الفصل الثلاثون

كوذرستون

سار كوذرستون خارجًا من قفص الاتهام ومن قاعة المحكمة، ومن مبنى البلدية وسطَ صمتٍ رهيب، شعر به الجميعُ ولاحَظوه إلا هو. في تلك اللحظة كان نَشْوانَ وراضيًا عن نفسه للغاية، لدرجة أنه لم يكن يُمكن أن يُلاحظ أي شيء. رفع رأسه عاليًا جدًّا بينما كان يخرج مارًّا عبر المدخل المزدحم، ومن خلال الحشد الذي كان قد تجمَّع على السلالم؛ ربما شعر بأنه مثلُ قائد منتصر عائدٍ ليُحتفى به على الملأ عندما ظهر على الدرجات العريضة تحت الرِّواق المُعَمَّد لمبنى البلدية، ونظَر بانتصار إلى القوم الذين كانوا قد تجمَّعوا هناك ليسمَعوا آخر الأخبار. وهناك، في الهواء الطلق، ومع كل تلك العيون المحدقة فيه، انهمك دون وعي في تصرُّف نمطي. كان قد طلب أن تُرسَل إليه أبهى ملابسه في سجن نوركاستر الليلة السابقة، وكان قد ظهر مرتديًا إياها في قفص الاتهام. كان اللباس العُلوي معطفًا غاليَ الثمن، كانت اللمسة النهائية فيه هي ياقةً خفيضة من الفِراء؛ عندئذٍ، بينما كان واقفًا هناك على الدرج العلوي، مواجهًا الحشد، حلَّ أزرار المعطف، وأزاح تلابيبه جانبًا، والتقط نفَسًا طويلًا عميقًا، كما لو كان يستنشق هواءَ الحرية من جديد. كان يوجد شخص أو شخصان فطنان وقويَّا الملاحظة بين النَّظَّارة؛ بدا لهما أن هذا التصرف اللاإرادي عَبَّر عن أن كوذرستون شعر بأنه يتخلَّص من الأغلال التي كان مكبَّلًا بها، مَجازيًّا، طيلة الأيام الثمانية الأخيرة.

ولكن في كل ذلك الحشد، لم يقترب شخصٌ واحد من كوذرستون. كان موجودًا ضمن الحشد كثيرون من زملائه من أعضاء المجلس البلدي — نوَّاب منتخَبون ومعيَّنون — ولكن لم يقترب منه أحدٌ منهم أو حتى يومئ إليه برأسه؛ لم يفعلوا شيئًا سوى التحديق. كانت أخبارُ ما كان قد جرى في الماضي قد تسرَّبَت بسرعة: كان معروفًا قبل أن يخرج كوذرستون على مرأًى من الناس أنه قد أُطلِق سراحه؛ لم يؤدِّ خروجه بذلك المظهر الجريء والواثق إلا إلى همساتٍ مُستترة ونظرات مختَلَسة. ولكن فجأة، من مكانٍ ما في الحشد، أطلق صوتٌ ساخر تهكمًا مزدريًا عبر الوجوه المحدقة.

«أحسنت، يا كوذرستون! أنقذتَ عنقك، على أي حال!»

سرَت موجةٌ من الضحك الساخر ردًّا على ذلك، وبينما كان كوذرستون يستدير بغضب في الاتجاه الذي أتى منه الصوت، ارتفع صوتٌ آخر، ساخر بالقدر نفسِه، من جانب آخر من الحشد.

«شاهد ملك! أجل! مَن الذي يمكن أن يصدق كوذرستون؟ كاذب!»

احمرَّ وجه كوذرستون غضبًا؛ واختفى احمرارُ الغضب سريعًا وحل محلَّه شحوبٌ شديد. وعندئذٍ أقبل عليه رجل، كان قد وقف بالقرب منه تحت الرواق المعمد، مراقبًا إياه بفضول، واقترب منه أكثر وهمَس له:

«اذهب إلى البيت، يا سيد كوذرستون! خذ بنصيحتي، وابتعد بهدوء، على الفور!»

رفض كوذرستون نصيحته الطيبة بفورة غضبٍ حادة.

زمجرَ قائلًا: «اذهب إلى الجحيم!» واستطرد: «مَن طلب منك أن تفتح فمَك؟ أتظن أنني خائفٌ من قطيعٍ كهؤلاء؟ أريد أن أعرف من ذا الذي سيتحرَّش بي؟ اذهب أنت إلى البيت!»

استدار صوب الباب الذي كان قد خرج منه للتو؛ استدار ليرى محاميَه ومستشارَه يخرجان معًا. وتلاشى غضبه المفاجئ، وهدأَت تعبيراتُ وجهه وظهرت عليه ابتسامةُ انتصار.

هتَف قائلًا: «حسنًا، اسمعا!» وتابع: «ألم أقل لكما ما سيحدث، منذ أسبوعٍ مضى! هيا نذهب إلى الحانة وسأدعوكما إلى زجاجةِ شراب — حسنًا، اثنين، ثلاثة، إن شئتما! — من أفضل الأنواع. تعالَيا، أنتما الاثنان.»

