هامش على هامش السيرة١

(طه حسين ١٨٨٨–١٩٧٣م)

أولًا: مقدمة

قراءة على قراءة

فن «القراءة» شكلٌ أدبي معاصر على نقيض فنونٍ أدبية معروفة عند القدماء، مثل فن «المناقضة» بين الشعراء، الجرير والفرزدق، وهناك أيضًا فن النقض مثل «نقض المنطق»، وفن الرد والتفنيد مثل «الرد على الرواندي الملحد»، «الرد على الجهمية والمعطلة»، «الرد على المنطقين». وكلها فنونٌ تقوم على منطق الاستبعاد، والصواب والخطأ. وهو منطق الفرقة الناجية الذي ما زال متحكمًا في الفكر حتى الآن، بعيدًا عن التعدُّدية الفكرية بل والسياسة، ونسيانًا لتراثنا القديم أن الحق مُتعدِّد، وأن كل مجتهد مصيب.

والقراءة فنٌ طبيعي يتغير فيه الفكر من خلال التواصل، ويتصل فيه من خلال الانقطاع؛ فالقديم جديد، والجديد قديم. وتتوالى الأجيال في الزمان وتتحاور في الخلود، دون تعظيمٍ للقدماء من المحدَثين، ودون تأليه للسلف من الخلف. القراءة نوعٌ من الحوار الخلَّاق بين جيلَين، طالت المسافة بينهما أو قصُرَت. هو اعترافٌ بفضل القدماء دون تقليدهم، وإثبات لواجب المحدَثين للتغيير والتطوير دون ادعائهم، فلا العلم يستقر على حال، ولا المنظور يبقى على مر الزمان.٢ يكفي في القراءة على القراءة، التعامُل مع النص مثل «على هامش السيرة» تعاملًا مباشرًا، كما فعل صاحبها مع السيرة القديمة بقراءتها دون التحقُّق من صدق السيرة في التاريخ لإثبات خطأ أو صواب؛ لذلك هي «هامش على هامش السيرة». وأهم نص في «على هامش السيرة»، هي المقدمة التي يُحدِّد فيها طه حسين منهجه في كتابة السيرة.٣ والكتاب كله مجرد تطبيق لها.

ثانيًا: علم السيرة

(١) السيرة بين الموضوعية والذاتية

لا تُوجد سيرةٌ موضوعية لأحدٍ، لا للذات في السيرة الذاتية ولا للآخر في كتب السير والتراجم. السيرة رؤية ومنظور، هي إعادة بناء التاريخ طبقًا للإحساسات الحالية، ومن خلال وسائل المعرفة المتاحة، بل إن النصوص التاريخية القديمة كُتبَت أيضًا من منظور المؤرخ، وبوسائل إدراكه وباهتماماته، وربما بولاءاته وانتماءاته الفكرية والمذهبية والسياسية؛ فلا يُوجد ضمانٌ مطلق بين الرواية والواقع، كما نبه ابن خلدون في مقدمة «المقدمة» على أخطاء المؤرخين، وضرورة تجاوز الرواية إلى المشاهدة، والنص إلى الواقع. لا يُوجد تاريخٌ بلا تدوين. والتدوين يصنع التاريخ ويُصوِّره. ومقياس صدقه ليس التطابق مع الواقع بل التطابق مع النفس، كما هو الحال في العمل الأدبي. التاريخ رواية. والرواية ليست فقط خبرًا بل هي عملٌ أدبي، وكل خبر هو عمل روائي بالضرورة، بل إن الرواية الصوفية الذاتية تقُص أخبارًا لا شأن لها بالأحداث، وتُصوِّر واقعًا خياليًّا قد يكون هو الواقع الفعلي، في حين أن الواقع الحسي مجرد وهمٍ مجرد، وكما لاحظ هيجل من قبل في «ظاهريات الروح»، أن الحس الساذج المباشر في الزمان والمكان هو المجرد، أول درجة من تطور الروح، وأن التصوُّر هو العِياني، وهو آخر مرحلة من تطوُّر الروح، التدوين إدراكٌ حسي، وفهمٌ عقلي، وتأويلٌ نفسي، وقصدٌ إنساني. ليس التدوين مجرد نص، بل العمليات الحسية والذهنية والنفسية والقصدية والوجودية وراء النص.

الذاتية هي الموضوعية ولكن على نحوٍ أسمى؛ فالحقيقة ليست فقط المفهوم المنطقي القديم، تطابُق العقل مع نفسه، أو العلمي الحديث، تطابُق العقل مع الواقع، بل تطابُق العقل مع النفس، والفكرة مع التجربة الحية. ولمزيدٍ من الاطمئنان يتضاعف التطابُق بين التجربة الفردية وتجربة الآخرين، لعدم الوقوع في الذاتية بمعنى النسبية؛ فالحقيقة المشتركة من خلال العلاقات بين الذوات، هي الضامن للموضوعية التقليدية والبديل عنها.

الموضوعية الحسية الشيئية الساذجة افتراضٌ عقلي، ووهمٌ معرفي، واغتراب عن النفس، ووقوعٌ في الشيئية، والتضحية بالذات في سبيل العالم، «وماذا يكسب الإنسان لو كسب العالم وخسِر نفسه؟». وقديمًا قال سقراط: «اعرف نفسك بنفسك.» وأعاده أوغسطين: «في نفسك أيها الإنسان تكمن الحقيقة.» وهو ما سُمِّي «الكوجيتو» الديكارتي، أو «الأنا أفكر» الكانطي، أو «الأنا الحر» عند فشته، أو «الأنا موجود» عند سارتر. وهو ما أكَّده القرآن وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.

وقد وقع الغرب في وهم الموضوعية، وظهرت في النزعة الوضعية والمدرسة التاريخية، من أجل التخلص من الأوهام السابقة المترسبة في الوعي المعرفي الأوروبي من سلطة القدماء، يونان مثل أرسطو وبطليموس، أو مسيحيين مثل رجال الدين وعقائد الكنيسة. وفرَّق بين «حكم الواقع» و«حكم القيمة»، الأول عامٌّ علمي، والثاني خاصٌّ وقتي نسبي. مع أن الواقع قيمة، والقيمة واقع.٤

بل إن الله ذاته يرى العالم في زمانٍ ومكان. ويُرسل الوحي على مراحلٍ في التاريخ، ويضعه لمصلحة الإنسان كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. وليس لأحدٍ القول الفصل في أي شيء، ولا يُوجد رأيٌ واحد في أي موضوع، هناك الرؤية والمنظور.

(٢) هل هناك سيرة موضوعية للرسول؟

لا توجد سيرة واحدة تاريخية وموضوعية للرسول، بل هناك سيرٌ مختلفة ورؤًى متعددة. وهي نفس القضية مع السيد المسيح، الذي ليس له سيرةٌ تاريخية موضوعية واحدة، بل هناك عدة سير له طبقًا لرؤى الكُتَّاب؛ فهناك المسيح الفقير، والمسيح مؤسس الكنيسة، والمسيح العملي، والمسيح الإشراقي، والمسيح الإنسان؛ لذلك تمت التفرقة بين «مسيح التاريخ» و«مسيح الإيمان». مسيح التاريخ مجرد افتراضٌ نظري، في حين أن «مسيح الإيمان» هو الواقع الفعلي. المسيح كما رآه الحواريون وسمعوه وعاشوا معه، وتأثَّروا بتعاليمه وحزنوا لفراقه.

كتب أنتوني فيسيل Anthony Wessels رسالته للدكتوراه حول السيرة في العصر الحديث، مبينًا اختلاف الرؤية والمنظور بين صور الرسول المختلفة في علم السيرة، ونحن ما زلنا نتخوف من تعدُّد المنظور، حرصًا على حقيقةٍ تاريخية يصعب معرفتها دون الرواية.

كذلك كُتبَت سيرة الرسول طبقًا لعدة مناهجَ ورؤًى مختلفة من القدماء إلى المحدَثين. وتتراوح بين الإنسان التاريخي والإنسان الأسطوري، الذي يصل إلى حد الألوهية، كما هو الحال في «الحقيقة المحمدية» عند الصوفية.

