مَن؟
«عزيزتي، فقط أتساءل عن شعور الراكب في المقعد الخلفي لسيارتكِ الكاديلاك الوردية اللون.»
تأمُّلات بصرية
بحلول يوليو ٢٠٠٨، كانت صورة باراك أوباما في كل مكان. فقد ظهرت على أغلفة عددٍ لا يُحصى من المجلات، بما في ذلك مجلة «رولينج ستون» التي وضعت ما يشبه الهالة حول رأسه. انتشر ملصق «الأمل» لشيبرد فيري بألوانه الأحمر والأبيض والأزرق بعد الثلاثاء الكبير (فبراير). ظهر فيه أوباما بصورة رصينة ينظر بعيدًا إلى جانبه، ربما إلى مستقبل أكثر أملًا. في يونيو، كانت لديه الأصوات اللازمة لتأمين ترشُّحه عن الحزب الديمقراطي (في مؤتمر أغسطس)، وكان مقررًا أن يواجِه السيناتور جون ماكين في الانتخابات العامة. كان أوباما أول أمريكي من أصلٍ أفريقي يرشِّحه أحد الأحزاب الكبرى لخوض الانتخابات الرئاسية، وفي نوفمبر من ذلك العام انتُخِب أول رئيس أمريكي من أصل أفريقي للولايات المتحدة.
كان صيفًا شاقًّا على أوباما. فقد دُفِع إلى التحدث بصريح العبارة عن هُويَّته العِرقية والتاريخ العِرقي والتوترات التي تعيشها الأمة. وقد أثار ذلك اهتمام وسائل الإعلام بخُطَب جيرمي رايت، القس السابق لأوباما في شيكاجو، ولا سيما مقولة تكررت كثيرًا في سياق خطبة عن العنصرية والظلم الهيكلي، حيث قال: «لعنة الله على أمريكا.» وقد هدَّدت مقاطعُ الفيديو التي جرى تحميلها على موقع «يوتيوب» وظهر فيها رايت في أثناء خطبه، والتركيزُ الإعلامي على القس «المثير للجدل» للمرشح وآرائه؛ بزعزعة استقرار حملة أوباما. وتحت ضغط الرد، ألقى أوباما ما أصبح يُعرَف باسم خطاب «اتحاد أكثر كمالًا». وفيه، حاوَل أن يوازن بين الاعتراف بالغضب المشروع لدى الكثيرين من غير البيض، ولا سيما الأمريكيون من أصل أفريقي، مع التمسُّك برسالته الثابتة عن الأمل، والمصالحة، والتقدم لكل الأمريكيين، تحت عباءة الحلم بتجاوز الماضي، والسعي نحو مستقبل عادل. ووفقًا لمعايير الحملة، كان الخطاب والتعليقات اللاحقة لأوباما حول رايت ناجحة إلى حدٍّ كبير، وبحلول شهر يوليو، كانت حملته قد استقرت، وأصبح يزور العديد من البلدان الأخرى لتوسيع ملف سياسته الخارجية، وتعزيز زخم حملته الرئاسية.
تكوَّنت حركة «بيرثر» (حركة بلد الولادة) واكتسبت زخمها في الوقت نفسه. نمت النظرية الزائفة التي تدَّعي أن أوباما لم يُولَد في الولايات المتحدة؛ ومن ثَم فهو غير مؤهَّل للرئاسة في عام ٢٠١٦ على أطراف الحركات القومية البيضاء في اليمين الأمريكي، واكتسبت انتشارًا في الثقافة السائدة عبر حملات موجَّهة مموَّلة من القطاع الخاص، وعبر تبنِّيها السريع من قِبَل العديد من المحافظين الدائمي الظهور على شاشات التليفزيون. بدأ مسار دونالد ترامب إلى الرئاسة في العديد من النواحي من هذه النقطة؛ حيث أصبح من أبرز الشخصيات المعروفة التابعة لحركة بلد الولادة.
هذه الحركة التي تحوَّلت من حركة هامشية إلى إحدى حركات التيار السائد تجذَّرت في اقتراحات غامضة، وتلميحات، وزيف صريح يدَّعي أن أوباما لم يكُن مواطنًا أمريكيًّا، وأنه كان يَدين سرًّا بالإسلام. وقد استند كِلا الاتهامَين إلى الادِّعاء الأساسي بأن أوباما لم يكُن أمريكيًّا في الأساس، وأنه (بالإضافة إلى المسلمين) يمثِّل تهديدًا للبلاد. كانت مزاعم الحركة شنيعةً إلى الحد الذي جعلها تبدو متجاوِزةً حدودَ السخافة، لكن جوانب العنصرية السامَّة، والقومية البيضاء، والإسلاموفوبيا التي أظهرَتها داخل المجتمع الأمريكي عمومًا كانت مصدر خوف للكثيرين.
ووسط هذا الجو الإعلامي المحتقن والمشحون بالعنصرية في صيف عام ٢٠٠٨، نشرت صحيفة «نيويوركر» غلافًا من تصميم الرسام الكاريكاتوري والمصوِّر باري بليت، حاوَل فيه تجسيد سخافة ادِّعاءات الحملة. فقد صوَّر الغلاف، تحت عنوان «سياسة الخوف»، ميشيل وباراك أوباما واقفَين في المكتب البيضاوي وهما يتبادلان الابتسامات المتكلِّفة والتصافح بقبضة اليد. وبدلًا من البذلة المعتادة وربطة العنق، يرتدي أوباما في الصورة عمامة وسروالًا وقميصًا، وهو ما قد يفسِّره المُشاهِد الأمريكي العادي على أنها ملابس من الشرق الأوسط. وترتدي ميشيل أوباما بنطالًا مموَّهًا، وأحذية قتالية، وحزام ذخيرة من الرصاص، وبندقية آلية معلَّقة بشكلٍ فضفاض، وقد صفَّفت شعرها بطريقة الأفرو الكبيرة على طراز أنجيلا ديفيس عام ١٩٦٩؛ فقد كان هذا هو مظهر القوة السوداء والنزعة النضالية. وبجانب الزوجَين، يحترق علم أمريكا في المدفأة أسفل صورة شخصية لأسامة بن لادن الذي كان لا يزال طليقًا آنذاك.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسخر فيها غلاف صحيفة «نيويوركر» من السياسة، كما لم يكن أول رسمٍ سياسي لبليت. فالصحيفة كانت صاحبةَ تاريخٍ طويلٍ في استخدام أغلفتها، ورسومها الداخلية، ورسومها الكاريكاتورية، ومؤخرًا صورها الفوتوغرافية لتحويل كل عددٍ من أعدادها إلى عمل جمالي أو أجواء شاملة تُميِّز المجلة بأنها حضرية، وعالمية، وتثقيفية، وذات توجُّه اجتماعي ليبرالي. كانت الصحيفة، التي تميل إلى أسلوبٍ ذكي وساخر، تعرض باستمرار غلافًا فنيًّا استفزازيًّا، ومثيرًا للجدل، ولافتًا للنظر، وسياسيًّا. لم تكن الصحيفة حادةً قَط كبعض الصُّحف الأوروبية مثل «شارلي إيبدو» أو «برايفت آي»، وكانت تبتعد عن الفكاهة الأكثر طفوليةً كالتي تستخدمها صحيفة «ماد ماجازين»، بل سعت إلى أرضيةٍ وُسطى أكثر ذكاءً وأكثر لطفًا لتناسب المفاهيم المتغيرة للنخبة المثقفة التي يتركز اهتمامها على الولايات المتحدة.

