الفصل الثالث

مَن؟

«عزيزتي، فقط أتساءل عن شعور الراكب في المقعد الخلفي لسيارتكِ الكاديلاك الوردية اللون.»

بروس سبرينجستين1

تأمُّلات بصرية

بحلول يوليو ٢٠٠٨، كانت صورة باراك أوباما في كل مكان. فقد ظهرت على أغلفة عددٍ لا يُحصى من المجلات، بما في ذلك مجلة «رولينج ستون» التي وضعت ما يشبه الهالة حول رأسه. انتشر ملصق «الأمل» لشيبرد فيري بألوانه الأحمر والأبيض والأزرق بعد الثلاثاء الكبير (فبراير). ظهر فيه أوباما بصورة رصينة ينظر بعيدًا إلى جانبه، ربما إلى مستقبل أكثر أملًا. في يونيو، كانت لديه الأصوات اللازمة لتأمين ترشُّحه عن الحزب الديمقراطي (في مؤتمر أغسطس)، وكان مقررًا أن يواجِه السيناتور جون ماكين في الانتخابات العامة. كان أوباما أول أمريكي من أصلٍ أفريقي يرشِّحه أحد الأحزاب الكبرى لخوض الانتخابات الرئاسية، وفي نوفمبر من ذلك العام انتُخِب أول رئيس أمريكي من أصل أفريقي للولايات المتحدة.

كان صيفًا شاقًّا على أوباما. فقد دُفِع إلى التحدث بصريح العبارة عن هُويَّته العِرقية والتاريخ العِرقي والتوترات التي تعيشها الأمة. وقد أثار ذلك اهتمام وسائل الإعلام بخُطَب جيرمي رايت، القس السابق لأوباما في شيكاجو، ولا سيما مقولة تكررت كثيرًا في سياق خطبة عن العنصرية والظلم الهيكلي، حيث قال: «لعنة الله على أمريكا.» وقد هدَّدت مقاطعُ الفيديو التي جرى تحميلها على موقع «يوتيوب» وظهر فيها رايت في أثناء خطبه، والتركيزُ الإعلامي على القس «المثير للجدل» للمرشح وآرائه؛ بزعزعة استقرار حملة أوباما. وتحت ضغط الرد، ألقى أوباما ما أصبح يُعرَف باسم خطاب «اتحاد أكثر كمالًا». وفيه، حاوَل أن يوازن بين الاعتراف بالغضب المشروع لدى الكثيرين من غير البيض، ولا سيما الأمريكيون من أصل أفريقي، مع التمسُّك برسالته الثابتة عن الأمل، والمصالحة، والتقدم لكل الأمريكيين، تحت عباءة الحلم بتجاوز الماضي، والسعي نحو مستقبل عادل. ووفقًا لمعايير الحملة، كان الخطاب والتعليقات اللاحقة لأوباما حول رايت ناجحة إلى حدٍّ كبير، وبحلول شهر يوليو، كانت حملته قد استقرت، وأصبح يزور العديد من البلدان الأخرى لتوسيع ملف سياسته الخارجية، وتعزيز زخم حملته الرئاسية.

تكوَّنت حركة «بيرثر» (حركة بلد الولادة) واكتسبت زخمها في الوقت نفسه. نمت النظرية الزائفة التي تدَّعي أن أوباما لم يُولَد في الولايات المتحدة؛ ومن ثَم فهو غير مؤهَّل للرئاسة في عام ٢٠١٦ على أطراف الحركات القومية البيضاء في اليمين الأمريكي، واكتسبت انتشارًا في الثقافة السائدة عبر حملات موجَّهة مموَّلة من القطاع الخاص، وعبر تبنِّيها السريع من قِبَل العديد من المحافظين الدائمي الظهور على شاشات التليفزيون. بدأ مسار دونالد ترامب إلى الرئاسة في العديد من النواحي من هذه النقطة؛ حيث أصبح من أبرز الشخصيات المعروفة التابعة لحركة بلد الولادة.

هذه الحركة التي تحوَّلت من حركة هامشية إلى إحدى حركات التيار السائد تجذَّرت في اقتراحات غامضة، وتلميحات، وزيف صريح يدَّعي أن أوباما لم يكُن مواطنًا أمريكيًّا، وأنه كان يَدين سرًّا بالإسلام. وقد استند كِلا الاتهامَين إلى الادِّعاء الأساسي بأن أوباما لم يكُن أمريكيًّا في الأساس، وأنه (بالإضافة إلى المسلمين) يمثِّل تهديدًا للبلاد. كانت مزاعم الحركة شنيعةً إلى الحد الذي جعلها تبدو متجاوِزةً حدودَ السخافة، لكن جوانب العنصرية السامَّة، والقومية البيضاء، والإسلاموفوبيا التي أظهرَتها داخل المجتمع الأمريكي عمومًا كانت مصدر خوف للكثيرين.

ووسط هذا الجو الإعلامي المحتقن والمشحون بالعنصرية في صيف عام ٢٠٠٨، نشرت صحيفة «نيويوركر» غلافًا من تصميم الرسام الكاريكاتوري والمصوِّر باري بليت، حاوَل فيه تجسيد سخافة ادِّعاءات الحملة. فقد صوَّر الغلاف، تحت عنوان «سياسة الخوف»، ميشيل وباراك أوباما واقفَين في المكتب البيضاوي وهما يتبادلان الابتسامات المتكلِّفة والتصافح بقبضة اليد. وبدلًا من البذلة المعتادة وربطة العنق، يرتدي أوباما في الصورة عمامة وسروالًا وقميصًا، وهو ما قد يفسِّره المُشاهِد الأمريكي العادي على أنها ملابس من الشرق الأوسط. وترتدي ميشيل أوباما بنطالًا مموَّهًا، وأحذية قتالية، وحزام ذخيرة من الرصاص، وبندقية آلية معلَّقة بشكلٍ فضفاض، وقد صفَّفت شعرها بطريقة الأفرو الكبيرة على طراز أنجيلا ديفيس عام ١٩٦٩؛ فقد كان هذا هو مظهر القوة السوداء والنزعة النضالية. وبجانب الزوجَين، يحترق علم أمريكا في المدفأة أسفل صورة شخصية لأسامة بن لادن الذي كان لا يزال طليقًا آنذاك.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يسخر فيها غلاف صحيفة «نيويوركر» من السياسة، كما لم يكن أول رسمٍ سياسي لبليت. فالصحيفة كانت صاحبةَ تاريخٍ طويلٍ في استخدام أغلفتها، ورسومها الداخلية، ورسومها الكاريكاتورية، ومؤخرًا صورها الفوتوغرافية لتحويل كل عددٍ من أعدادها إلى عمل جمالي أو أجواء شاملة تُميِّز المجلة بأنها حضرية، وعالمية، وتثقيفية، وذات توجُّه اجتماعي ليبرالي. كانت الصحيفة، التي تميل إلى أسلوبٍ ذكي وساخر، تعرض باستمرار غلافًا فنيًّا استفزازيًّا، ومثيرًا للجدل، ولافتًا للنظر، وسياسيًّا. لم تكن الصحيفة حادةً قَط كبعض الصُّحف الأوروبية مثل «شارلي إيبدو» أو «برايفت آي»، وكانت تبتعد عن الفكاهة الأكثر طفوليةً كالتي تستخدمها صحيفة «ماد ماجازين»، بل سعت إلى أرضيةٍ وُسطى أكثر ذكاءً وأكثر لطفًا لتناسب المفاهيم المتغيرة للنخبة المثقفة التي يتركز اهتمامها على الولايات المتحدة.

fig11
شكل ٣-١: باري بليت، «سياسة الخوف»، صحيفة «نيويوركر»، ٢١ يوليو ٢٠٠٨. حقوق الصورة: باري بليت، صحيفة «نيويوركر». العمل ملك شركة كوندي نست.
ولكن سرعان ما واجَه غلاف أوباما الغضب والإدانة. وقد جاء في البيان الرسمي الصادر عن حملة أوباما: «ربما تعتقد صحيفة «نيويوركر»، على نحوِ ما أوضح لنا أحدُ موظفيها، أن غلافها هو سخرية كاريكاتورية من الصورة التي حاوَل منتقِدو السيناتور أوباما من اليمين المتطرف إعطاءها عنه. لكنَّ معظم القراء سيرَون الغلاف مجردًا من الذوق ومُسيئًا. ونحن نتفق معهم.» وعلى الفور أيَّدت حملة خصمه جون ماكين هذا التصريح؛ إذ أكَّدت أن الصورة «مجردة من الذوق ومُسيئة.»2 دافَع بليت عن رسمه، مشيرًا إلى أن منتقديه، ومن ضِمنهم حملة أوباما، فاتَتْهم الفكرة الأساسية: «أعتقد أن فكرة تصنيف الزوجَين أوباما على أنهما غير وطنيَّين [بل حتى إرهابيان] في بعض القطاعات هي فكرة حمقاء سخيفة. وقد بدا لي أن تصوير هذه الفكرة سيُظهِرها بتلك الصورة السخيفة المؤجِّجة لمشاعر الخوف.»3 دعم ديفيد ريمنيك، رئيس تحرير صحيفة «نيويوركر»، بليت، وفي الوقت نفسه سعى إلى حماية الصحيفة من هجمة سلبية من الاهتمام والتغطية الإعلامية، حيث قال: «ما أعتقد أن الغلاف يفعله هو أنه يعكس التحيُّزات والتصوُّرات المظلِمة حول ماضي باراك أوباما — الزوجَين أوباما — وسياساته.» وأضاف، قائلًا: «إنها «ليست» سخرية من أوباما، بل هي سخرية من التشوهات وسوء الفهم والتحيزات «حول» أوباما.»4 ولكن، بالنسبة إلى الكثيرين، فإن كل ما هنالك أن هذه النسخة المصوَّرة من الزوجَين أوباما، التي أنتجها ونشرها رجلان من أصحاب البشرة البيضاء، ساهمت في تعزيز عمل أصحاب البشرة البيضاء الذين يدعمون حركة «بيرثر».

لا تنجح السخرية البصرية إلا عندما يفهم الجمهور بوضوحٍ أن الصور مبالغٌ فيها للغاية، وبعيدة كلَّ البُعد عن الواقع إلى درجة تصل إلى حد العبث. من الصعب عادةً وصف السخرية البصرية لشخصٍ من ثقافة أو فترة تاريخية أخرى؛ لأن معظم الرموز والمعاني لها خصوصيتها المكانية والزمانية. في حالة غلاف بليت، من الواضح أن بليت وريمنيك افترضا أن الصورة ستكون مبالغًا فيها بشدة ومباشِرةً في نواياها إلى درجةِ أن ليس فقط الجمهور المستهدَف مباشَرة، بل أيضًا جمهور أوسع، سيفهم الفكاهة المقصودة والتعليق السياسي والاجتماعي للغلاف على العِرق، والوطنية، والجوهر الأمريكي.

لكن ردود الفعل أظهرت بوضوحٍ أن شيئًا ما في الصورة لم يكن كافيًا. فلم تكن هزليةً أو ساخرةً بما فيه الكفاية، أو بعيدةً بما يكفي عن تصورات الواقع لتُفهَم على أنها لا تنقل الحقيقة. تشير ردود الفعل العامة إلى أن شيئًا ما في الصورة بدا كأنه يحُوم بشكلٍ خطير — بل قريب جدًّا أيضًا — من المعتقَدات الشائعة التي اعتبرها الكثيرون، ومن ضِمنهم حملة أوباما، مُسيئة. أشار الغضب الشعبي من الصورة، حتى قبل ترشيح أوباما، وحتى قبل أن تصل حركة «بيرثر» إلى ذروتها، إلى أن هناك شيئًا خطيرًا للغاية في نشر صورة تُلمِّح إلى أن هيئة الزوجَين أوباما وأفعالهما العلنية كانت تُخفي نوعًا آخَر من الواقع الخطير.