ومن ثَمَّ لا يعني «علم السيرة» أن السيرة علم، بل يعني دراسة السيرة دراسة علمية بمناهج المحدَثين دون التسليم بسير القدماء. السيرة ليست علمًا بل شكلٌ أدبي وفن من فنون الكتابة. كان الدافع عليه تقليد سِيَر النصارى واليهود في كتابة سِيَر لأنبيائهم وقسيسيهم وأحبارهم لتعظيمهم بل ولتأليههم، مزايدة في الإيمان عن طريق الخيال، في حين أن السلوك والأفعال مخالفٌ لعقائد الإيمان؛ لذلك دخلت الإسرائيليات في علم السيرة لتضخيم سيرة الرسول، وحتى لا تبدو أقل تعظيمًا وتأليهًا وإعجازًا من سير أنبياء بني إسرائيل. وكان المسلمون قد طلبوا من الرسول أن يقص عليهم كما يقص أهل الكتاب، فنزلت نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ استجابةً لطلبهم، ولم يطلبوا سيرةً أُسوة بأهل الكتاب؛ لأن الرسول كان بينهم ويعلمونه بالمشاهدة المباشرة وبالمعاصرة، وليس بالذاكرة وأنباء السابقين.

(٣) تعدُّد السير عند القدماء

وتتعدد سير الرسول، وبالتالي تتباين صوره؛ فهناك السيرة التاريخية التقليدية مثل سيرة ابن هشام وابن اسحق، يغلب عليها المنهج التاريخي. وكانت الرواية المصدر الرئيسي لها دون تحقُّق من صحتها وتواتُرها. وهو المنهج الغالب أيضًا على علم التفسير.

الغرض منها جمع أكبر قَدْرٍ ممكن من المعلومات التاريخية حول الرسول، بصرف النظر عن مصادرها أو التحقُّق من صدق الروايات، فنشأت أخطاء المؤرخين، وتدَخَّل الخيال الشعبي في القصص، خاصةً إذا كان موضوع القص نبيًّا أو رسولًا أو قائدًا عظيمًا، يضفي الخيال عليه هالة من القدسية والإجلال، بسبب الانبهار والإبهار به. ولادته معجزة، وحياته مليئة بالمعجزات بالعشرات مثل تسبيح الحصى بين يديه، وحنين جذع الشجرة إليه، وكلام الشاة له وتحذيرها من أكلها لأنها مسمومة، إلى آخر ما تزخر به كتب النبوة المتأخرة. ومنها الإسراء والمعراج مثل صعود المسيح ورفعه إلى السماء. وقد بلغَت في فصل النبوة في علم الكلام أكثر من أربعين معجزة.٥

وهناك السيرة الصوفية التي يبدو فيه الرسول قطبًا من الأقطاب، وبدلًا من الأبدال، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية. هي سيرةٌ ذاتية خالصة لا تعتمد على الروايات، بل على الإلهامات الروحية والكشوف الربانية، مصدرها العلوم اللدنية. وتكشف عن الحياة الروحية للرسول، وليس عن حياته كزوج وأب وصديق، يحب ويكره، يفعل وينفعل، يفرح ويحزن، يصيب ويخطئ. هي سيرة السماء وليست سيرة الأرض، مملوءة بالمعجزات. والرسول فيها القدوة والإنسان الكامل. والصوفي مثله هو الولي والرسول النبي، يجري الكرامات كما يجري النبي المعجزات، ويغرف من نفس بحر العلوم، وهي العلوم الذوقية. والعلماء ورثة الأنبياء، والأئمة خلفاء الرسل.

وكتب الفلاسفة أيضًا سيرهم ولو على نحوٍ أقل. هناك «أقيسة المصطفى»، التي تبدو فيها أحاديث الرسول وقد تمَّت صياغتها، طبقًا لقواعد المنطق الأرسطي وأشكال القياس.٦ وهناك التقابل بين الفيلسوف والنبي، بين العقل والخيال، بين الخاصة والعامة، بين الحقيقة والمجاز. وكلاهما يكمل بعضهما بعضًا في وحدة المعرفة والسلوك. و«حي بن يقظان» عند ابن سينا وابن طفيل إنما هي نوعٌ من السيرة، يتحد فيها الفيلسوف والنبي في الدين العقلي الطبيعي؛ فالوحي والعقل والطبيعة شيءٌ واحد. وكتب ابن النفيس سيرةً أخرى على نفس المنوال؛ فالنبي هو الفيلسوف، والفيلسوف هو النبي.

ولم يكتب علماء الأصول، أصول الدين وأصول الفقه، سيرًا للنبي، بل اكتفى علماء أصول الدين بجعل النبوة أحد قواعد العقائد، والقرآن دليله المعجز، والإسلام ينسخ ما قبله، وبه نسخٌ داخلي في تشريعاته. واكتفى علم أصول الفقه بالحديث عن السنة كمصدرٍ ثانٍ للتشريع بعد القرآن دون تشخيص القول في الشخص، والتحول عن الحديث إلى السيرة كما تحوَّلَت الكلمة إلى الشخص في المسيحية؛ فالحديث قولٌ وفعل وإقرار.

(٤) تعدُّد السير عند المحدَثين

كان الطهطاوي أسبق في كتابة السيرة في «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، من أجل إيجاد نموذج لبناء الدولة في الموروث للاستعانة به في بناء الدولة العصرية، دولة محمد علي، ثم استأنف المحدَثون سنة القدماء في كتابة السيرة لاستعمالها كأداة للتحديث، طبقًا للأيديولوجية المختارة الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية. كان أكثرها انتشارًا السير الليبرالية مثل «حياة محمد» و«في منزل الوحي» لمحمد حسين هيكل، لا فرق بين محمد وجان جاك روسو، يُقرأ محمد من خلال جان جاك روسو، ويُقرأ جان جاك روسو من خلال محمد؛ فكلاهما يمثل دين الطبيعة والعقل. وكتب العقاد «عبقرية محمد»، وخالد محمد خالد «محمد»، بنفس الدافع الليبرالي انتصارًا لليبرالية، الأيديولوجية المختارة في النصف الأول من القرن العشرين. كُتب «على هامش السيرة» في هذا الإطار. وكان الهدف البحث عن نموذجٍ للقيادة، الحاكم الليبرالي المستنير، ونظام الحكم وهو النظام الليبرالي الوافد من الغرب. وكان لا بد من تأسيسه في الموروث الإسلامي؛ حتى يكون أوسع انتشارًا وأكثر قبولًا. وشارك في ذلك أقباط مصر، فكتب نظمي لوقا «محمد رسول الله». كما شارك المسلمون في كتابة سيرة السيد المسيح، كما فعل العقاد في «عبقرية المسيح». وتجمع السير الليبرالية كلها بين العقلانية والرومانسية والوطنية وروح التسامُح والأُخوَّة. كما تُعبِّر عن النزعة الإنسانية؛ فالإسلام كما جسَّدَته ثورة ١٩١٩م، دينٌ عالمي للبشر أجمعين.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، عندما تم التحوُّل من الخيار الليبرالي إلى الخيار الاشتراكي القومي، كتب عبد الرحمن الشرقاوي «محمد رسول الحرية»، يظهر فيها محمد رسولًا للحرية الفردية والاجتماعية، وكما غنَّت أم كلثوم شعر شوقي في «نهج البردة»:

والاشتراكيون أنت إمامهم
لولا دَعاوَى القوم والغُلَواءُ
أنصفتَ أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواءُ

وفعل نفس الشيء في «الحسين ثائرًا» و«الحسين شهيدًا» و«الأئمة الأربعة». ولا فرق بين التاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني في «الفتى مهران» و«وطني عكا».

وانضم القوميون أيضًا إلى كُتَّاب السيرة على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، سيرة كاملة أو جزء منها، فكتب ميشيل عفلق مقاله الشهير «في ذكرى المولد النبوي». وأطلق عبارته الأشهر «إذا كان محمد كل العرب فكل العرب محمد». وكتب خلف الله محمد خلف الله «محمد والقوى المضادة»، يُصوِّره قائدًا طليعيًّا ضد قوى التخلُّف والتسلُّط السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

لم يكتب التيار العلمي العلماني شيئًا، شبلي شميل، فرح أنطون، يعقوب صروف، سلامة موسى، زكي نجيب محمود. وإن كان شبلي شميل قد حاول استخراج نظرية التطور من القرآن الكريم؛ حتى يكون لها حضورٌ أوسع ومعارضةٌ أقل. وحاول فرح أنطون تأصيل نفس التيار في التاريخ الإسلامي في «أورشليم الجديدة» و«ابن رشد وفلسفته». كان معظم رواد التيار العلمي من النصارى في الشام ومصر، شبلي شميل، فرح أنطون، يعقوب صروف، سلامة موسى، باستثناء نظمي لوقا في كتابه عن الرسول؛ إعجابًا بالإنسان الليبرالي.