لا تنجح السخرية البصرية إلا عندما يفهم الجمهور بوضوحٍ أن الصور مبالغٌ فيها للغاية، وبعيدة كلَّ البُعد عن الواقع إلى درجة تصل إلى حد العبث. من الصعب عادةً وصف السخرية البصرية لشخصٍ من ثقافة أو فترة تاريخية أخرى؛ لأن معظم الرموز والمعاني لها خصوصيتها المكانية والزمانية. في حالة غلاف بليت، من الواضح أن بليت وريمنيك افترضا أن الصورة ستكون مبالغًا فيها بشدة ومباشِرةً في نواياها إلى درجةِ أن ليس فقط الجمهور المستهدَف مباشَرة، بل أيضًا جمهور أوسع، سيفهم الفكاهة المقصودة والتعليق السياسي والاجتماعي للغلاف على العِرق، والوطنية، والجوهر الأمريكي.
لكن ردود الفعل أظهرت بوضوحٍ أن شيئًا ما في الصورة لم يكن كافيًا. فلم تكن هزليةً أو ساخرةً بما فيه الكفاية، أو بعيدةً بما يكفي عن تصورات الواقع لتُفهَم على أنها لا تنقل الحقيقة. تشير ردود الفعل العامة إلى أن شيئًا ما في الصورة بدا كأنه يحُوم بشكلٍ خطير — بل قريب جدًّا أيضًا — من المعتقَدات الشائعة التي اعتبرها الكثيرون، ومن ضِمنهم حملة أوباما، مُسيئة. أشار الغضب الشعبي من الصورة، حتى قبل ترشيح أوباما، وحتى قبل أن تصل حركة «بيرثر» إلى ذروتها، إلى أن هناك شيئًا خطيرًا للغاية في نشر صورة تُلمِّح إلى أن هيئة الزوجَين أوباما وأفعالهما العلنية كانت تُخفي نوعًا آخَر من الواقع الخطير.
هل جعل الغلاف أسوأَ مخاوف حركة «بيرثر» أكثرَ احتماليةً وواقعية بتصويره لها بغرض السخرية منها؟ هل كشف عن جانبٍ من الحقيقة أمام أولئك الذين يَتُوقون إلى تأكيدها؟ حتى التصافح بقبضة اليد — وهي إيماءة كان الزوجان قد فعلاها عدة مرات، وكانت في نظر الكثيرين إشارة إلى عاطفتهما المتبادَلة وعصريتهما — قد استحالت في هذه الصورة إلى رمزٍ عِرقي للُغة سرية أو رمزٍ مُعادٍ لأصحاب البشرة البيضاء في الأساس. هذا هو ما تتحدث عنه هذه الصورة، ليس فقط الخوف من أن يكون الزوجان أوباما «حقًّا» شيئًا آخر (متطرِّفَين، مسلمَين، مناهضَين لأمريكا)، بل أن يكون في مكنونَيهما كراهية عميقة وعنيفة للبيض.
لم تكُن السخرية المطلَقة من هذا التحوُّل للعنصرية الهيكلية وقرون من العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي والثقافي الذي ارتكبه البيض ضد السود وهياكل السلطة العنصرية البيضاء؛ قادرةً على جعل هذه المخاوف تبدو غير معقولة بكل المقاييس أو أقل صدقًا. كما أنها لم تُخفِ الشك الذي لازَمه الخوف من أن يكون الزوجان أوباما وكل الأمريكيين السود لديهم مبررات قوية لهذه الكراهية. وفي النهاية، صمتت الصورة عن الإشارة إلى أن البيت الأبيض كان دائمًا مساحة بيضاء متطرفة تخطِّط سرًّا ضد أصحاب البشرة غير البيضاء.
من الواضح أن صحيفة «نيويوركر» وبليت لم يعتذرا عن الصورة، وواصل بليت رسم صور السخرية السياسية للصحيفة. أصبح أوباما، بالطبع، الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، واستمر هو وعائلته مثالًا لمسألة العِرق بطرقٍ تبنَّاها كِلا الزوجَين، وكافح ضدها بِهمَّة، بل حتى بشراسة أيضًا. وستظل كلمة «مُسيئة» مصطلحًا يحُوم حول مختلِف تمثيلات الرئيس أوباما؛ حيث حاوَل العديد من المؤسسات والأفراد التحكم في دلالة بشرته وصورته.
مَن يمتلك المعرفة
كما توحي الحالة البصرية الحالية، تصبح الكيانات ذات معنًى، وقابلة للإدارة، ومعروفة من خلال البصر، ومن خلال فعلَي الرؤية والتمثيل. يُغذَّى عقلنا بأفكار حول الكيانات تجعلها شائعة بصريًّا، فلا تُعَد مُميَّزة، بل مجرد رموز. ولكن هذه الكيانات نفسها مقاوِمة وعصيَّة على السيطرة، وتتحدَّى سلطة النظر. في كل منعطف، نرى كياناتٍ تعاند، ترفض التصنيف، وترفض النظر إليها وفقًا لمعايير محددة. ولكن هل يمكِننا أن نتبادل النظر أو ننظر إلى أنفُسنا على نحوٍ يُرينا حقًّا جوهرَنا؟ أم أن «إرثنا البصري» يجعلنا نرى مجرد ظلال أو صور نمطية وليس كيانات حقيقية؟
في حين قد يبدو أن التكنولوجيا الجديدة (وأفكِّر هنا في الواقع الافتراضي، ووسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، والتعرُّف على الوجوه) جعلت مسألة هُوية الشخص الذي يقع في مجال الرؤية أكثر إلحاحًا، فإنني أُرجِّح أن هذا ما هو إلا التجسيد الأحدث للمفارقة الأساسية للثقافة البصرية؛ وهي أننا لم نتمكَّن قَط من رؤية أنفسنا أو أي شخصٍ آخر على نحوٍ حقيقي. ومن ثَم فإن الثقافة البصرية هي المحاولة المتواصلة، والمستمرة في الفشل، لتكرار أو تجاوز الكيانات التي قيَّدتها نماذج القِيَم البصرية التي تتَّسم بالعنصرية، والتطابق الجنساني، والتحيُّز الجنسي، والتمييز ضد ذوي الاحتياجات الخاصة، والتفرقة العمرية. الثقافة البصرية التي نُنشِئها ونُعِيد إنشاءها هي غالبًا الآلية نفسها التي تحرمنا من الرؤية الحقيقية للكيانات الجسدية الأخرى والوصول إليها والتعاطف معها. لذلك، بغض النظر عن التكنولوجيا وعدد الصور الملتقَطة، غالبًا لا نملك التحكُّم في كيفية رؤيتنا للآخرين أو رؤية الآخرين لنا.