هل جعل الغلاف أسوأَ مخاوف حركة «بيرثر» أكثرَ احتماليةً وواقعية بتصويره لها بغرض السخرية منها؟ هل كشف عن جانبٍ من الحقيقة أمام أولئك الذين يَتُوقون إلى تأكيدها؟ حتى التصافح بقبضة اليد — وهي إيماءة كان الزوجان قد فعلاها عدة مرات، وكانت في نظر الكثيرين إشارة إلى عاطفتهما المتبادَلة وعصريتهما — قد استحالت في هذه الصورة إلى رمزٍ عِرقي للُغة سرية أو رمزٍ مُعادٍ لأصحاب البشرة البيضاء في الأساس. هذا هو ما تتحدث عنه هذه الصورة، ليس فقط الخوف من أن يكون الزوجان أوباما «حقًّا» شيئًا آخر (متطرِّفَين، مسلمَين، مناهضَين لأمريكا)، بل أن يكون في مكنونَيهما كراهية عميقة وعنيفة للبيض.

لم تكُن السخرية المطلَقة من هذا التحوُّل للعنصرية الهيكلية وقرون من العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي والثقافي الذي ارتكبه البيض ضد السود وهياكل السلطة العنصرية البيضاء؛ قادرةً على جعل هذه المخاوف تبدو غير معقولة بكل المقاييس أو أقل صدقًا. كما أنها لم تُخفِ الشك الذي لازَمه الخوف من أن يكون الزوجان أوباما وكل الأمريكيين السود لديهم مبررات قوية لهذه الكراهية. وفي النهاية، صمتت الصورة عن الإشارة إلى أن البيت الأبيض كان دائمًا مساحة بيضاء متطرفة تخطِّط سرًّا ضد أصحاب البشرة غير البيضاء.

من الواضح أن صحيفة «نيويوركر» وبليت لم يعتذرا عن الصورة، وواصل بليت رسم صور السخرية السياسية للصحيفة. أصبح أوباما، بالطبع، الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة، واستمر هو وعائلته مثالًا لمسألة العِرق بطرقٍ تبنَّاها كِلا الزوجَين، وكافح ضدها بِهمَّة، بل حتى بشراسة أيضًا. وستظل كلمة «مُسيئة» مصطلحًا يحُوم حول مختلِف تمثيلات الرئيس أوباما؛ حيث حاوَل العديد من المؤسسات والأفراد التحكم في دلالة بشرته وصورته.

مَن يمتلك المعرفة

كما توحي الحالة البصرية الحالية، تصبح الكيانات ذات معنًى، وقابلة للإدارة، ومعروفة من خلال البصر، ومن خلال فعلَي الرؤية والتمثيل. يُغذَّى عقلنا بأفكار حول الكيانات تجعلها شائعة بصريًّا، فلا تُعَد مُميَّزة، بل مجرد رموز. ولكن هذه الكيانات نفسها مقاوِمة وعصيَّة على السيطرة، وتتحدَّى سلطة النظر. في كل منعطف، نرى كياناتٍ تعاند، ترفض التصنيف، وترفض النظر إليها وفقًا لمعايير محددة. ولكن هل يمكِننا أن نتبادل النظر أو ننظر إلى أنفُسنا على نحوٍ يُرينا حقًّا جوهرَنا؟ أم أن «إرثنا البصري» يجعلنا نرى مجرد ظلال أو صور نمطية وليس كيانات حقيقية؟

في حين قد يبدو أن التكنولوجيا الجديدة (وأفكِّر هنا في الواقع الافتراضي، ووسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، والتعرُّف على الوجوه) جعلت مسألة هُوية الشخص الذي يقع في مجال الرؤية أكثر إلحاحًا، فإنني أُرجِّح أن هذا ما هو إلا التجسيد الأحدث للمفارقة الأساسية للثقافة البصرية؛ وهي أننا لم نتمكَّن قَط من رؤية أنفسنا أو أي شخصٍ آخر على نحوٍ حقيقي. ومن ثَم فإن الثقافة البصرية هي المحاولة المتواصلة، والمستمرة في الفشل، لتكرار أو تجاوز الكيانات التي قيَّدتها نماذج القِيَم البصرية التي تتَّسم بالعنصرية، والتطابق الجنساني، والتحيُّز الجنسي، والتمييز ضد ذوي الاحتياجات الخاصة، والتفرقة العمرية. الثقافة البصرية التي نُنشِئها ونُعِيد إنشاءها هي غالبًا الآلية نفسها التي تحرمنا من الرؤية الحقيقية للكيانات الجسدية الأخرى والوصول إليها والتعاطف معها. لذلك، بغض النظر عن التكنولوجيا وعدد الصور الملتقَطة، غالبًا لا نملك التحكُّم في كيفية رؤيتنا للآخرين أو رؤية الآخرين لنا.

مَن يريد هذا؟ هذا سؤال صعب. من المؤكَّد أن الثقافة البصرية هي بمنزلة سجل للعنف، ولِمَا هو شخصي، وما هو سياسي. تترك صور الأشخاص آثارًا دائمة، آثارًا اجتماعية عميقة، خاصة على الأجساد موضع النظر. في الواقع، جوهر طبيعة النظرة ومعناها هما موضوع للتنظير المكثف.5 هل النظرة دائمًا فعلٌ تطفُّلي؟ هل من شأنها أن تكون لطيفة؟ هل لا بد أن تكون النظرة دائمًا مجالَ هيمنةٍ، كالأرض للمستكشِف والغازي؟ تشوِّه الصور الأجساد والهُويَّات وتحاصر الناس. هذا هو العنف الذي يجب أن نواجِهه إذا أردنا أن نفتح طرقًا جديدة ووسائل جديدة لرؤية ماهية أنفُسنا. هذه هي الأسئلة، التي يدور حولها هذا الفصل: مَن يُرى ومَن يستطيع أن يرى.

تحدثت سوزان سونتاج عن الأخلاقيات البصرية في كتابها الشهير «عن التصوير الفوتوغرافي» (١٩٧٧)، ثم بعد ٢٥ عامًا، في أعقاب أحداث ١١ سبتمبر تقريبًا، في كتابٍ آخر بعنوان «رؤية ألم الآخرين» (٢٠٠٣). فقد تساءلت، في مواجهة قوة التصوير الفوتوغرافي أو غيابها، عما إذا كان استنساخ صور جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والمعاناة الإنسانية العادية يثير في نهاية المَطاف التعاطفَ أم اللامبالاة. كانت سونتاج تتوسَّع في موضوعات ذات جذور تاريخية في مواجَهة الهولوكوست وتصوير الصدمات، دون أن تنسى قَطُّ قدرةَ الصور على إدامة الصدمات. طالَب المنظِّرون جورج ديدي هوبرمان، وفريد موتين، وأرييلا أزولاي، وجاك رانسيير بإعادة صياغة العلاقة بين المُشاهِد وموضوع الصورة والصورة نفسها، ساعين جميعًا إلى إيجاد حلولٍ أكثر فعاليةً للتعامل مع الطرق التي تضر بها الصور، دون الاكتفاء بمجرد إشاحة النظر عنها. يطالبون جميعًا بالنظر بطريقة أفضل، بالنظر بكرامة وتعاطف، انطلاقًا من فَهمهم أن النظر هو بمنزلة رحلة أخلاقية وضرورة ثقافية.

كتب ميرزويف عن «الحق في النظر»:

لا يتعلَّق الحق في النظر بمجرد الرؤية. إنه يبدأ على مستوًى شخصي بالنظر في عينَي شخصٍ آخر للتعبير عن الصداقة، أو التضامن، أو الحب. ويجب أن تكون هذه النظرة متبادَلة، حيث يتخيَّل كل شخصٍ الآخر، وإلا فستخفق هذه النظرة … يعني ذلك ضرورة التعرف على الآخَر من أجل الحصول على موضعٍ يمكِن منه المطالَبة بالحقوق، وتحديد ما هو صحيح.6

الحق في النظر إلى الآخرين هو أيضًا الحق في أن ينظر الآخرون إلينا، ولكن هذه الحقوق، كما ذكرنا سابقًا، تعتمد على اتفاقٍ ومساواة يفتقدان الأرضية الصلبة، على افتراضِ وجود الآخَرين بالفعل، وأن حقوقهم مهمة. ليست لدينا بعدُ تلك الثقافة البصرية، وغالبًا ما تُقيِّدنا الصور أكثر مما تُحررنا.

غير أن لإشاحة النظر مؤيديها أيضًا.7 فغض البصر أو رفض النظر يحمل نوعًا من الإرادة، ومن شأنه أن يكون بحد ذاته عملًا سياسيًّا، مرتبطًا بحماية الذات، أو الشعور بالذنب، أو كليهما. قد يكون رفض النظر موقفًا ضد التحوُّل البصري في التحليل الأكاديمي والثقافة العالمية الرأسمالية الليبرالية الجديدة المعاصرة، وهي حُجة مفادُها أن البصر والرؤية كانا طريقتَين معرفيتَين مميزتَين تعزِّزان عدم المساواة العالمية على حساب الحواس الأخرى والعدالة.

ولكن قبل أن نفكر في إشاحة النظر، دعونا نفكِّر أكثر قليلًا في أمرِ مَن نراه.

مَن أنا

ثمة دليلٌ على أننا نحاول — عالميًّا وفرديًّا، وبمساعدة كبيرة من التكنولوجيا — أن نرى أنفسنا والآخرين بطرقٍ جديدة. يعتمد نجاح هذه المحاوَلات اعتمادًا تامًّا على تعريف النجاح البصري، ولكن يبدو أن التحكم الشخصي في المجال البصري الخاص واعدًا. إذا كانت النظرة هي ما تسبب الضرر، فمن المرجح أن ملايين الأشخاص الجدد — أي الأشخاص الذين كانوا محرومين تاريخيًّا من المُشاهَدة أو السلطة والتمكين التي تترتَّب على النظر — يمكِنهم كسر قوتها وعنفها من خلال السيطرة عليها.