نظر المحامي حوله ورأى شيئًا في الوضع الراهن من حولهم، وبتعجُّلٍ استأذن منهما، وانسلَّ عائدًا إلى داخل مبنى البلدية من مدخل آخر. لكن المستشار — الذي على الرغم من أنه كان رجلًا ذا قدراتٍ قضائية عظيمة، كان واحدًا من أولئك الذين لا يخشَون على سمعتهم الخاصة، وكان معروفًا عنه أنه لا يستطيع أبدًا أن يصمد أمامَ إغراء زجاجة شمبانيا — فوافق على الفور، وبروحٍ مرحة رائعة. ونزل الدرَج متأبطًا ذراع كوذرستون وعبرا السوق، وخلفهما الحشدُ كان يسخر ويضحك، منغمسًا في إلقاء تعليقاتٍ مسموعة.

لم يُعِرْهم كوذرستون أيَّ اهتمام، أو تظاهرَ بذلك. قاد رفيقه إلى داخل الحانة، واتجه إلى الغرفة ذاتِ النافذة المقوسة التي كانت تُستخَدم كملتقًى صباحيٍّ لكل المنتمين إلى الطبقة الراقية من المتسكعين وسكَّان الحضر في هاي ماركت. كانت الغرفة مليئةً بالفعل. كان الرجال قد أتوا من المحكمة، ومن الحشد بالخارج؛ تعالى صخبُ الحديث من كل جانب. ولكن عندما دخل كوذرستون والمستشار الشهير (كان مشهورًا جدًّا في ذلك المجال بدفاعه عن المجرمين حتى إنه حصل على لقب «صديق المجرمين»)، حلَّ صمتٌ تام، ونظر الرجال إلى هذا الثنائيِّ المثير للفضول، ثم بعضهم إلى بعض بنظرات ذات مغزًى.

في ذلك الصمت، أوقف كوذرستون نادلًا، وطلب بصوتٍ عالٍ شمبانيا وسيجارًا؛ حدَّق بتحدٍّ فيمن حوله وهو يختتمُ الطلبَ بأمر بإحضار أفضلِ صندوق سيجار في المكان، وأفضل شمبانيا في القبو. اخترقَت ضحكةٌ عالية الصمتَ آتيةً من أحد أركان الغرفة، وإذ كان النادل رجلًا لماحًا، رأى الحالة التي كانت عليها الأمور، ونظر إلى كوذرستون.

همس قائلًا: «تعالَ إلى الحجرة الخاصة الصغيرة، يا سيد كوذرستون.» واستطرَد: «لا أحد هناك؛ ستكونان أكثرَ راحةً، يا سيدي.»

أجاب كوذرستون: «لا بأس، إذن.» وحدَّق مرةً أخرى نحو المجموعة التي كانت حوله، وتفجَّر تحدِّيه فجأةً بطريقة أخرى. قال بطريقة مباشرة: «أي صديق لي يودُّ أن ينضمَّ إلينا مُرَحَّب به. من سيأتي؟»

عندئذٍ انطلق ضحكٌ أجشُّ مجددًا ردًّا على ذلك، وأدار معظم الرجال هناك ظهورهم لكوذرستون وبدَءوا يتحدثون بصوتٍ عالٍ. ولكنَّ واحدًا أو اثنين من الأقل اكتراثًا ومن نوعيةٍ أكثر وضاعة، ممن كان من المؤكد أن كوذرستون ما كان سيدعوهم أصدقاء قبل أسبوع، أشار أحدُهما إلى الآخَر واتجَها نحو الباب الذي أمسكه النادل بترحاب ليُبقيَه مفتوحًا؛ فلم يكن يحدث كلَّ يوم أن يُقَدم أفضل شمبانيا وأفضل سيجار دون مقابل، وإن أراد كوذرستون أن يُبعثر نقوده، فما المشكلة، ما داما سينتفعان من حماقته؟

قال كوذرستون، وهو يدفع المستشارَ أمامه: «أحسنتما!» وصاح في النادل: «أحضِرْ زجاجتين … بل ثلاث زجاجات» وأضاف: «زجاجات كبيرة! وأفضل الأنواع.»

تقدَّم رجلٌ مسن، واحد من زملاء كوذرستون في عضوية المجلس البلدي، وأمسكه من ذراعه.

همس: «كوذرستون!» وتابع: «لا تكن أحمقَ! فكِّر فيما انتهى للتو. كن رجلًا صالحًا وعُد إلى البيت؛ عد بهدوء إلى البيت. ما تفعله لن يترك أثرًا طيبًا … ستجعل كلَّ البلدة تتكلم!»

قال كوذرستون، مزمجرًا: «اللعنة على البلدة، وعليك أنت أيضًا!» وأضاف: «أنت واحدٌ من أولئك الذين صاحوا في وجهي أمامَ مبنى البلدية، اللعنة عليك! وسأجعلك أنت وكلَّ هاي ماركت ترَون أهميتكم عندي. ما شأنك إن شربت كأسًا من النبيذ بهدوء مع أصدقائي؟»

ولكن لم يحدث شيءٌ من قبيل «شرب كأس من النبيذ بهدوء» في الغرفة الخاصة الصغيرة التي انعزل فيها كوذرستون وأصدقاؤه المقرَّبون. في كل مرة كان بابها يُفتَح كان يُسمَع صوت كوذرستون المتحمِّس في الغرفة الكبيرة، وبدأ الرجال الأكثر اتزانًا، ممن كانوا يستمعون يهزون رءوسهم استنكارًا.