تحدثت سوزان سونتاج عن الأخلاقيات البصرية في كتابها الشهير «عن التصوير الفوتوغرافي» (١٩٧٧)، ثم بعد ٢٥ عامًا، في أعقاب أحداث ١١ سبتمبر تقريبًا، في كتابٍ آخر بعنوان «رؤية ألم الآخرين» (٢٠٠٣). فقد تساءلت، في مواجهة قوة التصوير الفوتوغرافي أو غيابها، عما إذا كان استنساخ صور جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والمعاناة الإنسانية العادية يثير في نهاية المَطاف التعاطفَ أم اللامبالاة. كانت سونتاج تتوسَّع في موضوعات ذات جذور تاريخية في مواجَهة الهولوكوست وتصوير الصدمات، دون أن تنسى قَطُّ قدرةَ الصور على إدامة الصدمات. طالَب المنظِّرون جورج ديدي هوبرمان، وفريد موتين، وأرييلا أزولاي، وجاك رانسيير بإعادة صياغة العلاقة بين المُشاهِد وموضوع الصورة والصورة نفسها، ساعين جميعًا إلى إيجاد حلولٍ أكثر فعاليةً للتعامل مع الطرق التي تضر بها الصور، دون الاكتفاء بمجرد إشاحة النظر عنها. يطالبون جميعًا بالنظر بطريقة أفضل، بالنظر بكرامة وتعاطف، انطلاقًا من فَهمهم أن النظر هو بمنزلة رحلة أخلاقية وضرورة ثقافية.
كتب ميرزويف عن «الحق في النظر»:
الحق في النظر إلى الآخرين هو أيضًا الحق في أن ينظر الآخرون إلينا، ولكن هذه الحقوق، كما ذكرنا سابقًا، تعتمد على اتفاقٍ ومساواة يفتقدان الأرضية الصلبة، على افتراضِ وجود الآخَرين بالفعل، وأن حقوقهم مهمة. ليست لدينا بعدُ تلك الثقافة البصرية، وغالبًا ما تُقيِّدنا الصور أكثر مما تُحررنا.
ولكن قبل أن نفكر في إشاحة النظر، دعونا نفكِّر أكثر قليلًا في أمرِ مَن نراه.
مَن أنا
ثمة دليلٌ على أننا نحاول — عالميًّا وفرديًّا، وبمساعدة كبيرة من التكنولوجيا — أن نرى أنفسنا والآخرين بطرقٍ جديدة. يعتمد نجاح هذه المحاوَلات اعتمادًا تامًّا على تعريف النجاح البصري، ولكن يبدو أن التحكم الشخصي في المجال البصري الخاص واعدًا. إذا كانت النظرة هي ما تسبب الضرر، فمن المرجح أن ملايين الأشخاص الجدد — أي الأشخاص الذين كانوا محرومين تاريخيًّا من المُشاهَدة أو السلطة والتمكين التي تترتَّب على النظر — يمكِنهم كسر قوتها وعنفها من خلال السيطرة عليها.
ما يُسلِّم به كِلا طرفَي الجدل هو أن مَن يلتقطون صور السيلفي يرغبون في أن تكون لهم السيطرة على صورهم، ويعتقدون أنها لهم بالفعل؛ بعبارة أخرى، أنه بتكرار الصور، وضبط الزاوية المناسبة، واستخدام الإكسسوارات أو الوضعيات الصحيحة، يمكِنهم صُنع صورة مستقرة، وقابلة للتحكم، وصحيحة عن أنفسهم. وفقًا لوجهتَي النظر، تكشف صور السيلفي عن إيمان عالمي متزايد بقوة الثقافة البصرية، وقدرة الفرد على التحكُّم في مكانه فيها. لقد كنت هنا. أنا موجود بالفعل. مَن أنا؟ حسنًا، ها أنا هنا!
تُعَد كيم كارداشيان ويست شخصية محورية في حركة السيلفي البصرية هذه. سواء أحببناها أو كرهناها، فإن نجمة برامج الواقع تُظهِر قوة صور السيلفي، وتُعَد بمنزلة سفيرة لعالم تشكيل الذات والعلامات التجارية الشخصية، وتُجسِّد القوة، والثروة، والقدرة على الظهور التي تَعِد بها ثقافة السيلفي. (بالنسبة إلى آخرين، تمثِّل تحذيرًا، أو علامة على فوات الأوان.) تُعَد صور السيلفي التي تلتقطها بمنزلة روابط جوهرية مع معجَبيها والعالم، وربما تُعَد أبرز جانبٍ في تسويقها لذاتها/علامتها التجارية. تخبرنا صور السيلفي عن الشخصية التي تريدنا أن نراها عليها. تكتسب هذه الهُويَّة أهمية كبيرة، ويتسع سجلُّها إلى درجة أن كيم كارداشيان ويست نشرت في عام ٢٠١٥ مجموعة من الصور، بأسلوب الكتب الفنية لطاولات القهوة، تحت عنوان «سيلفيش» (أنانية). وكان من أكثر الكتب مبيعًا وفقًا لصحيفة «نيويورك تايمز». إن فكرة إمكانية ووجوب نقل هذه الصور في حد ذاتها من موقعها على الإنترنت ووسيطها الرقمي إلى كتاب فني؛ تُبرِز المعنى الذي منحَته كيم كارداشيان ويست وآخرون لقيمة مشاهَدة صورها التي أنشأتها بنفسها من الناحيتَين المالية والثقافية. في ثقافة شعبية مشبَّعة بعائلة كيم كارداشيان ومَن يدورون في فلكها، هل تكمُن قيمة صور السيلفي التي تلتقطها كيم في وعدها الأصالةَ خلف الكواليس، التي تصنعها وتديرها بنفسها؟ أم أن مشروع «سيلفيش» بأَسْره مجرد نكتة داخلية ضخمة، لحظة مُربحة تهدف إلى السخرية من الذات والثقافة؟
لفهم المعنى الكامل لمشروع «سيلفيش» ومُبدِعته، نحتاج إلى التراجع والنظر في تاريخ كيم كارداشيان ويست الطويل ورحلتها في عالَم الشهرة. اللحظة المتَّفق عليها عالميًّا لمصدر شهرتها الضخمة هي لحظة إطلاق عملاق صناعة الأفلام الإباحية، شركة فيفيد إنترتاينمنت، شريطًا جنسيًّا لها على الإنترنت في عام ٢٠٠٧. كان الشريط تسجيلًا خاصًّا لكيم وهي في الثانية والعشرين من عمرها. عندما علمت ببيع الشريط، رفعَت دعوى قضائية لإيقاف نشره، وأصرَّت على أنها لم تكُن على علمٍ بالبيع، أو لها دور فيه. جرَت تسوية الدعوى خلال أسابيع، وفي أبريل ٢٠٠٧ أصدرت شركة فيفيد إنترتاينمنت الفيلم الذي مدته ٤١ دقيقة بعنوان «كيم كارداشيان، سوبر ستار» (كيم كارداشيان، نجمة النجوم). بعد ستة أشهر، بدأت قناة «إي!» عرض برنامج الواقع الذي يتحدَّث عن عائلتها، وكان اسمه «كيبنج أب ويذ ذا كارديشيانز».