«السيلفي» هو مصطلح وشيء لم يكن موجودًا منذ ٢٠ عامًا.8 كانت الصور الشخصية موجودة في الرسم، والتصوير، والنحت، والتصوير الفوتوغرافي بوصفها وسائل لتصوير الأشخاص كما يرغبون في الظهور، ولكنها كانت تتطلَّب عادةً الكثير من العمل والمال، ومع مرور الوقت فقدَت الأماكن الواضحة المناسبة لعرضها. يمكِن للمرء، على سبيل المثال، إعداد الكاميرا، وضبط المؤقِّت، والتقاط صورة بسهولة إلى حدٍّ ما. ولكن بعد ذلك، كان الفيلم يحتاج إلى المعالجة والطباعة، وكان لا بد من تأطير الصورة الناتجة أو تثبيتها بطريقة ما، ثم تعليقها في مكان ما، كان عادةً مكانًا خاصًّا وشخصيًّا. كانت محاصَرة المرء نفسه بالصور الشخصية تحمل شيئًا من النرجسية واليأس، وتنطوي على دعوة إلى السخرية أو الشفقة، مثال على ذلك شخصية دوريان جراي الروائية ونورما ديزموند السينمائية، أو إحدى ضحايا النكات السينمائية التي لا نهاية لها حول الممثلات المغرورات وسيدات المجتمع المختالات.
حلَّ اليومَ الهاتفُ المحمول المزوَّد بكاميرا مشكلةَ إنتاج الصور، وتتولَّى منصات التواصل الاجتماعي المختلفة مسألة نشرها. فيمكِننا بسهولة إنشاء مستندٍ بصري تِلوَ الآخر لتسجيل ما نفعله، وكيف نبدو، وكيف نريد أن نبدو، ولدينا مساحات يمكِنها استيعاب هذه المجموعات المتزايدة باستمرارٍ من العلامات المميزة للهُويَّة البصرية المتغيرة. ليس مستغربًا أن ينتشر «التقييم الفني» خلال الفترة نفسها التي ظهر فيها مصطلح «السيلفي»؛ حيث أصبح الآن نشاطًا يمارسه الجميع، لا مهنيُّو المتاحف فقط. ذكرت صحيفة «تليجراف» في عام ٢٠١٦ أن أكثر من مليون صورة سيلفي التُقِطت يوميًّا في جميع أنحاء العالم، بينما كشف جوجل في العام نفسه عن تحميل أكثر من ٢٤ مليار صورة سيلفي على منصاته.9 يُعَد هذا عددًا كبيرًا من الوجوه والأجساد التي نُظِر إليها.
يبدو أن المعلِّقين على تزايُد صور السيلفي ينقسمون إلى معسكرَين عامَّين.10 إحدى وجهات النظر تنظر إلى صور السيلفي كأنها نهاية العالم. ربما يتملَّكنا جميعًا الغرور، ولكن يبدو أن منتقِدي صور السيلفي يعتقدون أن التكنولوجيات الجديدة للهاتف المحمول والفيسبوك فاقمَت هذه الصفة بشكلٍ كبير. ترتبط صور السيلفي في رأيهم بالنرجسية والعدمية، والمصلحة الذاتية، وغياب التعاطف، مما يؤدي أيضًا إلى ضَعف الثقة بالنفس. والأسوأ من ذلك، يرى المنتقدون صورَ السيلفي على أنها «عدوى» يمكِن أن تنتقل من شخص إلى آخر، ومن شاشة إلى أخرى.11 وتتناول مقالات المجلات الشعبية المشكلات النفسية المختلفة التي قد تتجنَّبها أو تنغمس فيها بسبب عادة التقاط صور السيلفي. هناك طرق لتشخيص نفسك تساعدك على معرفةِ ما إذا كنتَ تعاني من الهوس بالتقاط صور السيلفي.12 يحمل هذا التناول لظاهرة السيلفي أيضًا بُعدًا جيليًّا؛ إذ يرى كبار السن أن الشباب منشغلون بالتجمُّل، والتقاط الصور ونشرها بدلًا من الاستمتاع بالحياة نفسها. إذن تُعَد صور السيلفي، التي أصبحت منتشرة ومَرَضية، دليلًا على أعطاب اجتماعية أكثر عمقًا؛ فقد أصبحت الصور مسبِّبة للمرض الفعلي؛ إذ أصبحت مشوِّهة لرؤيتنا، وجعلتنا غير قادرين على رؤية أنفسنا أو رؤية أي شخص آخَر.
يرى مؤيدو صور السيلفي أن التحديات كبيرة بالدرجة نفسها، وإن كانت تخدم أهدافًا مختلفة. ترى سارة تاسكر في كتابها «هاشتاج أصلي» أن صور السيلفي والمنصات الرقمية التي تُنشَر عليها تمثِّل ثورة بصرية حقيقية. في تاريخ البشرية، كانت الأصوات المتاحة قليلة، وكان التنويع فيها محدودًا. وجدت النساء، والملونون، وذوو الإعاقة، والعديد من الفئات الأخرى أنهم أصبحوا بعيدين عن مجال الرؤية، بينما أتاحت صور السيلفي تمثيلًا ديمقراطيًّا لم يكُن للبشر إمكانية الوصول إليه من قبل، أو كما تقول تاسكر: «لم نَعُد نلعب وفقًا لقواعد اللعبة القديمة، ولم نَعُد نسرد السرديات التي طالما رُوِيت لنا.»13 بالنسبة إلى تاسكر وغيرها، تُعَد صور السيلفي إثباتًا لإمكانات نظام عالمي جديد نشأ على «إتاحة الرؤية». وفقًا لوجهة النظر هذه، رفعت التكنولوجيا ظلمًا، وأتاحت للأفراد إمكانية التعبير عن ذواتهم الحقيقية. يزعم الكثيرون أن ازدياد صور السيلفي يعني المزيدَ من التنوع، والمزيدَ من الديمقراطية، والمزيدَ من الأشخاص الذين يتمكَّنون من الرؤية، والذين يتمكَّن الآخرون من رؤيتهم.

ما يُسلِّم به كِلا طرفَي الجدل هو أن مَن يلتقطون صور السيلفي يرغبون في أن تكون لهم السيطرة على صورهم، ويعتقدون أنها لهم بالفعل؛ بعبارة أخرى، أنه بتكرار الصور، وضبط الزاوية المناسبة، واستخدام الإكسسوارات أو الوضعيات الصحيحة، يمكِنهم صُنع صورة مستقرة، وقابلة للتحكم، وصحيحة عن أنفسهم. وفقًا لوجهتَي النظر، تكشف صور السيلفي عن إيمان عالمي متزايد بقوة الثقافة البصرية، وقدرة الفرد على التحكُّم في مكانه فيها. لقد كنت هنا. أنا موجود بالفعل. مَن أنا؟ حسنًا، ها أنا هنا!

تُعَد كيم كارداشيان ويست شخصية محورية في حركة السيلفي البصرية هذه. سواء أحببناها أو كرهناها، فإن نجمة برامج الواقع تُظهِر قوة صور السيلفي، وتُعَد بمنزلة سفيرة لعالم تشكيل الذات والعلامات التجارية الشخصية، وتُجسِّد القوة، والثروة، والقدرة على الظهور التي تَعِد بها ثقافة السيلفي. (بالنسبة إلى آخرين، تمثِّل تحذيرًا، أو علامة على فوات الأوان.) تُعَد صور السيلفي التي تلتقطها بمنزلة روابط جوهرية مع معجَبيها والعالم، وربما تُعَد أبرز جانبٍ في تسويقها لذاتها/علامتها التجارية. تخبرنا صور السيلفي عن الشخصية التي تريدنا أن نراها عليها. تكتسب هذه الهُويَّة أهمية كبيرة، ويتسع سجلُّها إلى درجة أن كيم كارداشيان ويست نشرت في عام ٢٠١٥ مجموعة من الصور، بأسلوب الكتب الفنية لطاولات القهوة، تحت عنوان «سيلفيش» (أنانية). وكان من أكثر الكتب مبيعًا وفقًا لصحيفة «نيويورك تايمز». إن فكرة إمكانية ووجوب نقل هذه الصور في حد ذاتها من موقعها على الإنترنت ووسيطها الرقمي إلى كتاب فني؛ تُبرِز المعنى الذي منحَته كيم كارداشيان ويست وآخرون لقيمة مشاهَدة صورها التي أنشأتها بنفسها من الناحيتَين المالية والثقافية. في ثقافة شعبية مشبَّعة بعائلة كيم كارداشيان ومَن يدورون في فلكها، هل تكمُن قيمة صور السيلفي التي تلتقطها كيم في وعدها الأصالةَ خلف الكواليس، التي تصنعها وتديرها بنفسها؟ أم أن مشروع «سيلفيش» بأَسْره مجرد نكتة داخلية ضخمة، لحظة مُربحة تهدف إلى السخرية من الذات والثقافة؟

لفهم المعنى الكامل لمشروع «سيلفيش» ومُبدِعته، نحتاج إلى التراجع والنظر في تاريخ كيم كارداشيان ويست الطويل ورحلتها في عالَم الشهرة. اللحظة المتَّفق عليها عالميًّا لمصدر شهرتها الضخمة هي لحظة إطلاق عملاق صناعة الأفلام الإباحية، شركة فيفيد إنترتاينمنت، شريطًا جنسيًّا لها على الإنترنت في عام ٢٠٠٧. كان الشريط تسجيلًا خاصًّا لكيم وهي في الثانية والعشرين من عمرها. عندما علمت ببيع الشريط، رفعَت دعوى قضائية لإيقاف نشره، وأصرَّت على أنها لم تكُن على علمٍ بالبيع، أو لها دور فيه. جرَت تسوية الدعوى خلال أسابيع، وفي أبريل ٢٠٠٧ أصدرت شركة فيفيد إنترتاينمنت الفيلم الذي مدته ٤١ دقيقة بعنوان «كيم كارداشيان، سوبر ستار» (كيم كارداشيان، نجمة النجوم). بعد ستة أشهر، بدأت قناة «إي!» عرض برنامج الواقع الذي يتحدَّث عن عائلتها، وكان اسمه «كيبنج أب ويذ ذا كارديشيانز».

نشأ صعود كيم كارداشيان ويست إلى الشهرة، ثم إلى النجومية من هذه اللحظة التي كشفَت عن حياتها الخاصة. عُرِض التداخل الإباحي بين حياتها العامة والخاصة بشكلٍ صريح، وبِيعَ الفيديو على أنه قد صُوِّر دون موافَقتها. ربما أشارت هذه اللحظة إلى خطر الوعد الإدماني بالشهرة، والثروة، والقوة والإرادة «الحرة» في عالم من رأسمالية المراقبة وأشكال الموافقة المتدهورة.

لم تختبئ كارداشيان ويست في خجلٍ، أو تتراجع عن سعيها وراء النجومية في عام ٢٠٠٧، بل حوَّلت لحظة واحدة كشفَت عن حياتها الخاصة إلى حياة من الانكشاف الدائم ومسيرة مهنية لها وللكثيرين غيرها. كانت لا تتوانى في ترويج نفسها، حيث دفعت بجسدها وطوَّرت علامتها التجارية لتشمل أكبر عدد ممكِن من المنصَّات البصرية، من وسائل الإعلام المطبوعة التقليدية إلى التليفزيون وحتى الأفلام. على الرغم من ذلك، فقد كان أساس شهرتها الواسعة دائمًا هو الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وأداءها في الاتصال المباشر و«الحقيقي» مع معجَبيها/مستهلِكيها. كانت كارداشيان ويست من أوائل مستخدِمي الإنستجرام؛ حيث تغذِّيه بمحتوًى مستمر، هو في معظمه صور لوجهها وجسدها شبه العاري. لا يزال شريط الفيديو متاحًا للمشاهدة، لكنه أصبح في كثير من النواحي أقل لقطات كارداشيان ويست المتاحة كشفًا أو خصوصية. لقد استولت على الآليات نفسها التي سلبَتها السيطرة لتغمرها بقصتها الخاصة. تمثِّل صور السيلفي وسيلة لاستعادة النظر والتحديق، ولتمكينها باعتبارها المسئولة عن سرد قصتها الخاصة، لا أن تكون موضوعًا في قصةِ شخصٍ آخَر. فقصة كارداشيان ويست في جوهرها هي قصة عن النوع الاجتماعي والنساء.

كتب جون بيرجر في بيانه الثوري حول الثقافة البصرية «طرق الرؤية» عام ١٩٧٢: «يجب على المرأة أن تراقِب نفسها باستمرار. فهي غالبًا ما تكون مصحوبةً دائمًا بصورتها … الرجال يتصرَّفون والنساء يظهرن.»14 تفاعلَت الباحثات النسويات مع هذه الفكرة، ولكن الجسم الأنثوي — المراقَب، والمصوَّر، والمرسوم، والمُصوَّر في الصور والأفلام، والمبثوث في الفيديوهات — كان وما زال محور الفن والممارَسات البصرية الغربية لقرون. الجسد الأنثوي مثقَل دائمًا بالانكشاف، والتوقعات، والأحكام، والنظر إليه.

