مقدمة
«السذاجة غالبًا ما تكون ذريعة لمَن بأيديهم السلطة. أمَّا لدى الخاضعين لها، فالسذاجة دائمًا سقطة.»
طلاء وردي أم أزرق؟ أشكال حيوانات أم أشكال مجردة؟ غرفة مكتظَّة بمشتملاتها أم بسيطة؟
تكاد الآمال، والمزالق، والتوقعات، والمخاوف المتنوعة المتعلقة بالجانب البصري المنظور في حياتنا؛ تتجلَّى في أوضح صُورها في الكتب الإرشادية للتعامل مع الأطفال الرُّضَّع، وكتب تربية الأبناء في الغرب. فهذه الكتب — وفي الحقيقة كل نصائح التربية، وخاصةً في الولايات المتحدة — هي أبلغُ تمثيلٍ لأي مجتمع، وتُظهِر بدقَّة ضغوطه، وأحلامه، وتطلُّعاته، ومخاوفه التي تكاد لا تمتُّ بصلة إلى الأطفال أنفُسهم، بل هي ذاتُ صلةٍ وثيقة بالكبار المحيطين بهم.
للبيئات البصرية أهمية كبيرة حقًّا في كتب تربية الأطفال المعاصرة. فالسماح للطفل بامتلاكِ هاتفٍ محمول أو عدم السماح له بذلك، وعدد دُمى الحيوانات المحشوَّة التي ينبغي أن يحصل عليها، والألوان، والأشكال؛ كلها رموزٌ تبعث برسالة مُفادُها:
•••
وقبل هذا كله، أستطيع أن أجعله مثلي.
فيما يتعلَّق بحديثي الولادة، يُشجَّع الآباء على خلق التوازن المثالي بين الألوان الزاهية والجذَّابة، ولكن ليس بشكلٍ مُفرط يزعج الطفل ويمنعه من النوم. ومع نمو الأطفال، يُنصَح الآباء بأن الأبناء في مرحلة الطفولة المبكِّرة يحتاجون إلى ألوان جريئة؛ فللَّونَين الأزرق والأخضر القدرة على تهدئتهم، بينما يحفِّز اللونان الأحمر والبرتقالي الخيال، غير أنهما ربما يثيران الاضطراب أيضًا. الأبيض من الألوان الباعثة على الهدوء، ولكنه يبدو شديدَ الارتباط بالمستشفيات والعيادات الطبية. ويمكِن أن تكون بعض اللمسات الإضافية مفيدة، ولكن حذارِ الإفراط فيها!
ثم تأتي مسألة النوع الجنسي. فقد ارتبط اللون الأزرق في الثقافة التجارية الحديثة بالذكور والطاقة الذكورية، بينما ارتبط اللون الوردي بالفتيات والأنوثة. غالبًا ما يكون هذا أحد أول قرارات المجتمع والعائلة التي يتَّخذها الآباء الجُدد: هل يُذعِنون لهذه المخططات البصرية التقليدية الجنسانية، أم يتجنَّبونها بألوانٍ يُفترَض أنها محايدة مثل الأخضر والأصفر؟ ماذا لو قدَّم الأصدقاء أو العائلة لأطفالهم ملابس أو ألعابًا أو صورًا ذات دلالاتٍ جنسانية معينة لتعليقها على الجدران؟ ربما يُشعِر ذلك الطفل بالأذى أو العقاب، ويدمِّر ثقته بنفسه، أو ربما لا يعني له شيئًا، وسرعان ما ينساه. بالتأكيد ثَمَّة مسائل مطروحة أكبر وأكثر إلحاحًا، ولكن الأمر يتعلق بنمو طفلك وهُويَّته ورفاهته. فمن شأن هذه اللحظات الحاسمة والجوهرية أن تضعه في أول طريق الألم. تظل الثقافة البصرية من الأمور التافهة والطائشة والهامشية، وربما العرَضية، إلى أن تصبح لها آثارٌ مغيِّرة لمجرى الحياة، وصادمة وعنيفة ومميتة.