نشأ صعود كيم كارداشيان ويست إلى الشهرة، ثم إلى النجومية من هذه اللحظة التي كشفَت عن حياتها الخاصة. عُرِض التداخل الإباحي بين حياتها العامة والخاصة بشكلٍ صريح، وبِيعَ الفيديو على أنه قد صُوِّر دون موافَقتها. ربما أشارت هذه اللحظة إلى خطر الوعد الإدماني بالشهرة، والثروة، والقوة والإرادة «الحرة» في عالم من رأسمالية المراقبة وأشكال الموافقة المتدهورة.
لم تختبئ كارداشيان ويست في خجلٍ، أو تتراجع عن سعيها وراء النجومية في عام ٢٠٠٧، بل حوَّلت لحظة واحدة كشفَت عن حياتها الخاصة إلى حياة من الانكشاف الدائم ومسيرة مهنية لها وللكثيرين غيرها. كانت لا تتوانى في ترويج نفسها، حيث دفعت بجسدها وطوَّرت علامتها التجارية لتشمل أكبر عدد ممكِن من المنصَّات البصرية، من وسائل الإعلام المطبوعة التقليدية إلى التليفزيون وحتى الأفلام. على الرغم من ذلك، فقد كان أساس شهرتها الواسعة دائمًا هو الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وأداءها في الاتصال المباشر و«الحقيقي» مع معجَبيها/مستهلِكيها. كانت كارداشيان ويست من أوائل مستخدِمي الإنستجرام؛ حيث تغذِّيه بمحتوًى مستمر، هو في معظمه صور لوجهها وجسدها شبه العاري. لا يزال شريط الفيديو متاحًا للمشاهدة، لكنه أصبح في كثير من النواحي أقل لقطات كارداشيان ويست المتاحة كشفًا أو خصوصية. لقد استولت على الآليات نفسها التي سلبَتها السيطرة لتغمرها بقصتها الخاصة. تمثِّل صور السيلفي وسيلة لاستعادة النظر والتحديق، ولتمكينها باعتبارها المسئولة عن سرد قصتها الخاصة، لا أن تكون موضوعًا في قصةِ شخصٍ آخَر. فقصة كارداشيان ويست في جوهرها هي قصة عن النوع الاجتماعي والنساء.
أتردَّد في وصف كيم كارداشيان ويست بأنها متمردة نسوية، أو محارِبة من أجل الحرية، أو محطِّمة للأيقونات في إعادة تصوُّرها وتصويرها لجسدها، وعلاقتها بالاتجاهات الكبرى في استهلاك الجسد الأنثوي. لقد أصبحت معروفة علنًا من خلال الاستغلال الجنسي (الذي، حسب قولها، كان انتهاكًا)، لكن الصور التي تنتِجها بنفسها لا تفعل سوى تعزيز وتوسيع انتشار نسخة «كيم كارداشيان ويست» التي في الفيديو. تقدِّم جسدَها بوصفه أداة لاستهلاك الآخَرين ومتعتهم. تتلوَّى، وتنحني، وتتَّخذ أوضاعًا. جميع صورها توجِّه النظر إلى وركَيها، ومؤخرتها، وصدرها، وفي حالة توجيهها النظر إلى وجهها، يكون فمها غالبًا مفتوحًا قليلًا بطريقة إيحائية، تمامًا مثل نظرتها وهي تنظر إليك وأنت تنظر إليها.
الجسد الأنثوي مثقَل دائمًا بالانكشاف، والتوقعات، والأحكام، والنظر إليه.
من خلال سيطرة كارداشيان على الحوار البصري الذي تمثِّله صور السيلفي، أخذت جسدها، الذي أصبح متاحًا للاستهلاك الجنسي من قِبَل الجميع عبر شركة فيفيد إنترتاينمنت، ثم قامت بتكرار عملية تمييزه جنسيًّا «بنفسها». وبهذه الطريقة، سلَّحت ووظَّفت الطُّرق التي كانت تُستخدَم على مر التاريخ للسيطرة على النساء وأجسادهن لتحقيق المتعة للرجال، وهي متعة غالبًا ما كانت تُؤخَذ من النساء دون موافَقتهن، ونادرًا ما كانت تجلب لهن المنفعة، ولا سيما من الناحية المالية. بالإضافة إلى ذلك، أعادت تصوُّر هذه الرؤية وتكييفها لتتناسب مع مراحل جديدة من حياتها بصفتها أمًّا ومديرةَ أعمال.
من نقاط الخلاف الرئيسية بالنسبة إلى الكثيرين في تفسير قصة كيم كارداشيان ويست؛ أنها هي ووالدتها قد تكونان مَن قامتا بتدبير بيع شريطها الجنسي، وأن مَزاعمها بالانتهاك كانت جزءًا من الأداء التمثيلي. ظهر هذا الاتهام بشكلٍ متكرر وبطرقٍ متعددة حتى اكتسب لمسة من الحقيقة، على الرغم من استمرار نفي عائلة كارداشيان. لكن الصراع بين «الذنب» و«البراءة»، و«الاستراتيجية» أو «الضحية»، لا يزال يُصوَّر بصريًّا من خلال جسد كارداشيان ويست. إذ يكرر مَزاعم كره النساء التي تعود لزمنٍ بعيد، القائلة بأن النساء لا يتعرَّضن للانتهاك لأنهن دائمًا يرغبنَ في أن يكنَّ مَرئيات، ومرغوبات، ومنكشفات؛ حيث تُفترَض دائمًا موافَقتهن، حتى عندما يقُلن «لا». دائمًا ما تخضع قوة النظرة لإذن النظام الأبوي، حتى عندما تُوجَّه ضدَّه.
