أين؟
«العالم بأسره يزخر بأشياء نحن عاجزون عن رؤيتها.»
تأمُّلات بصرية
أثمر التعاون بين القطاعَين العام والخاص، الذي كان له الفضل في إنشاء الحديقة عام ١٩٨٨، عن مجموعة من الفوائد لمركز ووكر للفنون. فقد أتاحت المساحة العامة للراحة والاستمتاع بالفن في وسط مدينة مينيابوليس تضمينَ ما يزيد على ٦٠ عملًا، وقد صُنِع العديد منها خصِّيصَى للموقع. ساهمت هذه الشراكة مع المدينة في ترسيخ مكانة مركز ووكر للفنون كمؤسَّسة مجتمعية قيِّمة في مينيابوليس ومينيسوتا على وجه العموم، إضافةً إلى كونه وجهةً للفن المعاصر للجمهور الوطني والدولي. هذا الجانب من العلاقة اكتسب أهمية أكبر بالنظر إلى التركيز الحصري غير المعتاد الذي أولاه مركز ووكر للفن المعاصر، واحتضانه المعارضَ والمنشآت المثيرة للجدل بصريًّا وسياسيًّا في كثير من الأحيان.

كان النَّحات سام دورانت اسمًا مألوفًا لدى مركز ووكر، حيث انضم إلى برنامج إقامة تدريبي هناك عندما كان فنانًا ناشئًا في عام ٢٠٠٢. وبعد ١٠ سنوات، أصبح شخصية بارزة ومعروفة بأعمالها السياسية التي تتناول تاريخ الولايات المتحدة العنصري والاقتصادي العنيف. كان مجسَّم «السقالة» عملًا أنجزه في الأصل ليُعرَض في معرض دوكومنتا الثالث عشر، في مدينة كاسل بألمانيا، عام ٢٠١٢. وهو معرض مرموق ذو سمعة عريقة، ويقام كل خمس سنوات، ويمنع بيع أعماله، وهو ما يعزز سمعته في إبراز المواهب الجديدة والأعمال القيِّمة بدلًا من الأعمال التسويقية البحتة. ويجري اختيار الفنانين المشاركين ثم منحهم عامَين لإعداد أعمالهم للعرض. ولكن النجاح المهني لدورانت بعد برنامج الإقامة وبعد الأصالة الخاصة التي تمتَّع بها هذا العمل قد دفع دون شكٍّ مركز ووكر إلى شراء مجسَّم «السقالة» في عام ٢٠١٤. وكان الغرض من إدراج العمل في الحديقة التي أُعِيد افتتاحها هو الاحتفال بإضافته إلى مجموعة ووكر الدائمة.
يمثِّل مجسَّم «السقالة» إعادة إنشاء للمشانق التي استخدمتها الولايات المتحدة في الإعدامات بأمرٍ من الدولة خلال الفترة بين عامَي ١٨٥٩ و٢٠٠٦ في العديد من المنشآت الفيدرالية داخل حدود الدولة وخارجها. وصَف دورانت العملَ المصنوع من الخشب والفولاذ على النحو التالي:
قدَّمت فيسو في بيانها لمجتمع المتحف وجمهوره السياقَ التاريخي والسياسي الواسع للعمل، ويشمل ذلك ما له صلات خاصة بولاية مينيسوتا:
وفقًا للفنان ولمركز ووكر، كان من المقرر أن يُدخِل العمل الجمهور في حوارات حول التاريخ، والذاكرة، والعِرق، والعقاب الفيدرالي، والوجود الجسدي. وكان مما عزَّز قيمة هذا العمل في هذه الحوارات تاريخ دورانت مع المركز، ونجاحه اللاحق، وأصول العمل في معرض دوكومنتا، والعديد من المراجعات الإيجابية. يُفترض أن تكمن القيمة الخاصة لمجسَّم «السقالة» بالنسبة إلى الحديقة وأهالي مينيابوليس في قدرته على معالجة هذه القضايا الشائكة، وفي الوقت نفسه تلبية احتياجات جميع الأعمار من الحديقة المجتمعية. في نظر المتحف ودورانت، بدا العمل ملائمًا للمكان على نحوٍ مثالي.

بعد عدة اجتماعات، جرى تفكيك «السقالة» في الحديقة، وتسليمها إلى قبيلة داكوتا. وبعد بضعة أشهر، شكَّل مركز ووكر أول لجنة فنية للسكان الأصليين، وكانت مهمتها تكليف فنان من السكان الأصليين بصناعة مجسَّم جديد في الحديقة. لا تزال «السقالة» رسميًّا ملكًا للمركز، حيث كانت كل نسخة أنتجها دورانت مخصَّصة للموقع؛ فقد أُزيل العمل من الفضاء العام، لكن المتحف لم يُزِله من مجموعته الفنية.
أين توجد الثقافة البصرية؟
يبحث هذا الفصل في أهمية الموقع، وجغرافيات المعنى، وقابلية الانتقال؛ أو بعبارة أخرى كل ما يخص «مكان» الثقافة البصرية. ويُمثَّل ذلك غالبًا من خلال ثنائية الداخل والخارج. فالداخل يعني الموافَقة، والحال، والمساحة. أمَّا الخارج فيشير إلى شيء شديد الوحشية، أو الفظاعة، أو الابتذال، أو الخطورة إلى درجةٍ تمنعه من دخول حيز الثقافة البصرية. وما هو داخل هذا الحيز هو الفن، والاحترام، والمال، والمعنى التاريخي، والقِيمة، والقوة، والأشياء المرغوب فيها، وما هو خارجه هو الفن المبتذل، والثقافة الشعبية، والحِرفة، والإعلان، والقمامة، والثرثرة، والنسيان التاريخي، وما هو غير مرغوب فيه.