مع نمو الأبناء وانتقالهم من مرحلة الطفولة المبكِّرة إلى مرحلة الطفولة المتأخرة ثم المراهَقة، تُزيَّن كل مرحلة بالألوان والتصاميم، وهو ما يغيِّر البيئة البصرية المحيطة بهم. ينتقل الأطفال الأكبر سنًّا من ألوان الباستيل إلى الألوان الأساسية. لماذا؟ مَن وضَع هذه القواعد البصرية؟ ومتى تحديدًا ينضج الطفل ليتناسب معه اللون الكحلي أو البني المحمر؟ ما المنطق وراء هذا التحوُّل؟ وكيف يعرف الآباء متى يُقدِمون عليه؟ أَلَا توجد شواغل أكبر؟ وبالمثل، قلَّما نرى أطفالًا رُضَّعًا يرتدون ملابس سوداء بالكامل، أو يُوضَعون في أسِرَّة سوداء، أو يُغطَّون ببطانيات سوداء. في الثقافات الغربية، سيبدو هذا الأمر شنيعًا، ويرتبط كثيرًا بالموت والظلام والخصائص الأخرى التي تُعَد غير متوافقة مع ما يجب أن يكون عليه الأطفال.
ربما تكون الأدلة العلمية حول ادِّعاءات تأثير الثقافة البصرية في نمو الطفل خادعة، غير أن الكثير من الوقت والمال والطاقة والحماس يُبذَل — وقد بُذِل على مَر التاريخ — من أجل تصميم البيئات البصرية المثالية كي ينشأ الأطفال ويشبُّوا على النحو الذي يرغب فيه آباؤهم. يكشف هذا الانشغال بالأمر عن أملٍ كبير وقلقٍ عميق تجاهَ قوة الصور البصرية في حياتنا. هناك أمثلة لا حصر لها لاستخدام العناصر البصرية للتأثير، والسرد، والإخفاء، والكشف. وبينما تُعَد بيئة الطفل لتُظهِر قِيَم الآباء وتعكس هُويَّاتهم، تُنتقى وتُقيَّم ثقافتنا البصرية الأكبر لتحقيق النتائج المرجوَّة.
يكثر استخدام صيغة المبني للمجهول في النص. مَن ينتقي ويُقيِّم تلك «الثقافة البصرية الأكبر»؟ وما هي تحديدًا النتائج المَرجوَّة؟
تحيط بنا الصور المرئية من كل اتجاه؛ بعضها ننشده، والغالبية مفروضة علينا. وتخلق كل هذه العناصر المرئية، سواء المضافة أو المحذوفة، بيئةً بصرية تتحوَّل فيها كل القِطَع الصغيرة التي نراها (الألوان، والحيوانات، والقمر، وناطحات السحاب، ولافتات التوقف، والنشرات السياسية، وكيم كارداشيان ويست) إلى عناصر (١) مفهومة، و(٢) طبيعية ومألوفة وواضحة، و(٣) محدَّدة ويسهل الوصول إليها. كيف يحدث هذا؟ ومن ثَم كيف نعيش ونتحرك داخل بيئتنا البصرية؟ كيف نتعامل مع الأشياء «الجديدة»؟ وكيف ندمجها في قاموس الصور التي «نعرفها» بالفعل؟
ربما يرى المتفائلون الثقافة البصرية وسيلةً لتشكيل هُويَّات فردية وانتماء جماعي؛ طريقةً لتحقيق البهجة أو التوازن، والسلام والأمل. ربما يرَون المحيط البصري متجرًا كبيرًا متعدد الأقسام هم زبائنه، حيث يتمتعون بالحرية في اختيار العناصر التي تعكس ذواتهم وقِيَمهم على أفضل نحو. في هذا السيناريو، نحن دائمًا أصحاب القرار، ودائمًا المتحكِّمون، ودائمًا على دراية بالخيارات، وقادرون على إدارة بيئتنا واستجاباتنا لها. نحن وكلاءُ أحرار نتَّخذ القرارات. إننا، مجتمِعين، فريقٌ بصري تعاوني، نتبادل الصور فيما بيننا، ونرفض ونقبَل، وبذلك نكون القيِّمين على حياتنا.