أتردَّد في وصف كيم كارداشيان ويست بأنها متمردة نسوية، أو محارِبة من أجل الحرية، أو محطِّمة للأيقونات في إعادة تصوُّرها وتصويرها لجسدها، وعلاقتها بالاتجاهات الكبرى في استهلاك الجسد الأنثوي. لقد أصبحت معروفة علنًا من خلال الاستغلال الجنسي (الذي، حسب قولها، كان انتهاكًا)، لكن الصور التي تنتِجها بنفسها لا تفعل سوى تعزيز وتوسيع انتشار نسخة «كيم كارداشيان ويست» التي في الفيديو. تقدِّم جسدَها بوصفه أداة لاستهلاك الآخَرين ومتعتهم. تتلوَّى، وتنحني، وتتَّخذ أوضاعًا. جميع صورها توجِّه النظر إلى وركَيها، ومؤخرتها، وصدرها، وفي حالة توجيهها النظر إلى وجهها، يكون فمها غالبًا مفتوحًا قليلًا بطريقة إيحائية، تمامًا مثل نظرتها وهي تنظر إليك وأنت تنظر إليها.

الجسد الأنثوي مثقَل دائمًا بالانكشاف، والتوقعات، والأحكام، والنظر إليه.

من خلال سيطرة كارداشيان على الحوار البصري الذي تمثِّله صور السيلفي، أخذت جسدها، الذي أصبح متاحًا للاستهلاك الجنسي من قِبَل الجميع عبر شركة فيفيد إنترتاينمنت، ثم قامت بتكرار عملية تمييزه جنسيًّا «بنفسها». وبهذه الطريقة، سلَّحت ووظَّفت الطُّرق التي كانت تُستخدَم على مر التاريخ للسيطرة على النساء وأجسادهن لتحقيق المتعة للرجال، وهي متعة غالبًا ما كانت تُؤخَذ من النساء دون موافَقتهن، ونادرًا ما كانت تجلب لهن المنفعة، ولا سيما من الناحية المالية. بالإضافة إلى ذلك، أعادت تصوُّر هذه الرؤية وتكييفها لتتناسب مع مراحل جديدة من حياتها بصفتها أمًّا ومديرةَ أعمال.

بنظرة ناقدة، يُؤدَّى عمل كارداشيان وست عبر وسيلة تتطلَّب من المُشاهِد أن يعترف بدورها الفعلي في صنع العمل. فهي نادرًا ما تعدِّل صورها لإخفاء يدها الممتدة التي تمسِك بالهاتف، أو تخفي نظرتها للمرآة لالتقاط الصور. في الواقع، تُعَد هذه التفاصيل جوهرية لصناعة صورتها. المقصود أن يعي المُشاهِد هذا الأمر، حيث يمكِنه حينها رؤية الإجراء الفعلي لإنشاء الصورة. مَن المسيطر هنا؟ حسنًا، إنه مَن يلتقط الصورة. وهكذا، تُذكِّر المُشاهِد بصريًّا بأنها هي مَن تدير وصوله إليها. فكما تقول الصحفية روث كوري: «تجني كيم كارداشيان المال من العمل الذي لطالما طُلِب من النساء القيام به مجانًا.»15 في الواقع، تهتم عائلة كارداشيان جميعها بالجوانب التي لطالما كانت «خفية» للتجميل والعرض الأنثوي. فأن تجعل الجميع ينظر إليك يتطلَّب مجهودًا، وصورة السيلفي توثِّق هذا المجهود بالفعل. تدمِّر كارداشيان وست الخيالَ الذي يصوِّر جسد المرأة باعتباره شيئًا طبيعيًّا. وصورة السيلفي، في جوهرها، صورة للعمل. هي تعمل، وأنت تشاهدها تعمل. (ليس من المبالَغ فيه أيضًا القول بأن كارداشيان ويست من خلال هذا النوع من التسويق والنجاح قد أسَّست للشكل المنتشر الآن لدروس المكياج على «يوتيوب»، وفيديوهات تصفيف الشعر، وغيرهما من مقاطع الفيديو الترفيهية المتعلقة بالعناية الذاتية، التي تكمُن أهميتها وشعبيتها في رفع الستار عما كان لا يعرفه في الماضي سوى الأثرياء والمشاهير. ومن الجدير بالذكر أيضًا أن معظم هؤلاء النجوم الجُدد على «يوتيوب» الذين حقَّقوا دخلًا هم من النساء، وأحرار الجنس، وأشخاص من ذوي البشرة الملونة، مما يشير إلى أن تأثير كارداشيان ويست فتح الأبواب للآخرين الذين كانوا على مَر التاريخ خارجَ دائرة إنتاج المحتوى البصري والتربُّح منه.)

من نقاط الخلاف الرئيسية بالنسبة إلى الكثيرين في تفسير قصة كيم كارداشيان ويست؛ أنها هي ووالدتها قد تكونان مَن قامتا بتدبير بيع شريطها الجنسي، وأن مَزاعمها بالانتهاك كانت جزءًا من الأداء التمثيلي. ظهر هذا الاتهام بشكلٍ متكرر وبطرقٍ متعددة حتى اكتسب لمسة من الحقيقة، على الرغم من استمرار نفي عائلة كارداشيان. لكن الصراع بين «الذنب» و«البراءة»، و«الاستراتيجية» أو «الضحية»، لا يزال يُصوَّر بصريًّا من خلال جسد كارداشيان ويست. إذ يكرر مَزاعم كره النساء التي تعود لزمنٍ بعيد، القائلة بأن النساء لا يتعرَّضن للانتهاك لأنهن دائمًا يرغبنَ في أن يكنَّ مَرئيات، ومرغوبات، ومنكشفات؛ حيث تُفترَض دائمًا موافَقتهن، حتى عندما يقُلن «لا». دائمًا ما تخضع قوة النظرة لإذن النظام الأبوي، حتى عندما تُوجَّه ضدَّه.

إليك مثالًا أمريكيًّا آخَر على هذا النوع من المقاوَمة. في عام ٢٠١٤، شرعت الطالبة في جامعة كولومبيا إيما سولكوفيتش في حمل مَرتبة مزدوجة في أرجاء الحرم الجامعي والفصول الدراسية بوصفه جزءًا من عملٍ أدائي أُطلِق عليه لاحقًا اسم «احمل ذلك الوزن». كانت سولكوفيتش (التي تستخدم ضمائر الجمع المحايدة في اللغة الإنجليزية للحديث عن نفسها) قد تعرَّضَت للاغتصاب في سنتها الثانية في الجامعة، وبدأت بسحب المرتبة الثقيلة وغير المريحة خلال سنتها الأخيرة بوصفها علامةً علنية على الحادث، وعملًا لمواجَهة رفض جامعة كولومبيا طرد المغتصِب، وبوصفها أطروحة لتخرُّجها وأداءً فنيًّا. من المحتمَل أن نطاق الأداء كان سيبقى محليًّا إلى حدٍّ كبير لو لم يكُن هناك العديد من الفيديوهات والصور لسولكوفيتش وهي تحمل المرتبة، التي جرى تحميلها على «يوتيوب» و«تويتر» و«فيسبوك» و«إنستجرام». أدَّى الانتشار الواسع للأداء وقصة سولكوفيتش إلى جذب انتباه شخصيات بارزة مثل الفنانة الشهيرة مارينا أبراموفيتش، والنسويات مثل الناقدة الفنية روبيرتا سميث من صحيفة «نيويورك تايمز»، والسيناتور كيرستن جيلينبراند، التي كانت تناضِل في ذلك الوقت من أجلِ مزيدٍ من الاعتراف بمشكلة الاعتداء الجنسي والعنف ضد النساء في الجيش.

وهذا يعني أن صورة سولكوفيتش وجسدها — ولا سيما جسدها الذي يعاني تحت وطأة وزن المرتبة — جُسِّدت بطرقٍ تجاوزت كونها مجرد عملٍ فني أدائي أو عمل احتجاجي طلابي. أصبحت صور سولكوفيتش نفسها رموزًا للتمكين الذاتي الجريء للناجيات من الاعتداء الجنسي، ولرفض الصمت واستعادة الحق في سرد قصصهن والتحكم في الجسد. قالت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، في حديثها إلى منتدى القيادة النسائية للَّجنة الوطنية الديمقراطية في عام ٢٠١٤، وفي وقتٍ قريبٍ من إعلانها عن قرارها بالترشُّح للرئاسة مرة أخرى، إن صورة سولكوفيتش وهي تحمل المرتبة يجب أن «تطاردنا جميعًا».16
إن رؤية الأداء على أرض الواقع، أو عبر الإنترنت، جعلَت عبء العنف الجنسي نفسه مرئيًّا. وهذا أمر ملحوظ للغاية نظرًا إلى قلة الصور السائدة التي تصوِّر الاغتصاب، وهي نقطة أثارتها المنظِّرة البصرية أرييلا أزولاي بسؤالها المثير للجدل: «هل رأى أحدكم صورة للاغتصاب؟» هناك صور بالطبع، ولكن كما تشير أزولاي، فإن عزل الاعتداء الجنسي عن أشكال العنف الأخرى يعزِّزه التابو العام المعارِض لعرض مثل هذه الصور. ينشأ هذا التابو من مجموعة معقَّدة ومتعارِضة من المواقف الأخلاقية التي تسعى إلى عدم تعميق الاعتداء من خلال تكراره تمثيليًّا، ولكنها غالبًا ما تُعطي الأولوية لحساسية المشاهد (المفترضة). وهذا يؤدي إلى «طمس شامل للاغتصاب»، مما يجعله غير قابل للتصوير البصري. وفقًا لأزولاي، فإن اعتبار الاغتصاب أمرًا مروعًا للغاية إلى درجةٍ تستحيل معها رؤيتُه، لا يزيد إلا من تعزيز حوار جنسي محدود حول هذا العنف مما يؤدي إلى محوه فعليًّا.17
يتحدَّى أداء سولكوفيتش هذا الفراغ البصري بجرأة، كما فعل مشروع «غير قابل للكسر» المستوحى من صور السيلفي، حيث جمَّعت منصة تمبلر (٢٠١١–٢٠١٥) صور السيلفي للناجين من الاعتداء الجنسي مع نصوصٍ تُظهِر ما قاله لهم المعتدون.18 يبدو أن تحليل أزولاي مهم هنا. هل يُعَد كِلا الأداءَين في النهاية، رغم ما فيهما من تمكين، تكرارًا للصمت البصري المحيط بالاغتصاب؟ هل يؤدي هذا الأثر اللاحق، وبقايا الصدمة، والاحتمالات الظاهرة للصمود، إلى تشويه الثقافة البصرية للاغتصاب، وإمكانية إعادة تقييم نسوية للتحكم في الجسد؟

إن مقارنة سولكوفيتش بكيم كارداشيان ويست ليست لتقليل شأن الأولى أو رفع مكانة الثانية، بل هي لتسليط الضوء على الظروف المشتركة بينهما من حيث النوع الاجتماعي، والسياق، والتكنولوجيا، وطرق انتشار إبداعاتهما وتأكيدهما على الإرادة والسيطرة. فكلتاهما تستخدم المفردات البصرية المتعلقة بالوصول والتصورات النمطية حول النوع الاجتماعي، والجنسانية، والقوة التي سهَّلت تحوُّل النساء والأجساد الأنثوية إلى أشياء مادية استُغِلَّت على مدى قرون. وكلتاهما تريد أن تكون لنسختها عن هُويَّتها قوة من خلال الانتشار.