وبهذه الطريقة يمكن تصوير الرسول قائدًا لكل عصر قادرًا على حل مشاكله؛ ففي تحديات الأمة الداخلية الرسول محرر للأرض من الاحتلال والغزو، ومُحرِّر للمواطن من القهر والتسلُّط والطغيان، ومُحقِّق للعدالة الاجتماعية ضد التفاوُت الشديد بين الأغنياء، والفقراء، ومُوحِّد للأمة ضد مخطَّطات التجزئة والتفتيت للأمة إلى دويلاتٍ عرقية وطائفية؛ كي تصبح إسرائيل أقوى دولةٍ عرقية طائفية في المنطقة، تأخذ شرعيةً جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية المحلية، بدلًا من الشرعية القديمة التي أعطاها لها هرتزل في الدولة اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، أرض المعاد وشعب الله المختار والعهد والميثاق، ومُحقق التنمية المستقلة ضد التبعية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والمُثبت للهوية ضد الاغتراب في الآخر والتميع فيه، والحاشد للناس ضد اللامبالاة والفتور.

ويكون محمد أيضًا قائد المواجهة ضد التحديات الخارجية؛ فهو المناهض للعولمة واقتصاديات السوق، والعالم ذي القطب الواحد، وهو الناهي للتاريخ، تاريخ الوحي، والبادئ لتاريخ الاجتهاد واستقلال العقل والإرادة، وهو المحاور للحضارات وليس المصادم لها. وهو مؤسس المجتمع المدني في استقلال القضاء والحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدين النصيحة؛ فالساكت عن الحق شيطانٌ أخرس. وهو الذي يُحسِن الإرادة العليا للدول، ويضع نظمها ومؤسساتها. وهو المدافع عن حقوق الإنسان «كلكم لآدم وآدم من تراب.» وهو شهيدٌ على أن عباد الله إخوان. وهو المناصر لحقوق المرأة؛ فالنساء شقائق الرجال. وهو المثبت لحقوق الأقليات فليست العروبة بأبٍ أو أم، إنما العروبة هي اللسان، ولا فضل لعربيٍ على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. وهو أول من حدَّث الخطاب الديني بنقد الوثنية، وتعدُّد الآلهة والخرافة والسحر والوهم والكهانة، داعيًا إلى تحكيم العقل واستعمال البرهان.

فكم من سيرة يمكن كتابتها في كل عصر، وكم من هامشٍ يمكن أن يكتب عليها، فتكثر الهوامش وتتضاعف «على هامش السيرة».

ثالثًا: السيرة الأدبية

(١) السيرة والتاريخ الإسلامي

«على هامش السيرة» جزءٌ من مشروعٍ أوسع، وهو إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من منظورٍ إنساني بشري، يُصوِّر حياة الرسول والصحابة وعواطفهم وانفعالاتهم، آمالهم وإحباطاتهم؛ فالتاريخ بشري يصفه بشر. وهو ما يسمى «إسلاميات» طه حسين، بالإضافة إلى «أدبياته»، وكلها حنينٌ إلى الماضي ورومانسية الحلم الليبرالي. طبَّقَه في «الشيخان»، الصديق أبو بكر، والفاروق عمر، ثم استمر في «عثمان بن عفان» و«علي وبنوه»، حتى وقع الحدث الضخم «الفتنة الكبرى».

بل وظهرت «الإسلاميات» في «الأدبيات» في «الوعد الحق» و«مرآة الإسلام» من أجل ربط الماضي بالحاضر، وتأصيل الحاضر بالماضي؛ فالإسلام الليبرالي العقلاني الوطني، هو ما تحتاجه الأمة في نضالها الوطني وبنائها القومي ونهضتها المعاصرة.

ولا يكفي استلهام الموروث لنهضة العصر، بل أيضًا استلهام الوافد. وكما كتب محمد حسنين هيكل «حياة محمد» و«جان جاك روسو»، كذلك كتب طه حسين «على هامش السيرة» و«قادة الفكر»؛ هوميروس، سقراط، أفلاطون، أرسطو، الإسكندر، يوليوس قيصر. وكلهم من اليونان والرومان، من حوض البحر الأبيض المتوسط، من الغرب الليبرالي نموذج التحديث، كما كتب بعد ذلك بسنواتٍ معدودة في «مستقبل الثقافة في مصر».٧

(٢) الصورة الأدبية

ويقدم على «هامش السيرة» مجرد صورةٍ أدبية انطباعية عن الرسول، كنوعٍ من فن الكتابة وكشكلٍ من أشكال الأدب. ويدُل العنوان على ذلك «على هامش السيرة» وليس «السيرة». والهامش لفظٌ حديث يُعادِل الشرح والتلخيص والحاشية والتخريج في العصر العثماني لفظًا بلفظ وعبارة بعبارة.٨ «الهامش» هنا يعني مجرد التعليق الانطباعي عن الأشخاص والحوادث مثل الأديب من أجل تشويق السامع؛ فالسيرة عملٌ فني وشكلٌ أدبي. لم تُكتب السيرة للمؤرخين كما هو الحال عند القدماء، ولا للعلماء كما هو الحال عند بعض المحدَثين المولَعين بالمنهج التاريخي. تقوم على المنهج الانطباعي وليس التسجيلي، وتعتمد على القراءة السريعة وليس التحليل العلمي للروايات. ولم تكن الغاية النشر بل المتعة الشخصية، ثم نُشرتْ لمشاركة القُراء متعة الأدب الحديث، بعد أن استعصى عليهم الأدب القديم.٩
والسيرة مُوجَّهة إلى القارئ الحديث، وليُحبِّب الكاتب الشباب في السيرة خاصةً والأدب عامة، ثم التحوُّل من قراءة الكتب إلى الاطلاع على الصحف الأدبية العامة. الهدف هو أن يبعث في الشباب حب الحياة العربية الأولى، وأن بساطة جمالها لا يقل عن جمال الحياة الحديثة المعقدة. الهدف هو أن يجعل الشباب يتجه إلى اتخاذ الأدب القديم بما في ذلك السيرة، موضوعًا للدراسة والبحث العلمي، ليس فقط للأدب الوصفي بل أيضًا للأدب الإنشائي الخالص. الهدف إذن هو النهضة الأدبية وتجديد الأشكال الأدبية، وليس مضمون السيرة أو موضوعها. الهدف هو عدم هجران القديم؛ لأنه قديمٌ أو السعي إلى الجديد لأنه جديد. إنما يُهجَر القديم والجديد معًا، إذا خَلَوا من النفع وعدما من الفائدة. أما إذا كانا مفيدَين نافعَين، فتوجُّه الشباب نحوهما هو الهدف من إعادة كتابة السيرة.١٠