ربما يرى المتفائل أيضًا الثقافة البصرية فرصةً لغرس الأفكار الإيجابية والإبداع في العالم، والحدِّ من السلوكيات المعادية للمجتمع. هذا بالضبط ما يحاول الآباء فعله في البيئة البصرية للطفل الرضيع؛ أن يجعلوها مكانًا يستطيع أن ينمو فيه بالأساليب التي يقدِّرها الآباء ويألفونها. وبالمثل، تُصمَّم حديقة يابانية لإحداثِ انطباعٍ بصري محدد، وليس هذا بناءً على اختيارات سطحية، أو عشوائية، أو لمجرد إرضاء المُشاهد؛ فكل قرار يتعلق بالمواد والترتيب في المكان يُتَّخَذ بهدف خلق تجربة كلية غامرة تولِّد أفكارًا وعلاقات، ومشاعرَ محددة حول الطبيعة والذات والعلاقة المتبادلة بين الأشياء والموجودات والمكان. تحمل جميع هذه القرارات معاني مختلفة إذا كنا نفكر في حديقة تعود إلى فترة إيدو (١٦٠٣–١٨٦٨)، أو حديقة في مركز تجاري في طوكيو المعاصرة، أو حديقة في حي عصري في برلين. الصور البصرية قابلة للتحوُّل وإعادة التشكُّل بطُرقٍ مثمِرة وملهمة؛ فالثقافة البصرية تُفسِح المجال للاحتمالات، والسلام، والمجتمع، والإبداع.
من وجهة النظر المتشائمة، يمكِن النظر إلى الثقافة البصرية على أنها حديقة تعجُّ بالكوارث واليأس. كيف يمكِننا تجنُّب الشعور بالإرهاق والانجراف تحت وطأة كل هذا؟ كيف نمتنع عن الذعر والخوف من التكنولوجيا والتغيير، بينما نتصدَّى بقوة وإصرارٍ — وحتى بلا رحمة — لانهيار المناخ، وعدم المساواة الهيكلية، والمَظالم المتراكمة في لحظتنا التاريخية هذه؟ كيف نقاوم تلاعب الدول، والمصالح التجارية العالمية، والجهات الفاعلة القوية الأخرى التي تسعى إلى السيطرة على محيطنا البصري؟ كيف ننتقي بيئاتنا البصرية الخاصة بنا، ونسمح في الوقت نفسِه للآخرين باختيار أجوائهم الخاصة؟ متى تكون المشاهدة مسئولية أخلاقية؟ ومتى يكون من الأخلاق أن نَصرِف أبصارنا ونرفض المشاهَدة؟
هذا الكتاب مُصمَّم لتوفير مساحة وسياق وتاريخ وأمثلة وتحفيزٍ للتفكير لدى القارئ عندما يواجه هذه التساؤلات. ما أطمح في أن يقدِّمه هذا الكتاب هو مسارات، وانتقادات، وبعض الأدوات، وشيء من الخوف، وشيء أكبر قليلًا من التعزية، وزخم أكبر بكثير لقدرة المرء على النظر والرؤية بطريقة مختلفة. لم تفقد البيئة البصرية أهميتها على مدار التاريخ، إلا أن التقنية، لا شكَّ، قد رفعَت من قِيمتها على الصعيد العالمي. فالآن، تسلك الصور البصرية مساراتٍ مختلفة جذريًّا، وعلى الرغم من اعتقادي بأن هذا لم يغيِّر في جوهرها، فقد غيَّر في مدى انتشار الثقافة البصرية، وإتاحتها، وسرعة تأثيرها. بعبارة أخرى، الثقافة البصرية ليست مجرد سِمة مهمة من سِمات الحياة المعاصرة، بل هي الثقافة «الأهم» التي يجب علينا التفاعل معها. نحن مجبَرون على رؤية المزيد مع امتلاكنا أدواتٍ أقلَّ ووقتًا أقلَّ للتفكير فيما نراه. إذا لم نستطع إيقاف وتيرة تدفُّق الصور، وإذا لم نتمكَّن من إخراج أنفسنا من نمط الحياة المعاصرة، فسيتعيَّن علينا حينئذٍ أن نخلق مساحاتٍ للتفكير والنقاش، وأن نتقبَّل هذا العالم البصري. وهذا الكتاب أداة لذلك المشروع.