يُعِيدنا السؤال عن المكان أيضًا إلى البيئة البصرية والأجواء البصرية. فمكان رؤية الشيء، ذلك المكان الذي يكون فيه مرئيًّا، يرتبط بالشيء نفسه. تتغير الأشياء عند نقلها إلى بيئات جديدة؛ ويمكِن للأنظمة البيئية الجديدة أن تضيف القِيَم إلى الأشياء أو تَسلبها منها، ومن ثَم تغيِّر البيئات الجديدة المعاني. كما يمكِن للأجواء البصرية تغذية الصورة، أو الأداء، أو الشيء، مما يمنحه الحياة ومكانًا للازدهار. ولكن كما يمكِن لإحدى البيئات أن تحيي بعضَ الصور البصرية، فإن من شأن هذه البيئة نفسها تقييد بعض الصور الأخرى، مما يحوِّل شيئًا كان يومًا ما حيويًّا إلى شيء خامل. يعمل المكانُ الذي نرى فيه الأشياء، والموقعُ الذي نتعرَّف عليها فيه، على تشكيل الثقافة البصرية. كما يسلِّط الضوء على قابلية الصور للتغيُّر، وكيف تتشكَّل الأفكار حول المعنى اعتمادًا على المكان.
كما أن للداخل والخارج معانيهما الكامنة فيهما أيضًا. إذ يبدو الداخل مريحًا ومدروسًا، لكنه ربما يكون أيضًا مملًّا، وعاديًّا، وآمنًا، وخانقًا. ويمكِننا أن نجد قوةً كبيرة في الخارج. فثَمَّة حرية في الخارج، وكذلك أصالة، واستقامة، وأشكال بديلة من الانتماء. وثَمَّة قوة في الاختفاء، وفي التواري عن الأنظار، وفي بقائنا غير مَرئيين. إن الخارج — تلك الجزيرة المجازية المرفوضة — هو المكان الذي يرغب الكثيرون في بقاء ثقافتهم البصرية فيه.
يشير كل هذا إلى القصور والالتباس المتأصل في التصنيفات الثنائية من قبيل «الداخل/الخارج». ربما تكون الاستعارة الأكثر ملاءمةً لتمثيل الثقافة البصرية هي الدوَّامة. فكل شيء يُسحَب داخلها ويدور معًا في دوَّامة، ويظل دائمًا الاحتمال — بل الأرجحية أيضًا — أن ينصهر كل شيء، ويختلط، ويُجذَب في نطاقِ ما هو منظور أو خارجه.
من المهم أيضًا أن نضع في اعتبارنا في هذا الفصل «موقعنا» من الثقافة البصرية. أين تذهب لرؤية الأشياء؟ أين تذهب ليراك الآخَرون؟ أين يُسمَح لك بالنظر أو أين تُمنَع من النظر؟ إن جغرافيا الثقافة البصرية لا تتعلَّق بالأشياء فحسب، بل بالجمهور أيضًا. كما تُغيِّر التكنولوجيا في حوار الداخل والخارج، وهو ما يجعل المكان الأكثر أهميةً في الثقافة البصرية.
الدخول إلى نطاق الثقافة البصرية
مع التسليم بالقيود الصارمة للتفسيرات الثنائية، يمكِننا القول إن الفن يقع تمامًا داخل نطاق الثقافة البصرية. أليس كذلك؟
فقليل من الناس اليوم سيختلفون على أن مجسَّم «حفل العشاء» لجودي شيكاجو (١٩٧٤-١٩٧٩) كان حدثًا سياسيًّا وفنيًّا وعامًّا رائدًا. عندما عُرِض العمل أول مرة عام ١٩٧٩ في متحف سان فرانسيسكو للفن، زاره أكثر من ١٠٠ ألف شخص. إنه عمل ضخم، ولا يحتوي على لحظةِ صمتٍ بصري واحدة. يبلغ طول كل طاولة في المثلث ٤٨ قدمًا، وكل عنصر فيها — من الأطباق والمناشف إلى مفرش المائدة والبلاط على الأرضية — يحمل كتابات وصورًا ومعاني. تبِع افتتاح العمل مقالات وسخط، لكن كان واضحًا أن هذا العمل، بجميع مشكلاته العِرقية والتمثيلية البارزة، كان مهمًّا لعددٍ كبير من الأشخاص الذين كانوا منخرِطين بعمقٍ في التفكير والكتابة عن الفن والمجتمع.

يبدو أنه شيء كان جديرًا بأن يُوضَع في متحف، أليس كذلك؟
لكنه لم يُوضَع لمدة أكثر من عَقدَين من الزمان. فحتى عام ٢٠٠٢ ظل العمل معظم الوقت معبَّأً في صناديق وخزائن. وعلى الرغم من السنوات التي قضتها الفنانة وغيرها من الفنانين في محاولة إيجاد مكان له، لم تَشترِه أي مؤسسة فنية كبيرة أو صغيرة، ولم يتمكَّن أحدٌ من إقناع أحد المانحين بإهدائه إلى أي متحف. خلال هذا الوقت، كُتِب عنه تقريبًا في كل بيان أكاديمي وعام عن النسوية الأمريكية والفن النسوي، وذُكِر في تاريخ الثقافة المادية، وكان مرجِعًا شائعًا في شرح الفن السياسي، ودُرِس بانتظامٍ في فصول تاريخ الفن ودراسات المرأة. ولكنه لم يُرَ بالشكل الذي أُنشِئ ليكون عليه أو كما أرادت الفنانة. كل ما كان لدى هؤلاء الباحثين، والقراء، والنشطاء، والطلاب هو بعض الصور الباهتة للعمل.
يمكِننا ملاحظة هذا التصنيف الجديد من خلال عمل جودي شيكاجو «حفل العشاء». كان مجسَّم «حفل العشاء» دائمًا مهمًّا للحظته التاريخية، وأصبح جزءًا مهمًّا من الحوار التاريخي. بالنسبة إلى الكثيرين، كان فنًّا «طوال الوقت». غير أنه لم يستقر ضمن فئة الفن إلا عند وضعه في متحف بروكلين. تحوَّلت كينونة العمل. والسر هو الموقع، ثم الموقع، ثم الموقع.
