الفصل الثالث

جريمة قتل

بعدما غادر مالاليو، جمع كوذرستون الأوراق التي أحضَرَها له موظَّفه، وجلس إلى مكتبه وحاول أن يُولِيَها انتباهه. لم يُسفِر هذا الجهد عن أي نجاح. كان يأمل أن تجلب له مشاركة الأخبار السيئة مع شريكه بعض الراحة، إلا أن مخاوفه كانت لا تزال قائمة. كان دومًا يرى تلك النظرة الغريبة الشريرة في عينَي كايتلي الفطنتَين؛ وأوحت بأنه طالَما كان كايتلي على قيد الحياة، فلن يَحظيا بأي أمان. حتى لو حافظ كايتلي على وعده، وصان أي اتفاق أتمَّاه معه، فسيظل الشريكان دومًا تحت رحمته. وطيلة ثلاثين عامًا لم يكن كوذرستون تحت رحمة أي شخص، وكان الخوف من أن يكون له سيدٌ أمرًا بغيضًا له. تمنَّى من كل قلبه أن يموت كايتلي، أن يموت ويُدفَن، ويُدفَن سرُّه معه؛ تمنَّى لو كان ممكنًا بأي طريقة أن يسحقه ويُزهِق روحه وهو جالس على ذلك الكرسي المريح ما إن أظهر مكنون نفسه الخبيث الشرير كالأفعى. فقد يقتل الإنسان أي حشرةٍ سامة أو أي أفعَى مؤذية، فلِمَ لا يقتل إنسانًا يمتصُّ دمه مثل ذلك الرجل؟

جلس هناك لفترة طويلة، يحاول جاهدًا إيلاء تركيزه لأوراقه، وكان تظاهره هذا سيئًا. اهتزت الأرقام أمامه؛ ولم يكن بإمكانه استيعاب التفاصيل الفنية المذكورة في المواصفات والتقديرات؛ وبين الحين والآخر، كانت تنتابه نوبات من الذهول، وجلس وهو يقرع أطراف أصابعه على نشافة الحبر، محدقًا بخواء نحو الظلال الموجودة في أبعد أركان الغرفة، مُفكرًا دومًا — مفكرًا في الخطر الرهيب الذي يواجهه: افتضاح الحقيقة. ودائمًا، على عكس ما كان يُظْهِر، كان يقول إنه لم يكن يهتمُّ بنفسه على الإطلاق، وأنه كان بإمكان كايتلي أن يفعل ما يشاء، الآن أو مستقبلًا، لو كان يُفكر في نفسه فحسب. ولكن … ليتي! كانت حياته كلها الآن تتمحور حولها، وحول سعادتها، وكما كان يعلم، كانت سعادة ليتي تتمحوَر حول الرجل الذي كانت ستَتزوَّجه. وكوذرستون، على الرغم من اعتقاده أنه كان يعرف الناس جيدًا، لم يكن مُتأكدًا من أنه يعرف ويندل بينت بما يكفي ليثق في أنه سيتحمَّل اختبارًا قاسيًا كهذا. كان بينت طَموحًا، وعاقدَ العزم على مسارٍ مهني بعينه. هل كان بينت من الرجال الذين يتحمَّلون معرفة حقيقةٍ كالتي قد يُقدِّمها له كايتلي؟ لأنه كان يُوجد خطرٌ دائم يتمثَّل في أن كل ما قد يفعله هو ومالاليو، قد يُبدِّده كايتلي، ما دام ينبض بالحياة.

انتفض كوذرستون في كرسيِّه عندما انطلق صوتُ رنينٍ مفاجئ لجرس الهاتف الموجود في المكتب الخارجي، كما لو أن يدَ العدالة قد أطبقَت عليه فجأة. نهض رغمًا عنه مرتجفًا، وكان جبينه يَندَى بقطراتٍ من العرق وهو يسير عَبْر الغرفة.

تمتَم في نفسه قائلًا: «تمالَكْ أعصابك!» وتابع: «لا بدَّ أنني في حالٍ غريبة حتى أفْزَع هكذا. لن يُجدي هذا نفعًا! خاصةً في هذا المنعطف الخطير. ما الأمر؟» هكذا تساءل، وهو يتَّجه إلى الهاتف. وأردَف: «من المتكلم؟»

عَبْر الهاتف جاءه صوت ابنتِه المتفاجئ واللائم.

