رجل عجوز مخرف!

التفت «أحمد» و«عثمان» حيث أشار الرجل، وشاهدا الداخل … كان رجلًا قصيرًا سمينًا، يتدحرج في مشيته، ضخم الرأس، واللحية، قد اختلط البياض والسواد في شعره، واتسخت ملابسه، وتورمت عيناه … وكانت له نظرات زائغة، دخل يترنَّح … وسرعان ما كان الرجال الثلاثة الجالسون قرب الباب يقفون، ويتحركون خلفه.

شاهد الرجل «أحمد» واقفًا، والنقود في يده فعرف أنه سيغادر المكان، فلم يتردد، واتجه إلى المائدة وجلس مكان «أحمد»، وقال بصوت أجش: إنني جائع وعطشان، ومُفلِس … من الذي سيدفع لي الحساب؟

رد «عثمان» على الفور: فليكن عشاؤك على حسابي.

الرجل: إنك شاب طيب، ولكنك غريب عن المكان … فماذا تفعل هنا؟

قال «عثمان»: في انتظار باخرة سوف أسافر عليها.

ضاقت عينا «جانسن» وهو يقول: ألا تخاف أن تركب بحر الشمال … إنه بحر مجنون. ضحك الجالسون الذين كانوا على المائدة المجاورة … كانوا يستمعون بشغف إلى حديث «جانسن»، وفي نفس الوقت كان الرجال الثلاثة الذين تبعوه يقفون على مقربة، كانوا يتظاهرون بالحديث معًا، ولكن «أحمد» و«عثمان» أدركا أنهما كانا يستمعان إلى ما يدور بين «جانسن» و«عثمان».

قال «عثمان»: سنمر مرورًا سريعًا في بحر الشمال، فنحن ذاهبان إلى «لندن».

جانسن: ألم تسمع عن قلعة الضباب؟ ألم يقل لك أحد إن «جانسن» هذا الذي يتحدث إليك يعرف مكانها … إن الناس لا تصدقني، لقد ظنوا أنني كبرتُ وخرِفْت، ولكن أنا «جانسن»، البحار العجوز أقول لك إن بحر الشمال بحر مجنون!

تدخَّل أحد الثلاثة الواقفين وقال ﻟ «جانسن»: لقد سمعت قصتك يا سيدي … وإنني أصدقك.

ضحك «جانسن» وهو يتناول شرابه، وصاح: هذا هو رجل عاقل، إنه يصدقني … دعني أصافحك أيها السيد.

قال الرجل: لماذا لا تأتي معي … إنني أريد أن أسمع قصتك كلها بعيدًا عن هذه الضجة.

زاد ضحك «جانسن» قائلًا: لعلك مخرج سينمائي أو كاتب روائي!

قال الرجل: إنك شديد الذكاء أيها البحار … إنني مخرج سينمائي فعلًا، وإذا أتيت معي فسوف نذهب إلى الاستوديو لتروي قصتك، وسوف يعرضها التليفزيون.

ظهر الجشع على وجه «جانسن» وهو يقول: وسوف تدفع لي … إنني لست نجمًا سينمائيًّا، ولكن الناس سوف يهتمون بقصتي.

قال الرجل: بالطبع سوف أدفع لك … إن وقتك له ثمن.

جانسن: إذن سوف آتي معك … فقط دعني أكمل عشائي الذي سيدفع ثمنه هذا الشاب الكريم.

كان «أحمد» و«عثمان» والجالسون جميعًا يتابعون الحوار، ولم يشك «أحمد» و«عثمان» أن الرجل يضحك من «جانسن»، وأنه لا علاقة له بالسينما أو التليفزيون، إنه فخ لاصطياد «جانسن»، ولا بد أن ما يعرفه يهم الرجال الثلاثة.

انهمك «جانسن» في الطعام، بينما أخذ بقية الناس يتناقشون في أعمالهم، وانتهى «جانسن» سريعًا … وكان «أحمد» و«عثمان» يتبادلان النظرات، وقد تفاهما على كل شيء … ولم يكد «جانسن» ينتهي من طعامه حتى دفع «عثمان» الحساب، وقال «جانسن»: شكرًا لك أيها الشاب ستشاهدني على شاشة التليفزيون وستسمع القصة كاملة.

أومأ «عثمان» برأسه موافقًا … وانطلق «جانسن» مع الرجال الثلاثة، وخلفهم من بعيد انطلق «أحمد» و«عثمان».

خرج الجميع إلى ظلام الليل والبرد، وكانت رائحة البحر تملأ الأنوف … وركب الرجال الأربعة سيارة، وتبعهم «أحمد» و«عثمان» في سيارة أخرى.

انطلقت السيارة الأولى وكانت من طراز «فولفو» وخلفها سيارة «أحمد» و«عثمان» وكانت من نفس الطراز … وقال «أحمد» وهو يقود السيارة: إنهم لن يدخلوا إلى المدينة، فهم يسيرون بجوار الشاطئ.

عثمان: هل تتوقع أن يقتلوه؟

أحمد: في الغالب نعم … ولكنهم سوف يستمعون إلى قصته أولًا، لأنهم بالطبع يريدون أن يعرفوا ماذا يعرف الرجل عنهم. ومن المؤكد أنها معلومات هامة، وإلا ما غامروا بالظهور أمام الناس بهذا الشكل.