إن قيام كارداشيان ويست وسولكوفيتش بذلك، جزئيًّا، عبر تبنِّي الأدوار الجنسانية ﻟ «الضحية» وإظهار بعض مظاهر الضَّعف النمطي؛ يسلِّط الضوء على سِمة مشتركة أخرى بينهما، وهي الامتياز. فقد أتاح الوضع العِرقي والاقتصادي والاجتماعي لكلٍّ منهما، والسُّبُل التي قدَّمها، الأسسَ اللازمة لتصوُّر تمرُّدهما وتنفيذه. هذا هو بالضبط نوع الوصول وأفق الإمكانات التي حُرِمت منها معظم النساء والأشخاص غير المقيَّدين بالتنميطات الجنسانية مِن غير أصحاب البشرة البيضاء، أو الفقراء، أو ذوي الإعاقة، أو غير الأمريكيين، وغيرهم. كما أن مكانتهما سمحَت لهما بأن يُنظَر إليهما كبَرِيئتَين مؤنثتَين تعرَّضتا للظلم. في النهاية، فإن عمل «احمل ذلك الوزن» الأدائي لا يكون له معنًى إلا إذا كانت سولكوفيتش تكافح بوضوحٍ مرئي مع المرتبة وحركتها. إذ تُبرِز الرسالة البصرية بالضرورة هشاشةَ الأجساد التي يُفترَض أنها أنثوية، وضَعْفها.

يبدو أن التكنولوجيات الحديثة للثقافة البصرية تَعِد بحُريات جديدة وأشكال محتمَلة للعدالة من خلال توفير منصَّات لمزيدٍ من الأصوات، والمزيد من الإرادة، والقدرة على وضع سرديات جديدة. لكن إذا كانت كارداشيان ويست وسولكوفيتش تجدان طرقًا بطولية لتجاوز بعض أفخاخ تمثيلاتهما الجسدية، فإن نجاحَيهما نفسَيهما يبرزان مدى صعوبة استعادة الجسد من «جميع» الأفخاخ. وهذا يعني أنه بينما تستخدم كارداشيان ويست وسولكوفيتش الثقافةَ البصرية لاستعادة السلطة الفردية والسيطرة، وتدَّعيان أن تكنولوجيا المراقَبة وسيلة للتمكين، فإنهما في النهاية تلجآن إلى إعادة صياغة الفئات الجنسانية القائمة وتعزيزها. قد نرى ماهية الفتاتَين، ولكن هذا يعتمد على استراتيجيات بصرية تحجب ما قد تكون عليه ماهية الآخرين. فمن الواضح أن الوعد بأن هذه القوة البصرية الجديدة للفرد ستساعد في كسر الأنماط الكبرى، وأننا جميعًا سوف «نرى» أنفُسنا والآخرين بطرقٍ جديدة وأكثر صدقًا، لا يتحقق.

مَن يمكِنه الرؤية

في الآونة الأخيرة، نُظِرت قضية مهمة تتعلق بالثقافة البصرية والمِلكية — حول مَن يملك الحق في النظر — في محكمة بولاية ماساتشوستس. في ٢٠ مارس ٢٠١٩، رفعت تمارا لانيير دعوى قضائية ضد جامعة هارفارد تطالب فيها بدفع «تعويضات عقابية وعاطفية غير محدَّدة» عن سرقة صورة وفرض «سيطرة» قاسية على استخدامها. رفعت لانيير الدعوى نيابة عن قريبَيها المستعبَدَين رنتي ودليا، الأب وابنته، اللذين التُقِطت سلسلة من الصور الفوتوغرافية لهما في عام ١٨٥٠ في ولاية كارولاينا الجنوبية. كانت الصور الداجيرية جزءًا من أبحاث لويس أجاسيز، اختصاصي العلوم الطبيعية الشهير في القرن التاسع عشر الذي أسَّس متحف هارفارد لعلم الحيوان المقارن، وكان من المدافعين الشرِسين عن الفرضية العلمية القائلة بأن الأشخاص ذوي البشرة الملونة أقل في المرتبة البيولوجية من أصحاب البشرة البيضاء. ظلَّت مجموعة أجاسيز للصور محجوبةً عن الأنظار في أرشيفات الجامعة حتى أُعِيد اكتشافها في منتصف سبعينيات القرن العشرين. باعتبارها من أقدم الصور المعروفة للأشخاص المستعبَدين في الولايات المتحدة، سرعان ما حظيت الصور باهتمام العلماء والكُتَّاب الآخرين؛ وراقبت جامعة هارفارد نشرها بعناية شديدة وفقًا لقوانين حقوق الطبع والنشر. تُظهِر السجلات اهتمامًا كبيرًا بالحصول على الأذونات وجمع المدفوعات لإعادة إنتاج الصور، ويشمل ذلك التهديدَ بمقاضاة أولئك الذين لا يتَّبعون القنوات الصحيحة في ذلك.

بعبارة أخرى، استخدمت هارفارد الصور على النحو الذي رأته مناسبًا، وجنَت أرباحًا من تداولها (وهو ما يُعَد متوافقًا مع المعايير القانونية). شكَّل هذا أساس دعوى لانيير. فبحسب ما زعمت، لم يكُن في إمكان هارفارد امتلاك هذه الصور فعليًّا؛ لأن رنتي ودليا، بوصفهما شخصَين مستعبَدَين، لم يعطيا الجامعةَ الإذنَ بتصويرهما. فقد سرق أجاسيز الصور الأصلية أول الأمر، ثم واصَلت جامعة هارفارد تعظيم الجريمة وتضخيمها.

كانت المِلكية وحقوق المِلكية هما لُب القضية، ولكنهما لم تكونا جوهر اتهامات لانيير، التي ارتكزت على عنف الثقافة البصرية، والصدمات التي توارثتها الأجيال بسببها. بصفة لانيير من نسل الشخصَين المستعبَدَين اللذين ظهرا في الصور، فقد وصفت الانتهاك الذي طالها شخصيًّا من هذه الصور. وكما أشار الكاتب والباحث تانيهيسي كواتيس: «تلك الصورة كالرهينة … فهذا رجل أسود مستعبَد، وقد أُجبِر، دون أن يكون لديه خيار آخر، على المشاركة في دعاية عنصرية بيضاء، وهذا هو سبب التقاط الصور.»19 وهكذا، لم يكن ما تملكه هارفارد مجرد قوة على الصور وحقوق إعادة إنتاجها، بل القدرة على إلحاق الأذى المتكرر بعائلة بأكملها.

في الواقع، كانت الصور الداجيرية، بلا شكٍّ، مؤرِّقة وعميقة الأثر. يظهر رنتي ودليا في كل صورة عاريَين إلى الخصر، ووجهاهما إلى الأمام، وينظران مباشَرةً إلى الكاميرا. كان أجاسيز يصوِّرهما بوصفهما نموذجَين للدراسة، ليس بصفتهما فردَين ولكن بصفتهما عيِّنتَين عامَّتَين. وعلى الرغم من أنه من غير المحتمَل أنهما كانا على درايةٍ بتأثير اللغة البصرية السالبة للإنسانية والداعية إلى الإبادة الجماعية الناتجة عن صورهما، فإن لغة جسدَيهما وتعبيرات وجهَيهما تشير إلى أن الصور قد التُقطَت بالإكراه.

تركِّز هذه القضية القانونية المعاصرة على الحوار الثقافي المتزايد حول ما تفعله الصور بالأشخاص في سياق عدم المساواة الهيكلية، واستمرار الانتهاكات والإهانات والعنف القاتل ضد أجساد السُّود. استمدَّت القضية قوتها وحُجتها من الاستغلال البصري الذي أعقب قتل الشرطة مايكل براون في مدينة فيرجسون بولاية ميزوري، الذي أدَّى إلى إطلاق حركة «حياة السُّود مهمة». فقد تُرِكت جثة براون البالغ من العمر ١٨ عامًا بعد مقتله في وسط الشارع السكني، مكشوفةً أكثر من ساعة حتى غطَّاها مُسعِف بملاءة. بقيت الجثة مكشوفةً لقرابة ثلاث ساعات إضافية. إلى جانب إجبار سكان الشارع على مواجَهة الجثة، أتاح الفاصل الزمني للأفراد وفِرَق الأخبار فرصةً التقاط الصور الفوتوغرافية والفيديوهات للجثة بحرية. كشف هذا عن شهية لا تنتهي لاستهلاك أجساد السُّود بصريًّا وتفحُّصها ونشرها.

تطالب قضية لانيير جامعة هارفارد بوقفِ تداول صور أسلافها لتحقيق مكاسب مالية، وحلِّ هذه القضية حتى لا تصبح مجرد حالة أخرى من شراء أجساد السود وبيعها، ورؤيتها، وتجاهُلها. تقدِّم لانيير، بتحدِّيها حقوقَ الجامعة في الصور، مَطالِب بديلة للمِلكية والامتلاك الذاتي. وتقترح قضية لانيير أن تحديد مَن له الحق في الرؤية يجب أن يرتبط بأصحاب التاريخ والأجساد والآلام موضوع الرؤية.

تحمل هذه القضية أصداء الجدل الذي أُثِير في بينالي ويتني عام ٢٠١٧، والذي دار حول لوحة بعنوان «التابوت المفتوح» للفنانة الأمريكية البيضاء دانا شولتز. فقد استندت اللوحة إلى الصورة الشهيرة لعام ١٩٥٥ التي أظهرَت وجه الصبي إيميت تيل المشوَّه في جنازته في شيكاغو.20 تمثِّل الصورة نفسها لحظة فارقة في حركة أصحاب البشرة السوداء عبر الثقافة البصرية، كما تعبِّر عن حالة من المِلكية العائلية والسُّلطة الأبوية. اشتهرت والدة تيل، مامي تيل-موبلي، بمقاوَمتها القوية للضغوط التي طالَبَتها بإقامة جنازة بتابوتٍ مغلَق لابنها المعذَّب والمشنوق حتى لا يرى أحدٌ إصاباته. فقد رفضت ذلك قائلةً إن الناس يجب أن يرَوا ما فعله هؤلاء الرجال البيض في المسيسيبي بطفلها. نُشِرت الصور المروعة لوجه تيل المشوَّه على نطاقٍ واسعٍ في صحيفة «جيت» وغيرها، مما ألهب جيلًا من النُّشطاء من أجل الحقوق المدنية والعدالة العِرقية. ولكن مفاهيم الصدمة الجماعية أصبحت موضعَ جدلٍ عندما تبنَّتها، أو استغلَّتها، فنَّانة بيضاء. شعر النشطاء والعديد من الفنانين والنقاد المعاصرين بالإهانة لما اعتبروه استحواذًا من قِبَل شولتز على تلك الصورة والتاريخ لمكاسبها الشخصية، من أجل متعتها وآلامها، أو تعبيرها الفني وشهرتها الخاصة، أو ظهورها. وتتكرر مسألة مِلكية الصور والتعامل مع ألم أصحاب البشرة السوداء.

هذه المسألة مهمة للغاية لأنها تجبرنا على التساؤل عن كيفية التعامل مع هذه الوثائق البصرية للآلام والصدمات، وعمَّن يملك الحق في اتخاذ هذا القرار. تشير سيديا هارتمان في كتابها «مَشاهِد الإذلال» (١٩٩٧) إلى أن تداوُل تصوير العبودية (الأدبي أو البصري) يُعيد إنتاج حالات نزع الإنسانية، مما يعني أن الأموات لا يزالون عُرضة لانتهاكات الأحياء. يُنتهَك الجسد المستعبَد باستمرار، ويُستخدَم بوصفه دليلًا على الأيديولوجيات العنصرية لتفوُّق العِرق الأبيض. ويستمر الوسيط البصري وطبيعته في هذا الاستغلال إلى أجلٍ غير مُسمى. وذلك ما لم يضع أحدٌ حدًّا للأمر، وما لم نتوقَّف نحن المُشاهِدين عن الرغبة الثقافية في رؤية الجسد الأسود في حالة من الخضوع والألم.