(٣) النموذج الغربي

وقد كُتب «على هامش السيرة» كنوعٍ أدبي حديث، في مقابل الشكل الأدبي القديم، أُسوةً بما تم في الأدب الغربي؛ فقد قرأ الناس هذا الأدب في لغته الأصلية أو مترجمًا، واستمتعوا به وتذوَّقوه، وهم العرب الذين أَلِفُوا الأدب العربي القديم أكثر من الأدب الغربي الجديد. والواقع أنهم وجدوا في الأدب الغربي الجديد متعةً، لم يجدوها في الأدب العربي القديم؛ فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوُّقه أشد عُسرًا، لا يستوعب الأسانيد المطولة والروايات المتضاربة والاستطراد في الأخبار. كما لا يفهم اللغة القديمة ولا مفرداتها، إلا بقواميسَ مُطوَّلة ومسهبة، لا تساعده في شيء.١١
والأدب يتغير من عصرٍ إلى عصر في الشكل والمضمون، والقارئ أيضًا يتغير من القارئ القديم إلى القارئ الحديث؛ فقد تغير الإطار الحضاري ومستوى التعليم. كما تغيَّرت الأذواق والمقاييس الفنية، الأدبية والجمالية. وإذا تم هذا التغير في الأدب الغربي فلماذا لا يتم في الأدب العربي؟ لماذا يقرأ العربي الحديث الأدب العربي القديم، فلا يكاد يشعر بشيءٍ؛ نظرًا لطول المسافة بين المقروء والقارئ؟ الأدب يخضع لقانون التغيُّر والنماء، وإلا تحوَّل إلى أدبٍ جَدبٍ لا حياة فيه ولا خصوبة. الأدب هو الذي يخاطب القارئ، ويُؤثِّر في وجدانه، ويُرضي العقل والشعور، ويوحي إلى النفس ما ليس فيه، ويلهم ما بين السطور، ويزيد من نمو الإنسان وتطوُّره. الأدب صورةٌ في القلب، وقلبٌ في الصورة، إيحاءٌ متبادل بين المقروء والقارئ.١٢
وخلود الإلياذة لا يأتي فقط من اللذة التي تحدث عند قراءتها، وإثارة الإعجاب بها في كل زمان ومكان، بل أيضًا قدرتها على إلهام العديد من الشعراء والكُتاب، والإيحاء لهم بإنشاءٍ جديد في غاية البيان. وكان إيسكولوس أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه يلتقط ما يسقط من مائدة هوميروس.١٣ وهو ما يردده عديدٌ من الشعراء والقصاصين حتى الآن. وكتب جيرودو قصةً تمثيلية بعنوان «أنفيتريون رقم ٣٨»، وموضوعها مولد هرقل كما صورها سوفوكل في القرن الخامس قبل المسيح،١٤ وما زال الشعراء والكتاب يُصوِّرون هذا الموضوع مُستلهِمين الأسطورة الأولى. كما نسج على منوالها الشاعر اللاتيني «بلوت»، والشاعر الفرنسي «موليير». لم يتردَّد المحدَثون من إعادة تصوير الموضوعات القديمة، بل أُعجبوا بما صاغه الشعراء المحدَثون، لإعادة التعبير عن أساطير القدماء.١٥

(٤) الأدب الحي

السيرة إذن جزءٌ من الأدب الحي، وليس الأدب الميت الذي تنتمي إليها السيَر القديمة. وهو الأدب القادر على البقاء والدخول في تحديات العصر، والتفاعُل مع غوائل الزمان. يبقى في النفس ولا ينتهي، ويصبح جزءًا منها وليس منفصلًا عنها. هو الأدب الخالد الذي يتجاوز كل العصور، كما هو الحال في روائع الآداب العالمية، وليس الأدب المحلي المرتبط بزمانه ومكانه، والذي لا يبقى منه في النفس شيء.١٦
وفي الأدب العربي القديم القوة الكامنة للتجديد والتطوير، بحيث يتذوقه المحدَثون. به قدرة على الإيحاء والإلهام. لم تُكتب أحاديث العرب في الجاهلية مرةً واحدة، ولم تأخذ صورةً بعينها، بل نقلها الرواة في أشكالٍ متعددة من القص، وألَّفَها مؤلِّفون عديدون. وهذا ينطبق على السيرة أيضًا؛ فقد ألهمَت العديد من الشعراء والكُتاب في كل العالم الإسلامي، وصوَّروها بصورٍ مختلفة تتفاوت فيما بينها، من حيث القوة والضعف ومستويات الجمال. وحدث نفس الشيء في كتابة تاريخ الغزوات والفتوح والفتن والمحن؛ حيث يدون المؤرخ بقلبه قبل عقله، وبخياله قبل سمعه وبصره، بل تحوَّل هذا الإلهام من الأدب الفصيح إلى الأدب الشعبي، الذي يقُص على المستمعين غوائل الزمان، وأيام المجد التليد من أجل رفع الروح المعنوية والخروج من الزمان، والصبر على المحن والشدائد؛ فلا فضل لقديمٍ لا يتحول إلى جديد، ولا خير في أدبٍ قديم لا يُثير في المحدَثين همة. يحيا القديم بحياة الجديد، ويموت القديم إذا ما ابتعد عن الحديث.١٧
الغرض من السيرة إذن إحياء الأدب العربي القديم، وذكرى العرب الأوائل. ليس تأليفًا ولا تصنيفًا ولا دراسة، ولا حتى تفكيرًا، بل هو دفعةٌ تلقائية وحركةٌ طبيعية، بعد قراءة السيرة القديمة وامتلاء النفس بها، ففاضت وأحلَّت عقدة اللسان، وبدأ إملاء الفصول. ليس به صنعة التأليف، ولا محاولة لإجادة الإخراج، وحُسن التبويب، ولا تجنُّب التقصير، بل هو صورةٌ صادقة لما يعتلج في النفس من مشاعرٍ، أثناء قراءة السير القديمة، التي لا يقوى على قراءتها المحدَثون. السيرة الجديدة وسيطٌ بين السيَر القديمة والقارئ الحديث.١٨

(٥) المنهج العاطفي

لم يكن الهدف كتابة سيرةٍ عقلانية، طبقًا لما عُرف عن المؤلف من دعوةٍ إلى العقل والتنوير، والنقد والشك في الروايات في «الأدبيات» في «الإسلاميات»؛ فقد امتلأَت السيرة بالروايات التي تُناقِض العقل، خاصةً فيما يتعلق بالمعجزات. ويتَوجَّه المؤلِّف إلى مناهضة المدافعين عن العقل، والمطالبين بالنقد العقلي للروايات؛ للقضاء على الخُرافات التي أنتجها الخيال الشعبي؛ فالعقل ليس كل شيء، وللإنسان ملكاتٌ أخرى غير العقل، ووسائل معرفةٍ أخرى غير المنطق ومناهج البحث العلمي. للناس قلوبٌ ومشاعر وعواطفُ وأخيلة، وميولٌ أقرب إلى السذاجة، يستريحون بها من عناء الدنيا وإجهاد في الحياة، يجدون في هذه الروايات الخيالية ترويحًا للنفس، وترفيهًا عنها حين تشُق عليهم الحياة. لا تتوجَّه هذه الروايات إلى العقل بل إلى الخيال، وليس إلى التاريخ بل إلى العاطفة والقلب والشعور، لبثِّ الدوافع على الخير، والصرف عن الشر، وللعون على تحمُّل أعباء الحياة وتكاليف العيش. الهدف من السيرة هو الإشباع الفني؛ تعويضًا عن الكد والسعي.١٩
والمنهج العاطفي على نقيض المنهج التاريخي، لا يلتزم بصدق الرواية بل يُوسِّعها لدرجة وضع الأحاديث؛ فلا بأس من استعمال روايةٍ غير صحيحة أو مخترعة، ما دامت تُحدث الأثر العاطفي المطلوب، إلا فيما يتعلق بشخص النبي أو الدين. وفي كل موضوعات السيرة، رواياتٌ ظنية وأحاديثُ موضوعة، وفي هذَين الموضوعَين فقط يتم الالتزام بالروايات القديمة وتقليد القدماء.٢٠
ولم تعتمد السيرة على كثيرٍ من المصادر القديمة، إلا أقل القليل، لا تكاد تتجاوز سيرة بن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري. وكل الروايات المستعملة في كتابة السيرة موجودة في هذه المصادر الثلاثة، طبقًا لإمكانيات المؤلف الحسية المحدودة. وتسند فقط الروايات الخاصة بشخص النبي لمن شاء مراجعتها، ودون التحزُّب لمذهبٍ أو تعصُّب لفرقة. إنما الغاية تبسيط الشرح واستنباط العِبرة والوصول بها إلى قلوب الناس. وجهة السيرة النفوس والقلوب وليس الحقيقة التاريخية.٢١

(٤) رابعًا: مراجعات نقدية

وبالرغم من أهمية السيرة كصورةٍ أدبية حية تُؤثِّر في القارئ الحديث، إلا أنها تتسم أحيانًا بالسطحية والسذاجة. ويصل حد الرغبة في التأثير على القُراء، إلى أن تُصبح السيرة أقرب إلى قصص الأطفال، بما بها من عناصر التشويق والتأثير واستجداء العواطف، عاطف الاستحسان للمؤمنين والاستهجان للكافرين، في تقابُلٍ شائع بين الإسلام والجاهلية، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والخير والشر، والصواب والخطأ. والسيرة ليست قصة أو حكاياتٍ مُشوِّقة من حكايات الأطفال، بل هي تحدٍّ بين التاريخ والأدب، والواقع والخيال.