من المهم أن نتذكَّر أن مفهوم الفن ليس متجاوزًا لحدود التاريخ أو عالميًّا. كما أشرنا بإيجازٍ في الفصل الأول، تطوَّر «الفن» في أوروبا الغربية بوصفه بناءً ثقافيًّا جنبًا إلى جنبٍ مع أفكار مثل الدولة القومية، والرأسمالية، والفردية. من هذه العوامل المغذية، كان «الفن» مفهومًا أعطته النصوص المكتوبة نظرياته، وعموميته، وسياقه التاريخي، وإطاره المنطقي، وقد عُرض في الأماكن العامة والخاصة المخصصة لعرض «الفن»، واكتسب قِيمته عبر تفعيل المصطلحات ذات الصلة مثل الوقت، والقِيمة النقدية، والنُّدرة، واكتسب قوًى اجتماعية وروحية قادرة على إصلاح المجتمع أو إفساده، وعُدَّ صانعوه «فنانين»، ثم ارتقَوا في بعض الأحيان إلى مرتبة العباقرة.
إن مفهوم «الفن» نفسه يعتمد على اعتقادٍ أساسي مفادُه أن بعض الأشياء أفضل بصريًّا من غيرها، وأن بعض الأشخاص لديهم مواهب خاصة (عبقرية) في صنع هذه الأشياء.
مرة أخرى، هذا لا يعني أن الأشياء من مواقع غير غربية لم يكن لها قِيمة. فغالبًا ما كان الجمال والقوة يُنسَبان إلى الأشياء غير الغربية بتصنيفها على أنها «فولكلورية»، و«غرَّاء»، و«بدائية»، و«غريبة»، و«غامضة»، و«بسيطة»، و«أصلية». غير أن جميع هذه الكلمات تُضمِر إقصاءً، وهو ما يشير إلى أن قَبُولها كان دائمًا قَبُولًا حَذِرًا، فهي أشياء «حسَنة الصنع، ولكنها ليست رائعة، وليست عبقرية، وليست فنًّا؛ مجرد أشياء مختلفة». لهذا السبب، فبالنسبة إلى العديد من الفنانين والأفراد العاديين، فإن وضعها في متحف، وتصنيف الأعمال السابقة المماثلة في فئة «الفن» ودراستها من هذا المنظور الضيق للغاية، ليس إطراءً بل إهانة وشكل من أشكال العنف. ففي حين ترى بعض الشعوب الفن بوصفه دلالةً على الاحترام والقِيمة والشرف، يرى بعضها الآخر هذا التصنيف مجرد فكرة قمعية أخرى، جزء من ديناميات القوة الأكبر للاستعمار والإبادة الجماعية الثقافية وعدم الاحترام.
عاشت الشعوب الأصلية في المنطقة التي هي الآن الساحل الجنوبي الشرقي لألاسكا في مدٍّ وجَزر من الإمبراطوريات والغزو والأمراض والحروب قبل عام ١٨٦٧، عندما اشترت أرضَهم الحكومةُ الفيدرالية الأمريكية من روسيا. وقبل ذلك بكثيرٍ وبعده بكثيرٍ أيضًا، شيَّد شعب شمال غرب المحيط الهادي الأعمدة الطوطمية، على الرغم من أن هذه الأعمدة كانت معروفة بأسماء أخرى، مثل جيانج لدى شعب الهيدا. لم تتغير الأسماء فحسب، بل تغيَّرت قيمة هذه الأعمدة ومعانيها نفسها. بدأ الأمريكيون والأوروبيون الذين كان أكثرهم من أصحاب البشرة البيضاء في رؤية الأعمدة الطوطمية لشعب التلينجيت والهيدا باعتبارها حِرفًا تتَّسم بالمهارة والجمال، وكذلك باعتبارها أشياء تستحق المُشاهدة من أماكن تابعة «لهم» أو تحت إدارتهم. فنقلوها من مواقعها الأصلية، التي كانت بعيدة عن غالبية الأمريكيين البيض وأوروبا الغربية، ووضعوها في الحدائق والمتاحف حيث يمكِن للجمهور — «جمهورهم» — رؤيتها.

باقتلاع الأعمدة ووضعها في المجموعات الخاصة والمتاحف اكتسبت معنًى جديدًا في مواقعها الجديدة. وقد منح الخبراء والباحثون وهُواة جمع التحف من غير أبناء القبائل قِيَمًا وأهمية جمالية جديدة للأعمدة باعتبارها «فنًّا» و«قطعًا أثرية تاريخية». ودُفعَت الأعمدة لحكاية قصص جديدة عن الحضارة والسلطة الإمبريالية والكونية. الأشياء هي نفسها، بشكلها وخصائصها، لم تتغير، ولكن معناها هو ما تغير.
من ناحية، فإن إعادة تصنيف الأعمدة الطوطمية بوصفها فنًّا وشيئًا ذا قيمة وجديرًا بالاهتمام وملائمًا بما يكفي ليكون في أماكن مصمَّمة لتسليط الضوء عليه؛ تعني شموليةً وتنوعًا وتوسيعًا للصورة البصرية. في الواقع، في المواقع الأحدث والأكثر ازدحامًا، ستُرى الأعمدة أكثر، ومن ثَم سيكون لمهارات القبائل التي صنعتها، وتاريخها، ومواهبها مكانةٌ أكبر في سياقٍ بصري مختلف. ولكن من منظورٍ آخَر، فإن هذا الانتقال، وهذه الهُويَّة الجديدة لم يَعْدوَا أن يكونا إهانةً أخرى، واختفاءً آخر، ورؤية توسُّعية استعمارية أخرى سلبَت الشعب تاريخَه.