ربما تكون هذه بالفعل مشكلة مرتبطة بالتصوير الفوتوغرافي، حيث وجد التصوير طرقًا لإدامة العنصرية وترسيخها. في أيام التصوير الفوتوغرافي الأولى، وعد بأن يقدِّم رؤية جديدة وأكثر صدقًا للعالم. ومن هنا جاءت المقولة القديمة «الكاميرا لا تكذب مطلقًا». لكن هذا لم يكن صحيحًا في الواقع؛ فقد ظهرت الحِيَل الفوتوغرافية كإحدى النتائج المباشِرة لهذه التكنولوجيا الجديدة. وكما يشير الباحث توم جانينج بذكاء: «لا يُزيِّف أحدٌ صورة إلا إذا كان يريد من الآخرين أن يصدِّقوها؛ فالتزوير أو التزييف يعتمد على افتراض وجود السُّلطة.»21 وقد كانت للصورة الفوتوغرافية هذه السُّلطة؛ وهذا هو تحديدًا السبب الذي دفع أجاسيز والكثيرين غيره إلى استخدام التصوير الفوتوغرافي لبناء أنظمة معرفة ثابتة وموضوعية حول العالم الحديث. لقد كان، في الواقع، أداةً قيِّمة للغاية يمكِن من خلالها تسجيل ودراسة ومراقَبة وتفسير «إثبات» النظريات العِرقية والظلم العنصري، بالإضافة إلى الأفكار الأخرى المتعلقة بالنوع الاجتماعي والجنسانية والقدرات وجميع الفروقات الجسدية. وهكذا، يصبح التصوير الفوتوغرافي أداة لرؤية الفروقات، وترميز الأجساد، وتصنيفها، وتجنيسها، وتطبيع الأفكار المتعلقة بالعِرق والظلم العنصري.
وما هو أكثر خبثًا، أن الكاميرات صُنِعت في الواقع بحيث لا «ترى» لون البشرة، ولا تلتقط تنوُّع درجات ألوان البشر. كانت البشرة البيضاء هي الأساس، وكل الدرجات الأخرى كانت تدور حول هذا المركز، مما جعل تحقيق تنوُّع الألوان شبه مستحيل. كما أشارت الباحثة سارة لويس: «من خلال تصنيف البشرة الفاتحة باعتبارها المعيار، وجعل الدرجات الأخرى في حاجة إلى معالجة تصحيحية خاصة، غيَّر التصوير الفوتوغرافي طريقةَ تفاعُلنا المتبادَل دون أن ندرك ذلك.»22 وتكرَّرت في الأفلام المشكلة نفسها المتعلقة بالرؤية، تحديدًا قدرة الأشخاص ذوي البشرة الملونة على الظهور في الصور الملونة. من الشائع الآن أن يناقش الممثِّلون الملوَّنون مدى صعوبة العثور على فنانين للماكياج والشعر يعرفون كيفية التعامل مع البشرة غير البيضاء لأغراض تصوير الأفلام. وبالمثل، شكَّلت الإضاءة مشكلة دائمة للممثلين من غير البيض؛ ولم تبرز الحاجة إلى إضاءة مناسبة إلا بعد ارتفاع عدد الأفلام والمسلسلات التي تشمل ممثلين من غير البيض. فما كنا نشاهده كان نتاج تكنولوجيا صُنعَت لتُخفي جميع الأجساد غير البيضاء وتشوِّهها.
إذا كان قد بدا أن التحوُّل إلى أجهزة الكمبيوتر يَعِد بالتحرر من القيود الجسدية، ومن جميع أشكال التمييز القديمة، فسرعان ما تلاشت هذه الأوهام. تشير كمية هائلة من البيانات إلى وجود ممارساتٍ تمييزية متجذِّرة بعمقٍ في علوم الكمبيوتر وخوارزميات البيانات. فعند كل خطوة من خطوات الترميز — التي ينفِّذها البشر بتحيُّزاتهم الصريحة والضمنية — تعيد أنظمةُ جمعِ البيانات ومعالجتِها إنتاجَ الأنظمة القديمة للتصنيف والتقسيم والإخفاء، التي أنشأت نُظُمنا المعرفية والتواصلية العِرقية والجنسانية والطبقية. وكما يُذكِّرنا الباحث الرقمي كليمنس أبرتش: «لهذا السبب ما زال مصطلح «تمييز النمط» يُستخدَم في علوم الكمبيوتر مصطلحًا تقنيًّا لوصف فرض الهُويَّة على البيانات المدخَلة من أجل تغيير المعلومات المستخلَصة منها (أيْ تمييزها). ولكن بعيدًا عن كونه عملية محايدة، فإن تحديد الأنماط وتطبيقها هو في حد ذاته قضية سياسية بدرجة كبيرة، حتى لو توارى خلف مصطلحات تقنية.»23 بل إن مجال الذكاء الاصطناعي المتنامي قد أظهَر تجاهلًا أو عدم قدرة على التعرُّف على الوجوه غير البيضاء. وقد أطلقَت الناشطة والمبرمِجة جوي بولامويني على هذه الظاهرة اسمَ «النظرة المشفَّرة»، وحشدت مجتمعًا عبر الإنترنت، رابطة العدالة الخوارزمية، لمحاربة هذا الشكل الجديد من المشكلات القديمة المتعلِّقة بالرؤية، والعِرق، والنوع الاجتماعي.
في هذا السياق، تسعى كلٌّ من بولامويني ولانيير إلى الغاية نفسها، وهي استعادة السلطة؛ أي استعادة السيطرة من الصور البصرية التي تهدِّد بمزيدٍ من الانفلات والالتواء والتحريف. ولكن هل تخوض كلٌّ منهما معركة خاسرة؟ هل ستظل الأجساد غير البيضاء دائمًا محاصَرة، ومكشوفة، وغير مرئية، ومسلوبة الإنسانية؟ هل سيظل البياض دائمًا يرمز بصريًّا إلى القوة في أن يُرى، وعلى نحوٍ متناقضٍ، إلى كونه غير قابل للتحديد والتقييد؟ باختصارٍ، هل تمنع الثقافة البصرية من رؤيةِ ما وراء العِرق؟24

إذا كان قد بدا أن التحوُّل إلى أجهزة الكمبيوتر يَعِد بالتحرر من القيود الجسدية، ومن جميع أشكال التمييز القديمة، فسرعان ما تلاشت هذه الأوهام. تشير كمية هائلة من البيانات إلى وجود ممارساتٍ تمييزية متجذِّرة بعمقٍ في علوم الكمبيوتر وخوارزميات البيانات.

ماضي مَن، مستقبل مَن؟

لا تنشأ الثقافة والأفكار المتعلِّقة بالذات في مكانٍ آخر ثم تتغيَّر ببساطةٍ عبر الأدوات البصرية للدعاية. إننا نمرُّ بتجارب، ونحاول رؤية الأمور لكي نتمكَّن من التفاعل معها، ومن ثَم نتمكَّن من فهمها. والثقافة البصرية تقودنا نحو المعرفة؛ فالتخلي عن هذا الجانب من إنسانيتنا ليس سهلًا بمجرد الاختباء، أو الحظر، أو الرقابة، أو التدمير. وكما يُذكِّرنا تمثال «الملِك أوثال» للهياري، فحتى لو دمَّرنا شيئًا، فإنه يعود مجددًا.

كيف إذن نمثِّل الأجسام تمثيلًا أفضل؟ هل هناك طريقة لرؤية الأجسام على نحوٍ أقل تسببًا في الأذى والدمار؟ هل يمكِننا إنشاء بيئة بصرية يمكِننا مشاركتها والازدهار فيها، حيث نستطيع اختبار هُويَّتنا؟

تتعامل بعض نظريات الرؤية الأكثر إثارةً للاهتمام مع هذه الأسئلة، وذلك مع إدراك أن الماضي يجب أن يكون جزءًا من المستقبل. إن إنكار إرث كل تلك اللوحات والصور والأفلام ذات الإضاءة السيئة، وحتى الذكاء الاصطناعي الماكر الجديد، هو إغفال لصلابة الثقافة البصرية. فكل شيء يبقى في الذاكرة، مهما حاوَلنا جاهِدين التخلُّص منه. يسعى بعض صانعي الصور إلى إعادة استخدام الأدوات القديمة والمعطوبة والشريرة لكشف مكائدها وآثارها المروعة، ولتقديم إمكانات جديدة. كما تشير المُقيِّمة الفنية جوهانا بورتون، بروحٍ من التفاؤل، إلى أنه ينبغي لنا السعي إلى التحرك «نحو فكرة المستحيل باعتباره مساحةً من الإمكانات ومكانًا لمستقبَل «آخَر».»25 هذا ليس يأسًا أو تخلِّيًا غير عقلاني، بل مواجَهة مدروسة مع ماضي الأجسام ومستقبلها وتمثيلاتها.
مرة أخرى، تتمثَّل الرغبة في «مستقبَل آخَر» فيما يرغب فيه ميرزويف من «الحق في النظر». لكنه يحذِّر من أن هذا الحق «يجب أن يكون متبادَلًا، حيث يبتكر كل شخصٍ صورةَ الآخر، وإلا فلا يتحقَّق هذا الحق.» بالنسبة إلى ميرزويف، يسعى جميع الأشخاص، والشركات، والحكومات، وأشكال الظلم الاجتماعي، إلى التحكم في نظرتك، أو توجيه بصرك، أو أمرك «بإشاحة النظر». فهو يسعى إلى إيجادِ مسارٍ بديلٍ يجري فيه تفكيك آليات التحكُّم، حيث نشارك في النظر المتبادَل، ونكون مستعِدِّين على نحوٍ متبادَل لأن نُرى.26
ربما تساهم ميكالين توماس في المُضي قُدُمًا في مثل هذا المسار. تشتهر توماس بأنها رسامة، غير أن عملها يمتد أيضًا إلى التصوير الفوتوغرافي، وفن التركيب، وتصوير الأفلام. وبغض النظر عن الوسائط التي تستخدمها، يعود فنُّها باستمرارٍ إلى تناول الجسد الأنثوي الأسود، وهو المجال البصري الذي جرى — كما تناولنا سابقًا — تحريفه، وتبديله، واستخدامه، وإعادة تشكيله من قِبَل الفنانين وصنَّاع آخَرين على مدى قرون.27 وبالأخص في الفن الأوروبي والأمريكي الحديث والمعاصر (ومن ثَم في الرؤية العالمية أيضًا)، ربما يُعَد جسم المرأة السوداء الشكلَ الإنساني الأكثر تعرُّضًا للتلاعب، والإفراط في العرض، والحذف. تُجبَر النساء السُّود على عرض كل شيءٍ عدا ماهيَّتهن؛ فيُصوَّرن باعتبارهن مُفرطاتٍ في الجنس، أو لا جنسانيات من الناحية الأمومية، أو أموميات، أو فارغات، أو شريرات، أو غاضبات، أو خاضعات؛ فقد حُوِّلت النساء السود إلى كل شيء ولا شيء في الثقافة البصرية. وأن تتصدَّى توماس لهذا الجسد التمثيلي — الذي هو أيضًا جسدها — لا يعني فقط مواجَهة عجز الصور عن التعبير عن التجرِبة «الحقيقية» والإنسانية المتنوعة، كما يعد ميرزويف، بل يعني أيضًا التغلغل في أشباح الماضي كافة التي تهدِّد بابتلاع أي أشكال تمثيلية جديدة.
fig12
شكل ٣-٢: ميكالين توماس، «متعة لحظة بالأبيض والأسود»، ٢٠٠٨. طباعة ألياف، بأبعاد ٢٣٣٤ × ٣٤٢٩ × ٣١٦ بوصة (٦٠,٣ × ٧٥,٦ × ٠,٥ سم). مشتراة بتمويلٍ من لجنة التصوير. متحف ويتني للفنون الأمريكية، نيويورك. حقوق النشر © ٢٠١٩ ميكالين توماس، جمعية حقوق الفنانين (ARS)، نيويورك. الصورة الرقمية ملك لمتحف ويتني للفنون الأمريكية بترخيص من سكالا، آرت ريسورسز، نيويورك.