إليك مثالًا أمريكيًّا آخَر على هذا النوع من المقاوَمة. في عام ٢٠١٤، شرعت الطالبة في جامعة كولومبيا إيما سولكوفيتش في حمل مَرتبة مزدوجة في أرجاء الحرم الجامعي والفصول الدراسية بوصفه جزءًا من عملٍ أدائي أُطلِق عليه لاحقًا اسم «احمل ذلك الوزن». كانت سولكوفيتش (التي تستخدم ضمائر الجمع المحايدة في اللغة الإنجليزية للحديث عن نفسها) قد تعرَّضَت للاغتصاب في سنتها الثانية في الجامعة، وبدأت بسحب المرتبة الثقيلة وغير المريحة خلال سنتها الأخيرة بوصفها علامةً علنية على الحادث، وعملًا لمواجَهة رفض جامعة كولومبيا طرد المغتصِب، وبوصفها أطروحة لتخرُّجها وأداءً فنيًّا. من المحتمَل أن نطاق الأداء كان سيبقى محليًّا إلى حدٍّ كبير لو لم يكُن هناك العديد من الفيديوهات والصور لسولكوفيتش وهي تحمل المرتبة، التي جرى تحميلها على «يوتيوب» و«تويتر» و«فيسبوك» و«إنستجرام». أدَّى الانتشار الواسع للأداء وقصة سولكوفيتش إلى جذب انتباه شخصيات بارزة مثل الفنانة الشهيرة مارينا أبراموفيتش، والنسويات مثل الناقدة الفنية روبيرتا سميث من صحيفة «نيويورك تايمز»، والسيناتور كيرستن جيلينبراند، التي كانت تناضِل في ذلك الوقت من أجلِ مزيدٍ من الاعتراف بمشكلة الاعتداء الجنسي والعنف ضد النساء في الجيش.
إن مقارنة سولكوفيتش بكيم كارداشيان ويست ليست لتقليل شأن الأولى أو رفع مكانة الثانية، بل هي لتسليط الضوء على الظروف المشتركة بينهما من حيث النوع الاجتماعي، والسياق، والتكنولوجيا، وطرق انتشار إبداعاتهما وتأكيدهما على الإرادة والسيطرة. فكلتاهما تستخدم المفردات البصرية المتعلقة بالوصول والتصورات النمطية حول النوع الاجتماعي، والجنسانية، والقوة التي سهَّلت تحوُّل النساء والأجساد الأنثوية إلى أشياء مادية استُغِلَّت على مدى قرون. وكلتاهما تريد أن تكون لنسختها عن هُويَّتها قوة من خلال الانتشار.
إن قيام كارداشيان ويست وسولكوفيتش بذلك، جزئيًّا، عبر تبنِّي الأدوار الجنسانية ﻟ «الضحية» وإظهار بعض مظاهر الضَّعف النمطي؛ يسلِّط الضوء على سِمة مشتركة أخرى بينهما، وهي الامتياز. فقد أتاح الوضع العِرقي والاقتصادي والاجتماعي لكلٍّ منهما، والسُّبُل التي قدَّمها، الأسسَ اللازمة لتصوُّر تمرُّدهما وتنفيذه. هذا هو بالضبط نوع الوصول وأفق الإمكانات التي حُرِمت منها معظم النساء والأشخاص غير المقيَّدين بالتنميطات الجنسانية مِن غير أصحاب البشرة البيضاء، أو الفقراء، أو ذوي الإعاقة، أو غير الأمريكيين، وغيرهم. كما أن مكانتهما سمحَت لهما بأن يُنظَر إليهما كبَرِيئتَين مؤنثتَين تعرَّضتا للظلم. في النهاية، فإن عمل «احمل ذلك الوزن» الأدائي لا يكون له معنًى إلا إذا كانت سولكوفيتش تكافح بوضوحٍ مرئي مع المرتبة وحركتها. إذ تُبرِز الرسالة البصرية بالضرورة هشاشةَ الأجساد التي يُفترَض أنها أنثوية، وضَعْفها.
يبدو أن التكنولوجيات الحديثة للثقافة البصرية تَعِد بحُريات جديدة وأشكال محتمَلة للعدالة من خلال توفير منصَّات لمزيدٍ من الأصوات، والمزيد من الإرادة، والقدرة على وضع سرديات جديدة. لكن إذا كانت كارداشيان ويست وسولكوفيتش تجدان طرقًا بطولية لتجاوز بعض أفخاخ تمثيلاتهما الجسدية، فإن نجاحَيهما نفسَيهما يبرزان مدى صعوبة استعادة الجسد من «جميع» الأفخاخ. وهذا يعني أنه بينما تستخدم كارداشيان ويست وسولكوفيتش الثقافةَ البصرية لاستعادة السلطة الفردية والسيطرة، وتدَّعيان أن تكنولوجيا المراقَبة وسيلة للتمكين، فإنهما في النهاية تلجآن إلى إعادة صياغة الفئات الجنسانية القائمة وتعزيزها. قد نرى ماهية الفتاتَين، ولكن هذا يعتمد على استراتيجيات بصرية تحجب ما قد تكون عليه ماهية الآخرين. فمن الواضح أن الوعد بأن هذه القوة البصرية الجديدة للفرد ستساعد في كسر الأنماط الكبرى، وأننا جميعًا سوف «نرى» أنفُسنا والآخرين بطرقٍ جديدة وأكثر صدقًا، لا يتحقق.