هنا يكمن الصراع الحقيقي، أو بالأحرى الضربة القاصمة، للثقافة البصرية. فالأسماء، والتصنيفات، والتعريفات، والملكية، والسلطة لرواية التاريخ كلها لها تأثيرات قوية وتحويلية، وغالبًا ما تكون وحشية. إن نقل الأعمدة الطوطمية أو مجسَّم «حفل العشاء» إلى مساحة متحفية لا يغيِّر في شكل العمل نفسه، ولا يضمن تصنيفه في فئة «الفن»، ولكن عمليات النقل تغيِّر الأشياء. إن تغيير المكان يغير البيئة البصرية، ويُكسِب الأشياء معاني جديدة.
«المتحف»، في جوهره، هو مصطلح مختصر لمجموعة كاملة من الأماكن العامة والخاصة المخصَّصة لإعداد المعرفة حول الأشياء، وتنظيمها وإنشائها. المعارض العالمية، وساحات العرض، والحدائق، وحدائق الحيوان، والصالونات، وأماكن مثل عروض المسوخ، التي بدأت في القرن السادس عشر، وتطوَّرت إلى السيرك في القرن العشرين؛ كلها تشبه المتاحف، أو تشترك معها في الأصل. فجميعها مساحات أُنشِئت لتعليم الناس كيفية النظر، وما ينظرون إليه، والأشياء المحددة التي من المفترَض أن يعرفوها عمَّا يرونه. إذ تأسَّست هذه المساحات على فكرة أخذ الأشياء (الحيوانات، الأشخاص، المزهريات … إلخ.) من موقعٍ أو بيئة «طبيعية»، ووضعها في سياقٍ (١) مبني بالكامل على مسألة النظر، (٢) ويمثِّل بيئة خاضعة للسيطرة التامة، (٣) ويركز على نقل أفكارٍ محددة حول معنى الشيء في هذا الفضاء الجديد. هل يبدو أمرًا خادعًا بعض الشيء؟ لا يُوضَع شيء بعشوائية أو حُسن نية في هذه الأماكن. فالرؤية والمعرفة هما الهدف، وجميعنا يُقاد من نقطة إلى أخرى.
كم مرة يتغير معنى العمل الفني قبل وصوله إلى العرض بأحد المتاحف؟ يُختار العمل أولًا كي يُوضَع في هذه المساحات. ثم يُعزَل، ويُفصَل عن أي مناسبة أو موقف قد يكون مرتبطًا به (حتى الفن المعاصر، الذي صُنِع الكثير منه بوعي أنه سينتهي به المَطاف في المتاحف، يُفصَل عن الحقائق الزمنية والمادية الأخرى بوضعه في المتاحف). تُوضَع الأعمال في مساحاتٍ مع أعمال أخرى تَقرَّر أن ثَمَّة ما يربطها بها. وأخيرًا، تُوضَع لها العلامات، والأسماء، والهُوِيات التي توفر سياقًا إضافيًّا على السياق البصري. قد تزيد كل مرحلة من هذه المراحل من صعوبة رؤية العمل؛ حيث يزيد التحكم في المعاني التي ينطوي عليها المكان.
قد يجعل الدخول إذن إلى نطاق الثقافة البصرية الشيءَ أقلَّ قَبُولًا وقوةً وتحكُّمًا مما قد يبدو في البداية. فكل شيء يدخل إلى هذا النطاق يصبح مُحمَّلًا بخطة أخرى، وفي بعض الحالات يفقد — ربما بشكلٍ دائم — فرصتَه في أن يكون أي شيء آخَر على المستويَين البصري والثقافي. كانت ألبرز تشير، في قولها إن المتاحف تُصعِّب علينا الرؤية، ترى أن لهذا الضباب، هذا التشويه، عواقبَه الوخيمة. فإذا كان مجسَّم «حفل العشاء» قد أسَّس نوعًا من الاستقرار عند دخوله متحف بروكلين، فقَدْ فقَدَ أيضًا إمكانات أخرى. إذ إن هذا الدخول يعني أيضًا أنه مملوك بصريًّا لمتحف بروكلين، الذي يسيطر الآن على بعض حقوق العمل، ويمكِنه أن يقرر (إلى حدٍّ ما) مكان عرض العمل وجمهوره. الأدهى من ذلك، أن المتحف في مقدوره دائمًا أن يقرر «عدم» عرض أحد الأعمال، وتخزينه أو نقله خارج الموقع حيث يختفي تمامًا عن الأنظار. فالقيمة وإمكانية الرؤية تخضعان لتقدير مؤسسات لها خططُها الخاصة.
تعلَّمَت المتاحف حيلَ التكنولوجيا الجديدة، واستخدمَتها لإيصال صورها، وأفكارها حول الفن، وقوتها، ومكانتها بوصفها سلطاتٍ ثقافيةً بصرية، إلى جمهورٍ وأجيال جديدة.
وبذلك، يستمر التوسُّع في نطاق الثقافة البصرية. كما ذكرت في الفصل السابق، فقد عرض فيديو أغنية «حالة من الجنون» (آيبشيت) لبيونسيه وجاي-زي أثرَ المتاحف والثقافة البصرية وأكَّده. فقد قدَّم متحفَ اللوفر لجمهورٍ جديد، وعلى الرغم من تعمُّقه الجريء في التاريخ الصعب والمعقَّد للعنصرية في هذا المتحف (وجميع المتاحف) فيما يتعلَّق بأصحاب البشرة غير البيضاء، فلم يَسَعه، من خلال إظهار متحف اللوفر، سوى أن يؤكِّد سلطة اللوفر تحديدًا، والمتاحف بشكلٍ عام، باعتبارها أهم المواقع وأرقاها وأكثرها تجذرًا في نطاق الثقافية البصرية. وجَّهت بيونسيه وجاي-زي المعركة إلى متحف اللوفر، ومنحَتهما إدارة اللوفر إذنَ التصوير؛ حيث شعرت، بلا شك، أنها فرصة للفت المزيد من الأنظار إلى المتحف؛ أيْ لزيادة جمهوره وتوسيع مكانته في الثقافة البصرية.