تساءل أحدُهم: «ماذا دهاه؟» واستطرد: «لم يرَه أحدٌ هكذا من قبل! لماذا الهرج والمرج الذي يصنعه بتلك الطريقة؟»

قال آخر: «إنه متحمِّسٌ لأنه أفلت من العقاب.» وأردف: «وتلك الضجَّة الخفيفة بالخارج هناك جعلَته يخرج عن اتِّزانه. كان ينبغي أن يأخذه أحدُهم مباشرةً إلى البيت. أيضًا، يا لها من مجموعةٍ رائعة تلك التي اصطحبها معه! نحن جميعًا نعرف حقيقةَ ذلك المستشار؛ يقولون إنه يمكنه أن يشرب الشمبانيا مثل الماء، وأما عن الآخرين، فاستمعوا إلى ذلك، الآن!» أضاف هذا بينما انطلق وابلٌ من الحديث المتحمس عبر الباب المفتوح. أضاف: «إذا استمرَّ ذلك، فسيكون في حالة جيدة تُناسب الذَّهاب إلى البيت إلى ابنته تلك، أنا أعرف.»

قال آخر: «يجب ألا يستمرَّ هذا»، ونهض. وتابع: «سأذهب إلى مكتب بينت وأجعله يأتي ليأخذَ كوذرستون ويرحل به. بينت هو الرجل الوحيد الذي سيكون له أيُّ تأثير عليه.»

خرج وعبَر السوق إلى مكتب بينت. ولكن بينت لم يكن هناك. بِناءً على نصيحته كانت ليتي قد ذهبت لتُقيم مع صديقةٍ لها حتى تنتهيَ الوقائع الأخيرة بطريقةٍ أو بأخرى، أما بينت نفسُه، فبمجرد أن غادر كوذرستون قاعة المحكمة، حتى هُرِع مغادرًا ليلحقَ بقطار إلى البلدة التي كانت مقيمة فيها مؤقتًا؛ ليحملَ لها الخبر ويُحضرها إلى بيتها. لذا عاد فاعلُ الخير بخفَّي حُنين، وعندما وصل إلى الفندق، خرج منه كوذرستون والمستشار، وافترقا عند الباب بمودةٍ كبيرة واضحة، ومضى كلٌّ منهما في طريقه. وبينما كان كوذرستون يمرُّ بالرجل الذي كان قد ذهب إلى مكتب بينت، حدق فيه ثم أشاح بوجهه.

علَّق فاعل الخير، وهو يُعاود الدخول إلى الغرفة الكبيرة وينضمُّ إلى جماعته: «سيحدث صراعٌ مرير بين كوذرستون وبقية أهل البلدة.» وأضاف: «لقد مرَّ بي للتو متجاهلًا إياي وكأنني واحدٌ من حجارة الرصف التي يمشي عليها! وهل رأيتم وجهَه وهو يُغادر؟ عجبًا، بدلًا من أن يبدوَ وكأنه أفرط في الشراب، بدا لي متزنًا للغاية بعكس ما توقعت. احذروا حدوث شيء؛ فذلك الرجل يائس!»

قال واحدٌ من المجموعة: «وما الذي يجعله يائسًا؟» واستطرد: «لقد أنقذَ عنقه!»

علَّق آخر بهدوء: «إن ذلك الصياح في وجهه عندما خرج هو السبب في ذلك.» وأضاف: «إنه رجلٌ من النوعية التي لا تبتئس من شيء كهذا. إن ظن كوذرستون أن الرأي العام ضده … حسنًا، سنرى!»

عندما افترق عن المستشار، سار كوذرستون بخُطًى ثابتة مبتعدًا عبر السوق. مهما كان ما يمكن أن يكون الرجال في الغرفة الكبيرة قد ظنُّوه، لم يُطلِق كوذرستون العِنان لنفسه بحُريةٍ مفرطة في الغرفة الخاصة الصغيرة. كان قد مرَّر الشمبانيا على المجموعة التي كانت حوله، ولكن الكمية التي كان قد شربها هو نفسه لم تكن كبيرة وشدَّت من عزمه بدلًا من أن تُسكِره. وكان حماسُه قد خبا فجأةً، وتوقف عما كان يمكن أن يتطورَ إلى نوبةِ إفراط في الشرب بأن قال إنه يجب أن يذهب إلى البيت. وبمجرد أن خرج، توجَّه مباشرةً إلى منزله، وبينما كان يمضي لم ينظر يَمنةً ولا يَسْرة، وإذا التقى بصديقٍ أو بأحد معارفه كان وجهُه يُصبح جامدًا كحجر الصوَّان.

بالفعل كان كوذرستون يتأجَّج ويغلي غضبًا. كانت عبارات السخرية التي وُجِّهَت إليه وهو واقفٌ على درجات مبنى البلدية، والنظرات التي صُوِّبَت سِهامها إليه وهو يبتعد مع المستشار الميال للاحتفال، والتعبيرات على وجوه الرجال في الغرفة الكبيرة في حانة هاي ماركت آرمز، كل ذلك كان قد تسبَّب له في إيذاء نفسيٍّ بالغ. كان يعرف، أيًّا كان ما كان عليه في الماضي، أو ما كان عليه حينئذٍ، أنه قد أثبت أنه كان خادمًا مخلصًا للبلدة. لقد كان عضوًا بالغ الحماس في المجلس البلدي، وكان قد تولى الشئون المالية للبلدة عندما كانت في حالةٍ يُرثى لها وجعلها على أرضيةٍ صُلبة وآمنةٍ ومزدهرة؛ لقد عمل وفكَّر وخطَّط من أجل ما يعود بالنفع على المكان، وكانت هذه هي مكافأته! كان يعرف أن تلك العبارات الساخرة، وتلك النظرات، وتلك الوجوه التي كانت تنظر إليه شَزرًا حينًا وباحتقارٍ حينًا آخر كانت تقصد أمرًا واحدًا، وأمرًا واحدًا فقط؛ اعتقد رجال بلدة هاي ماركت أنه شريكٌ في الجُرم بالقدر نفسِه مع مالاليو، وكانوا قد وصَلوا إلى استنتاجٍ مفاده أنه لم يُطلَق سراحه إلا من أجل أن تُصبح تلك الشهادة المباشرة بحق مالاليو متاحةً عند الحاجة إليها. لعنَهم بشدةٍ ومرارة، وفي الوقت نفسِه ازدَراهم، إذ كان يعرف أنه حتى مع أنهم كانوا متقلِّبين، يتحوَّلون إلى هذا الاتجاه وذاك عند أدنى تغيرٍ في اتجاه الرأي العام، كانوا أيضًا في غاية الحمق، وليس لديهم أدنى قدرةٍ على الاستشراف أو التوقع.

