويقوم على شروطٍ وركائز أساسية، مثل الرؤية الواضحة فكريًّا وأيديولوجيًّا، وهو حال ماركس، والطاقة الروحية كما يطلب إقبال وفشته وبرجسون، والموضوعية المنفصلة عن الذاتية كما يتطلب هيجل، والاختلاف أي التمايز والخصوصية، كما هو الحال في النبوة والإمامة، فإذا سقط المثل الأعلى تنتهي دورة التاريخ، إما بالغزو العسكري من الخارج، أو بالذوبان والانصهار كما هو الحال في العلمانية التركية، ثم يعود المثل الأعلى بحركات التجديد والإصلاح.٤٢ ودورات التاريخ مثل أدوار الإنسان على الأرض ثلاثة؛ دور الحضانة كبداية، ودور الوحدة، ودور التشتت والاختلاف كنهايةٍ في حركَتين، تقوم من الحضانة إلى الوحدة، وانهيارٌ من الوحدة إلى الاختلاف.

والمثل الأعلى تعبيرٌ قرآني وَلِلهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، ينبثق من أصول العقيدة الخمسة؛ التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والإيمان بيوم القيامة. وهي مثل الأصول الخمسة عند المعتزلة؛ التوحيد والعدل، والوعد والوعيد، والحُسن والقُبح القبليَّين، والمنزلة بين المنزلتَين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالتشيُّع يقوم على الاعتزال، وكلاهما من المعارضة للأشعرية، الفرقة الناجية. وهو نسقٌ يمكن أن يُعاد بناؤه، كأيديولوجيا للمجتمع والتاريخ.

(٥) خاتمة: كيف يمكن تطوير السنن التاريخية إلى فلسفة التاريخ؟

بالرغم من أهمية الموضوع، ووضع الإمام الشهيد يده على ما غاب في تراثنا القديم، وما نقص في وعينا المعاصر، فإن «السنن التاريخية في القرآن» ما زالت في حاجةٍ إلى تطوير وإحكام، وتلك مهمة عدة أجيال. وكما تجاوز ابن خلدون أغلاط المؤرخين السابقين بعدما يقرب من أربعة قرون، يمكن أيضًا تجاوُز المحاولات المعاصرة لتطوير فلسفة التاريخ على النحو التالي:
  • (١)
    ما زالت فلسفة التاريخ ينقصها بعض الإحكام النظري في بنية الموضوع؛ إذ يضم «السنن التاريخية» تسعة أقسام غير متساوية لا كيفًا ولا كمًّا.٤٣ ويمكن ضم أكثر من قسمٍ واحد جمعًا بين النظر والعمل، وبين الحقائق والصيَغ، وبين عناصر المجتمع والعلاقات الاجتماعية والتشريع.٤٤
  • (٢)
    لم تتحول فلسفة التاريخ بعدُ إلى علمٍ دقيق، وما زالت في مرحلة الدعوة والتأسيس، مرحلة الاستكشاف والاستنهاض؛ لذلك سادها الخطاب الإنشائي دون البرهاني. ما زالت كشفًا ربانيًّا وليست وعيًا علميًّا، كما يفعل الدعاة، وليس كمؤسسي فلسفة التاريخ مثل هردر وفكيو؛ لذلك غلب أسلوب الشرح المدرسي والمحاضرة الشفاهية، وتكرَّرَت الأحكام دون أن تتجدَّد. ويصل الأسلوب الشفاهي إلى حد الخطابة، باستعمال ضمير المخاطب والتوجه إلى المستمعين بالدعوة.٤٥
  • (٣)