الثقافة البصرية ليست مجرد سِمة مهمة من سِمات الحياة المعاصرة، بل هي الثقافة «الأهم» التي يجب علينا التفاعل معها.
بعبارة أخرى، يهدف هذا الكتاب إلى المساهَمة في إدارة الصور البصرية ومواجَهة آثارها أكثر من الاستقرار على تعريفاتٍ ثابتة لماهيَّاتها. إذن، بينما سيتطرَّق الكتاب إلى تعريفاتٍ مُتنازَع عليها لأمورٍ مثل «الفن» و«القِيمة» و«الذوق»، فإنه لن يستثمر الكثير من الجهد في تحليل تلك الفئات أو ترسيخها. عوضًا عن ذلك، سنهتم بالفائدة الأكبر والإمكانية الأكبر للتجريب التي يمكِن أن نجدها في إشراك أصوات أكثر. أريد أن نكون جميعًا مشاهدين أكثر تفاعلًا، وأن نفهم كيف تُشكِّل مواقعنا الاجتماعية والثقافية والجغرافية والزمانية طُرقَ رؤيتنا. المزيد من التفاعل يعني مواجهةً أكثر جرأةً لأخلاقيات النظر والرؤية، مع البقاء منفتِحين، في الوقت نفسه، على التنوُّع البصري، وعدم الارتياح، والبهجة المفاجئة؛ كي نشعر بكل ما توفِّره الصور البصرية من متعة وحزن وجمال.
ولطالما كان هناك صراعٌ عميق حول معنى الصور، وحول سُلطتها وسُلطة منتِجيها ومستهلكيها، وحول مَن يُرى وبأي طريقة. من ناحية أخرى، لطالما سادت ثقةٌ راسخة بقدرة الصور البصرية على أن تكون سبيلًا إلى الانتماء والمعرفة والسُّلطة، وهي ثقة غذَّتها — في بعض الأحيان تدريجيًّا، وفي أحيان أخرى عبر حملات واسعة النطاق — الحكومات، والسُّلطات الدينية، والمَلكيات، ووسائل الإعلام الجماهيرية، والفنَّانون، والكِيانات التجارية، ومختلِف المؤسسات الثقافية العامة والخاصة. لم يؤدِّ التقدم التقني إلا إلى تعزيز هذه اللغة البصرية، حيث لعب كلٌّ من التصوير الفوتوغرافي والأفلام والأقمار الاصطناعية والأشعة السينية والتصوير المجهري دورًا في دعم النظريات والأفكار العلمية، وهو ما عزَّز فكرة أن الصور البصرية مصدرُ علمٍ حقيقي وموثوق به، وأن العلم بدَوْره يؤكد صِدقيَّة الصور البصرية. وإذا كان يُنظر إلى الصور البصرية باعتبارها سبيلًا إلى الحقيقة والمعرفة، فإنها كثيرًا ما ترتبط في إدراكنا بكونها طريقًا محفوفًا بالمخاطر، يؤدي إلى الخداع والأكاذيب والتزوير.
يدعو الكثيرون إلى إتقان الثقافة البصرية والتحكُّم في المجال البصري، لكنَّ الرقابة، وتقييدَ زمن استخدام الشاشات، وحظرَ ألعاب الفيديو العنيفة؛ ليست الحلول التي ننادي بها هنا. في هذا الكتاب، سنضطلع، أنا والعديد من الأصوات الأكاديمية والفنية، بدراسة رغباتنا واحتياجاتنا البصرية، ورغبات الآخرين واحتياجاتهم عبر مختلِف الأزمنة والأماكن لفهم الوحشية، والقوة، والملذَّات الفردية، والمنفعة العامة المحتمَلة التي تنطوي عليها الصور البصرية. سنستكشِف كيف يُشكَّل الناس ويُراقَبون عن طريق الثقافة البصرية، عبر الصور التي نبحث عنها ونختار رؤيتها، وتلك التي ليس لدينا سيطرة عليها، وتلك التي يُحظَر علينا الوصول إليها.