مَن يمكِنه الرؤية
في الآونة الأخيرة، نُظِرت قضية مهمة تتعلق بالثقافة البصرية والمِلكية — حول مَن يملك الحق في النظر — في محكمة بولاية ماساتشوستس. في ٢٠ مارس ٢٠١٩، رفعت تمارا لانيير دعوى قضائية ضد جامعة هارفارد تطالب فيها بدفع «تعويضات عقابية وعاطفية غير محدَّدة» عن سرقة صورة وفرض «سيطرة» قاسية على استخدامها. رفعت لانيير الدعوى نيابة عن قريبَيها المستعبَدَين رنتي ودليا، الأب وابنته، اللذين التُقِطت سلسلة من الصور الفوتوغرافية لهما في عام ١٨٥٠ في ولاية كارولاينا الجنوبية. كانت الصور الداجيرية جزءًا من أبحاث لويس أجاسيز، اختصاصي العلوم الطبيعية الشهير في القرن التاسع عشر الذي أسَّس متحف هارفارد لعلم الحيوان المقارن، وكان من المدافعين الشرِسين عن الفرضية العلمية القائلة بأن الأشخاص ذوي البشرة الملونة أقل في المرتبة البيولوجية من أصحاب البشرة البيضاء. ظلَّت مجموعة أجاسيز للصور محجوبةً عن الأنظار في أرشيفات الجامعة حتى أُعِيد اكتشافها في منتصف سبعينيات القرن العشرين. باعتبارها من أقدم الصور المعروفة للأشخاص المستعبَدين في الولايات المتحدة، سرعان ما حظيت الصور باهتمام العلماء والكُتَّاب الآخرين؛ وراقبت جامعة هارفارد نشرها بعناية شديدة وفقًا لقوانين حقوق الطبع والنشر. تُظهِر السجلات اهتمامًا كبيرًا بالحصول على الأذونات وجمع المدفوعات لإعادة إنتاج الصور، ويشمل ذلك التهديدَ بمقاضاة أولئك الذين لا يتَّبعون القنوات الصحيحة في ذلك.
بعبارة أخرى، استخدمت هارفارد الصور على النحو الذي رأته مناسبًا، وجنَت أرباحًا من تداولها (وهو ما يُعَد متوافقًا مع المعايير القانونية). شكَّل هذا أساس دعوى لانيير. فبحسب ما زعمت، لم يكُن في إمكان هارفارد امتلاك هذه الصور فعليًّا؛ لأن رنتي ودليا، بوصفهما شخصَين مستعبَدَين، لم يعطيا الجامعةَ الإذنَ بتصويرهما. فقد سرق أجاسيز الصور الأصلية أول الأمر، ثم واصَلت جامعة هارفارد تعظيم الجريمة وتضخيمها.
في الواقع، كانت الصور الداجيرية، بلا شكٍّ، مؤرِّقة وعميقة الأثر. يظهر رنتي ودليا في كل صورة عاريَين إلى الخصر، ووجهاهما إلى الأمام، وينظران مباشَرةً إلى الكاميرا. كان أجاسيز يصوِّرهما بوصفهما نموذجَين للدراسة، ليس بصفتهما فردَين ولكن بصفتهما عيِّنتَين عامَّتَين. وعلى الرغم من أنه من غير المحتمَل أنهما كانا على درايةٍ بتأثير اللغة البصرية السالبة للإنسانية والداعية إلى الإبادة الجماعية الناتجة عن صورهما، فإن لغة جسدَيهما وتعبيرات وجهَيهما تشير إلى أن الصور قد التُقطَت بالإكراه.
تركِّز هذه القضية القانونية المعاصرة على الحوار الثقافي المتزايد حول ما تفعله الصور بالأشخاص في سياق عدم المساواة الهيكلية، واستمرار الانتهاكات والإهانات والعنف القاتل ضد أجساد السُّود. استمدَّت القضية قوتها وحُجتها من الاستغلال البصري الذي أعقب قتل الشرطة مايكل براون في مدينة فيرجسون بولاية ميزوري، الذي أدَّى إلى إطلاق حركة «حياة السُّود مهمة». فقد تُرِكت جثة براون البالغ من العمر ١٨ عامًا بعد مقتله في وسط الشارع السكني، مكشوفةً أكثر من ساعة حتى غطَّاها مُسعِف بملاءة. بقيت الجثة مكشوفةً لقرابة ثلاث ساعات إضافية. إلى جانب إجبار سكان الشارع على مواجَهة الجثة، أتاح الفاصل الزمني للأفراد وفِرَق الأخبار فرصةً التقاط الصور الفوتوغرافية والفيديوهات للجثة بحرية. كشف هذا عن شهية لا تنتهي لاستهلاك أجساد السُّود بصريًّا وتفحُّصها ونشرها.
تطالب قضية لانيير جامعة هارفارد بوقفِ تداول صور أسلافها لتحقيق مكاسب مالية، وحلِّ هذه القضية حتى لا تصبح مجرد حالة أخرى من شراء أجساد السود وبيعها، ورؤيتها، وتجاهُلها. تقدِّم لانيير، بتحدِّيها حقوقَ الجامعة في الصور، مَطالِب بديلة للمِلكية والامتلاك الذاتي. وتقترح قضية لانيير أن تحديد مَن له الحق في الرؤية يجب أن يرتبط بأصحاب التاريخ والأجساد والآلام موضوع الرؤية.
هذه المسألة مهمة للغاية لأنها تجبرنا على التساؤل عن كيفية التعامل مع هذه الوثائق البصرية للآلام والصدمات، وعمَّن يملك الحق في اتخاذ هذا القرار. تشير سيديا هارتمان في كتابها «مَشاهِد الإذلال» (١٩٩٧) إلى أن تداوُل تصوير العبودية (الأدبي أو البصري) يُعيد إنتاج حالات نزع الإنسانية، مما يعني أن الأموات لا يزالون عُرضة لانتهاكات الأحياء. يُنتهَك الجسد المستعبَد باستمرار، ويُستخدَم بوصفه دليلًا على الأيديولوجيات العنصرية لتفوُّق العِرق الأبيض. ويستمر الوسيط البصري وطبيعته في هذا الاستغلال إلى أجلٍ غير مُسمى. وذلك ما لم يضع أحدٌ حدًّا للأمر، وما لم نتوقَّف نحن المُشاهِدين عن الرغبة الثقافية في رؤية الجسد الأسود في حالة من الخضوع والألم.
إذا كان قد بدا أن التحوُّل إلى أجهزة الكمبيوتر يَعِد بالتحرر من القيود الجسدية، ومن جميع أشكال التمييز القديمة، فسرعان ما تلاشت هذه الأوهام. تشير كمية هائلة من البيانات إلى وجود ممارساتٍ تمييزية متجذِّرة بعمقٍ في علوم الكمبيوتر وخوارزميات البيانات.
ماضي مَن، مستقبل مَن؟
لا تنشأ الثقافة والأفكار المتعلِّقة بالذات في مكانٍ آخر ثم تتغيَّر ببساطةٍ عبر الأدوات البصرية للدعاية. إننا نمرُّ بتجارب، ونحاول رؤية الأمور لكي نتمكَّن من التفاعل معها، ومن ثَم نتمكَّن من فهمها. والثقافة البصرية تقودنا نحو المعرفة؛ فالتخلي عن هذا الجانب من إنسانيتنا ليس سهلًا بمجرد الاختباء، أو الحظر، أو الرقابة، أو التدمير. وكما يُذكِّرنا تمثال «الملِك أوثال» للهياري، فحتى لو دمَّرنا شيئًا، فإنه يعود مجددًا.