    ما زالت تغلب على فلسفة التاريخ الشواهد النقلية في صلب النص، دون أن تخضع لتحليل مضمونٍ دقيق كسند للتحليل العقلي. النص يعطي الافتراض والبحث يُصدِّقه. النص يتضمن الحدْس، والبحث يقوم بالبرهان. ما زال يغلب على التحليل اللغوي للنصوص، أو تحليل الموضوع في العالم الخارجي، روحُ الدفاع في الجدل الكلامي القديم. الحق في جانب، والباطل في جانبٍ آخر، دون إمكانية للاحتمال والنسبية في فهم النصوص أو تحليل الواقع. وبالرغم من النية الصادقة في التفسير التوحيدي، إلا أنه ما زال يغلب عليه التفسير التجزيئي، عن طريق ذكر الشواهد القرآنية كلًّا على حدة. كما أنه تفسيرٌ انتقائي لا يعطي كل الآيات حول الموضوع، ويكتفي ببعضها. ولا يقوم بتحليل الأشكال اللغوية لمعرفة دلالتها من حيث المتكلم والمخاطب والجمع، والاسم والفعل والحرف، والمفرد والجمع، والمضاف إلى الضمائر وغير المضاف، والمعرفة والنكرة، وأي نوع من الضمائر المتكلم أو المخاطب والجمع. والمركَّب النظري له مستوياتٌ متفاوتة، مركَّبٌ نظري قريبٌ من التفسير التجزيئي، مجرد تجميع آيات في موضوعٍ واحد، ومركبٌ نظري للمركبات النظرية الجزئية، مثل فلسفة التاريخ العامة التي تجمع قوانين التواريخ الجزئية.

  • (٤)

    ما زالت فلسفة التاريخ مرتبطة بالفكر الشيعي وليست مستقلة عنه، تقوم على الإمامة والعصمة. ويظهر علي بن أبي طالب باعتباره المنظر الأول للتفسير التوحيدي ولفلسفة التاريخ. صحيحٌ أن ذلك يبدو إلى أدنى حد، مع أنه كان يمكن استثمار الرصيد الضخم لفلسفة التاريخ عند مفكري الشيعة، خاصة أبي يعقوب السجستاني في كتابي «النبوات» و«الينابيع»، والانتقال من التشييع كحركةٍ في التاريخ إلى التشييع كفلسفةٍ في التاريخ.

  • (٥)
    ما زالت «السنن التاريخية» مجموعة من التحليلات البيئية للعلوم الإسلامية القديمة خاصةً علمًي التفسير والكلام، ولم تتحول بعد إلى علمٍ مستقل «فلسفة التاريخ». هي مجرد نقطةٍ تطبيقية لمنهجٍ في التفسير، التفسير الموضوعي، وشاهدٌ عليه. ولم تحضر فلسفة التاريخ بما فيه الكفاية في مظانها القديمة لتأصيلها وتطويرها في باقي العلوم النقلية، والعلوم النقلية العقلية.٤٦
  • (٦)
    ظلت «السنن التاريخية» جزءًا من فلسفة الطبيعة أو فلسفة الكون، لا فرق بين التاريخ البشري والتاريخ الطبيعي. وقد نشأَت فلسفة التاريخ بالفعل في الغرب عند هردر في القرن الثامن عشر، كجزءٍ من فلسفة التاريخ الطبيعية؛ فالإنسان ظاهرةٌ طبيعية متأخرة الظهور في الكون، وحياته استمرار لحياة الطبيعة، وفعله امتدادٌ لفعلها. سنن التاريخ مثل سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات. التاريخ إنسانيٌّ وليس كونيًّا. والحقيقة أن هناك فرقًا بين سنن الكون وقوانين التاريخ؛ إذ تتداخل إرادة الله في قوانين الطبيعة عند برجسون في «التطور الخالق» في صيغة طفرة. وقوانين الحياة والموت، والصحة والمرض بين القانون الطبيعي والقانون التاريخي.٤٧
  • (٧)

    ظلَّت فلسفة التاريخ أيضًا جزءًا من علم الاجتماع والحراك الاجتماعي؛ فحركة المجتمع لحظة من لحظات تطوُّر التاريخ. وفلسفة التاريخ استقراء لحركة المجتمعات في لحظاتٍ تاريخية متعددة. علم الاجتماع علمٌ جزئي، وفلسفة التاريخ علمٌ كلي. ونهضة الشعوب وانهيارها هو نتيجة لصلاح التشريعات الاجتماعية أو فسادها. فلسفة التاريخ حصيلةٌ طبيعية للفلسفة الاجتماعية، وتراكمٌ تاريخي لتطوُّر المجتمعات.