ولا تخلو الإشارة إلى الآداب الأجنبية من تعالُمٍ وإظهار المعرفة بالآداب الأجنبية القديمة مثل اليونانية واللاتينية والحديثة مثل الفرنسية. والعيش في فرنسا لم يعُد حكرًا على طبقة المتعلمين والدارسين وطلاب البعثات، بل أصبح شائعًا ومطروقًا للعمالة المهاجرة. ولم يعُد السيْر على ضفاف السين ميزةً لكاتب، بل أصبح الآلاف من المصريين والعرب يجوبونه ليلَ نهار.

ولا تُستخرج دلالات من السيرة بما فيه الكفاية، مثل اليتم والفقر والعصامية، مما يثير في القارئ اليتيم الفقير الأمل في المستقبل؛ من أجل أن يتحول من لا شيء إلى شيء، ومن الغفير إلى الأمير.٢٢ وهناك وقائعُ تُذكر دون أن تُستثمر دلالاتها؛ نظرًا لانشغال الكاتب بالأسلوب والتأثير الانطباعي لديه لنقله إلى القُراء، فضاعت المعاني والدلالات إلى حدٍّ كبير.٢٣

وهل تُكتب السيرة بجماليات الأسلوب وتحويلها كعلمٍ إلى مجرد إنشاءٍ أدبي يُؤثِّر في النفوس؟ فالسيرة أسلوب. صحيح أن السيرة نوعٌ أدبي وفن من فنون الكتابة، ولكنها أيضًا علمٌ يخضع لنقد الروايات التاريخية. صحيحٌ أن عَيْش الحدث والانفعال به والتفاعُل معه جزءٌ من فن الكتابة، ولكن ليس جزءًا من علم التاريخ. صحيحٌ أن الجانب الإنساني هو الظاهر، والذي يشارك فيه كل إنسان بصرف النظر عن لونه وعقيدته، ولكن التجربة الإنسانية تجُبُّ الواقعة التاريخية. ولا يُوجد تعارضٌ بين الرواية التاريخية كالسيرة والرواية الأدبية؛ لذلك يُعتبر «حياة محمد» و«في منزل الوحي»، أكثر توازنًا بين الاثنَين دون التضحية بالأدب من أجل التاريخ، كما فعل القدماء، أو بالتاريخ من أجل الأدب كما فعل الكاتب.

والسيرة بلا أقسام أو أبواب أو فصول، مجرد ألفاظ، أسماء لحوادث،٢٤ ومنها بعض العناوين المُشوِّقة المثيرة للخيال. هي رواياتٌ قديمة ينفعل بها الكاتب، ثم يُعيد صياغتها بأسلوبٍ حديث. والبعض منها خارج المحور الرئيسي للسيرة وهو الرسول.٢٥ وتطول بعض الموضوعات لأسبابٍ درامية في العمل الأدبي.
ولا تتبع السيرة الترتيب التاريخي لحياة الرسول. ولا تُركِّز على جوانبها المختلفة وعلاماتها الفارقة، مثل الهجرة أو الفتح، بل تنتقي حوادث ينفعل بها الكاتب الأديب، ومن خلالها تتكوَّن السيرة الكلية من الجزئيات المتفرقة.٢٦ وتطول الفقرات أو تقصُر طبقًا لدرجة الانفعال، التي قد يصل أطولها إلى مئات الصفحات، حتى ولو كان خارج المحور الأصلي للسيرة.٢٧ وتمَّت صياغة بعض العناوين للتشويق، كما هو الحال في قصص الأطفال. وهي عناوينٌ ثنائية البنية كما تقتضيه أحوال النفس.٢٨
والوقائع منتقاةٌ لا تحدث طبقًا للترتيب الزماني، مثل واقعة استشهاد حمزة سيد الشهداء في أول البعثة.٢٩ وهناك حوادثُ أدلُّ، مثل سؤال الوليد بن المغيرة وهو يفرُك قطعةً من العظم بيده فيُحيلها إلى تراب قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. ومعظمها تدول حول شخصياتٍ تُرسم صورتها برتوش قلم الكاتب. وتُرسم الشخصية طبقًا لنمطٍ مثالي متكرر في عديد من الشخصيات بين الكفر والإيمان، والجحود والتصديق.٣٠ ولا يُحال إلى المصادر التي انتقى منها الكاتب الحوادث والشخصيات إلا فيما ندر.٣١
والخطورة أن يُناقِض صنع الروايات واختلافها عقائدَ الإسلام ذاته، مثل حصر النبوة في قريش، وحصر بني إسرائيل النبوة فيهم،٣٢ والتنبؤ به من الروم «إنه لنبي هذه الأمة؛ فما جلس تحت هذه الشجرة إلا نبي.»٣٣ والخطورة أيضًا بيان أوجه الاتصال بين الشرائع قبل الإسلام وبعده، مثل تعدُّد الزوجات التي كانت عادةً متبعة قبل الإسلام، هذَّبها الإسلام كمًّا ولم يقضِ عليها كيفًا.٣٤
وهل يتفق العقل مع الخرافة التي تتناقلُها الروايات، مثل حفر بئر زمزم عن طريق صوتٍ هاتف في السحَر؟٣٥ ولا يهم الواقع التاريخي المروي، أنها واقعة إبراهيم باحثًا الماء لولده إسماعيل، بل تنسج رواية أخرى أنها واقعة لعبد المطلب. ولماذا لم يطع من أول مرة وانتظر لرابع مرة لحفر زمزم، في حين أن إبراهيم أطاع؟ يبدو أن التشويق عن طريق التكرار وتعليق الحكم على الحدث، هو السبب في خلق روايةٍ وصُنع حدثٍ لم يقع،٣٦ بل إن الدين يأتي ليهزم العقل.٣٧ ويُلاحظ ورقة بن نوفل أن ملكَين يُظلَّان على الرسول ساعة الهاجرة.٣٨ ويتم تصوير حوار بين الشياطين وإبليس.٣٩ كما شاهد أبو جهل ما أرعبه تخويفًا له،٤٠ ومثله قول نسطاس.٤١
وتُنسج الخرافات طبقًا لأنماطٍ مثالية في التوراة والإنجيل؛ فقد أتى الهاتف إلى آمنة ساعة الحمل، كما أتى الملاك إلى اليصابات في حمل مريم، وإلى مريم في حمل المسيح.٤٢ والاعتراضات على الخرافة أكثرُ إسلاميةً من روايتها والتسليم بها.٤٣ وكذلك التسليم بأن الآلهة لا تنفع ولا تضر.٤٤
يظهر الإسلام كدينٍ طبيعي ليس في حاجةٍ إلى وحي، بل إن الوحي تأكيد على الطبيعة، مثل رفض وأد البنات قبل الإسلام وتأكيد ذلك بعده.٤٥ وتبدو بعض شرائع الإسلام متفقةً مع عادات العرب وحياتهم الصحراوية؛ فالتجارة قاسية على النساء، ويقوم بها الرجال.٤٦
وإذا كان القارئ العربي الحديث هو المقصود بالحديث، فإن المستشرق الأجنبي واهتماماته لا تغيب أيضًا عن الذهن؛٤٧ فقد أطال «على هامش السيرة» في تفصيل البيئة النصرانية، التي ظهر فيها الإسلام ونزل فيها الوحي. والإطالة فيها جعلَت للعوامل الخارجية الأولوية على العوامل الداخلية، وهي وجهة نظر المستشرقين. وتُذكَر الرهبانية كإطارٍ روحي لغار حراء؛٤٨ فالإسلام خروج من البيئتَين الوثنية والنصرانية.
وهي البيئة اليونانية الرومانية، التي أُعجب بها الكاتب في مستقبل الثقافة في مصر؛ فاليونان أهل العقل والمنطق والبحث عن الحقيقة. والبرهان على صدق الوحي هو بحث اليونان والرومان عنه، والوصول إليه عن طريق العقل. ويُذكر سقراط وإبيقور ومحاورة «فيردون»،٤٩ وأسماء الشخصيات الروائية اليونانية مثل أندروكليس وكلكراتيس ونسطاس. والحديث عن آلهة اليونان كما عرضَتْها الأساطير. ويُذكر سوفسطائيو اليونان مثل جورجياس. ويُمدح فلاسفة اليونان وحُسن استعمالهم العقل. وتُذكر المناقشات بين الشُّكَّاك اليونان في محاوراتٍ فلسفية انتهت بيقين الإسلام. وتبرز ثقافة الكاتب اليونانية كمصدرٍ في كتابة السيرة؛ فماركوس أوريليوس الحكيم الرماني كان يبحث عن الحقيقة، كما كان يبحث عنها الرسول في غار حراء، ثم تتم المقارنة بين اليوناني «الفيلسوف الحائر» والعربي «راعي الغنم».٥٠ والرمز أن الرسول راعي أمة. ويستمر هذا الجو اليوناني الروماني من الجزء الثاني كله حتى الثالث.
وتُستعمل الشواهد الشعرية في السيرة.٥١ وتُستخدم بعض العبارات الإسلامية من الفرق الكلامية للتصوير؛ من أجل إضفاء الجو الإسلامي على السيرة، مثل: «ملأ الارض عدلًا كما مُلئت جورًا.» وهي العبارة الأثيرة عند الشيعة عن وظيفة الإمام.٥٢
وتُستعمل الآيات القرآنية كمصدر للمعلومات باعتبارها تقُص عن وقائع، وكما هو معروف في أسباب النزول، مثل تقبيح الاستغفار للمشركين في آخر الجزء الأول،٥٣ ويُذكر أول ما نزل من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.٥٤ وتشجيعًا للرجال تُذكر آية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا،٥٥ وتأكيدًا للنضال والعقاب وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.٥٦
ويُستشهد بالقرآن في أزواج الرسول بآيات: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا وكذلك آية مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رَجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.٥٧
كما تظهر بعض العبارات على منوال الآيات مثل: «من شاء فليشُك، ومن شاء فليستيقن.»٥٨
كما يُستعمل الحديث لكتابة السيرة، وهو دورٌ بين القول والشخص؛ فالقول من الشخص، والشخص صاحب القول. وهو أقرب إلى السيرة الذاتية منه إلى علم السيرة، وربما هو حديثٌ مختلَق.٥٩ وأيضًا يُذكر حديث الرسول في لوعة فراقه لإبراهيم ابن مارية القبطية «لو عاش إبراهيم لوضعتُ الجزية عن كل قبطي.»٦٠