اتَّسعت دائرة الرؤية الداخلية هذه مرة أخرى عندما فازت بيونسيه وجاي-زي بجائزة بريت عام ٢٠١٩ لأفضل مجموعة دولية. لم يحضر الثنائي الحفل، ولكن أرسلا قَبُولهما استلامَ الجائزة عبر مقطع فيديو قصيرٍ يُعيد لقطة من فيديو الأغنية؛ حيث يقف الاثنان في مواجهة الكاميرا بملابس أنيقة. في مقطع فيديو «حالة من الجنون» (آيبشيت)، كانت اللوحة بين الثنائي هي «الموناليزا» لليوناردو دافنشي، العمل الفني الأشهر، والمشهورة بشغف الناس بها، والمحاطة بالزجاج المضاد للرصاص في متحف اللوفر. كانت لقطة الفيديو الأصلي تعبيرًا عن القوة وإمكانية الوصول؛ لأنه من المعروف على نطاقٍ واسعٍ أن رؤية «الموناليزا» تتطلَّب وقوف الأشخاص العاديين خلف حشودٍ من الزائرين الآخرين، والانتظار طويلًا والتدافُع في الزحام لإلقاء نظرة على اللوحة عن قُرب. لماذا ينتظر الجميع؟ لأنها أشهر لوحة في العالم. لماذا؟ لا تحتاج شهرة «الموناليزا» وأهميتها إلى تفسير. إن لها هذه المكانة فحسب. لذلك، عندما تقف بيونسيه وجاي-زي بجوار هذه اللوحة الأكثر شهرةً وأهمية وقِيمة لامرأة بيضاء، فإنهما يعيدان صياغة شهرتها من خلال شهرتهما. كما أن شهرتها وأهميتها ومعناها أمرٌ بديهي؛ فكذلك هما. إنه استعراض للقوة البصرية في أبهى صورها. الثلاثة متساوون في الكمال والأهمية والقوة. الثلاثة داخل إطار الثقافة البصرية. علاوةً على ذلك، ثمة تناوُل لمسألة العِرق في هذا المنتَج البصري، مع إشارة بيونسيه وجاي-زي القوية، في هذه اللقطة وحدها من هذا الفيديو وحده، إلى أن نطاق الجمال والقوة — المحفوظ والمكرر طوال الوقت في اللوفر عبر الأعمال التي تُظهِر أصحابَ البشرة البيضاء — قد جرى توسيعه. هنا، يقف اثنان من أصحاب البشرة السوداء على جانبَي «الموناليزا»، وهو ما يجعلها المرأة البيضاء الغريبة وسطهما.

ولكن في مقطع الفيديو الذي عُرض في حفل جائزة بريت، سرعان ما يظهر أنهما ليسا في متحف اللوفر؛ لأن اللوحة بينهما ليست «الموناليزا»، ولكنها صورة لميجان ماركل، دوقة مقاطَعة ساسكس. ماركل هي ممثلة أمريكية من أصولٍ مختلطة، ومدوِّنة، وناشطة، وحظيت بزواجٍ شهيرٍ لم يخلُ من الضجَّة الإعلامية من الأمير هاري، دوق ساسكس، وكانت في وقت الفيديو حُبلى بطفلهما الأول. كان زواجها بأحد أفراد العائلة المالكة البريطانية كافيًا لإبقاء الصحف الصفراء العدوانية مشغولة، لكن ميركل أصبحت أيضًا هدفًا للتصوير والتعليق العنصريَّين. بعبارة أخرى، كانت الصحافة تبحث باستمرارٍ عن طرقٍ لتسليط الضوء على أن ميركل عنصر خارج عن إطار العائلة المالكة، ولا تنتمي إليها. تعرَّضت لهذه المسألة حينئذٍ بطريقة قاسية وعلنية الأميرةُ مايكل، أميرةُ كينت، عندما وضعت دبوسًا على شكل شخص أسود البشرة خلال حضورها حدثًا عائليًّا حضرَته ميجان وهاري. تُستخدم مجسَّمات الشخصيات ذات البشرة السوداء للزينة في الحُلي أو أدوات المنزل؛ فهي مرتبطة بالتاريخ الاستعماري العنصري الذي يقلِّل من شأن أجسام أصحاب البشرة السوداء بجعلها مجرد عنصرٍ للزينة. كانت هذه القطعة الصغيرة من المجوهرات بمنزلة تذكير بأي الأجساد لها معنًى، وأيها من شأنها أن تكون صغيرة وغير مهمة.
كان هذا هو الحوار نفسه حول مسألة العِرق، ولكنه كان أيضًا حول ما هو داخل إطار الثقافة البصرية، وما هو خارجها، الذي سعت بيونسيه وجاي-زي بوضوحٍ إلى زعزعته. فقد حمل وضع صورة ماركل الشخصية في المكان الذي كانت فيه لوحة «الموناليزا» في الفيديو السابق رسالةً واضحة، وهي أن هناك شكلًا جديدًا من أشكال النبالة والجمال والفن في المدينة، متمثِّلًا في شخص ماركل. أُخرج البياض تمامًا من الإطار، ووقف ثلاثة أمريكيين سود، من أصحاب القوة، والنجاح، والفخر، والسلطة السياسية، يتسلَّمون الجوائز البريطانية التي فازوا بها. وهكذا، أصبحت ماركل داخل دائرة السواد والقوة. كما لم تُوضَع ماركل في اللوحة بملابسها المعاصرة، ولكن بملابس ملكية فخمة، لتبدو أكثر شبهًا بملِكة، وليس بدوقة. وكانت هذه أيضًا إشارة إلى دخولها إلى إطار الثقافة البصرية، حيث تُلقَّب بيونسيه عادةً من قِبَل مُعجَبيها باسم «الملِكة بي». فَلْتحيَ الملِكتان.