  • (٨)
    وترتبط فلسفة التاريخ بعلم الأخلاق، وكأن الغاية من التعرف على السنن التاريخية في القرآن هي الهداية، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور. وهو تعبيرٌ تقليدي عناه القرآن بالعبرة والعظة، وهو ما يعني بالتعبير الحديث الوعي التاريخي.٤٨ ويتضح ذلك في الفصل التاسع، في الخاتمة «نهاية المطاف، حديث الروح».٤٩ وهي نهايةٌ إشراقية خالصة، ونقلة من منطقة الفكر إلى منطقة القلب، ومن المركب النظري إلى الحب الإنساني والحب الإلهي؛ فكل حب يستقطب قلب الإنسان له درجتان؛ محورٌ وقاعدةٌ خاصة بالمؤمنين، ومحور وقاعدةٌ عامة خاصة بالأولياء والأئمة والأنبياء وعلي بن أبي طالب، وهو ينطبق على حب الله عند المؤمنين والأئمة، وحب الدنيا الذي يقود إلى الدنيا عند العامة، وحب الدنيا الذي يقود إلى الآخرة عند الخاصة. هذا النسق الأخلاقي هو الذي يفسر تأخير خلافة علي. تحية إلى علي، ونداء إلى أولاد علي، ونقدًا لهارون الرشيد الذي سجن موسى بن جعفر، والانتهاء إلى أن الأئمة معلمو البشر. وهو خارج موضوع فلسفة التاريخ، والوقوع في نظريةٍ رومانسية أخلاقية دينية لبعض حوادثه الفريدة وحياة الأبطال التي تثير الخيال.
  • (٩)

    لم تستطع «السنن التاريخية» الجديدة وضع إطارٍ مقارن دال في فلسفة التاريخ، مع شواهدَ من حضارات الشرق والغرب لتأسيس فلسفةٍ جديدة للتاريخ، كما أنتج القدماء التراث القديم بالتفاعل مع حضارات اليونان والرومان غربًا، وفارس والهند وشرقًا. اقتصر الغرب على بعض المدارس في فلسفة التاريخ «اللاهوتية» عند أوغسطين، والعضوية عند هيجل، والمادية التاريخية عند ماركس، والليبرالية التي أدت إلى استعمار الغرب الحديث، والعلمانية التي قلَّدها المسلمون في تركيا وإيران، وظلت عمد فلسفة التاريخ في الغرب عند هردر وفيكو وكوندرسيه وكورنو واشبنجلر وغرهم غائبة.

  • (١٠)

    لم تحاول «السنن التاريخية» إعادة تحقيب التاريخ الإنساني العام بعيدًا عن المركزية الأوروبية، وردِّها التاريخ الإنساني كله إلى تاريخ الغرب، وتحقيبه إلى قديمٍ ووسيط وحديث، ووضع الحضارة الإسلامية في الوسيط، مع أنها كانت تعيش عصرها الذهبي، ولها تحقيبها الخاص مثل كل حضارة خارج المركز الأوروبي. والتحدي في فلسفة التاريخ هو وضع تحقيبٍ عام، يأخذ في الحسبان كل حضارات البشر السابقة، وتحقيبٍ خاص بكل حضارة بما في ذلك الحضارة الإسلامية؛ كي تعرف الأمة في أي مرحلةٍ من التاريخ هي تعيش؛ إذ تضع الأمة نفسها أحيانًا في مسار غيرها، وتتحدَّث عن التحوُّل من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين، والانتقال من الألفية الثانية إلى الألفية الثالثة، وهي ليست في هذا المسار أو ذاك، بل هي في مرحلةٍ ثالثة بعد مرحلةٍ أولى في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في القرون السبعة الأولى، والتي أرَّخ لها ابن خلدون. ومرحلةٍ ثانية في عصر الشروح والملخصات والموسوعات في العصر المملوكي التركي العثماني في القرون السبعة الثانية، والتي انتهت بسؤال عصر النهضة بوجهٍ عام وسؤال شكيب أرسلان بوجهٍ خاص: «لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟» ونحن الآن منذ فجر النهضة العربية الأولى أو الصحوة الإسلامية الثانية، على أعقاب فترةٍ ثالثة منذ بداية القرن الخامس عشر الهجري إلى سبعة قرونٍ قادمة. وقد مررنا بعصر الترجمة الثاني في القرن الماضي، كما بدأَت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي الأول بعصر الترجمة في القرن الثاني والتأليف في القرن الثالث، في حين تأخرنا نحن في التأليف، بعد قرنٍ مضى من الترجمة، بل ربما يتغير تاريخ العالم بتغيُّر مسار الروح في التاريخ؛ فقد سرت من الشرق إلى الغرب، من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرَين ومصر القديمة وكنعان إلى الغرب، اليونان والرومان والغرب الوسيط ثم الغرب الحديث، والآن تسري الروح من جديد عائدة من الغرب إلى الشرق، من أوروبا إلى آسيا. والعالم الإسلامي وسط بين المسارَيْن ذهابًا وإيابًا، وحامل لشعلة الحضارة مرتَين قديمًا وحديثًا، ومركز لحوار الشرق والغرب والشمال والجنوب على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، بؤرة القديم والحديث.