استراتيجية توماس هي اكتشاف الصورة «الحقيقية» وتصويرها من خلال تاريخٍ من الصور غير الحقيقية. يصوِّر عملها الفوتوغرافي بالأبيض والأسود «متعة لحظة بالأبيض والأسود» (٢٠٠٨) امرأتين من صاحبات البشرة السوداء. تجلس إحداهما على أريكة وركبتاها مرفوعتان، مستنِدةً في راحة إلى الخلف وهي تحدِّق مباشَرةً في المُشاهِد دون أن تبتسم. وتجلس المرأة الثانية عند قدم المرأة الأخرى على وسادة على الأرض، وساقاها متباعدتان ويغطي فستانها المسافة بينهما، وذراعاها مسترخيتان في محاكاةٍ لوضعية ذراعَي المرأة الجالسة على الأريكة. تدير المرأة الثانية رأسها في زاوية أقرب لزاوية الصورة الجانبية وهي تنظر بعيدًا عن الكاميرا. وتمتلئ الغرفة التي يجلسان فيها بالنباتات والوسائد والسجاد والبطاطين والستائر، وجميعها مصنوعة من موادَّ بتصاميم متباينة. فالسجادة تحمل نقش الفهد، والأريكة وفستان إحدى المرأتين مزيَّنان بالزهور، بينما تحتوي الستارة والوسادة على تصاميم هندسية. المكان مزدحم للغاية بالنقوش والصور إلى درجةِ أنه قد تفوت البعضَ للوهلة الأولى رؤيةُ باقة الزهور الموضوعة فوق حِجر المرأة الجالسة على الأريكة، وهي ليست ممسِكة بها، بل هي موضوعة في مكانها لأغراض التأثير البصري.

هذه الزهور هي العامل المؤثِّر في حُجة توماس البصرية. فالزهور في هذا الوضع المنسدِل، تلك الباقة المقدَّمة للشخصية النسائية بشكلٍ غير رسمي، قد تستحضِر لدى الكثيرين لوحة «أولمبيا» لإدوار مانيه (١٨٦٣، متحف أورسي). تُظهِر تلك اللوحة، التي يَعُدها الكثيرون بدايةَ التحوُّل الحديث في الفن الأوروبي، عاهرةً مستلقية عارية على أريكة، وتتلقَّى باقة زهور من خادمتها السوداء. في الوقت نفسه، تُذكِّر صورة توماس للمرأتَين الجالستَين بسيقان متباعِدة بالعديد من لوحات هنري ماتيس التي تظهر فيها النساء السوداوات والشرقيات وهن مسترخياتٍ في بيئات تشبه الحرملك. كان ماتيس — أحد مُعاصِري بيكاسو في السعي نحو نوعٍ جديدٍ من الرسم، يسعى إلى الانفصال، إلى جمالٍ جديد، إلى فراغ في أجساد النساء غير البيض. سمحت له أشكالهن بتطويع النقوش، وتفكيك الأشكال والأنماط، والرسم على القماش. كان كلٌّ من ماتيس ومانيه يستلهم من تقاليد أقدم في تصوير النساء على أنهن مُتاحات، ومواد للزخرفة، وغير ذات أهمية.

من السهل جدًّا القولُ إن توماس تستعيد هذه الأجساد من تاريخ الفن ومن الفنانين البيض مثل ماتيس ومانيه. ولكن رؤيتها تمتد هنا أيضًا إلى صور من أحزاب الفهود السود، ونهضة هارلم، والأفرو لأنجيلا ديفيس (كما رأينا مع ميشيل أوباما في رسوم بليت)، وسينما استغلال السود في سبعينيات القرن العشرين. حتى في تلك اللحظات التي أكَّدت على تقرير مصير السُّود وتحرُّرهم وجمالهم، كانت النساء السوداوات غالبًا ما يُصوَّرن كزينة، وباعتبارهن متاحاتٍ في أغلب الوقت، وموجودات للاستهلاك البصري السهل معظم الأحيان. باختصارٍ، تقدِّم توماس تحدِّيات سافرة وحاذقة في هذه الصورة لتاريخ طويل ومشحون للغاية من النظر إلى أجساد النساء السوداوات.

ولكن القول بأن عملها هو مجرد إعادة صياغة لهذه الاستعارات يعني أن نتغافل عن الهدف منه برمَّته. إذ تسعى توماس وراء عمل بصري أصعب بكثير. فهي لا تنتج هذه الصورة لمجرد زعزعة التصورات السائدة عن جسد المرأة السوداء، أو لإظهار أن النساء السوداوات يمتلكن قوة النظر. ولكنها تنتجه «عبر» التاريخَين الأبيض والأسود المتشابكَين في سوء التمثيل، وتحوُّل الأجساد إلى أشياء، والأداءات القسرية للخضوع، والتوقعات الجنسانية. تريد توماس من الُمشاهِد أن يرى ويدرك عدة أشياء متناقضة في وقتٍ واحد، وهو ما يمكِن القول إنه يعكس تجربة كونها امرأةً سوداء في أمريكا. وتذكِّرنا بأن هذه الأجساد في وضعياتٍ وأماكن مشابهة — في لوحات، وصور فوتوغرافية، ومنحوتات، وأفلام أخرى — قد قُلِّل شأنها إلى درجة اللاشيء، وأصبحت شِبه مُتوارِية بسبب فرط انكشافها وكاريكاتوريتها. في الوقت نفسه، تريد توماس منا أن نرى جمالها وقوتها وشهيَّتها الإنسانية. إن «هُويَّة» هؤلاء النساء مهمة. وحتى تذهب بالفكرة إلى مدًى أبعد، ترغب في أن يفكِّر المُشاهِد في شهيَّاته البصرية تجاه هؤلاء النساء في هذا المشهد ومعانيها، مع توضيح رغباتها الشخصية بصفتها امرأة سوداء من أحرار الجنس. يدفع عنوان العمل، «متعة لحظة»، المُشاهِد إلى التفكير في لحظة الصورة، اللحظة الحالية للنظر إليها، والمتعة في كلتا اللحظتَين. تتحرَّك الرغبة والشهوات القوية — التاريخية والمعاصرة والمستقبلية — عبر الأجواء البصرية لهذا العمل، رافضةً أن تستقر. وصف الباحثان هيوي كوبلاند وكريستا طومسون هذه الأجواء بأنها «كليشيهات أفروية»؛ وهي تسمية لأنماطٍ متكررة وذكريات وأشكال بصرية في فنون السود «تتجسَّد وتدور حول الزمن، مروره وعودته … كردِّ فعلٍ على الظروف الاجتماعية والسياسية والمؤسسية المختلفة التي تشكِّل تجارب السود، بالإضافة إلى المنظورات التاريخية المتغيرة حول السواد.»28
يخلُّ التفكُّك المتعمد والخدع المقصودة في هذا العمل بتماسُكه الزمني والبصري. ومن ثَم يصبح المُشاهِد غير قادر على التحرك بسهولة عبر الصورة، بل يُشتَّت ويُثار فِكره. تصِف هيتو شتايرل هذا النوع من الانفصال بأنه طريقة لخلق فوضى لا تسمح للمُشاهِد بالاعتماد على المعلومات البصرية التقليدية، والممتعة، و«المعروفة» مسبقًا عن الأجساد والمعاني. تقول: «يمكِننا إعادة تحرير الأجزاء التي جرى قطعها؛ دول كاملة، وشعوب، وحتى أجزاء كاملة من العالم، والأفلام والفيديوهات التي جرى تقطيعها وفرض الرقابة عليها لأنها لا تتوافق مع أفكار الجدوى الاقتصادية والكفاءة. يمكِننا تحريرها في أجساد سياسية غير متماسِكة، ومصطنعة، وبديلة.»29 بالنسبة إلى شتايرل، فإن عدم التماسك هو ما يخلق إمكانات بصرية جديدة. تعيد توماس تجميع الصور لخلق فوضى تَحرُّرية. وهكذا، يصبح الجسد الأسود جسدًا جديدًا غير معروف، ومتصلًا بالتاريخ، ولكنه غير مقيَّد به. في هذا الموقع الجديد قد يوجد نوع من الحرية البصرية.

ثمَّة استراتيجية بصرية مشابِهة في العرض البصري والسياسي الشعبي «هاملتون: مسرحية غنائية» (هاملتون: ذا ميوزيكال) للين-مانويل ميراندا. تتناول المسرحية — التي عُرِضت أول مرة في برودواي عام ٢٠١٥ — ظاهريًّا رحلةَ ألكساندر هاملتون غير المتوقَّعة ليصبح «أحد الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة. لكنها في الواقع عبارة عن تأمُّلات حول العِرق، والهجرة، والتاريخ، والذاكرة. التصور الآخر للمسرحية الموسيقية هو أن جميع الشخصيات التاريخية «الحقيقية» التي كانت بيضاء، باستثناء ملك إنجلترا، يجسِّدها ممثلون من أصول سوداء، ولاتينية، وآسيوية. بالإضافة إلى ذلك فإنه على الرغم من ارتداء الممثلين أزياء تعود إلى القرن الثامن عشر، تمزج الموسيقى وتصميم الرقصات بين أشكال المسرح الموسيقي التقليدي وموسيقى الراب والهيب هوب والآر آند بي.

fig13
شكل ٣-٣: إيميليو مدريد، «صورة لفريق عمل مسرحية هاملتون»، في «بورتوريكو»، ٢٠١٩. صورة رقمية. الصورة بإذن من الفنان.

يكمُن الاضطراب الجذري الذي يخلقه هذا العرض البصري — ومن المهم أن نتذكَّر أن التأثير لا يُدرَك إلا بصريًّا — في إحلال الأجساد غير البيضاء مكان الأجساد التي كانت على مَر التاريخ بيضاء، ومن ثَم تنويع السرد التاريخي. فهو، من ذلك المنطلق، إعادة كتابة بصرية للتاريخ. إذ يستولي اختيار طاقم التمثيل في المسرحية على سلطة تمثيل آباء الولايات المتحدة المؤسسين التي ارتبطت بلون البشرة البيضاء (إن لم يكُن برجولتهم)، ليُضفي على الأساطير التأسيسية ومفاهيم الوعد الأمريكي احتفاءً بنشاط المهاجرين الجُدد وحبهم لوطنهم الجديد.

بالنظر إلى النجاح الكبير الذي حقَّقته مسرحية «هاملتون»، لا يمكِن اعتبار إعادة الكتابة هذه حدثًا ثقافيًّا عابرًا. فقد فازت المسرحية بعددٍ لا يُحصى من الجوائز في الولايات المتحدة وخارجها، وبِيعت ملايين التذاكر والتسجيلات الأصلية لفريق العمل؛ كما ظهر ميراندا وأعضاء فريق التمثيل في السهرات التليفزيونية، والبرامج الحائزة على جوائز، والبرامج النهارية، والمجلات المطبوعة لأكثر من عام، وأثارت المسرحية نقاشًا سياسيًّا وأكاديميًّا حيويًّا على المستوى الوطني. منذ ذلك الحين، قامت المسرحية بجولاتٍ مستمرة داخل الولايات المتحدة وخارجها.

لم تحظَ هذه الاستراتيجية، التي تعتمد على الإحلال البصري والاستبدال وإعادة التحرير، باستحسانٍ عام. أشارت المؤرخة ليرا دي مونتيرو، على سبيل المثال، إلى أنه في هذه المسرحية التي تهدف إلى إعادة تصوُّر الرجال البيض العظماء في التاريخ، لم يكُن هناك ذكر تقريبًا للعبودية، ولم يكن هناك أي شخصية ناطقة من العبيد أو الأحرار السُّود.30 كما أن المشكلة تكمُن في أن الدور الحقيقي لغير البيض في تأسيس الثورة الأمريكية لم يُذكَر. لذا، بالنسبة إلى مونتيرو، فإن جعل الاستراتيجية البصرية الأساسية تتمحور حول إبراز الأجساد غير البيضاء كأبطالٍ في قلب سردية تاريخية واحدة، يُعَد فرصة ضائعة لإفساد هذه السردية، والاعتراف بدور الأشخاص غير البيض في التاريخ على مَر العصور.