كيف إذن نمثِّل الأجسام تمثيلًا أفضل؟ هل هناك طريقة لرؤية الأجسام على نحوٍ أقل تسببًا في الأذى والدمار؟ هل يمكِننا إنشاء بيئة بصرية يمكِننا مشاركتها والازدهار فيها، حيث نستطيع اختبار هُويَّتنا؟

استراتيجية توماس هي اكتشاف الصورة «الحقيقية» وتصويرها من خلال تاريخٍ من الصور غير الحقيقية. يصوِّر عملها الفوتوغرافي بالأبيض والأسود «متعة لحظة بالأبيض والأسود» (٢٠٠٨) امرأتين من صاحبات البشرة السوداء. تجلس إحداهما على أريكة وركبتاها مرفوعتان، مستنِدةً في راحة إلى الخلف وهي تحدِّق مباشَرةً في المُشاهِد دون أن تبتسم. وتجلس المرأة الثانية عند قدم المرأة الأخرى على وسادة على الأرض، وساقاها متباعدتان ويغطي فستانها المسافة بينهما، وذراعاها مسترخيتان في محاكاةٍ لوضعية ذراعَي المرأة الجالسة على الأريكة. تدير المرأة الثانية رأسها في زاوية أقرب لزاوية الصورة الجانبية وهي تنظر بعيدًا عن الكاميرا. وتمتلئ الغرفة التي يجلسان فيها بالنباتات والوسائد والسجاد والبطاطين والستائر، وجميعها مصنوعة من موادَّ بتصاميم متباينة. فالسجادة تحمل نقش الفهد، والأريكة وفستان إحدى المرأتين مزيَّنان بالزهور، بينما تحتوي الستارة والوسادة على تصاميم هندسية. المكان مزدحم للغاية بالنقوش والصور إلى درجةِ أنه قد تفوت البعضَ للوهلة الأولى رؤيةُ باقة الزهور الموضوعة فوق حِجر المرأة الجالسة على الأريكة، وهي ليست ممسِكة بها، بل هي موضوعة في مكانها لأغراض التأثير البصري.
هذه الزهور هي العامل المؤثِّر في حُجة توماس البصرية. فالزهور في هذا الوضع المنسدِل، تلك الباقة المقدَّمة للشخصية النسائية بشكلٍ غير رسمي، قد تستحضِر لدى الكثيرين لوحة «أولمبيا» لإدوار مانيه (١٨٦٣، متحف أورسي). تُظهِر تلك اللوحة، التي يَعُدها الكثيرون بدايةَ التحوُّل الحديث في الفن الأوروبي، عاهرةً مستلقية عارية على أريكة، وتتلقَّى باقة زهور من خادمتها السوداء. في الوقت نفسه، تُذكِّر صورة توماس للمرأتَين الجالستَين بسيقان متباعِدة بالعديد من لوحات هنري ماتيس التي تظهر فيها النساء السوداوات والشرقيات وهن مسترخياتٍ في بيئات تشبه الحرملك. كان ماتيس — أحد مُعاصِري بيكاسو في السعي نحو نوعٍ جديدٍ من الرسم، يسعى إلى الانفصال، إلى جمالٍ جديد، إلى فراغ في أجساد النساء غير البيض. سمحت له أشكالهن بتطويع النقوش، وتفكيك الأشكال والأنماط، والرسم على القماش. كان كلٌّ من ماتيس ومانيه يستلهم من تقاليد أقدم في تصوير النساء على أنهن مُتاحات، ومواد للزخرفة، وغير ذات أهمية.
من السهل جدًّا القولُ إن توماس تستعيد هذه الأجساد من تاريخ الفن ومن الفنانين البيض مثل ماتيس ومانيه. ولكن رؤيتها تمتد هنا أيضًا إلى صور من أحزاب الفهود السود، ونهضة هارلم، والأفرو لأنجيلا ديفيس (كما رأينا مع ميشيل أوباما في رسوم بليت)، وسينما استغلال السود في سبعينيات القرن العشرين. حتى في تلك اللحظات التي أكَّدت على تقرير مصير السُّود وتحرُّرهم وجمالهم، كانت النساء السوداوات غالبًا ما يُصوَّرن كزينة، وباعتبارهن متاحاتٍ في أغلب الوقت، وموجودات للاستهلاك البصري السهل معظم الأحيان. باختصارٍ، تقدِّم توماس تحدِّيات سافرة وحاذقة في هذه الصورة لتاريخ طويل ومشحون للغاية من النظر إلى أجساد النساء السوداوات.
ثمَّة استراتيجية بصرية مشابِهة في العرض البصري والسياسي الشعبي «هاملتون: مسرحية غنائية» (هاملتون: ذا ميوزيكال) للين-مانويل ميراندا. تتناول المسرحية — التي عُرِضت أول مرة في برودواي عام ٢٠١٥ — ظاهريًّا رحلةَ ألكساندر هاملتون غير المتوقَّعة ليصبح «أحد الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة. لكنها في الواقع عبارة عن تأمُّلات حول العِرق، والهجرة، والتاريخ، والذاكرة. التصور الآخر للمسرحية الموسيقية هو أن جميع الشخصيات التاريخية «الحقيقية» التي كانت بيضاء، باستثناء ملك إنجلترا، يجسِّدها ممثلون من أصول سوداء، ولاتينية، وآسيوية. بالإضافة إلى ذلك فإنه على الرغم من ارتداء الممثلين أزياء تعود إلى القرن الثامن عشر، تمزج الموسيقى وتصميم الرقصات بين أشكال المسرح الموسيقي التقليدي وموسيقى الراب والهيب هوب والآر آند بي.

يكمُن الاضطراب الجذري الذي يخلقه هذا العرض البصري — ومن المهم أن نتذكَّر أن التأثير لا يُدرَك إلا بصريًّا — في إحلال الأجساد غير البيضاء مكان الأجساد التي كانت على مَر التاريخ بيضاء، ومن ثَم تنويع السرد التاريخي. فهو، من ذلك المنطلق، إعادة كتابة بصرية للتاريخ. إذ يستولي اختيار طاقم التمثيل في المسرحية على سلطة تمثيل آباء الولايات المتحدة المؤسسين التي ارتبطت بلون البشرة البيضاء (إن لم يكُن برجولتهم)، ليُضفي على الأساطير التأسيسية ومفاهيم الوعد الأمريكي احتفاءً بنشاط المهاجرين الجُدد وحبهم لوطنهم الجديد.