  • (١١)
    ما زالت حركة التاريخ في «السنن التاريخية» تتقدَّم بالفعل الإلهي أكثر مما تتقدَّم بالفعل الإنساني. ولم تتحوَّل بعدُ الصفاتُ الإلهية مثل العلم والقدرة والإرادة إلى قوانين التاريخ، مثل اسبينوزا وابن رشد، أو العناية الإلهية إلى غائية في التاريخ بالفعل مثل هردر وإقبال. ما زالت الغاية في «السنن التاريخية» إثبات البُعد الإلهي للقرآن، وليس البُعد الإنساني للتاريخ. تأخذ القرآن كوسيلة لإثبات الألوهية كهدف، وهو موقفٌ كلامي صِرْف، إثبات النبوات. والأهم أخذ القرآن باعتباره كاشفًا للصراعات في التاريخ، كما هو الحال في قصص الأنبياء. وعلى أكثر تقدير، ما زالت السنن التاريخية تتأرجح بين البُعد الإلهي والبُعد الإنساني؛ فعملية التغيير التي تحدث في التاريخ إبَّان حياة الرسول، عمليةٌ ربانية فوق التاريخ، في حين أن العملية التي تمَّت في عصر الصحابة عمليةٌ تاريخية. وهي تفرقةٌ تقليدية تجرد العملية الأولى من حواملها التاريخية، والثانية من أُسسها المثالية؛ فالعملية الربانية لا تتحقَّق في فراغ، بل تعتمد على صراع القوى السياسية والاجتماعية في مكة والمدينة كنموذجَين، وفي شبه الجزيرة العربية كمكان، وفي لحظةٍ تاريخية معينة تمر بها البشرية، لحظة الصراع بين الفرس والروم؛ أي بين الشرق والغرب. إن إبقاء البُعد الإلهي في التاريخ، يجعله مسئولًا عن أخطاء البشر وهزائمهم على مدى التاريخ القديم والحديث، في أُحُد وفي فلسطين. ولا يمكن تبرئة السماء وتخطئة الأرض في انهيار الأندلس والاستعمار الحديث؛ فتلك بطولةٌ زائفة بل وشرك، وكأن الإرادة الإلهية ليست مسئولةً عن كل شيء، النصر والهزيمة معًا. كما أنها تسلب من الإنسان قدرته وجهاده، وكفاحه وسعيه على الأرض، وانتصاره في بدر وحطين وعين جالوت وحرب أكتوبر ١٩٧٣م. وأقرب إلى التوحيد وأبعد عن الشرك، أن يكون الله فاعلًا لكل حدثٍ في التاريخ، أو يكون الإنسان مسئولًا عنه.٥٠
  • (١٢)

    وبالرغم من اندلاع الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩م، ومنذ استشهاد الإمام محمد باقر الصدر لم تستمر محاولات إقامة فلسفة في التاريخ، تأخذ في حسابها الإنجازات الجديدة للأمة في الثورة والصحوة والانتفاضة، والجهاد والصمود والصعود إلى الحكم إيجابًا وسلبًا، من أجل استمرار الذاكرة التاريخية لاسترجاع الماضي والخيال التاريخي لاستشراف المستقبل. إن الوعي بالحاضر وحمل همومه يعتمد على استرجاع الماضي وتحقيبه ورؤية المستقبل والإعداد له، وإداك طبيعة المرحلة الراهنة التي يتم فيها الانتقال من الماضي إلى المستقبل، فإذا كانت «السنن التاريخية» قد وضعَت قضية التاريخ، فإن فلسفة التاريخ قادرة على تحقيب التاريخ، والإجابة على سؤال في أي مرحلةٍ من التاريخ نحن نعيش؟ وربما استطاعت الانتفاضة الثانية، انتفاضة الاستقلال للشعب الفلسطيني الإجابة على السؤال.