صاحت قائلة: «هل هذا أنت يا أبي؟» وتابعَت: «ماذا تفعل؟ ألا تتذكَّر أنك دعوتَ ويندل وصديقه السيد بريريتون لتناوُل العَشاء في الساعة الثامنة. إنها الثامنة إلا الربع الآن. تعالَ إلى المنزل!»

أطلق كوذرستون صيحةً دلَّلَت على انزعاجه. كان ما حدث في وقتٍ متأخر من بعد الظهر قد أنساه تمامًا أن ويندل بينت كان لديه صديقُ دراسة قديم، مُحامٍ شاب من لندن، يقيم معه، وأنه كان قد دعاهما لتناول العشاء ذلك المساء في منزله. ولكن انزعاج كوذرستون لم يكن بسبب نسيانه، ولكن لأن شرود ذهنه الحالي جعله يَكره فكرة رفقة الناس.

قال: «لقد نسيتُ … للحظة.» وأضاف: «لقد كنتُ مشغولًا للغاية. حسنًا يا ليتي، سآتي في الحال. لن أتأخَّر.»

ولكنه بعدما وضع الهاتف لم يُسارع بالمغادرة. أطال الوقوف بجانب مكتبه؛ وكان بطيئًا في إطفاء المصباح، وبطيئًا في مغادرة مكتبه وإيصاده، ومضى في طريقه ببطء عَبْر البلدة. كان آخر ما يتمناه هو أن يستقبل ضيفًا في تلك الليلة، وخاصَّة لو كان شخصًا غريبًا. كانت خطواته متثاقلة وهو يمرُّ عَبْر السوق ويلتفُّ متجهًا نحو الضواحي الأبعد.

قبل عدة سنوات من هذا، عندما تزوَّجا وكسبا المال، بنى الشريكان منزلَين جديدَين لهما. تَرتفع خارج بلدة هاي ماركت، على حدودها الغربية، تلَّةٌ طويلة ومُنخفضة تُسمَّى «هاي ماركت شول»؛ وكان المُنحدَر الذي يعلو البلدة مُغطًّى بكثافة بأشجار التنوب والصنوبر، وتتخلَّله هنا وهناك كتلٌ كبيرة بارزة من الصخور الجيرية. عند سفح هذا التل، بيعت بعض قطع الأراضي المخصَّصة للبناء، واشترى مالاليو قطعة أرض وكوذرستون قطعةً أخرى، وأقاما منزلَين من الأحجار الصُّلبة، مُجهَّزَين بأحدث التحسينات المعروفة في مهنة البناء. كان كلٌّ منهما فخورًا بمنزله، وسعيدًا بدعوة أصدقاؤه ومعارفه إليه — كانت هذه الليلة هي أول ليلة يتذكر فيها كوذرستون أنه شعر ببغضٍ شديد تجاه منزله حتى إنه لم يَرغَب في تجاوُز عتبته. لم تجلب له النوافذ المُضاءة، ولا رائحة الطعام الطيب المطبوخ على العشاء أي شعور بالارتياح؛ فكان عليه أن يبذل جهدًا ملحوظًا للدخول وتصنُّع الترحيب بضيفَيه اللذَين كانا موجودَين بالفعل في انتظاره.

قال كوذرستون، ردًّا على توبيخ ليتي القلق والمرح: «لم أتمكَّن من القدوم في وقتٍ أبكر.» وأردف: «ظهَرتْ بعض الأعمال الصعبة هذا المساء؛ ولذلك، لا بد أن أُهرَع إلى العمل مرةً أخرى لساعة بعد العَشاء — ما باليد حيلة. كيف حالك يا سيدي؟» تابع، وهو يمد يده مصافحًا الضيف الغريب. واستطرد قائلًا: «إنني مسرور برؤيتك في هذه الأنحاء؛ يؤسفني أن أقول إنك ستجد المناخ هنا أبرد من لندن.»