هنا تغيَّرت معالَم المكان لما يقع داخل إطار الثقافة البصرية. وهذا من شأنه أن يمثِّل فكرة عن القيمة والجدارة، وأن يُستخدَم لتعزيز قيمة الأشياء، كما يمكِن أن يكون سلاحًا لتقنين السلطة والأيديولوجية واستدامتهما. قد يكون متحفًا، ولكن هذه المواقع التي بدأت كمواقع مادية صارمة مبنية لإيواء الفن وحضوره وأصالته قد تحوَّلت للظهور عبر الإنترنت، على صفحات الإنستجرام وتويتر. وتظل ثابتةً قدرةُ هذه المستودعات البصرية على خلق مجال داخل نطاق الثقافة البصرية يمكِنه أن ينمو، ولكنه يحافظ دائمًا على التفرُّد.
من السهل تجاهل كل من الفن والمتاحف باعتبارهما ثقافة بصرية قديمة الطراز، أو مستودعات لأفكار الأمس ونظرياته حول ما يستحق المشاهَدة وما لا يستحق. ولكن إذا كان الناس لا يزالون يَتُوقون إليها، وكانت التكنولوجيا لا تزال تمكِّنهم من الدخول إلى نطاق الثقافة البصرية، فمن غير الحكمة تخيُّل أن قوة المتاحف وسلطتها قد تحوَّلت تحولًا شديد الجذرية. في نهاية المطاف، كان مجسَّم «حفل العشاء» ستنتهي به الحال في أحد المتاحف، ولو كان ذلك لمجرد إثبات إلى أي قدرٍ تحوَّلت المتاحف وتغيَّرت. وفي نهاية المطاف أيضًا، سنرى ملابس بيونسيه وجاي-زي والإكسسوارات ومقاطع الفيديو الخاصة بهما تنتقل إلى المتاحف. هذه هي المواقع التي تحوي القوة البصرية والثقافية. فثمة قوة داخل نطاق الثقافة البصرية.
ولكن ربما لا ينبغي التسرُّع في الحُكم بعد.
الخروج من نطاق الثقافة البصرية
على الرغم من ذلك، لا تزال لوحات كينكيد الأصلية غير مملوكة لأي متحف من المتاحف الأمريكية الكبرى. بدا أن كينكيد نفسه يفهم أن موضعه خارج نطاق الثقافة البصرية يعني مساهمته الفعلية في حوارها. وقد سعى مرارًا وتكرارًا إلى أن يثبِت، إثباتًا قاطعًا، أن فكرة عالم الفن وأفكاره المصطنَعة عن القيمة والجودة والجدوى هي مجرد خدعة. فصوره المرئية تحدَّثت إلى الملايين، حتى بعد أكثر من عقد على وفاته، ولا تزال شركته تُنتج صورًا جديدة، وتنشر بضائع جديدة، ولا تظهر أي مؤشرات على تراجُع شعبيتها لدى جمهور واسع.
لا يحمل الفن المبتذَل دائمًا مثل هذه الدلالات الأخلاقية القوية، لكنه أصبح مثالًا على نوعٍ من انعدام المعنى الثقافي؛ إذ يمكِن لعملٍ من أعمال الفن المبتذَل أن يستدعي مشاعر قوية وإيجابية، لكن هذه المشاعر لن تُعَدَّ أصيلة أو حقيقية. فبإبعاد الفن المبتذَلِ المُشاهِدَ عما هو مهم وعميق، يبدو أنه يلعب على نقاط الضعف، مستفِزًّا مشاعرَ أدائية ومزيفة.
لذلك، بالنسبة إلى أولئك الذين يرَون أعمال كينكيد فنًّا مبتذَلًا، فإن صوره لا تحفِّز المُشاهِد أو تدفعه إلى رؤية شيء جديد. فهي أعمال سلبية التأثير، وغير أصلية، وغير مُلهِمة. وتُبقي المُشاهِد عالقًا. هل يهم أن ملايين الناس لا يوافقون على هذا الرأي، وأنهم يشترون أعمال كينكيد ويضعونها في منازلهم؟ قد يرى أنصار جرينبرج أن هذا جزءٌ من خدعة الفن الزائف؛ أنه لا يُحمِّل الجمهور المسئولية. فجميع محبي كينكيد يسقطون ببساطة في فخ الفن الزائف؛ إنهم «ضحايا» هذه الحيلة.
ولكن أي نوع من النظام — نظام الفن — الذي يعتقد أن أولئك الذين ينفصلون عنه هم أغبياء لا يدركون مدى سذاجتهم؟ يمكِن لمحبي كينكيد أن يجادلوا بأن استبعاده من عالم الفن يثبِت ببساطةٍ أن الشكل الفني الذي يقدِّمه غير معصوم، ويمكِنهم الاستدلال بمجسَّم «حفل العشاء» بوصفه مثالًا على عملٍ اعتُبِر فنًّا زائفًا في البداية، ثم رُفِع إلى مرتبة الفن. ربما يكون الفرق بين الفن والفن الزائف مسألة وقت.
صرَّح كينكيد نفسه مرارًا وتكرارًا بموضعه خارج نطاق الثقافة البصرية، بأسلوبه البديل ورسالته المرئية؛ فلم يكن في حاجة إلى المتاحف. في الواقع، ربما يكون كينكيد أكثر شعبية، وتكون أعماله أكثر طلبًا «بسبب» موقفه غير المنتمي إلى نطاق الثقافة البصرية، مما يمنح جامعي أعماله الفنية صفةَ الخارجين عن التيار أو المتمردين. كان موضع كينكيد خارج نطاق الثقافة البصرية بالنسبة إليه أكثر ربحيةً بكثيرٍ عما لو كان داخله. لقد كان الموضع الذي أراده لنفسه.