١  مؤتمر الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، قم، إيران، يناير ٢٠٠١م.
٢  انظر دراساتنا العديدة، عن هذا الموضوع مثل: «لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟» دراسات إسلامية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٢م، ص٤١٦–٤٥٦، وأيضًا: «دراسة التاريخ والوعي بالتاريخ»، هموم الفكر والوطن، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م، ج١، ص٣٨٣–٣٩٤.
٣  محمد باقر الصدر، «السنن التاريخية في القرآن»، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ١٤٠٩ﻫ/١٩٨٩م.
٤  انظر دراستنا: «تجديد علم الأصول»، قراءة في كتابات الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، المنهاج، السنة التاسعة، ربيع ١٤٢١ﻫ/٢٠٠٠م، وأيضًا: «قضايا إسلامية معاصرة»، العددان الحادي والثاني عشر ١٤٢١ﻫ/٢٠٠٠م، قم، إيران.
٥  السابق، ص٢١-٢٢.
٦  السابق، ص٧٣.
٧  «تساؤل وجواب»، السنن، ص٣٣، ٣٩، ٤٧-٤٨.
٨  انظر دراستنا: «قراءة النص»، دراساتٌ فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٧م، ص٥٢٣–٥٥٠.
٩  وقد قام بذلك الشيخ محمد شمس الدين.
١٠  وقد كتبنا من قبلُ «حوار الأجيال» بهذا المنهج الذي يقوم على النفي والإثبات، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م.
١١  ورد لفظ «سنن» مفردًا (١٣ مرة)، ومضافًا إلى الأوَّلِين (٤ مرات)، وإلى الله للذين خلَوا من قبلُ مفردًا (٥ مرات)، وإلى الله (٤ مرات)، وجمعًا «سنن» (مرتان)، ومضافًا إلى ضمير المتكلم «سنتنا» (مرة)، وجمعًا (مرتان).
١٢  يذكر في الكتاب ١٢٨ آية في مقابل ٤ أحاديث، وأكبر الأقسام ذكرًا للإلهيات الثاني (٣٨)، ثم السادس (٣٠)، ثم السابع (٢٢)، ثم الثالث (١٤)، ثم الخامس (١٠)، ثم التاسع (١).
١٣  الرشيد (١٦)، علي بن أبي طالب (١٢)، الرسول (٥)، الطبري (٤)، موسى، الطوسي، الحلي، موسى بن جعفر (٣)، أبو طالب، خديجة (٢)، الحسين، الإمام المعصوم، الرازي، ابن باجه، رضا خان، أتاتورك (١).
١٤  وذلك مثل «حب الدنيا رأس كل خطيئة.» «الدنيا كماء البحر.» «من أصبح وأكبر همه في الدنيا فليس له من الله شيء.» «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبًا ولا فضة ولا عقارًا إنما نورث العلم والحكمة» (السنن، ص١٥٦–١٦٨).
١٥  السابق، ص٣٢–١٦٩.
١٦  السابق، ص٤٠–٩١.
١٧  مثل: «إن إمارتكم هذه لا تساوي عندي شيئًا إلا أن أقيم حقًّا أو أدحض باطلًا.» «الدنيا كماء البحر، كلما ازداد الإنسان منه شرابًا ازداد عطشًا.» «الناس ثلاثة؛ عالمٌ رباني، ومتعلمٌ على سبيل النجاة، وهمجٌ رعاع ينعقون مع كل ناعق.» «ما رأيتُ شيئًا إلا ورأيتُ الله معه وقبله وبعده» (السابق، ص٣٥، ٥٣، ١٦٥، ١٦٨، ١٦٩).
١٨  السابق، ص١٦٧–١٧٠.
١٩  السابق، ص٥٥.
٢٠  السابق، ص١٧٠.
٢١  السابق، ص٧٣-٧٤، ٨٩.
٢٢  السابق، ص٢٩، ٣٣، ٣٨، ٧٤، ٧٧.