ألقى نظرةً فاحصة على صديق بينت بينما كانوا يجلسون جميعًا لتناول العشاء، وهذا بحكم عادته بتفحُّص أي شخصٍ كان جديدًا عليه، لا أكثر ولا أقل. وبعد نظرة أو اثنتين قال في نفسه إن هذا القانوني الشاب كان شابًّا فطنًا، منتبهًا، لافتًا للنظر، أشارت كل حركة ونبرةٍ صادرة منه على نشاطٍ عقلي هائل. قال كوذرستون في نفسه إنه كان أكثر فِطنة من بينت، وفي رأيه، كان هذا يُفصح عن الكثير. كانت قدرة بينت سطحية؛ فقد كان نموذجًا ممتازًا لرجل أعمالٍ نشيط، لديه أفكارٌ جديدة وغير تقليدية، ولكنه لم يكن يَميل كثيرًا إلى التفكير العميق والهادئ بقَدْر ما كان يميل إلى سرعة اتخاذ القرارات وسرعة التصرُّف بناءً عليها. نقَّل نظرَه بينهما، عاقدًا مقارنةً عقلية بينهما. كان بينت رجلًا طويل القامة وسيمًا، أشقر، ذا عينَين زرقاوَين، حاضر الكلمة والضحك؛ أما بريريتون، فقد كان متوسِّط الحجم، ربعةً، داكن الشعر والعينَين، وملامحه قمحية اللون تكاد تُوحي بأصولٍ أجنبية؛ كان من النوع الذي يُفكِّر كثيرًا ويقول قليلًا، هكذا جزم كوذرستون. مُجبِرًا نفسه على التحدُّث، حاول استدراج الغريب، وهو يُراقبه أيضًا ليرى إن كان مُعجبًا بابنته ليتي. فقد كانت واحدة من أعظم مباهج كوذرستون في الحياة هي أن يَدعو الناس إلى منزله ويُشاهد تأثير ابنته الجميلة عليهم، وقد أُثيب الآن بملاحظة أنه كان من الواضح أن الشاب اللندني كان يَستحسن اختيار صديقه وأعرب بأدبٍ عن تقديرِه لجاذبية ليتي.

سأل كوذرستون قائلًا: «وما الذي كنتَ تفعلُه مع السيد بريريتون منذ وصوله أمس؟» وأضاف: «أظن أنك أخذتَه في جولة بالطبع، أليس كذلك؟»

أجاب بينت وهو يُلقي نظرةً ضاحكة على حبيبته: «لقد كنتُ أُعذِّبه أغلب الوقت بالحديث عن تاريخ العائلة.» وتابع: «لم تكن تعلم أنني كنت أجمع كل ما يمكنني الحصول عليه عن أسلافي، أليس كذلك؟ أوه، لقد كنتُ مُنشغلًا بتلك التسلية البريئة طيلة الشهر الماضي؛ فقد ألحَّ عليَّ كايتلي العجوز أن أفعل ذلك.»

بالكاد تمكَّن كوذرستون من كبح جماح نفسه كي لا ينتفض في كرسيه؛ ولم يكن هو نفسه متأكدًا من أنه لم تظهر عليه أماراتُ مفاجأةٍ مفرطة.

صاح باستغراب قائلًا: «ماذا!» واستطرد: «كايتلي؟ مُستأجري؟ ماذا يعرف عن عائلتك؟ إنه غريب!»

فأجاب بينت: «يعرف أكثر بكثير مما أعرف. فالرجل العجوز ليس لديه ما يَشغله، كما تعلم، ومنذ أتى للعيش هنا وهو يقضي كل وقته في البحث في السجلات المحلية؛ إنه خبيرٌ جيد في الآثار وما شابه. لقد أخبَرَني كاتب المدينة أن كايتلي قد اطَّلَع على كل المُستندات القديمة للبلدة تقريبًا … صناديق مليئة بها! وقد أخبرني كايتلي ذات يومٍ أنه، إذا أحببتُ، سيتَتبَّع أصول عائلتنا لأبعدِ ما يُمكن، وقد أخبرتُه أن يشرع في ذلك؛ إذ بدا متحمسًا. لقد اكتشف الكثير من الأشياء المُثيرة للاهتمام في سجلات البلدة والتي لم أسمع بها من قبلُ.»

كان كوذرستون قد أبقى عينَيه على طبقه بينما كان بينت يتحدَّث؛ وتحدَّث الآن دون أن يرفع ناظرَيه.

قال، محاولًا التحدُّث بلا مبالاة: «صحيح؟» وأردَف: «آه! إذن فقد كنتَ تُقابل كايتلي كثيرًا مؤخرًا، أليس كذلك؟»

أجاب بينت: «ليس كثيرًا.» وأضاف: «لقد كان يُحضِر لي نتيجة جهده بين الحين والآخر؛ أشياء نسخها من السجلات القديمة وما إلى ذلك.»