انحسر الانفعال، الذي كان قد تملَّك من كوذرستون في مواجهة أولئك العامة الذين كانوا يتهكَّمون عليه، في صمت منزله؛ وعندما عادت ليتي ومعها بينت إلى البيت عصرًا وجَداه هادئًا ومتزنًا على غير العادة. كان بينت قد أتى مفعَمًا بمشاعرَ مُضطربة ومخاوف؛ إذ كان قد تصادف وجود أحد الرجال الذين كانوا في حانة هاي ماركت آرمز في محطة القطار عندما وصَل مع ليتي، وانتحى به جانبًا وأخبره بما جرى، وبأنه كان من الواضح أن كوذرستون كان سيركَن إلى مُعاقرة الخمر. ولكن لم تكن توجد أي أمارة على أيِّ شيء غير عادي على وجه كوذرستون عندما لقيه بينت. لم يتكلَّم مع بينت أو ليتي إلا قليلًا عن أحداث الصباح؛ لم يَزِدْ عن أنه علَّق قائلًا إن الأمور انتهت بالضبط كما كان قد توقَّع وأنه لعلَّهم الآن يتمكَّنون من تسوية الأمور؛ احتسى معهما الشايَ، وظلَّ منشغلًا بكتبه وأوراقه في غرفته حتى وقت العشاء، ولم تظهر عليه أيُّ علامات على أي شيء غير عادي على العشاء، وعندما غادر المنزل بعد ساعة قائلًا إنه يجب أن يذهب إلى المكتب ويجلب المراسلات المتراكمة، كان سلوكه عاديًّا جدًّا حتى إن بينت لم يرَ سببًا يدفعه إلى أن يُرافقه.

إلا أن كوذرستون لم يكن ينوي الذَّهاب إلى مكتبه. غادر منزله وهو عازم على أمرٍ محدَّد. سيعرف على نحوٍ حاسم شعورَ أهل بلدة هاي ماركت نحوه وما يُكِنونه له. لم يكن رجلًا من أولئك الذين يحتملون العيش تحت ظلال الشك والنظرات المتحاشية، وإن كان سيُعامَل على أنه مشتبهٌ به ومنبوذ فليعرف على الفور.

في ذلك الوقت كان يوجد في هاي ماركت نادٍ صغير للصفوة، مقرُّه في السوق، ينتمي إليه كل الأشخاص البارزين من سكان البلدة. كان كلٌّ من مالاليو وكوذرستون عضوَين فيه منذ تأسيسه؛ وفي الواقع كان كوذرستون أمينَ صندوقه. كان يعرف أن الناديَ سيكون مزدحمًا في تلك الليلة؛ حسنًا جدًّا، سيذهب إلى هناك وسيُواجه بجُرأة الرأي العام. إن انتقده زملاؤه الأعضاءَ بعنف، أو عامَلوه بازدراء، أو تجاهَلوه … حسنًا، سيعرف عندئذٍ ما يتعيَّن عليه فعله.

لكن كوذرستون لم يدلف إلى داخل النادي مطلقًا هذه المرة. فبينما كان يطأ بقدمه عتبتَه التقى بواحد من أقدم الأعضاء، كان عضوًا معينًا في المجلس البلدي، وكان كوذرستون يُكِنُّ له احترامًا شديدًا. أجفل هذا الرجلُ لمرآه، وتوقَّف، ووضع يده بودٍّ وبقوة في الوقت نفسِه على كتفه، وعَمِد إلى جعلِه يستدير.

قال بلطفٍ: «لا، يا صديقي!» وأردَف: «لا تدخل إلى هنا الليلةَ! إن كنتَ لا تعرف كيف تعتني بنفسك، فدَع صديقًا لك يعتني بك. تَحَلَّ ببعض المنطق، يا كوذرستون! أتريد أن تُعَرِّض نفسك مجددًا لما نالك خارجَ مبنى البلدية؟! لا … لا! اذهب، يا صديقي، اذهب إلى البيت … تعالَ معي إلى البيت، إن شئت، فأنت مرحَّب بك!»

كان من شأن العبارة الأخيرة أنْ جعَلَت كوذرستون يلين، وقَبِل أن يقوده الرجل في الشارع.

قال بطريقة جافَّة: «أنا ممتن لك.» وتابع: «إن نواياك طيِّبة. ولكن … هل تعني أن تقول إن هؤلاء الرجال هناك — الرجال الذين يعرفونني — يُفكرون … في ذلك؟!»