في مثالٍ آخَر لقوةِ ما هو خارج النطاق البصري، يحتوي محرك البحث جوجل على علامةِ تبويبٍ للصور في شريط البحث الخاص به من المفترَض أنها تساعد المُشاهِد في العثور على أي صورة يرغب فيها. بالطبع، تُستخرَج جميع هذه النتائج بواسطة خوارزميات تخضع للملكية الخاصة، ومن ثَم لا يعلم الجمهور الكثيرَ عن الصور التي تُختار أو تُخفى، ولأي غرض. عندما نطلب من جوجل البحث نيابةً عنا، لا تكون لنا سُلطة على ما «يتوصَّل إليه من نتائج»، ولا علم «بمَن» ربما كان له دور في اختيار الصور التي اختيرت للعرض. بعبارة أخرى، لا نعرف مَن «أراد» لنا العثور على الصور التي تظهر.
عندما نطلب من جوجل البحث نيابةً عنا، لا تكون لنا سُلطة على ما «يتوصَّل إليه من نتائج»، ولا علم «بمَن» ربما كان له دور في اختيار الصور التي اختيرت للعرض. بعبارة أخرى، لا نعرف مَن «أراد» لنا العثور على الصور التي تظهر.
يصور الخيال السينمائي والتليفزيوني الشائع أنه بمجرد تحميل الصور عبر الإنترنت، فإن من شأنها أن تُشعِل ثورة من العدالة والصلاح. العالم سيستيقظ ويرى — بالمعنى الحرفي للرؤية — بعض القضايا التي كانت مخفية عن الأنظار. في الواقع، حدث ذلك إلى حدٍّ ما مع مَقاطع الفيديو التي تسجِّل عنف الشرطة ضد الرجال والنساء من أصحاب البشرة السوداء، وصور مصانع اللحوم حيث تُساء معامَلة الحيوانات، وغيرها من اللحظات المرتبطة بالعدالة على المستوى المحلي التي يمكِن رؤيتها عبر الإنترنت. ولكن ما ينبغي أن نفهمه هو أنه حتى هذه الأمثلة في نهاية المطاف قد «سمح» بها جوجل و«فيسبوك» وغيرهما من الكِيانات المؤسسية. كما ينبغي أيضًا أن نعرف أن مسألة التصريح هي مسألة دولية؛ فخصوصيةُ جوجل والبحثُ والتتبُّع كلها أدوات تحدِّدها الدول. يُبقي الإنترنت معظم الصور والجمهور بعيدًا خارج النطاق البصري، وفي حالة من الغربة العميقة المتبادَلة، أكثر مما قد يكون متوقَّعًا أو حتى يسهُل فَهمه. عادةً ما يُوصَف الإنترنت بأنه مكان يمكِن للناس العثور فيه على الحرية، غير أن «مكان» وجودك على الإنترنت يحدِّد الثقافة البصرية التي يمكِنك أن تطَّلِع عليها، وأن تكون جزءًا منها.
ولكن البقاء خارج النطاق البصري من شأنه أيضًا أن يعمل كتقنية نجاة. إذا كان في إمكان الثقافة البصرية أن تمنح الاحتواء والقوة والانتماء لأولئك الداخلين في نطاقها، فيمكِنها أيضًا أن تكون استراتيجية لبناء هُويَّة بصرية وحضور يُعارِضانها. لقد اتخذ كينكيد موقفًا خارجًا عن النطاق البصري السائد كاستراتيجية للمطالبة بنوعٍ من السلطة الأخلاقية حول حوارات الثقافة البصرية وقواعد عالم الفن، غير أنه من شأن الموقف الخارج عن النطاق أن يجلب أيضًا حريةَ الانعزال والإهمالَ والوحدة في مقابل التيار السائد؛ ومن ثَم إنشاء شيء فريد حقًّا ومُخصَّص لاحتياجات المجتمع. إن إنشاء أجواء بصرية خارج النطاق البصري السائد يمكِنه أن يبني مجتمعًا، ويخلق شعورًا بالأمان، ويُمكِّن من رؤية الأفكار غير المرئية في الثقافة البصرية المعيارية. يمكِن للأجواء البصرية المرفوضة والمخفية والغائبة عن الأنظار أن تصبح مساحاتٍ لصُنع شيء جديد ومؤثِّر بصريًّا.
وتعرض تلك القاعات جميع أشكال الهوس الثقافي البصري. فبادئ ذي بدء، ينصبُّ التركيز بوضوحٍ وصراحة على النوع الاجتماعي باعتباره عرضًا أدائيًّا؛ أيْ شيئًا يُصمَّم للجمهور. عروض الأزياء والتصنيفات والمنافسة كلها أمور تُذكِّر المشاركين أو المشاهدين بأن هذه الفئات ليست ركيزة أساسية من ركائز شخص أو قصة مَنشئه. بدلًا من ذلك، تُطالِب هذه القاعات بالاعتراف بالنوع الاجتماعي باعتباره قرارًا، أو فعلًا، أو مساحةً للسيطرة. هنا تُوضَع الأُسس البصرية للنوع الجنسي والجنسانية باعتبارها فئاتٍ تسكنها وتعرفها وتعيش فيها، وليس باعتبارها فئاتٍ يَفرضها عليك المجتمع. فحقيقة الشيء تنبع من الإرادة الشخصية، وليس من التعريفات المجتمعية.
يُعَد هذا بالطبع إهانة للثقافة البصرية المعيارية التي تُعرِّف النوع الجنساني «الحقيقي» باعتباره مجموعةً من المؤشرات البيولوجية. فتمامًا كما تضع المتاحف المعرفةَ التي تجعل هذه التصنيفات تبدو متوارَثة، تُنشأ التصنيفات الجنسانية بناءً على مفاهيم حول الأجساد تُوضَع لتبدو منطقية.