سأل كوذرستون بدافع الحديث، وليس بدافعٍ من أي اهتمامٍ شَعَر به: «وما النفع الذي يمكن أن يؤدي إليه كل هذا؟» وأردَف: «هل سيسفر هذا عن أي شيء؟»

أشار بريريتون بمكرٍ قائلًا: «يُريد بينت أن يتَتبَّع تاريخ عائلته وصولًا إلى زمن الغزو.» واستطرد: «إنه يظنُّ أن بينت الأول جاء مع ويليام الفاتح. ولكن صديقه العجوز لم يصل بعدُ إلى ما هو أبعدُ من عصر تيودور.»

قال بينت: «لا يهم!» وأضاف: «كان آل بينت موجودين في هاي ماركت في زمن هنري السابع على أي حال. وإن كان للمرء نَسبٌ أصيل، فلماذا لا يبحث عنه كما ينبغي؟ إن كايتلي العجوز خبير في تلك الأمور. يقول كاتب البلدة إنه يُمكنه قراءة بعض مواثيق بلدتنا التي كُتِبَت قبل ستمائة عام كما لو كانت مقالاتٍ صحفية.»

لم يُعلِّق كوذرستون على ذلك. فقد كان يُفكر. إذن فقد كان كايتلي على تواصلٍ وثيق مع بينت، أليس كذلك؟ هل كان يراه باستمرار؛ كونه يعمل لديه؟ حسنًا، لذلك جانبان، واحدٌ إيجابي، وآخرُ سلبي. فقد أظهر أنَّ كايتلي حتى الآن لم يكن قد استغلَّ معرفته بالسر؛ ومن ثَمَّ يمكن اعتبار أنه من المُحتمَل أن يتعامل بنزاهة وأمانة إذا اتفق الشريكان على تسويةٍ معه. ولكنه أثبت أيضًا أنه من المحتمل أن يُصدِّق بينت أي شيء قد يُخبره به كايتلي. بالتأكيد، لا بد من التعامل مع كايتلي على الفور. كان يعرف أكثر من اللازم، ومن الواضح أنه بارع للغاية، وهذا ما أتاح له التحرك بحريةٍ تامة دون قيود. مهما كان الثمن، فلا مناص من ضمه إلى جانب مالاليو وكوذرستون. وما كان كوذرستون يُركِّز عليه في ذلك الوقت، بينما كان يأكل ويَشرب، هو كيف يُتمِّم عملية الضم هذه بطريقةٍ لا تترك أمام كايتلي خيارًا سوى التزام الصمت. ليته يتمكَّن هو ومالاليو من التوصُّل إلى زلَّةٍ يُسيطران بها على كايتلي، كتلك التي كان يستخدمها للسيطرة عليهما …

حينما قارب العَشاء على الانتهاء قال: «حسنًا، أعتذر، ولكنني مُضطَر لترككما أيها السادة لمدة ساعة على أي حال؛ ما باليد حيلة. ليتي، يجب أن تُحاولي تسليتهما ريثما أعود. غنِّ للسيد بريريتون بعض أغانيكِ الجديدة. بينت، أنت تعرف مكان الويسكي والسيجار؛ تَصرَّفا بحرية وكأنكما في منزلكما.»

سألته ليتي قائلة: «لن تَغيب أكثر من ساعة يا أبي، صحيح؟»

أجاب كوذرستون قائلًا: «بعد ساعةٍ واحدة سأُنهي ما يتعيَّن عليَّ فعله، وربما أقل … سأُسرع قَدْر المستطاع على أي حالٍ يا فتاتي.»

هُرع مغادرًا دون المزيد من المجاملات؛ وبعد لحظةٍ أخرى كان قد ترك دفء وضياء غرفة طعامه المريحة إلى ظلمة الليل وبرودته. وبينما كان يخرج من حديقته، كان يغرق في التفكير أكثر فأكثر. إذن فقد كان ويندل بينت واحدًا من أولئك الرجال الذين يتَّسِمون بما يُسمِّيه الناس بالفخر العائلي، أليس كذلك؟ أكان حقًّا فخورًا بحقيقة نَسبه النبيل، وبأنه يمكنه قول مَن كان جده وجدته؟ إنها أشياءُ مبهمة وغير مهمَّة لدى معظم الناس. في تلك الحالة، إن كان حقًّا فخورًا بعائلته، فهذا سببٌ إضافي لإسكات كايتلي. لأنه إذا كان ويندل بينت يخوض في لعبة إثبات أنه رجلٌ من عائلةٍ نبيلة، فبالتأكيد لن تروق له احتماليةُ أن يربط نسبه العريق برجلٍ كان سجينًا يومًا ما. يجب التعامُل مع كايتلي! على الفور وبحسم، وإلى الأبد! كان ذلك هو التصرُّف الصحيح.

