خاتمة

«لا أهتم بالنجوم القُطبية بقدر اهتمامي بالكوكبات، وبالمساحات المُظلِمة بين الأضواء.»

كايتلين هوروكس1
تُعَد الصورة الشخصية لدانييل وارد (١٧٦٥-١٧٦٧، متحف الفنون الزخرفية الجنوبية المبكرة، وينستون-سالم) نموذجًا عامًّا إلى حدٍّ كبير للصور الشخصية في القرن الثامن عشر، حيث تصوِّر طفلًا أبيض ثريًّا في جنوب أمريكا، يرتدي الحرير الفاخر، وإحدى يدَيه تستند إلى كلبه المخلِص، والأخرى تشير إلى منزله في المزرعة، وهي مصدر دخله الحالي والمستقبلي. بالتأكيد كانت هذه المزرعة تُدار بواسطة أشخاص مُستعبَدين، وربما رأى أجيالٌ منهم هذه الصورة الشخصية التي تُصوِّر سلفهم معلَّقةً على الجدران. قد يكون ذلك نهاية قصة الصورة؛ ربما كانت لتجد طريقها إلى متحف أو دار مزادات، أو الأرجح أن تُعلَّق فوق مِدفأة، أو تُخبَّأ في عُلية أحد المنازل. ولكن، كما تروي المؤرخة الفنية جينيفر فان هورن، أخذت الصورة في أثناء الحرب الأهلية منعطفًا آخَر عن هذا المستقبل المضجر.2 فقد انتزع شخصٌ مُستعبَد الصورةَ من جدار البيت، وأخذها إلى منزله، وغطَّاها بالجرائد ليُعيد استخدامها كحاجِبة لنار مدفأته.
بهذه البساطة، تحوَّلت الصورة إلى شيء آخر، وأصبحت تحمل معنًى مختلفًا، وتغيَّرت. تلك الأفعال التي تمثَّلت في أخذ اللوحة، وتغطيتها بجريدة (اعتبرها البيض في ذلك الوقت شيئًا خطيرًا في أيدي الأشخاص المستعبَدين خوفًا من أن يستخدموها لتناقل المعلومات، أو لمعرفة الحقائق السياسية والفرص المتاحة)، وتحويلها إلى عنصرٍ منزلي مفيد، ومريح، وزخرفي، غيَّرت معناها. كما تقول فان هورن في إشارة بعيدة النظر، إنه من خلال هذا التحوُّل: «أقدَم المُستعبَدون على محو أو إعادة كتابة الرسائل المقصودة من اللوحة التي كانت ترمز إلى هيمنة البيض وقوتهم.»3 فما كان في يومٍ ما رمزًا للعنف والقهر أصبح مصدرًا للراحة والحماية للجسد الأسود والأسرة السوداء.

بعبارة أخرى، انتقلت اللوحة من كونها نوعًا من السلاح إلى نوعٍ آخَر. ومن ثَم، حتى عندما أخذت القصة منعطفًا آخَر — عندما استرجعت العائلة البيضاء الصورة، ونظَّفتها وتبرَّعت بها لأحد المتاحف لتأخذ مكانها بين رموز النخبة البيضاء وثرواتهم الموروثة — لم يَعُد في الإمكان إعادة اللوحة إلى رسالتها الأصلية. لقد اكتسبَت معاني جديدة وطرقًا جديدة للتأثير في العالم. كانت قد صُمِّمت لتمثيل وتطبيع بنية قوة معيَّنة، لكنها الآن ستظل تمثِّل هشاشة تلك القوة وهشاشة البياض. إنها ترمز إلى قوة الأشخاص والأشياء البصرية في تغيير السرديات، وإعادة ترتيب السلطة، وتغيير الرؤية.

من السهل جدًّا أن نشعر بأن الصور تحيط بنا من كل جانب. قد تصبح الأجواء البصرية خانقة في كثيرٍ من الأحيان، حيث يتنافس الكثير والقليل من الأشياء ذات الأهمية على جذب انتباهنا. أحد الحلول لهذا الزخم هو تبني استراتيجية العزلة، أو التوقف، أو محاوَلة محو السرد. في الحقيقة، قد يكون لهذه الأيديولوجية في الإبطاء، أو التوقف، أو قطع السردية فوائد واضحة، فإذا توقَّفنا عن محاولة إضفاء المعاني والنوايا على الأشياء أو التمثيلات، فقد نصبح أكثر حضورًا في اللحظة. لا تحاوِل التفسير، بعبارة أخرى، كُن فحسب.

لكنني آمل أن يكون هذا الكتاب أقنعك بأنه ليس في مقدورنا أن نكون سلبيِّين أمام الثقافة البصرية، ولا يمكِننا محو السرديات في عوالمنا البصرية؛ لا يمكِننا ببساطة أن نكون فحسب. يمكِننا أن نترك الأمور تحدث لنا، لكن لن يتغير شيء، لن يتحسَّن شيء، ولن يبقى شيء. نحن في حاجة إلى إنشاء سرديات، والاستماع بعمقٍ إلى القصص التي ترويها على مَسامعنا الثقافة البصرية. نحن بالتأكيد في حاجةٍ إلى أن نبقى حاضرين، وأن نكافح، وأن نرى التغيير البصري، وأن نتغيَّر معه.