بالنظر إلى النجاح الكبير الذي حقَّقته مسرحية «هاملتون»، لا يمكِن اعتبار إعادة الكتابة هذه حدثًا ثقافيًّا عابرًا. فقد فازت المسرحية بعددٍ لا يُحصى من الجوائز في الولايات المتحدة وخارجها، وبِيعت ملايين التذاكر والتسجيلات الأصلية لفريق العمل؛ كما ظهر ميراندا وأعضاء فريق التمثيل في السهرات التليفزيونية، والبرامج الحائزة على جوائز، والبرامج النهارية، والمجلات المطبوعة لأكثر من عام، وأثارت المسرحية نقاشًا سياسيًّا وأكاديميًّا حيويًّا على المستوى الوطني. منذ ذلك الحين، قامت المسرحية بجولاتٍ مستمرة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
على الرغم من ذلك، فإن إعادة الترتيب والقطع والإرباك تظل كلها استراتيجيات مثيرة للاهتمام تهدف إلى إخراج المُشاهِد من النظرة التقليدية، وتمنع الجسد المُشاهَد من التكيُّف مع أيِّ مفهومٍ ضيِّق أو مسبق. المشكلة هي أن هذه الطريقة تتطلَّب استرجاع ومعرفة كل ذلك التاريخ البصري، وكل تلك القصص السيئة السابقة، لتحقيق تأثير الأجساد الجديدة. ولكن يبدو أن توماس وميراندا لا يريان أي طريقة أخرى إلا من خلال الجسد، رغم كل المشكلات التي تصاحبه.
مَن يُترك خارج الحدود البصرية؟
سعى البعض إلى تجاهل الجسد على أمل تعديل علاقة المشاهدين بأجسادهم وأجساد الآخرين. يستوجب التفكيرُ في الجسد التفكيرَ في الحدود، وهو ما يفتح النقاش حول المواطَنة المتنازَع عليها والانتماء الوطني. تحوُّل معاني الأجساد من قانونية إلى غير قانونية يفرض عند عبورها حدًّا وهميًّا ضغوطًا كبيرة على عملية تصور الذات ومحيطها. حتى المصطلحات المستخدَمة — مثل مهاجِر، نازح، لاجئ، مشرَّد، غير موثَّق، منفي، غير مواطن — تشير إلى عجزٍ أساسي عن تمثيل حركة الأجساد بوضوح، سواء تحت الضغط أو غيره من الظروف.

تسعى مقاطع الفيديو لجينيفر ستينكامب، وخاصة «دياسبور ١» (٢٠١٤)، إلى تحقيق هذا النوع من التفكيك. إذ يواجه المُشاهِد أولًا سطحًا فوضويًّا من بتلات الزهور المتناثرة والأوراق والفروع والجذور التي تتحرك عبر الشاشة الكبيرة المعروضة عليها، كما لو كانت مدفوعة برياحٍ بطيئة. وتظهر الأنماط وتتشكَّل التكتُّلات، ولكن لا يحدث تماسكٌ واضحٌ قبل أن تبدأ البتلات والأفرع المنفردة في الانفصال والتحرك إلى الجانب الآخر من الشاشة، أو العودة إلى التكتُّلات السابقة. تبدو الحركات عشوائية، ولكنَّ ثمَّة تدفقًا إيقاعيًّا للعمل سرعان ما يصبح فاتنًا ومتجانسًا. العنوان، الذي يرمز إلى طريقة نثر النباتات أبواغَها، هو أيضًا إشارة إلى كيفية تنقُّل الناس في الشتات من طرفٍ من أطراف العالم إلى آخَر، والعودة مرة أخرى. يهاجر الناس ويحتشدون، لكنهم أيضًا يُلقَون خارج مسارهم بفعل حدود عشوائية. هذه الحركة توليدية، وفي الوقت نفسه، في النسخة البصرية لستينكامب، مُربكة، حيث لا يُتاح التحكم في جميع النقاط.

يستخدم الفنان براين بيشوب استراتيجية مختلفة لتناول الأزمة البصرية نفسها. يشتمل عمله «بلا عنوان (تأمُّلات حول الحدود ١)» (٢٠١٩) على أربعة أقسام، حيث يحتوي القسمان الأولان على رسوماتٍ للوجهَين الأمامي والخلفي لصورة فوتوغرافية التُقطت لصحيفة «ديلي فوتوجراف» لمسيرة على طول طريق فولز في بلفاست، أنهت حظر التجوال في فولز عام ١٩٧٠. أسهم هذا الحظر في تصعيد العنف بين الجيش البريطاني المحتَل والجيش الجمهوري الأيرلندي في لحظة محورية من النزاع. الصورة الثالثة هي للشفرة المصدرية لصورة فوتوغرافية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أثناء مناقشته قيمةَ الحدود والجدران في احتفالية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي يهدِّد بإعادة إرساء الحدود الفاصلة بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا، الأمر الذي مثَّل نقطة محورية لعقودٍ من العنف وآلاف الوفيات. الصورة الأخيرة هي رسم لأحد النماذج الأوَّلية للجدار الذي يطمح الرئيس ترامب إلى تمديده عبر الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة.
يحاول بيشوب، مثله مثل ستينكامب، وبالطبع توماس وميراندا، التواصُل حول الجسد، ومن خلال الجسد، للتفاعل مع تجسيدات الماضي التي تثقل قدراتنا على الرؤية بوضوح، فضلًا عن التعاطف، ثم التخلص منها. مَن نحن؟ يحاول جميع هؤلاء الفنانين تصوُّر هذه المسألة بطرقٍ جديدة.
•••
تدرك شتايرل سبب ابتعادنا عن الصور، عن المرئيات، ولا سيما الآن:
المشكلة ليست في التكنولوجيا وحدها، كما أوضح هذا الفصل، ولكن التكنولوجيا حقًّا لا تُسعِفنا. فالصور تسجننا، وتُلحِق بنا العار، وتجعلنا غير قادرين على معرفة أنفسنا والآخرين. بعبارة أخرى، كما يغني سبرينجستين ببلاغة، متسائلًا: «ما شعور الراكب في المقعد الخلفي لسيارتكِ الكاديلاك الوردية اللون.» الأغنية مفعمة بالحيوية والجاذبية، لكن الرسالة الأساسية تتعلَّق بالرغبة في الفَهم، في التواصُل. في الأغنية، هذه الرغبة هي أمنية، تساؤل، لم يتحقَّق قَط. وهي مسألة جسدية، تتعلَّق بالشعور بما يعني أن تكون في مكانِ شخصٍ آخَر. تلك الرغبة — ربما أكثر من المعرفة المأمولة — هي الدافع إلى أعمق رغبات المتحدث.
ما الشعور؟ ليتني أستطيع رؤيتك، ربما كنت سأعرف مَن أنت.