أجاب الشيخ: «إنه عالم قاسٍ وميال إلى الانتقاد، أعني ذلك المكان.» واستطرد: «اتركهم وشأنهم قليلًا؛ لا تُقحِم نفسك معهم. تعالَ … تعالَ معي إلى البيت ودخِّن سيجارًا معي.»

قال كوذرستون: «أشكرك.» وأضاف: «ما كنت ستطلبُ مني أن أفعل ذلك لو كنتَ تُفكر مثلهم. أشكرك! ولكن لديَّ أمر يتعين عليَّ فعله، وسأذهب وأفعلُه على الفور.»

ضغط على ذراع رفيقه بودٍّ، واستدار مبتعدًا، وبينما كان الرجل الآخَر يُراقبه عن كثب، رآه يمشي مبتعدًا صوبَ مركز الشرطة، إلى الباب الخاصِّ برئيس الشرطة. رآه يدخل، وعندئذٍ هز رأسه ومضى مبتعدًا هو الآخَر، وهو يتساءلُ في نفسه عمَّا كان كوذرستون يُريده من الشرطة.

كان رئيس الشرطة متعبًا من عمل يومٍ طويل، جالسًا على راحته يُدخن غليونه ويُمسك بكأسه عندما ظهر كوذرستون في صالة استقباله. أجفل مذهولًا من مرأى زائرِه، أشار إليه كوذرستون ألَّا يقوم عن كرسيِّه.

قال كوذرستون: «لا تدَعْني أُقلِقْ راحتك.» وأردف: «أريد أن أتبادل معك حديثًا قصيرًا على انفراد؛ ذلك كلُّ ما في الأمر.»

كان رئيس الشرطة قد سمع بأمر الموقف الذي حدث على الملأ في الحانة، وكانت لديه مخاوفُ من توابعه. لكنه لمح إلى أن زائره لم يكن متزنًا فحَسْب، وإنما كان أيضًا هادئًا ومعتدلًا، وسارع بأنْ قدَّم له كأسًا من الويسكي.

أجاب كوذرستون، وهو يجلس: «أجل، شكرًا لك، سأشرب.» وأضاف: «سيكون هذا أولَ مشروب روحي أشربه منذ حبستَني، وأظن أنه لن يضيرني. والآن»، مضى في حديثه بينما اتخذ الاثنان جِلستَهما بجوار موقد المدفأة: «أريد أن أتحدث إليك حديثًا مباشرًا. أنت تعرفني؛ لقد كنا أصدقاء. أريد منك أن تخبرني بصراحة ووضوح وصدق … ما الذي يفكر فيه أهل هاي ماركت بشأني ويقولونه عني؟ أفصح!»

اكفهرَّ وجه رئيس الشرطة وهز رأسه بأسًى.

أجاب: «في الواقع، أنت تعرف حال أهل البلدة، يا سيد كوذرستون!» وتابع: «وتعرف مدى الاستعداد الكبير لدى سكان هاي ماركت هؤلاء لقول أشياءَ سيئة. أنا لستُ من أهل هاي ماركت، بقدرك، وكنتُ دومًا أعتبرهم قومًا سَليطي اللسانِ جدًّا؛ ولذلك …»

قال كوذرستون: «هاتِ ما عندَك!» واستطرد: «دَعْنا نعرف الحقيقة؛ لا يُهِم من أي ألسنةٍ تصدر. ماذا يقولون؟»

أجاب رئيس الشرطة، على مضضٍ: «في الواقع، بالطبع يسنح لي أن أسمع كلَّ شيء. إن كان لا بد أن تعرف، التصور السائد أنك والسيد مالاليو لكما يدٌ في موت كايتلي. يظنون أن مقتله له صلةٌ وثيقة بكما، وأن ما جرى لستونر كان حادثًا عارضًا. وإن كنتَ تريد الحقيقة كاملة، فهم يظنون أن الفارقَ الوحيد بينك وبين مالاليو أنك كنت أبرعَ منه بأن أبرمتَ صفقة، وأنه من المحتمل أن يكون كايتلي قد لقي مصرعَه على يدَيك، بالتواطؤ مع شريكك. كما يوجد أولئك الذين يقولون إنه إن قُبِض على مالاليو — وهو ما سيحدث — فسوف يَفضح أمرك للشرطة. ذلك كل شيء، يا سيدي.»

سأله كوذرستون: «وما ظنك أنت؟»

تململَ رئيس الشرطة في مقعده باضطراب.

قال: «لم أستطع مطلقًا أن أحمِل نفسي على تصور أنك أنت أو مالاليو يمكن أن تقتلا رجلًا بدمٍ باردٍ، كما قُتِل كايتلي.» وأضاف: «فيما يتعلق بستونر، لديَّ اعتقاد جازم أن مالاليو ضربه في فورةِ انفعال. ولكن … كنت أشعر دومًا أن أنت، أو مالاليو، أو كِلَيكما، تعرفان عن واقعة كايتلي أكثرَ مما قُلتما!»

مال كوذرستون إلى الأمام وربت على ذراع مضيفه.

قال بطريقة ذات مغزًى: «أنا أعرف!» واستطرد: «أنت محقٌّ في ذلك. فأنا … أعرف!»

وضع رئيس الشرطة غليونه ونظر إلى ضيفه بجدِّية.