في الواقع، تتوسَّع مفاهيم الرؤية نفسها مع الأبحاث والنظريات الجديدة المتعلقة بعلم الجمال العصبي، وتاريخ الفن العصبي، وأخلاقيات علم الأعصاب. ظهرَت هذه المجالات الجديدة من الدراسة بفضل التطور المتزايد في تقنيات تصوير الدماغ. ومع الفهم الأكثر تقدُّمًا لكيفية عمل الدماغ والعينَين معًا، تظهر أسئلة جديدة حول الرؤية. وينطبق هذا الأمر أيضًا على الأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي. سيغيِّر علم الأعصاب قواعد اللعبة في الثقافة البصرية، لا شك في ذلك.4 هناك مساحة كبيرة لهذا الكم الجديد من المعرفة حول كيفية الرؤية، ولماذا نرى أو لا نرى، إلى درجةِ أن علم الأعصاب سيدفعنا إلى طرح أسئلة جديدة، وكذلك الانتباه إلى المشكلات الجديدة. ولكن انسجامًا مع لغة كايتلين هوروكس، فإنه في حين سيساعدنا علم الأحياء العصبي في فَهم النجوم القُطبية، تظل الثقافة البصرية دائمًا تتعلَّق بالكوكبات والمساحات المُظلِمة. ما يمكِننا «نحن» رؤيته، أو ما لن نراه جسديًّا وبيولوجيًّا سيحتاج إلى مواجَهة الكيفية التي تتغيَّر بها الرؤية وتتحوَّل عندما تصطدم بأرض الواقع.

الممارسة هي ما نحتاج إليه، التكرار المستمر للتفكير بعمقٍ حول جميع الصور والأجواء البصرية التي تحيط بنا. يجب علينا جميعًا أن نأخذ الثقافة البصرية على محمل الجد أكثر، نحتاج إلى التفاعل بشكلٍ أسرع، وأن نكون يقِظين ومنفتحين، ولكن بحذرٍ في الوقت نفسه. يجب أن نتساءل طوال الوقت: مَن المستفيد من الصور؟ وكيف؟ باختصارٍ، يجب أن نفكر باستمرارٍ في الأسئلة: ما، وأين، ومَن، ومتى، فيما يتعلق بالثقافة البصرية.

لكن لا تخطِئوا الفهم، ففي طرحي للإمكانات الباعثة على التفاؤل للثقافة البصرية، أفعل ذلك من خلال التكتيكات التي تصفها الباحثة سارة أحمد بأنها «مُفسِدة للبهجة». إذ يجب ألَّا نسمح للثقافة البصرية بأن تجتاحنا. يحذِّرنا الفنان تريفور باجلن قائلًا: «العالَم غير المرئي للصور ليس مجرد تصنيفٍ بديلٍ للرؤية. إنه تمرين نشِط وماكر لممارسة السُّلطة، مُصمَّم خصِّيصَى للرقابة الجزيئية وعمليات السوق، ولإدخال أذرُعه في أجزاء أصغر من حياتنا اليومية.»5 هذه معركة جِدية، وصعبة، و«مرهِقة» يجب على كل واحد منا خوضها طوال الوقت. لا يمكِننا تجنُّب الثقافة البصرية، بل علينا مواجهتها، ومواجهتها تعني أن نراها «كما هي دائمًا»: مسعًى فاشيًّا، وتلاعبيًّا، وتدميريًّا، وإباديًّا، ولكن أيضًا كثقافة حيوية تواصُلية، كما يمكِن أن تكون.

لطالما كانت الثقافة البصرية مَصوغة من قِبَل القوى المسيطرة، ومن خلال الهيمنة، لكنها انطوت دائمًا على المقاوَمة، والانقلاب، والتخريب.

لطالما كانت الثقافة البصرية مَصوغة من قِبَل القوى المسيطرة، ومن خلال الهيمنة، لكنها انطوت دائمًا على المقاوَمة، والانقلاب، والتخريب. كشف كثيرٌ من الأعمال الأكاديمية حول الثقافة البصرية خلال الخمسين عامًا الماضية عن تلك اللحظات من المقاوَمة، واستكشفَها، مما جعلها مرئية بطرقٍ جديدة لتنتشر. هذه هي القوة البصرية المُسخَّرة بوصفها عاملًا للتغيير الإيجابي والتوحيد. على الرغم من ذلك، ثَمة الكثير من الفرح، والسلام، والسعادة، والتواصُل، والتعاون في الأجواء البصرية. إذا رفضنا الاستهلاك غير المواجِه للثقافة البصرية، فإن خيارنا، كما تقول سارة أحمد، «يمكنه أن يفتح حياة، ويخلق مساحةً للحياة، ويخلق مساحةً للإمكانية، للفرص».6 هذا عمل شاق، لكن إلحاح اللحظة التاريخية التي نعيشها يتطلَّب أن نصبح جميعًا ناشطين بصريِّين. يجب أن نرفض السلبية والاستهلاك المجرَّد، والاختيار بين الأشياء والنظريات البصرية المُنتقاة لنا سلفًا، متجنِّبين تلك الفوضى في الممر لنتجاهل الاضطراب. لطالما كانت الثقافة البصرية وسيلةً لإمكانات هائلة، وحاملةً لظلمٍ لا نهائي. يجب أن نكون أكثر حزمًا، وأكثر دهاءً وتفكيرًا في تعاملنا مع الأجواء البصرية. فقط انظر حولك؛ فذلك ممكِن تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