خامسًا: خاتمة

من الرسول إلى الرسالة

علم السيرة عند المحدَثين السيرة السياسية والسيرة الاجتماعية، بما في ذلك السيرة الأدبية … إلخ. يتجدد بتجدُّد العصور. ليس إسقاطًا من كل عصر، بل هو تحديثٌ للرؤية، وتنوُّع في المنظور، وإعادة توظيف العلوم القديمة خاصةً النقلية منها في خضم أحداث العصر؛ فالتراث ليس غاية في ذاته بل وسيلة لتحقيق غايةٍ أخرى، هو التقدُّم في كل عصر، والنهضة في كل زمان. ومع ذلك يظل للسيرة حدودها بل وخطورتها، حتى مع تحديثها وتجديدها وإعادة قراءتها وتوظيفها.

فما زالت تقوم على عبادة الشخص وتعظيمه وإجلاله وليس الكلمة. ما زالت تعطي الأولوية للرسول على الرسالة، وللنبي على النبوة، وللوسيلة على الغاية، وللحامل على المحمول، وللحديث على السيرة، كما حدث عندما تحوَّل السيد المسيح من الكلمة إلى الشخص، ومن الأقوال إلى الأفعال، ومن الموعظة على الجبل الى ابن الإنسان؛ لذلك كانت الوهابية على حقٍّ عندما رفضَت تعظيم أحد من البشر، بما في ذلك الرسول، والتوسُّط به بين الإنسان والله، والاحتفال بالمولد النبوي، والتواشيح في مدحه، والأدعية له مثل: «أغثنا يا رسول الله»، «أعنا يا رسول الله»، «يا حبيبي يا رسول الله». وكانت المعتزلة قد رفضَت من قبلُ الشفاعة والبشارة؛ إيثارًا لقانون الاستحقاق.

وكان الرسول نفسه قد حذَّر من التركيز على شخصه وتعظيمه وإطرائه «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم.» فهو بشر مثل باقي البشر، «ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد.» وبعد موته أُصيب الصحابة بصدمةٍ لدرجة اعتقاد البعض أنه سيعود، كما عاد عيسى بن مريم، أو أنه رفع إلى السماء كما رفع، لولا أن ذكَّرهم عمر «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت.»