هتف قائلًا: «إذن بحق الرب، يا سيد كوذرستون، بحق الرب، أفصِح! لأنني متيقِّن، مثلما أنا متيقنٌ من أننا جالِسان هنا، أنه بالوضع الراهن للأمور، سيُشنَق مالاليو إن لم تفعل! إن لم يُشنَق من أجل ستونر، سيُشنَق من أجل كايتلي؛ لأنه إن أفلتَ من تهمة قتل ستونر سيُقبَض عليه مجددًا من أجل التهمة الأخرى.»

عَلَّق كوذرستون قائلًا: «قبل مُضي نصف الساعة، ما كنتُ سأكترث لو شُنِق مالاليو عشر مرات. في الانتقام لذَّةً، ولديَّ مبررٌ قوي لأن يُنتقَم لي من مالاليو. ولكن الآن … أنا ميَّال إلى أن أقول الحقيقة. أتعرف لماذا؟ عجبًا … لأبينَ لأهل هاي ماركت هؤلاء أنهم مخطئون!»

تنهَّد رئيس الشرطة. كان رجلًا بسيطًا واضحًا أمينًا، وبدا له أن السبب الذي ساقه كوذرستون كان غريبًا، بل خبيثًا. يا له من سببٍ تافه أن يقول المرء الحقيقة لمجرد النِّكاية في جاره، بينما توجد حياةٌ على المحك.

قال: «حسنًا، يا سيد كوذرستون، ولكن يتعيَّن عليك أن تقول الحقيقة على أيِّ حال!» وأضاف: «إن كنت تعرفها، أفصِحْ عنها وانتهِ من الأمر. لقد كابَدْنا ما يكفي من المتاعب بالفعل. إن كان بوسعك أن تُزيل الغموض عن الأمور …»

قاطعه كوذرستون قائلًا: «اسمع!» واستطرد: «سأخبرك بكل ما أعرفه … سرًّا فيما بيننا. إن ارتأيتَ أنه مفيد، يمكن وضعه في القالَب الصحيح. لا مانع عندي، إذن! أتتذكَّر ليلة مقتل كايتلي؟»

قال رئيس الشرطة: «أجل، أظن ذلك!» وأردف: «لديَّ سببٌ قوي لذلك!»

قال كوذرستون: «دع عقلك يرجعْ إليها، وإلى ما سمعتَه عنها من وقتها.» وتابع: «تعرف أنه عصرَ ذلك اليوم كان كايتلي قد هدَّدني أنا ومالاليو بفضحِ أمر مسألة ويلشستر. أراد أن يبتزَّنا. قلت لمالاليو، بالطبع — تعيَّن على كِلَينا أن نُفكر في الأمر حتى اليوم التالي. ولكني لم أفعل شيئًا سوى التفكير — إنني لا أريد فضيحةً من أجل ابنتي؛ كنتُ على استعداد لأن أقدم أي شيء لتجنُّب الفضيحة، بطبيعة الحال. كنت أستضيف بينت وصديقه ذاك، بريريتون، على العشاء في تلك الليلة؛ كان ذهني مفعَمًا بالأفكار حتى إنني خرجتُ وتركتهم ساعةً أو أكثر. الحقيقة أنني أردت أن أتكلم مع كايتلي. مضيت صاعدًا إلى الغابة بجانب منزلي متجهًا صوب كوخ كايتلي، وفجأةً وجدتُ رجلًا ممدَّدًا على الأرض … كان هو! بالضبط حيث عثَرنا عليه بعد ذلك.»

سأله رئيس الشرطة: «ميتًا؟»