تعيد هذه القاعات تعيين السلطة لتحديد الفئات، وتجعل ما هو مَرئيٌّ الحَكمَ في مسألة الحقيقة، والمجتمع نفسه القاضي بهذا النجاح. وهكذا، يُعاد توجيه السُّلطة على الجسد، وعلى ما هو مَرئيٌّ في هذه الأماكن، وتصبح الأجساد والأشخاص الذين استُبعِدوا وهُمِّشوا وأُوذُوا أو دُفِعوا إلى المجال غير المرئيِّ في الثقافة البصرية الأمريكية السائدة، هم المركز والنواة وأكثر الأشياء ظهورًا وجلاءً، وأكثر ما يُنظَر إليه، والأكثر تلقِّيًا للمديح، والأكثر قدرةً على التعبير عن الأفكار حول النوع الاجتماعي، والجنسانية، والعِرق، والطبقات الاجتماعية.
كان كل هذا لعبة بصرية، إعادة ترتيب للثقافات البصرية التي هيمنَت على هذه المجتمعات وقمعَتها حقًّا بعنف. في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته، ومع إدراك آثار مرض الإيدز وبناء حالة من الرعب العام حوله، ارتبطَت أجساد أحرار الجنس في الثقافة البصرية الشائعة بمرضٍ جديدٍ ومُخيف. وليس من المستغرَب أن يكون وابل ردود الفعل الثقافية والاجتماعية هذه أكثر حِدةً على أصحاب البشرة السوداء واللاتينيين. أصبحت ثقافة قاعات عرض أحرار الجنس موقعًا لمقاوَمة الثقافة البصرية السائدة وإعادة تشكيلها. وهكذا تتحوَّل الأجساد التي كانت موسومة بكونها خارجةً عن نطاق الثقافة البصرية الشائعة إلى أجسادٍ مقبولة ومُطبَّعة، وقد مُنحَت الشعور بالجمال، وبأنها تستحق أن تُرى؛ فقد أصبح ما كان خارج النطاق البصري، الذي كان قاعات عرض أحرار الجنس، هو المكان الأكثر حيويةً والأكثر تحريرًا للكثيرين من أجل فَهم أجسادهم وهُويَّتهم وقدراتهم على الصمود. بعبارة أخرى، قدَّمت البيئة البصرية الحريةَ والمساحة والأُلْفة والمجتمع.
أصبح ما هو خارج النطاق البصري في هذا السياق مساحةً للحماية والتغيير. من منطلق القيمة الثقافية، أتاح الحرمان من الرؤية ظهورَ حوارٍ جديدٍ على مستوى الثقافة البصرية، وهو ما أفسح المجال أمام المشاركين لرؤية أنفسهم بطرقٍ جديدة وتمكينية. كما أصبح وسيلة ذكية وقوية للغاية لإيجاد لغة بصرية من أجل تفكيك سلطات النوع الاجتماعي والجنسانية التي فُرِضَت على الأجساد، وعملت على إخضاعها. مثَّلت قاعاتُ عرض أحرار الجنس قوةَ الأداء والإمكانات الجذرية لحقيقةِ ما عليه الشيء في أن يكون ترياقًا للطرق التي تقيِّد بها الثقافةُ البصرية الأجسادَ وتشوِّهها.
لم يكن هذا سوى البداية، ومن الواضح أن كِلا هذين العملَين قد مهَّد الأمر ﻟ «روبول دراج ريس»، وهو برنامج من برامج تليفزيون الواقع يعرض مسابقة تستمر طوال الموسم للحصول على لقب «الأمريكي القادم نجم نجوم المتشبِّهين بالنساء»، ومسلسل الدراما «وضعية العرض والتصوير» (بوز) لرايان مورفي الذي يدور حول مجتمع قاعات عرض أحرار الجنس في نيويورك في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته. وهكذا، لم يَعُد في الإمكان أن نَعُدَّ ما هو خارج نطاق الثقافة البصرية السائدة أمورًا دخيلة حقًّا. تستمر المجتمَعات التي رَعَت هذا الفن وأنشأته في مواجَهة تحدِّيات في علاقاتها مع ذُريتها الأكثر شعبيةً وانتشارًا في التيار السائد.
أين نحن؟
من الواضح أن حدود ما هو داخل نطاق الثقافة البصرية، وما هو خارجه، غير واضحة على الإطلاق؛ فمكان الشيء البصري أو المعنى البصري ينفلت ويتحرك من معنًى إلى آخر. وإذا كان التفكير في حدود الثقافة البصرية غير مستقرٍّ للغاية، فهل من الأكثر ذكاءً أن نفكر في المكان كما لو كان دوَّامة؟
دعونا نفكِّر فيما يعنيه هذا. الدوَّامة هي دوران للماء أو الهواء ناتج عن التغيُّرات في درجة الحرارة والضغط، أو تباينات في الكثافة. وفي الدوَّامة، تخلق الحركة زخمًا يسحب الأجسام ويشتِّتها حسب خصائصها الفيزيائية. في سياق الثقافة المرئية، ولا سيَّما حالة قاعات عرض أحرار الجنس، هل حدث شيء للتأثير البصري، للمعنى، بعد أن مارَس أصحابُ أجساد وهويات جديدة رقصةَ الفوج، وعروض الأزياء، ومبدأ الحقيقة التي عليها الكيان المَعني، وشاركوا فيها؟ وهل كان هذا حتميًّا؟ هل الثقافة البصرية مجرد مجموعة محدودة من أوراق اللعب، وبمجرد أن نصل إلى الورقة الأخيرة، نعيد خلطَ الأوراق واللعب مرةً أخرى؟ ولا شيء جديد حقًّا، لا شيء أصلي أو جذري حقًّا، كل شيء مجرد وقود للدوَّامة، وسيُجذَب إلى داخلها ثم يسقط عنها في النهاية؟
في النهاية، تتحوَّل حالة الدراسة البصرية هذه من التركيز على «المكان» إلى التركيز على «الأشخاص». لاحَظ المحتجُّون الأصليون باستمرارٍ أن بياض دورانت كانت له أهمية. هل كان العمل سيُواجَه بالكثير من الجدل لو كان صانِعُه من المجتمع الذي مثَّل تاريخَه؟ يقودنا هذا السؤال إلى الفصل التالي، الذي يدور حول دور الأشخاص في الثقافة البصرية.