٢٣  السابق، ص٤٠-٤١، ١١٥، ١٢٢.
٢٤  السابق ص٦٩، ١١٧-١١٨، ٨٦-٨٧، ٧٩-٨٠.
٢٥  طبقًا لتحليل المضمون ماركس (٨)، هيجل (٣)، أرسطو (٢)، أوغسطين، هتلر، فلاسفة الإغريق (١).
٢٦  «وقد تكون المادية التاريخية أشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغُلًا وأكثرها تأثيرًا في التاريخ نفسه» (السابق، ص٦٣).
٢٧  انظر كتابنا: «مقدمة في علم الاستغراب»، الدار الفنية، القاهرة، ١٩٩١م، ص٣٦–٤٣.
٢٨  السابق، ص١٣٩–١٤٨.
٢٩  انظر دراستنا: «الوحي والواقع» دراسة في أسباب النزول، هموم الفكر والوطن، التراث والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م، ج١، ص١٧–٥٦.
٣٠  وقد كنا في بداية شبابنا طرحنا هذه التساؤلات مثل: «هل لدينا نظريةٌ في التفسير؟» «أيهما أسبق نظرية في التفسير أم منهج في تحليل الخبرات؟» «عودٌ إلى المنبع أم عودٌ إلى الطبيعة؟» «قضايا معاصرة»، في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٦م، ج١، ص١٦٥–١٧٦.
٣١  السابق، ص٣٠.
٣٢  انظر دراستنا: «مناهج التفسير ومصالح الأمة»، الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م، اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة، ج٧، ١٩٨٩م، ص٧٧–١١٦.
٣٣  السابق، ص٢٩-٣٠، ٣٣-٣٤.
٣٤  Hassan Hanafi: Method of Thematic Interpretation of the Qur'an, Islam in the Modern World Vol. I. Religion, Ideology and Development, Dar Keba', Cairo, 2000, pp. 448–509.
٣٥  انظر دراستنا: «مناهج التفسير ومصالح الأمة»، الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م، اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩م، ج٧، ص٧٧–١١٥.
٣٦  السابق، ص٤٥–٦٣.
٣٧  السابق، ص٦٧–٨٠.
٣٨  السابق، ص٨٣–٩٣.
٣٩  السابق، ص٧١، ٧٨. وهو أيضًا موقف كورنو فيلسوف التاريخ الفرنسي في كتابه: «محاولة في تسلسل الأفكار في التاريخ».
٤٠  السابق، ص٩٧–١٠٢.
٤١  السابق، ص١٣٥–١٥٥، ١٥٩-١٦٠.
٤٢  السابق، ص١٠٥–١٣٢، ١٦٠.
٤٣  أكبر الأقسام السادس «القرآن ودور الإنسان في التاريخ» (٢٨ص)، ثم الثاني (١٩)، ثم الأول (١٥)، ثم الثالث (١٤)، ثم الرابع والسابع (١١)، ثم التاسع (٩)، ثم الخامس (٦)، ثم الثامن (٢)، وهو أصغر الأقسام.
٤٤  لذلك يمكن ضم الأول «التغير القرآني يبين التجزيئي والتوحيدي»، والثاني «شواهد وتطبيقات» وضم الثالث «حقائق قرآنية عن سنن التاريخ»، والرابع «صيغ السنن التاريخية في القرآن»، وضم الخامس «عناصر المجتمع في القرآن»، مع السابع «القرآن والعلاقات الاجتماعية» والثامن «علاقة النظرية القرآنية بالتشريع الإسلامي».
٤٥  «السنن»، ص٢٧، ٥٠.
٤٦  «شواهد وتطبيقات»، السابق، ص٤٥–٦١.
٤٧  السابق، ص٥١، ٧٣–٧٤.
٤٨  السابق، ص٤٨-٤٩، ٥١.
٤٩  السابق، ص٦٣–١٦٧، ١٧٠.
٥٠  السابق، ص٤٧–٤٩، ٦٨–٧١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