الثقافة البصرية ليست محايِدة إطلاقًا، ومن ثَم فهي ليست بلا قِيمة البتة. الثقافة البصرية قوة. فبحسب رؤية المؤرخ ميشيل رولف ترويو، لا يمكِن لأيٍّ منا أن يكون ساذجًا ويتَّكل على الأمل في تحقيق الأفضل فيما يخص الثقافة البصرية. فالصور البصرية دائمًا ما تحمل معنًى ما.
الثقافة البصرية ليست محايِدة إطلاقًا، ومن ثَم فهي ليست بلا قِيمة البتة. الثقافة البصرية قوة.
هذه هي المهمة التي يضطلع بها هذا الكتاب. كيف يمكِننا تشكيل ثقافة بصرية أفضل، وبناء مستقبل أفضل؟ كيف يمكِننا تهيئة أجواءٍ بصرية يمكِن لمعظم الناس العيش فيها معظمَ الوقت؟ هل تستطيع الثقافة البصرية أن تنقذنا من أنفسنا؟ مَن نقصد ﺑ «نحن» و«أنفسنا» والذات المستقلَّة عندما نقول «إننا» عُرضة للخطر في هذه المعادَلة؟
لحُسن الحظ، طرح العديد من العلماء والفنانين والنقَّاد البارعين، في مواجَهة هذه الأسئلة، اقتراحاتٍ وحلولًا وإمكانات نناقش بعضها في هذا الكتاب الذي يتيح فرصة للسير معًا، والتفكير في المآسي والمخاوف، وكذلك في الإمكانات المُلهِمة للثقافة البصرية. آمل مع طي الصفحات الأخيرة في هذا الكتاب، أن تتحسَّن رؤيتنا بالمعنى الحَرفي للكلمة، ليس فقط عن طريق زيادة اهتمامنا بالتفاصيل، أو عن طريق المزيد من المعلومات والحقائق، ولكن من خلال الثقة في المهمة، وزيادة الإعجاب والاحترام لقوَّة الصورة البصرية في تشكيل العدالة والتاريخ والقِيَم. آمل أيضًا أن نتمكَّن من التخلي عن السذاجة، وأن نتبنَّى سُلطتنا الخاصة، وأن نُفعِّل قوة الصورة البصرية.
الخطة التي اتَّبعتها في تقسيم هذا الكتاب هدفها أن يكون بمنزلة خريطة لاستكشاف قضايا الثقافة البصرية الملتوية والمعقَّدة. لن نبدأ بالحديث عن رسوم الكهوف وننتهي بالفن المعاصر، وليس هدفنا رؤية بعض الأشياء على أنها «قديمة»، وبعضها الآخر على أنها «حديثة». عوضًا عن ذلك، تشجِّع فصول الكتاب الأربعة على التفكير في الصور البصرية باعتبارها مجموعاتٍ من الآليات والاستراتيجيات التي يوظِّفها البشر للإجابة عن أسئلة «ما»، و«مَن» و«أين» و«متى» المتعلِّقة بوجودنا.
يُستهل كلُّ فصل في هذا الكتاب بما أطلقت عليه عنوان «حالة دراسة بصرية». تصِف حالات الدراسة البصرية هذه واقعةً أو حادثة مع إعطائها تأويلاتٍ متعددة ومتنافسة في كثيرٍ من الأحيان، باعتبار ذلك تقدمة لموضوع الفصل. تتيح لك حالة الدراسة البصرية فرصة تحديد رغباتك ومفاهيمك المسبقة حول قضية أو أشياء معينة، وهو ما يشجعك على التفكير مليًّا في موقفك، وأولوياتك، وشعورك الغريزي تجاهَ قضيةٍ ما، ومن ثَم النظر فيما إذا كانت أفكارك ومشاعرك قد تغيَّرت بحلول نهاية الفصل. ليس الهدف بالضرورة هو التغيير، بل المشارَكة. تتطلَّب الثقافة البصرية الانتباه. ويقدِّم هذا الكتاب أدواتٍ تساعدك على النظر بانتباه نقدي، وإيجادِ مسارٍ يوصِّلك إلى ما تريده أو تحتاج إليه من الثقافة البصرية.