أخذت السيارتان تبتعدان عن الأماكن المطروقة، وتكاثف الظلام وكانت السيارة الأولى تسير في شوارع قديمة موحشة، بعد امتداد الميناء. وعرف «أحمد» أنهم سيلاحظون أنه يتبعهم، فغامر بإطفاء نور السيارة، وأخذ يقودها بحذرٍ شديدٍ، مسترشدًا بضوء السيارة الأولى.

دارت السيارة بعيدًا عن الميناء، وتوغلت في منطقة مظلمة، امتلأت ببقايا المخازن القديمة والأسوار المنهارة، ثم توقفت أمام أحد المخازن المهجورة … وأسرع «أحمد» بإيقاف السيارة بعيدًا، ثم نزل هو و«عثمان»، وأخذا يتقدمان في الظلام مسرعَيْن، تحت ستار الجدران القديمة حتى اقتربا من المخزن، وشاهدا بطارية مضاءة، وصوت الرجال يتحدثون، فاقتربا حتى أصبحا في إمكانهما سماع ما يدور من الأحاديث، كان «جانسن» يصيح بانفعال: ماذا تفعلون بي هنا … إن هذا المكان لا يمكن أن يكون استديو للتليفزيون!

قال أحد الرجال: لا ترفع صوتك أيها العجوز المُخرِّف لا بد أن نسمع قصتك أولًا، لنعرف إذا كانت تصلح للتسجيل أم لا.

جانسن: لماذا لم تسمعوها في المقهى؟

ضحك أحد الرجال وقال: إننا نريد أن نسمع القصة في عرض خاص.

أخذ «أحمد» و«عثمان» يتحركان بحذر شديد، حتى تمكنا من العثور على فتحة في الجدار، تسمح لهما بمشاهدة ما يحدث، كانت هناك مجموعة من المقاعد القديمة المكسرة ومكتب بثلاثة أرجل، وكان رجلان من الثلاثة يقومان بإعداد بعض المقاعد للجلوس، وقد أضاء الثالث بطارية قوية تكشف ما في المكان … أما «جانسن» فقد كان يقف ساكنًا يرقب ما حوله في ذهول.

انتهى الرجلان من إعداد المكان، وأجلسوا «جانسن» في مقعد وأحاطوا به … وقال أحدهم: والآن قل لنا الحكاية!

جانسن: إنني لن أقول شيئًا … إنكم غررتم بي.

تقدَّم أحد الرجال ولطم «جانسن» لطمةً قويةً على وجهه، وقال بقسوة: تحدث أيها الأبله، إننا لم نأتِ هنا لنتبادل الأحاديث الودية، ونسمع اعتذارك عن الحديث … هيا!

صاح «جانسن»: أنتم تضربونني! سوف أبلغ الشرطة … إننا في بلد ديمقراطي، ومن حقي أن أطلب الحماية.

تقدَّم الرجل مرة أخرى ورفع يده، فانكمش «جانسن» في مقعده … وصاح الرجل: لا تُضيِّع وقتنا أيها الأبله … إن وراءنا مشاكل أهم من حديثك.

وضح على وجه «جانسن» أنه لن يستطيع المقاومة أكثر، وأخذ يمسح فمه بظاهر يده ثم قال: ماذا تريدون أن تسمعوا؟

قال أحد الرجال: أغنية من أغاني الربيع!

صاح أطول الثلاثة: ليس هذا وقت الهزار يا «كلوندنج»، إن السفينة في انتظارنا … ولولا الخوف من لفت الأنظار إلينا لأخذناه معنا.

ثم التفت إلى «جانسن» وصاح: هيا … قل لنا ما كنت تردده في المقاهي عن قلعة الضباب وما رأيته هناك.

بلل «جانسن» شفتيه بلسانه ثم قال: حدث ذلك منذ شهرين تقريبًا … كنت قد خرجت في قارب صيد مع بعض الزملاء في محاولة للصيد، ولكن الجو فاجأنا، واستطاعت العاصفة أن تقلب القارب وسقطنا جميعًا في الماء … ولحسن الحظ كانت هناك سفينة مارة استطاعت التقاط الجميع، ولكن العاصفة طوحت بي بعيدًا، وكنت أصرخ كي ينتشلوني، ولكن صوتي ضاع في العاصفة.

وعاد «جانسن» إلى لَعْق شفتيه، ثم قال: ووجدت نفسي بعيدًا وقد أخذتْ أنوارُ السفينة تختفي في الظلام، فاستسلمت لمصيري، وأخذت أتذكر ما أعرفه عن بحر الشمال، وعرفت أنني لست بعيدًا عن جزر «شتلند».

تبادل الرجال الثلاثة النظرات، وضغط «عثمان» على ذراع «أحمد» فقد بدا واضحًا أن الرجال الثلاثة يقدرون أهمية ما يقوله «جانسن» العجوز.

ومضى «جانسن» يقول: وأخذت أسبح بقدر ما أستطيع، ولحسن الحظ سكنت العاصفة بعد قليل، وانبلج ضوء الفجر … وكان تقديري صحيحًا، فقد كانت جزر «شتلند» على مسافة قريبة مني … وأخذت أسبح ولكن عندما أخذت أقترب من الشاطئ ازدادت قوة التيارات وجذبتني بعيدًا … وكانت قواي قد خارت تمامًا فتركت نفسي للتيارات، تحملني حيث تشاء … وبعد نحو ساعتين وجدت نفسي قريبًا من جزيرة صغيرة تائهة في بحر الشمال … وعلى هذه الجزيرة المهجورة شاهدت أغرب منظر في حياتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