وقد نبه القرآن الكريم على ذلك أيضًا؛ فلم يذكر «محمد» كشخصٍ إلا أربع مرات؛ الأولى هو رسول مثل من كان قبله من الرسل، دون أن تكون له ميزةٌ خاصة عليهم، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. والثانية أن الرسالة قد نزلَت عليه وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وليس الرسول. والثالثة عدم نسبة محمد لأيٍّ من الناس؛ حتى لا يكون له فضل على غيرهم، مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رَجَالِكُمْ. والرابعة أنه وسط قوم يتراحمون فيما بينهم، وذوو بأس على المعتدين مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.٦١
علم السيرة كله في حاجةٍ إلى إعادة بناء من «الشخص إلى المبدأ»؛ حتى يعود الرسول إلى وضعه الطبيعي، دون أن يطغى على الرسالة. وربما تشخيص الرسالة هو أحد أسباب تشخيص نُظُم الحكم في شخص الحاكم، بل إن دولًا بأكملها تُسمَّى باسم حاكمها أو العائلة التي ينتسب إليها. وربما يكون أحد أسباب التوحيد بين الشخص الرئيس والمؤسسة في الأسرة والمجتمع، في المدرسة والجامعة، في الوزارة وفي الإمارة؛ فكل شيءٍ يحدث بأمر السيد الرئيس، ابتداءً من تنظيف الشوارع، وحُسن عرض الأزياء، حتى السياسات الرئيسية للبلاد في قضايا الحرب والسلام.٦٢
١  ندوة طه حسين، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٢–٢٤ فبراير ٢٠٠٤م.
٢  انظر كتابنا: «حوار الأجيال»، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م.
٣  طه حسين، «على هامش السيرة»، مكتبة الأسرة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ٢٠٠٣م، ج١، ص ﻫ–ك.
٤  انظر دراستنا: Facts and Values: An Islaimc Approach, in facts and values, ed. By Doeser. M. C. and Kraay, Niijhoff. Netherland, 1990.
٥  «من العقيدة إلى الثورة»، النبوة – المعاد، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨م، ج٤، ص٦٤–١٠٣.
٦  «من النقل إلى الإبداع»، المجلد الثالث، الحكمة النظرية، الفصل الأول: المنطق، أقيسة الرسول، ج٢، ص١٨٠–١٨٢.
٧  كتب الجزء الأول من «على هامش السيرة» عام ١٩٣٣م، و«مستقبل الثقافة في مصر» عام ١٩٣٧م، وانتهى الجزء الثاني في سويسرا، لاكلوزا في سبتمبر ١٩٣٧م، والثالث بلا تاريخ. انظر أيضًا دراستنا: «مستقبل الثقافة في مصر إلى أين؟»، هموم الفكر والوطن، الفكر العربي المعاصر، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م، ج٢، ص٢٥١–٢٧٠.
٨  «من النص إلى الواقع»، تكوين النص، الفصل الخامس: تثبيت البنية، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ٢٠٠٤م، ج١، ص٣٤٧–٤٩٦.
٩  «هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أُرِد بها إلى العلم ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنما هي صورة عرضَت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتُّها مسرعًا، ثم لم أَرَ من نشرها بأسًا. ولعلي رأيتُ في نشرها شيئًا من الخير؛ فهي ترُدُّ على الناس أطرافًا من الأدب القديم قد أفلَتتْ منهم، وامتنعَت عليهم؛ فليس يقرؤها منهم إلا أولئك الذين أُتيحت لهم ثقافةٌ واسعة عميقة في الأدب العربي القديم. وإنك لتلتمس الذين يقرءون ما كتبه القدماء في السيرة وحديث العرب قبل الإسلام، فلا تكاد تظفر بهم» (طه حسين، «على هامش السيرة»، مكتبة الأسرة، القاهرة، ٢٠٠٣م، ج١، ص ﻫ).
١٠  «فإذا استطاع هذا الكتاب أن يُحبِّب إلى الشباب قراءة كُتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربي القديم عامة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخصبة فأنا سعيد حقًّا، مُوفَّق لأحب الأشياء إليَّ وآثرها عندي. وإذا استطاع هذا الكتاب أن يُلقي في نفوس الشباب حُب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن في سذاجتها ويُسرها جمالًا، ليس أقل روعة ولا نفاذًا إلى القلوب من هذا الجمال، الذي يجدونه في الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيدٌ مُوفَّق لبعض ما أريد. وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأُولى، واتخاذها موضوعًا قيمًا خصبًا لا للإنتاج العلمي في التاريخ والأدب الوصفي وحدهما، بل كذلك للإنتاج في الأدب الإنشائي الخاص، فانا سعيدٌ مُوفَّق لبعض ما أريد. ثم إذا استطاع هذا الكتاب أن يُلقي في نفوس الشباب أن القديم لا ينبغي أن يُهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغي أن يُطلب لأنه جديد، وإنما يُهجر القديم إذا أُبرئ من النفع وخلا من الفائدة، فإن كان نافعًا مفيدًا فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد، فأنا سعيدٌ مُوفَّقٌ لبعض ما أريد» (السابق، ص ط–ي).
١١  «إنما يقرأ الناس اليوم ما يكتب لهم المعاصرون في الأدب الحديث بلغتهم أو بلغةٍ أجنبية من هذه اللغات المنتشرة في الشرق. يجدون في قراءة هذا الأدب من اليسر والسهولة، ومن اللذة والمتاع، ما يُقرِّبهم به، ويرغبهم فيه، فأما الأدب القديم فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوُّقه أشد عسرًا. وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المُطوَّلة، والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغربية عن سُبل الفهم السهل والذوق الهيِّن الذي لا يُكلِّف مشقةً ولا عناءً» (السابق، ص ﻫ).
١٢  «ذلك أن الأدب القديم لم ينشأ ليبقى كما هو ثابتًا مستقرًّا، لا يتغير ولا يتبدل، ولا يلتمس الناس لذَّتَه إلا في نصوصه يقرءونها ويعيدون قراءتها ويستظهرونها ويُمعنون في استظهارها. إنما الأدب الخصب حقًّا هو الذي يلَذُّك حين تقرؤه؛ لأنه يقدم إليك ما يرضي عقلك وشعورك، ولأنه يوحي إليك ما ليس فيه، ويلهمك ما لم تشتمل عليه النصوص، ويُعيرك من خصه خصبًا، ومن ثروته ثروة، ومن قوته قوة، ويُنطِقك كما أنطَق القدماء، ولا يستقر في قلبك حتى يتصور في صورة قلبك أو يصور قلبك في صورته. وإذ أنت تُعيده على الناس فتُلقيه إليهم في شكلٍ جديد يلائم حياتهم التي يحيَوْنها، وعواطفهم التي تثور في قلوبهم، وخواطرهم التي تضطرب في عقولهم» (السابق، ص ﻫ–و).
١٣  «وليس خلود الإلياذة يأتيها من أنها تُقرأ فتُحدث اللذة وتُثير الإعجاب في كل وقت وفي كل قطر، بل هو يأتيها من هذا، ومن أنها قد ألهمَت وما زالت تُلهم الكُتاب والشعراء، وتُوحي إليهم أروع ما أنشأ الناس من آيات البيان. ولقد كان «إيسكولوس» أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة هوميروس. وما زال القُصَّاص وشعراء التمثيل والغناء في الغرب خليقين أن يقولوا الآن ما كان يقوله إيسكولوس منذ خمسة وعشرين قرنًا. ولم تكن قصص إيسكولوس وغيره من شعراء التمثيل اليوناني أقل خصبًا من الإلياذة، بل هي قد ألهمَت من الكتاب والشعراء قديمًا وحديثًا، وما زالت قادرة على أن تُلهِمَهم إلى اليوم والغد» (السابق، ص و–ز).
١٤  «وإني لأذكر أنني قرأتُ منذ أعوام قصةً تمثيلية هي الثامنة والثلاثون من نوعها، وقد سماها صاحبها «جيرودو» بهذا الرقم، فوضع لها هذا العنوان «أنفيتريون رقم ٣٨». كانت أسطورة تتصل بمولد هرقل، فصوَّرها سوفوكل قصةً تمثيلية في القرن الخامس قبل المسيح. وما زال الشعراء والكتاب من اليونان والرومان والأدبيُّون المُحدَثون يتأثَّرون ويذهبون مذهبه أو غير مذهبه في تصوير هذا الموضوع، حتى انتهت القصص التي كُتبت فيه شعرًا ونثرًا إلى هذا العدد الضخم» (السابق، ص ز).
١٥  «ولم يُحجم فحول الشعراء عن طرق هذا الموضوع؛ لأنهم سُبقوا إليه، بل زاد ذلك حرصًا عليه ورغبةً فيه. وكان بين الذين طرقوه الشاعر اللاتيني «بلوت» والشاعر الفرنسي «موليير»، ثم لم يُشفق جيرودو من أن يطرق موضوعًا سبق إليه الفحول من شُعراء التمثيل في العصور القديمة والحديثة، فصوَّر قصته هذه الثامنة والثلاثين وعرضها على النظَّارة في باريس سنة ١٩٢٩م، فكان فوزها عظيمًا، وإعجاب النظَّارة والقُراء بها لا حد له» (السابق، ص ز).
١٦  «هذا هو الأدب الحي. هذا هو الأدب القادر على البقاء ومناهضة الأيام، فأما ذلك الأدب الذي ينتهي أثره عند قراءته، فقد تكون له قيمته، وقد يكون له غَناؤه، ولكنه أدبٌ موقوت، يموت حين ينتهي العصر الذي نشأ فيه. ولو أنكَ نظرتَ في آداب القدماء والمحدَثين لرأيت منها طائفةً لا يمكن أن تُوصف بأنها آداب عصر من العصور أو بيئة من البيئات أو جيل من الأجيال. وإنما هي آداب العصور كلها، والبيئات كلها، والأجيال كلها، لا لأنها تعجب الناس على اختلاف العصور والبيئات والأجيال فحسبُ، بل لأنها مع ذلك تُلهم الناس وتُوحي إليهم، وتجعل منهم الشعراء والكُتاب والمتصرفين في ألوان الفن على اختلافها» (السابق، ص و).