يتناول الفصل الأول، أسئلة تبدأ بأداة الاستفهام «ما»، من قبيل: ما الثقافة البصرية؟ ما الأسئلة والأفكار التي تدفعنا إلى التعامل بالكيفية التي نتعامل بها مع الصور البصرية؟ ما الذي نريده حقًّا من التفكير في الثقافة البصرية؟ ما الإمكانات والمخاطر الكامنة التي تتربَّص بنا ونحن نتعامل مع الثقافة البصرية تعاملًا نقديًّا؟ يريد الكثير من الناس أمورًا كثيرة من الأشياء المرئية، وبالمقابل تريد الأشياء المرئية أمورًا. الفصل الذي يضع «ما» عنوانًا له يبحث في كيفية تكوين الصور البصرية بحيث تصبح مصدرًا للمعرفة، وفي ماهية التوترات الناتجة عن ذلك، وفي الإمكانات التي قد تنطوي عليها عملية التفكير في الثقافة البصرية.
لطالما كان لموقع المرء في العالم أهمية بالغة فيما يراه. لذلك يدرس الفصل الثاني الذي يحمل «أين» عنوانًا له مفهومَ المكان والسياق فيما يتعلق بثقافتنا البصرية، وبيئتنا البصرية، وأجوائنا البصرية. ما الذي يُسمح لنا برؤيته؟ وأين يُسمح لنا بذلك؟ ما الذي يدخل في إطار الثقافة البصرية؟ وما الذي لا تتضمَّنه؟ في مواجهة هذه الأسئلة، نتناول أفكارًا حول الفن، وتاريخ المتاحف والغرض منها، والقوى المستثمِرة في الحفاظ على ما يقع داخل إطار الثقافة البصرية وخارجه. والواقع أن المشكلة الأعمق ربما تتمثَّل في عدم وجود تلك المساحة الداخلية أو الخارجية. فربما لا تكون الثقافة البصرية هنا أو هناك، ولكن تتزايد أهمية معرفتنا لموقعنا.
يتناول الفصل الثالث، «مَن»، جسم الإنسان، وكيف كان لمختلف الأجسام والهُويَّات حضورٌ أو غياب في الثقافة البصرية على مَر التاريخ وفي الوقت الحاضر. والأكثر تعقيدًا هو السؤال عمَّا إذا كان في مقدور أي جسد أن يتجنَّب المشاركة في منظومة الثقافة البصرية. «مَن» الذي ننظر إليه، وماذا نرى؟ هل توجد طريقة لرؤية العِرق، والنوع الجنسي، والتوجُّه الجنسي، والقدرات، وجميع الطرق الأخرى التي تُصنَّف بها أجسادنا من جديد، أم أن الثقافة البصرية مجرد حلقة مفرغة من الاغتراب والظلم؟
ينقلنا الفصل الأخير، «متى»، إلى كيفية رؤيتنا للتغيير الزمني الذي تنطوي عليه الطبيعة، والمشهد الطبيعي، والبيئة. ظلَّ هناك هوسٌ لدى الرسَّامين والمبدعين بفكرة خلْق عالَم بصري ثابت قابل للفهم، بل حاولوا أيضًا تمثيل الزمن بصريًّا. نظن أننا نصوِّر المكان، لكننا في الحقيقة نصوِّر الزمان. فالمحيطات، والحيوانات، والفضاء الخارجي، كلها رُسمت وأُعِيد رسمها، وتخيُّلها، وتصنيفها، وتمثيلها بصريًّا على نحوٍ قابل للقياس الكمي، ويتسنَّى ذلك غالبًا بفصلها عن سياقها الزمني، وتقديمها في حالة من التجريد الزمني. لكن يبدو أن كل هذا الاهتمام الكبير يتعارض مع ما رجَّحه الكثيرون من عجزنا الحالي عن تقديم تناولٍ بصري واضح وقوي لقضايا زماننا، مثل تغيُّر المناخ والانقراض والتلوث وغيرها من الأدلة على الدمار البيئي. ماذا لو عجزنا عن توجيه الثقافة البصرية إلى مواجهة الأحداث الأكثر تغييرًا في مسيرة البشرية؟