مضى كوذرستون في ظلام الليل؛ وكانت قد مرَّت ساعةٌ كاملة عندما عاد إلى منزله. كانت الساعة العاشرة في ذلك الوقت؛ تذكَّر لاحقًا أنه ألقى نظرةً خاطفة على ساعة جَدِّه العتيقة في رَدْهة منزله وهو يدخل. كان كل شيء هادئًا للغاية هناك؛ فتح باب غرفة المعيشة ليجد الشابَّين وليتي جالسين بالقرب من نار المدفأة المتوهِّجة، وكان من الواضح أن بريريتون كان يروي لهما قصةً ما، كان قد شارف على الانتهاء منها.

كان بريريتون يقول: «… لأنه من المُسلَّم به، في الممارسات الإجرامية، أنه لا نهاية للجرائم غير المكتشفة؛ يُوجَد عددٌ لا بأس به من المذنبين الذين يتنقَّلون بحريةٍ تامة، و…»

قال كوذرستون وهو يتوجَّه نحوهم: «أتمنى أن تكونوا قد استمتعتُم بوقتكم.» وأضاف: «لقد أسرعتُ بقَدْرِ ما أستطيع.»

قالت ليتي: «لقد كان السيد بريريتون يُخبرنا بقصصٍ مثيرة للغاية عن المجرمين.» وأردفَت: «حقائقُ أغرب بكثير من الخيال!»

قال كوذرستون بترحاب: «إذن فأنا متأكدٌ من أن الوقت قد حان كي يُنعِش نفسه بكأسٍ من الشراب.» وأضاف: «هيا أيها السيدان، وسنرى إن كنا سنَجد شرابًا نحتسيه أو سيجارًا نُدخِّنه.»

قادَهم إلى غرفة الطعام وشغل نفسه بإخراج بعض عُلَب السيجار من الخزانة، بينما أخرجَت ليتي زجاجات الشراب والكئوس من الخزانة الجانبية.

علَّق كوذرستون وهو يعرض سيجارًا على بريريتون: «إذن فأنت مُهتم بالمسائل الجنائية، يا سيدي؟» وتابع: «هل تنوي أن تسلك ذلك المجال؟»

أجاب بريريتون، بضحكةٍ هادئة: «كل ما تلقَّيتُه من تدريبٍ كان في هذا المجال.» وأضاف: «المرء يجد نفسه منخرطًا في هذه الأشياء نوعًا ما، كما تعلم؛ لذا …»

صاحت ليتي، التي كانت في تلك اللحظة بالضبط تُقدِّم للمحامي الشاب كأسًا من الويسكي والصودا التي خلَطها بينت له: «ما هذا؟» وأردفَت: «شخصٌ ما يهرول مسرعًا نحو مدخل المنزل كما لو أن شيئًا ما قد حدث! بالتأكيد لن يَستدعوك مرةً أخرى يا أبي، أليس كذلك؟»

سبق رنينُ جرسٍ عالٍ دخولَ زائرٍ ما، سُمِعَ صوتُه المتلهِّف وهو يتحدث مع الخادمة في الرَّدْهة.

قال بينت: «إنه جارك، السيد جارثويت.»

وضع كوذرستون علبة السيجار وفتح باب غرفة الطعام. جاء من الردهة شابٌّ مُتورِّد الوجه، بدا عليه الانزعاج والذهول، وهو يُحدِّق حوله بفضول.

قال: «أعتذر عن تطفُّلي، يا سيد كوذرستون.» وتابع: «أريد أن أقول لك شيئًا! … ذلك الرجل العجوز الذي أجَّرتَ الكوخ له … كايتلي، كما تعلم.»

سأل كوذرستون بحدَّة: «ماذا عنه؟»

أجاب جارثويت: «إنه يَرقُد هناك في الأيكة التي تعلو منزلك؛ لقد تعثَّرتُ فيه وأنا قادم عَبْرها الآن.» واستطرد: «إنه … لا تخافي يا آنسة كوذرستون … إنه … حسنًا، لا شك في ذلك، ميت! و…»

سأل كوذرستون: «و… ماذا؟» وأردف: «ماذا يا رجل؟ تكلم!»

فقال جارثويت: «ولا بد أن أقول إنه قُتِل!» وأضاف: «أنا، أجل، لقد رأيتُ ما يكفي لأقول ذلك. لقد قُتِل، بلا أدنى شك!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