أجاب كوذرستون: «للتو.» وأضاف: «لكنه كان ميتًا، ورأيت ما تسبَّب في وفاته؛ لأنني أشعلتُ عود ثقاب لأنظر إليه. رأيت دفتر جيبه ذاك مُلقًى بجواره، ورأيت قصاصةً من صحيفة مطويَّة أيضًا، التقطتُها، ولاحقًا عندما قرأتُها وضعتُها في مكان أمين؛ لقد أخرجتُها من ذلك المكان الليلة لأول مرة، وها هي … يمكنك أن تحتفظ بها. حسنًا … تابعتُ المضيَّ، حتى وصلتُ إلى الكوخ. كان الباب مفتوحًا، فنظرت في الداخل. كانت تلك المرأة، الآنسة بِيت، جالسةً إلى الطاولة بجوار المصباح، تُقَلِّب في بعض الأوراق، ورأيت خطَّ كايتلي على بعضٍ منها. دخلت بخفةٍ ونقرت بإصبعي على كتفها، فصرخت وجفلت مرتدَّةً إلى الوراء. نظرت إليها. قلت لها: «أتعرفين أن سيدكِ يرقد جثةً هامدةً، صريعًا، بالأسفل وسط تلك الأشجار؟» عندئذٍ تمالَكَت نفسها، وحالت إلى حدٍّ ما بيني وبين الباب. قالت: «لا، لا أعرف!» واستطردت: «ولكن إن كان كذلك، فلستُ مندهشة، لأنني حذرتُه مراتٍ كثيرةً من الخروج بعد حلول الظلام.» تمعَّنتُ النظر فيها. وقلت لها: «ما الذي تفعلينه بأوراقه التي هناك؟» قالت: «أوراق!» وتابعت: «إنها لا شيء سوى فواتيرَ قديمةٍ وأشياء أعطاها لي لأُرتِّبها.» قلت: «تلك كذبة!» واستطردتُ: «تلك ليست فواتيرَ وأعتقد أنكِ تعرفين شيئًا عن هذا الأمر، وسأذهب على الفور إلى الشرطة … لأخبرها!» عندها دفَعَت الباب من ورائها وعقدَت ذِراعَيها ونظرت إليَّ. وقالت: «انطِق بكلمة، وسأتكلم وأكشف في سائر البلدة أنك أنت وشريكك سجينان سابقان! أعرف حكايتكما؛ لم يكن كايتلي يُخفي عني سرًّا. إن خطوتَ خطوة لتخبر أيَّ أحد، فأول ما سأفعله هو أنني سأتوجَّه مباشرةً إلى خطيب ابنتك بينت، ولن أتوقف عند ذلك الحد، فقط.» وهكذا تُدرك الموقف الذي كنت فيه؛ كنت في غاية الخوف من افتضاح تلك المسألة القديمة، وعرَفتُ عندئذٍ أن كايتلي كان كاذبًا وأنه حكى لتلك العجوز كلَّ شيء عنها، و… في الواقع، تردَّدت. ورأت أنها تمكنَت مني، وتابعت تقول: «أمسِكْ عليك لسانك، وسأُمسِك لساني!» وأضافت: «لن يتَّهمَني أحد، أنا أعرف … ولكن إن نطقتَ بكلمة، سأشي بك! واحتمال أن تكون أنت وشريكك مَن قتلتُما كايتلي أرجحُ من احتمال أن أكونَ أنا الفاعلة!» حسنًا، ظللت واقفًا، مترددًا. أخيرًا سألتُها: «ماذا أفعل؟» قالت: «لا تفعل شيئًا.» وأردفَت: «كنْ رجلًا حكيمًا وعُد إلى البيت، وتظاهر بأنك لا تعرف شيئًا عن الأمر. دعهم يعثروا عليه، ولا تقل شيئًا. أما إن فعلتَ، فأنت تعرف ما ينتظرك.» قلتُ لها أخيرًا: «إذن، لن تنطقي بكلمةٍ عن مجيئي إلى هنا؟» قالت: «لن أفصح لأحد عن أي شيءٍ سوى ما أختار أن أُفصح عنه.» فقلت: «ستلتزمين الصمتَ بشأن المسألة الأخرى؟» قالت: «ما دمتَ ستلتزم الصمت.» وبذلك خرجتُ وانطلقتُ صوب البيت من طريق آخر. وفي اللحظة التي كنت فيها أغادر الغابة لأنعطف في الدرب الذي يقود إلى شارعنا سمعت رجلًا مقبلًا، فتواريت في بعض الشجيرات وراقبتُه حتى صار قريبًا مني. مرَّ بي وتابع المضيَّ نحو الكوخ، وعندئذٍ انسللتُ عائدًا وتلصصت من النافذة، ورأيته هناك، وكان الاثنان يتهامسان وهما جالسان إلى الطاولة. و… وكان هذا الرجل هو ابنَ أخي المرأة؛ بِيت، المحامي.»

رفع رئيس الشرطة يديه في ذهول، وكانت قد بدت على وجهه تعبيراتٌ مختلفة أثناء سرده.

هتف قائلًا: «ولكن … ولكننا كنا في داخل ذلك الكوخ وحوله معظمَ تلك الليلة … بعد ذلك!» واستطرد: «لم نرَه على الإطلاق. أعرف أنه كان من المفترض أن يأتيَ من لندن الليلة «التالية»، ولكن …»

قال كوذرستون، بإصرار: «أقول لك إنه كان هناك في «تلك» الليلة!» وأضاف: «أتظن أنني يمكن أن أُخطِئَه؟ حسنًا، عدتُ إلى البيت، وتعرف ما حدث بعد ذلك؛ تعرف ما قالته وكيف تصرَّفَت عندما صعدنا إلى هناك، وبالطبع لعبتُ دوري. ولكن … تلك القصاصة من الصحيفة التي أعطيتُها لك. كان آخر ما فعلتُه في تلك الليلة أنني قرأتها بعناية. إنها عمودٌ مقتطَع من إحدى صحف بلدة ووكينج منذ عدة أعوام؛ إنه متعلِّق بتحقيقٍ كانت هذه المرأةُ ذاتَ صلة به؛ ويبدو أنه يوجد دليلٌ ما على أنها تخلَّصَت من الرجل الذي كانت تعمل عنده بالسُّم. وأتعرف ما الذي أظنه، الآن؟ أظن أن هذه القصاصة أُرسِلَت إلى كايتلي، وظلَّ يُناكدها بها، أو أخذ يُهددها بها و… ما الأمر؟»

كان رئيس الشرطة قد نهض وكان يلتقطُ معطفه من المشجب.

قال: «أتعرف أن هذه المرأة ستُغادر البلدة غدًا؟» وأردف: «وأن ابن أخيها موجودٌ معها هناك، الآن؛ كان موجودًا هنا طيلةَ أسبوع؟ بالطبع، أفهم السبب في أنك أخبرتني بكل هذا، يا سيد كوذرستون؛ الآن وقد صارت مسألتك القديمة في ويلشستر معروفةً للجميع، للقاصي والداني، لم تعُد تكترث، ولا ترى أيَّ سببٍ للمزيد من السرية، أليس كذلك؟»

أجاب كوذرستون، بابتسامة متجهِّمة: «سببي أن أبيِّن لأهل هاي ماركت أنهم ليسوا فطنين جدًّا كما يتصوَّرون. لأنه من المحتمَل أن يكون كايتلي قد قُتِل على يد تلك المرأة، أو ابن أخيها، أو كليهما.»