على الرغم من ذلك، فإن إعادة الترتيب والقطع والإرباك تظل كلها استراتيجيات مثيرة للاهتمام تهدف إلى إخراج المُشاهِد من النظرة التقليدية، وتمنع الجسد المُشاهَد من التكيُّف مع أيِّ مفهومٍ ضيِّق أو مسبق. المشكلة هي أن هذه الطريقة تتطلَّب استرجاع ومعرفة كل ذلك التاريخ البصري، وكل تلك القصص السيئة السابقة، لتحقيق تأثير الأجساد الجديدة. ولكن يبدو أن توماس وميراندا لا يريان أي طريقة أخرى إلا من خلال الجسد، رغم كل المشكلات التي تصاحبه.

مَن يُترك خارج الحدود البصرية؟

سعى البعض إلى تجاهل الجسد على أمل تعديل علاقة المشاهدين بأجسادهم وأجساد الآخرين. يستوجب التفكيرُ في الجسد التفكيرَ في الحدود، وهو ما يفتح النقاش حول المواطَنة المتنازَع عليها والانتماء الوطني. تحوُّل معاني الأجساد من قانونية إلى غير قانونية يفرض عند عبورها حدًّا وهميًّا ضغوطًا كبيرة على عملية تصور الذات ومحيطها. حتى المصطلحات المستخدَمة — مثل مهاجِر، نازح، لاجئ، مشرَّد، غير موثَّق، منفي، غير مواطن — تشير إلى عجزٍ أساسي عن تمثيل حركة الأجساد بوضوح، سواء تحت الضغط أو غيره من الظروف.

fig14
شكل ٣-٤: جينيفر ستينكامب، «دياسبور ١»، ٢٠١٤، تركيب فني معروض في معرض «جينيفر ستينكامب: العين العمياء»، معهد كلارك للفنون، ويليامزتاون، ماساتشوستس، ٢٠١٨. بتصريحٍ من الفنانة ومعرض ليهمان ماوبين، نيويورك، وهونج كونج، وسيول. تصوير: جينيفر ستينكامب.

تسعى مقاطع الفيديو لجينيفر ستينكامب، وخاصة «دياسبور ١» (٢٠١٤)، إلى تحقيق هذا النوع من التفكيك. إذ يواجه المُشاهِد أولًا سطحًا فوضويًّا من بتلات الزهور المتناثرة والأوراق والفروع والجذور التي تتحرك عبر الشاشة الكبيرة المعروضة عليها، كما لو كانت مدفوعة برياحٍ بطيئة. وتظهر الأنماط وتتشكَّل التكتُّلات، ولكن لا يحدث تماسكٌ واضحٌ قبل أن تبدأ البتلات والأفرع المنفردة في الانفصال والتحرك إلى الجانب الآخر من الشاشة، أو العودة إلى التكتُّلات السابقة. تبدو الحركات عشوائية، ولكنَّ ثمَّة تدفقًا إيقاعيًّا للعمل سرعان ما يصبح فاتنًا ومتجانسًا. العنوان، الذي يرمز إلى طريقة نثر النباتات أبواغَها، هو أيضًا إشارة إلى كيفية تنقُّل الناس في الشتات من طرفٍ من أطراف العالم إلى آخَر، والعودة مرة أخرى. يهاجر الناس ويحتشدون، لكنهم أيضًا يُلقَون خارج مسارهم بفعل حدود عشوائية. هذه الحركة توليدية، وفي الوقت نفسه، في النسخة البصرية لستينكامب، مُربكة، حيث لا يُتاح التحكم في جميع النقاط.

وبالمثل، تتطلَّب مادية العمل وكونه عرض فيديو مصمَّمًا باستخدام الكمبيوتر أن يفكِّر المشاهدون في الطبيعة والآلة والجسد باعتبارها عناصر مترابطة، تُدفَع وتُسحَب بطرقٍ تولِّد أنماطًا وتحركات داخلية خاصة بها. لكن العناصر التي تدور في أنحاء الشاشة تصطدم أيضًا بحدود الشاشة نفسها، مما يؤدي إلى تغيير مسارها ثم التصادم مع مجموعاتٍ أخرى تشكَّلت. تمنع الجدران الحركةَ الحرَّة الحقيقية وتجبِر العناصر على مغادَرة مسارها، والدخول في مسارات عناصر أخرى. مرة أخرى، لا توجد أجساد، ولا أشخاص، ولا وجوه، ولا إشارة واضحة إلى تأثيرات الحدود المعاصرة أو الطويلة الأجل، أو اللاجئين، أو الزيادة العالمية في مشاعر العداء تجاه المهاجرين، ولكن يظل هذا هو محور التركيز البصري.31 إذا لم يتمكَّن المشاهدون من رؤية الصور المتعددة للأجساد والأشخاص الذين جرفَتهم الأمواج إلى الشواطئ، أو الذين علِقوا في مخيَّمات اللاجئين، وإذا لم تكُن طرق تصوير هذه القصص حول النزوح والهجرة فعَّالة، فإن ستينكامب تقدِّم نوعًا آخَر من الرؤية، ونوعًا آخَر من الأسلحة للتعامل مع الجسد.
fig15
شكل ٣-٥: براين بيشوب، «بلا عنوان (تأملات حول الحدود ١)»، ٢٠١٩. طباعة صبغية أرشيفية، جرافيت، وأقلام تلوين، وجواش على ورق، ٤٨ × ٢٦ بوصة (١٢٢ × ٦٦ سم). الصورة بتصريحٍ من الفنان.

يستخدم الفنان براين بيشوب استراتيجية مختلفة لتناول الأزمة البصرية نفسها. يشتمل عمله «بلا عنوان (تأمُّلات حول الحدود ١)» (٢٠١٩) على أربعة أقسام، حيث يحتوي القسمان الأولان على رسوماتٍ للوجهَين الأمامي والخلفي لصورة فوتوغرافية التُقطت لصحيفة «ديلي فوتوجراف» لمسيرة على طول طريق فولز في بلفاست، أنهت حظر التجوال في فولز عام ١٩٧٠. أسهم هذا الحظر في تصعيد العنف بين الجيش البريطاني المحتَل والجيش الجمهوري الأيرلندي في لحظة محورية من النزاع. الصورة الثالثة هي للشفرة المصدرية لصورة فوتوغرافية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أثناء مناقشته قيمةَ الحدود والجدران في احتفالية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي يهدِّد بإعادة إرساء الحدود الفاصلة بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا، الأمر الذي مثَّل نقطة محورية لعقودٍ من العنف وآلاف الوفيات. الصورة الأخيرة هي رسم لأحد النماذج الأوَّلية للجدار الذي يطمح الرئيس ترامب إلى تمديده عبر الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة.

يتناول بيشوب، على مستوًى واحد، الذاكرة والصحافة وإرث الصورة. فالصور الفوتوغرافية — التي كانت مصدرًا للكثير من الذعر والتكنولوجيا التي بلورَت مخاوف التصوير التي تعيق التعاطف بشكلٍ كبير — تبدو في يد بيشوب، في الوقت نفسه، قابلةً للإزالة وغير فعَّالة بما يكفي ولكنها قريبة جدًّا، ومزعجة بصريًّا جدًّا، ومُدمِّرة جدًّا. تعود الصورة، التي تُظهر النساء والأطفال وهم يقدِّمون الخبز لضحايا حظر التجوال، إلى الحياة من جديدٍ في عمل بيشوب من خلال الرسم. هذا الفعل — نقل الصورة الأصلية — يسحب الصورة من التاريخ ليساعد على تمكين رؤية حزن الأجساد وفاعليتها بشكل جديد. يُذكِّر رسم الوجهَين الأمامي والخلفي للصورة المُشاهِدَ بحسية الذاكرة، وشيئية الصورة الفوتوغرافية. يقول الباحث كوبينا ميرسر إن الصور لها «حياة الشتات الخاصة بها.»32 كما يفترض ميرسر أن بداية حياة هذه الصور من حيث كونها فنًّا هي أيضًا اللحظة التي يجري فيها «تفعيل مستقبلها الكامن». بعبارة أخرى، تصبح أقرب لذاتها، وأكثر قربًا إلى المستقبل بدلًا من أن تكون عالقة في ماضٍ غير مكتمل وغير متحقِّق تمامًا. يدعم بيشوب هذا الرأي، حيث يجعل الصورة أكثر وضوحًا، ويحدِّد كيف يمكِنها أن تتحرك بين الحدود والشوارع والفترات الزمنية. ولكن بيشوب يفصل فعليًّا بين الصورتَين المتجاورتَين، اللتين تتعلَّقان بشخصية ترامب المثيرة للانقسام؛ الأولى بتحويل الصورة إلى ترميزٍ رقمي، والثانية بإعادة رسم النموذج الرقمي للجدار، مما يجعله مجردًا ومن ثَم ليس مُدمِّرًا في حد ذاته. يفترض بيشوب هنا أن ترامب يَصعب تحمُّله، مجرد صورة رسومية شديدة الفحش، وأنه يجب حماية المُشاهِد منه ومن إرثه. هذا هو مَن يجب ألا نتحدَّث عنه أو نراه، أو نتحدث عن صورته أو نراها.

يحاول بيشوب، مثله مثل ستينكامب، وبالطبع توماس وميراندا، التواصُل حول الجسد، ومن خلال الجسد، للتفاعل مع تجسيدات الماضي التي تثقل قدراتنا على الرؤية بوضوح، فضلًا عن التعاطف، ثم التخلص منها. مَن نحن؟ يحاول جميع هؤلاء الفنانين تصوُّر هذه المسألة بطرقٍ جديدة.

•••

تدرك شتايرل سبب ابتعادنا عن الصور، عن المرئيات، ولا سيما الآن:

غرائزهم (وعقولهم) تقول لهم إن الصور الفوتوغرافية أو المتحركة هي أدوات خطيرة لالتقاط الوقت، والعاطفة، والقوى الإنتاجية، والذاتية. يمكِنها أن تسجنك أو تُلبِسك العار إلى الأبد؛ يمكِنها أن تحصرك في احتكارات الأجهزة وألغاز التحويل، وعلاوة على ذلك، بمجرد أن تصبح هذه الصور على الإنترنت، فلن تُحذف مرة أخرى.33

المشكلة ليست في التكنولوجيا وحدها، كما أوضح هذا الفصل، ولكن التكنولوجيا حقًّا لا تُسعِفنا. فالصور تسجننا، وتُلحِق بنا العار، وتجعلنا غير قادرين على معرفة أنفسنا والآخرين. بعبارة أخرى، كما يغني سبرينجستين ببلاغة، متسائلًا: «ما شعور الراكب في المقعد الخلفي لسيارتكِ الكاديلاك الوردية اللون.» الأغنية مفعمة بالحيوية والجاذبية، لكن الرسالة الأساسية تتعلَّق بالرغبة في الفَهم، في التواصُل. في الأغنية، هذه الرغبة هي أمنية، تساؤل، لم يتحقَّق قَط. وهي مسألة جسدية، تتعلَّق بالشعور بما يعني أن تكون في مكانِ شخصٍ آخَر. تلك الرغبة — ربما أكثر من المعرفة المأمولة — هي الدافع إلى أعمق رغبات المتحدث.

ما الشعور؟ ليتني أستطيع رؤيتك، ربما كنت سأعرف مَن أنت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