١٧  «وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذةٍ ومتاع، قدرةٌ على الوحي، وقدرة على الإلهام؛ فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تُكتب مرةً واحدة، ولم تُحفظ في صورةٍ بعينها. وإنما قَصَّتها الرواة في ألوانٍ من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف التأليف. وقل مثل ذلك في السيرة نفسها؛ فقد ألهمَت الكُتاب والشعراء في أكثر العصور الإسلامية وفي أكثر البلاد الإسلامية أيضًا، فصوروها صورًا مختلفة، تتفاوت حظوظها من القوة والضعف والجمال الفني. وقل مثل هذا في الغزوات والفتوح. وقل مثل هذا في الفتن والمحن التي أصابت العرب في العصور المختلفة. ولم يقف إلهام هذا التراث الأدبي العظيم عند الكُتاب والشعراء، الذين ينتحتون النثر ويقرضون الشعر، في اللغة العربية الفصحى، بل جاوزهم إلى جماعةٍ من القُصَّاص الشعبيين، الذين تحدَّثوا إلى الناس في صورٍ مختلفة وأشكال متباينة، بما كان لآبائهم من مجدٍ مؤثَّل، وبما أصاب آباءهم من محنٍ مظلمة وفتنٍ مُدلهمَّة، عرفوا كيف يثبُتون لها، ويصبرون عليها، ويخرجون منها كرامًا ظافرين. ولا خير في حياة القدماء، إذا لم تُلهم المحدَثين، ولم تُوحِ إليهم رائع البيان شعرًا ونثرًا. وليس القدماء خالدين حقًّا، إذا لم يكن التماسهم إلا عند أنفسهم، ولا تُعرف أنباؤهم إلا فيما تركوا من الدواوين والأشعار. إنما يحيا القدماء حقًّا، ويخلُدون إذا امتلأت بصورهم وأعمالهم قلوب الأجيال، مهما بعُد بها الزمن، وكانوا حديثًا للناس إذا لقي بعضهم بعضًا، وكنوزًا يستثمرها الكُتاب والشعراء، لإحياء ما يُعالجون من ألوان الشعر وفنون الكلام» (السابق، ص ح).
١٨  «إن هذا النحو من إحياء الأدب القديم، ومن إحياء ذكر العرب الأوَّلين، قصدتُ حين أمليتُ فصول هذا الكتاب، ولست أريد أن أخدع القراء عن نفسي، ولا عن هذا الكتاب؛ فإني لم أُفكِّر فيه تفكيرًا، ولا قدَّرتُه تقديرًا، ولا تعمَّدتُ تأليفه وتصنيفه، كما يتعمد المؤلفون. إنما دُفعتُ إلى ذلك دفعًا، وأُكرهتُ عليه إكراهًا. ورأيتُنِي أقرأ السيرة فتَمتلِئ بها نفسي، ويفيض بها قلبي، وينطق بها لساني. وإذا أنا أُملي هذه الفصول، وفصولًا أخرى أرجو أن تُنشر بعد حين، فليس في هذا الكتاب، إذًا تكلُّف ولا تصنُّع، ولا محاولة للإجادة ولا اجتناب للتقصير. وإنما هو صورةٌ يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور، حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتبًا أخرى مهما تكن، والتي لا أملُّ قراءتها والأنس إليها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها، وحرصي على أن يقرأها الناس، ولكن الناس مع الأسف لا يقرءونها؛ لأنهم لا يريدون، أو لأنهم لا يستطيعون» (السابق، ص ط).
١٩  «وأنا أعلم أن قومًا سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدَثون يُكبِرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثيرٍ من الأخبار والأحاديث التي لا يُسيغها العقل ولا يرضاها. وهم يشكون ويُلحُّون في الشكوى حين يرون كلَف الشعب بهذه الأخبار، وجدَّه في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها. وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول. هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء؛ لأنهم سيقرءون فيه طائفةً من هذه الأخبار والأحاديث، التي نصَبوا أنفسهم لحربها، ومحوها من نفوس الناس. وأُحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس مَلَكاتٍ أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضَها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم، وميلهم إلى السذاجة واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يُحبِّب إليهم هذه الأخبار ويُرغِّبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه عن النفس، حين تشق عليهم الحياة. وفرقٌ عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل، على أنها حقائقُ يُقرُّها العلم، وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يُقدِّمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرةٌ لعواطف الخير، صارفةٌ عن بواعث الشر، معينةٌ على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش» (السابق، ص ي–ك).
٢٠  «وأُحب أن يعلم الناس أيضًا أني وسَّعتُ على نفسي في القصص، ومنحتُها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي أو بنحوٍ من أنحاء الدين، فإني لم أُبِحْ لنفسي في ذلك حريةً واسعة، وإنما التزمتُ ما التزمَه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث ورجال الرواية وعلماء الدين» (السابق، ص ك).
٢١  «ولن يتعب الذين يريدون أن يرُدُّوا فصول هذا الكتاب القديم في جوهره وأصله، الجديد في صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التي أخذ منها؛ فهذه المصادر قليلة جدًّا، لا تكاد تتجاوز سيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري. وليس في هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد في كتاب من هذه الكتب، فإذا اتصل الخبر بشخص النبي فإني أرُدُّه إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه. لا أحتمل في ذلك تَبِعةً خاصة؛ لأني لا أذهب فيه مذهبًا خاصًّا، إلا أن يكون تبسيطًا في الشرح والتفسير، واستنباط العِبْرة والوصول بها إلى قلوب الناس، فليُيسِّر الله سبيل هذا الكتاب إلى النفوس، وليُحسِن الله موقعه في القلوب» (السابق، ص ك-ل).
٢٢  السابق، ج١، ص٦٤.
٢٣  السابق، ج٣، ص١٣٦، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٨م، وأيضًا حديث عداس، ج٣، ص١٣٩–١٤٨.
٢٤  في الجزء الأول مثل: حفر زمزم، التحكيم، الفداء، الإغراء، البين، الردة، الطاغية، البشير، راهب الإسكندرية، اليتيم، الحاضنة، المراضع، السير.
٢٥  السابق، ج٣، ص٦٠–٦٢.
٢٦  في الجزء الثاني مثل: الفيلسوف الحائر، راعي الغنم، حديث باخوم، صاحب الحان، نادي الشيطان.
٢٧  مثل: «الفيلسوف الحائر»، دار المعارف، القاهرة، ١٩٩٢م، ج٢، ص١–١٣٦.
٢٨  وذلك مثل عناوين الجزء الثالث: صريع الحسد، سيد الشهداء، ذو الجناحين، حديث عداس، مصعب بن عمير، طريد اليأس، نزيل حمص، الوفاء المر، طبيب النفوس، شوق الحبيب إلى الحبيب، القلب الرحيم.
٢٩  السابق، ج٣، ص١١١–١٢١.
٣٠  السابق، ج٣، ص١٦٠.
٣١  يُحال إلى طبقات ابن سعد في رسم صورة مصعب بن عمير. السابق، ج٣، ص١٥٩، وفي تصوير القلب الرحيم. ج٣، ص٢٤١–٢٤٣.
٣٢  السابق، ج١، ص١٩-٢٠.
٣٣  السابق، ج٢، ص١٦٨.
٣٤  السابق، ج١، ص٣١-٣٢.
٣٥  السابق، ج١، ص٣–١١.
٣٦  هذا هو الذي يُسمَّى في فن الكتابة Suspense. السابق، ج١، ص٣٣، ج٣، ص١٠٦.
٣٧  السابق، ج٢، ص١٠٥.
٣٨  السابق، ج٢، ص١٧٦.
٣٩  السابق، ج٢، ص٢٢٧–٢٣٣.
٤٠  «رأيتُ والله بينه وبيني فحلًا ما رأيتُ مثل رأسه ولا مثل أنيابه قط، ولو أقدمتُ على ما كنتُ مُقدمًا عليه لأكلني» (السابق، ج٣، ص٩١).
٤١  مثل قول عمرو: «وهل تنزل الملائكة من السماء وتُلقي إلى الناس أخبارها؟» (السابق، ج٣، ص٧١).
٤٢  السابق، ج١، ص٥٩–٦١.
٤٣  «وإن آلهتنا هؤلاء الذين هم وسطاؤنا عند الله باطل، لا يملكون لأنفسهم ولا يملكون لنا نفعًا ولا ضرًّا» (السابق، ج٣، ص٧٨).
٤٤  «يرى وجوه الملائكة ويسمعهم يقولون له ولأمثاله الذين يُصرعون الآن في ذات الله وهم يفتحون لهم أبواب الجنة، سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين» (السابق، ج٣، ص١٠٧).
٤٥  السابق، ج١، ص٣٢.
٤٦  السابق، ج١، ص٥٤–٥٨.
٤٧  الفيلسوف الحائر، ج٢، ص١–١٣٦.
٤٨  السابق، ص٤١.
٤٩  السابق، ص٢٦-٢٧.
٥٠  السابق، ص١٣٨–١٧٩.
٥١  السابق، ج٣، ٥٦-٥٧.
٥٢  السابق، ج١، ص٨١.
٥٣  مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ. السابق، ج١، ص١٩٤.
٥٤  السابق، ج٣، ص٥٠.
٥٥  السابق، ج٣، ص١٦٠.
٥٦  السابق، ج٣، ص١٨٣.
٥٧  مثل قول الرسول «وهذا شوق الحبيب إلى حبيبه» (السابق، ج٣، ص٢٢٩).
٥٨  السابق، ج٣، ص٧١.
٥٩  السابق ج٣، ٢٢٧-٢٢٨.
٦٠  السابق، ج٣، ص٢٤٣.
٦١  ذكر لفظ «النبي» (٤٣) مرة، و«الرسول» (٣٠٦) مرة بمعنى الوظيفة، الرسالة والنبوة وليس بمعنى الشخص.
٦٢  هذا هو الجزء الرابع بعنوان: «من الشخص إلى المبدأ» في «من النقل إلى العقل» لإعادة بناء العلوم النقلية الخمسة؛ القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