قال رئيس الشرطة: «على أي حال، سأصعد إلى هناك ومعي اثنان من أفضل رجالي.» وأضاف: «لا وقتَ لدينا لنُضيعه إن كانا سيرحلان غدًا.»

قال كوذرستون: «سآتي معك.» انتظر، وأخذ يحدق في النار حتى ذهب رئيس الشرطة إلى مركز الشرطة الملاصق وعاد ليقولَ إنه ورجُلَيه جاهزان. وسأله، بينما كان الأربعة ينطلقون: «ما الذي تنوي فعله؟» واستطرد: «أن تقبضَ عليهما؟»

أجاب رئيس الشرطة: «أن أستجوبهما أولًا.» وتابع: «لن أدَعَهما يغيبان عن ناظِرَيَّ، على أي حال، بعدَ ما قلتَه لي؛ لأنني أتوقع أن تكون مُصيبًا في استنتاجاتك. ما الأمر؟» هكذا تساءل، عندما ناداه أحد رَجُلَيه اللذين كانا خلفه يتبعانه.

أشار الرجل عبر السوق إلى أبواب مركز الشرطة.

قال: «سيارتان توقَّفتا للتو هناك، يا سيدي» وأضاف: «انعطفتا توًا آتيتَين من طريق نوركاستر.»

ألقى رئيس الشرطة نظرةً سريعةً خلفه، ورأى أضواءً أمامية لسيارتين متوقفتَين بالقرب من بابه.

قال: «آه، حسنًا، سميث موجودٌ هناك.» واستطرد: «وإن كان أيُّ أحد يريدني، يعرف إلى أين أنا ذاهب. هيا، لأننا لا نعرف؛ فربما يكون هذان الاثنان قد رحلا بالفعل.»

ولكن كان يوجد ضوء رفيع يخرج من شقوق درفتَي نافذة الكوخ المنعزل على تلَّة شول، وهمس رئيس الشرطة قائلًا إنه من المؤكد أن أحدًا كان هناك ولا يزال مستيقظًا. أوقف مُرافقَيه خارج بوابة الحديقة والتفتَ إلى كوذرستون.

قال: «لا أدري إن كان من المستحسَن أن تُشاهد معنا أم لا.» وأضاف: «أظن أن أفضل خُطة ستكون أن أطرقَ الباب الأمامي وأسأل عن المرأة. أنتما الاثنان التفَّا، دون صوت، إلى الباب الخلفي، وانتبها لئلا يخرجَ أحدٌ من ذلك الطريق إلى الأراضي السبخة في الخلف؛ إن حاولَ أحدٌ الهرب إلى تلك الأراضي السبخة فسنفقد أثره إلى الأبعَدِ في ليلةٍ مظلمة كهذه. التفا، وعندما تسمعاني أطرُقُ الباب الأمامي، اطرُقا الباب الخلفي.»

تسلل الرجلان مبتعدَين وانعطفا عند زاوية الحديقة، وعبر حزام الأشجار الملاصق لها، وبرفقٍ رفع رئيس الشرطة مزلاج بوابة الحديقة.

قال: «ابقَ في الخلف، يا سيد كوذرستون، عندما أمضي إلى الباب.» واستطرد: «لا يمكن أبدًا أن تعرف … أهلًا، ما الأمر؟»

كان رجالٌ يصعدون عبر الغابة خلفهم، بهدوء، ولكن بسرعة. كان أحدهم، متقدمًا عن الباقين، يحمل مصباحَ عين ثور، وعلى ضوء المصباح المتأرجح تبيَّن أنه أحدُ الضباط التابعين لرئيس الشرطة. أبصر رئيسه وأقبل عليه.

قال: «السيد بريريتون هنا، يا سيدي، ومعه بعض السادة من نوركاستر.» وتابع: «يريدون رؤيتك على وجه الخصوص؛ أمر متعلق بهذا المكان؛ لذا أحضرتهم …»

في تلك اللحظة جلجلَ صوتُ طلقتَي المسدس وسط الصمت آتيًا من سكون الكوخ. وعندئذٍ اندفع رئيس الشرطة إلى الأمام، وهو يَصيح في الآخَرين، وبدأ يقرع الباب الأمامي، وبينما استجاب رجلاه بطَرْق مماثل على الباب الخلفي، نادى بأعلى صوته على الآنسة بِيت، مطالبًا إياها أن تفتح.

كان مالاليو هو من شَرَّع الباب أخيرًا وواجهَ الجمع المحتشد بالخارج. تراجع كلُّ الرجال الذين كانوا موجودين هناك للخلف في خوفٍ عندما رأَوا القنوط الباديَ على وجه الرجل المحاصَر. لكن مالاليو لم يتراجَع، وكانت يدُه ثابتةً بغرابةٍ وهو يُصوب مسدسه على شريكه ويُطلق عليه النار ليُرديَه صريعًا، وكان بالثبات نفسِه وهو يتراجعُ خطوةً إلى الوراء ويُدير المسدس ليُصوبه على نفسه ويُطلق الرصاص.

بعد لحظةٍ اختطف رئيس الشرطة مصباح عين الثور من الرجل التابع له، وتخطَّى جسد مالاليو المسجَّى صريعًا، ومضى إلى داخل الكوخ، وعاد فورًا وهو يرتعدُ من هول صدمة المنظر الذي أبصره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