الفصل الرابع

متى؟

تأمُّلات بصرية

كان من المفترَض أن يكون الأمر ذا أهمية كبيرة على الصعيد العالمي. في الأول من أبريل عام ٢٠١٩، أصدرت المفوضية الأوروبية، ومجلس الأبحاث الأوروبي، ومشروع «مقراب أفق الحدث» بيانًا صحفيًّا تمهيديًّا لتحضير الجميع لِمَا وعدوا بأنه سيكون خبرًا «رائدًا». جاء الكشف الكبير عن «أول دليلٍ بصري مباشر على وجودِ ثقبٍ أسود فائق وظِله» بعد ١٠ أيام في إعلان عالمي ضخم اشتمل على أوراق بحثية، ورسوم بيانية، واقتباسات مُعدَّة، وصفحة ويب مصمَّمة بالكامل لضمان الحفاظ على المعلومات المثيرة في سياقها العلمي الصحيح عند نشرها بحماسٍ في كل أنحاء العالم.1 ظهرت الصورة على الصفحات الأولى للعديد من الصحف الدولية، وبُثَّت عبر شاشات التليفزيون وشبكة الإنترنت، وانتشرت في كل مكان تقريبًا خلال دقائق من إصدارها.

لكن التأثير لم يكُن كما كان متوقعًا. فلم يكن هناك إحساس جماعي بالإعجاب، بل لامبالاة واضحة يمكِن وصفها بأنها «تجرِبة قديمة». وقد أصبح الموضوع برمَّته مادة للتهكُّم من جانب مقدِّمي البرامج الحوارية الليلية في الأسبوع التالي.

fig16
شكل ٤-١: «الصورة الأولى لثقب أسود»، ١٠ أبريل ٢٠١٩. حقوق الصورة: مقراب أفق الحدث.

يقع الثقب الأسود الذي صُوِّر في مركز مجرَّة «مسييه ٨٧»، وهي مجرَّة تبعد ٥٥ مليون سنة ضوئية عن الأرض. الثقب بعيد جدًّا إلى درجةٍ تَعجز معها أي عدسة أرضية، أو حتى عدسة مثبَّتة على مَركَبات الفضاء الحالية، أن تلتقط صورة له بأي شكل تقليدي. فكيف إذن رأينا هذا «الدليل البصري المباشر»؟ وصَف الإعلان مصدرَ الصورة وطبيعتها بطرقٍ متعددة، ومن ضِمنها استخدام المصطلح، «الدليل البصري المباشر». كما استُخدِمت أيضًا الكلمات: «صورة»، ونتاج «طرق معايرة وتصوير متعددة»، و«صورة رصد»، و«القياس بالتداخل»، و«عمليات الرصد»، و«نتائج»، و«ظل»، و«نافذة جديدة». إذا بدا هذا محيرًا أو غير دقيق لفريقٍ علمي، فهذا يشير إلى أن إنشاء الصورة نفسها كان مشروعًا معقَّدًا. وبوصفها جزءًا من مشروعٍ دام عدة سنوات، وشاركت فيه عدة مؤسَّسات وتلسكوبات، تُعَد الصورة تجميعًا لمجموعات بيانات من مصادر متعددة عُولِجت لتظهر في صورة واحدة متكاملة، أو لتبدو — بشكلٍ أكثر تحديدًا — صورة فوتوغرافية. ولكنها قطعًا «ليست» صورة فوتوغرافية، على الرغم من غياب هذا التمييز في العديد من الروايات والأوصاف والتعليقات المرتبطة بالاكتشاف وتصويره.

بعبارة أخرى، لم تكن الصورة مشابِهة بأي شكلٍ من الأشكال للصور الشهيرة للفضاء التي التُقِطَت في الماضي. لننظر، على سبيل المثال، إلى الصورة الشهيرة لباز ألدرين على سطح القمر التي التقطها زميله نيل أرمسترونج في عام ١٩٦٩ بكاميرا هاسيلبلاد طراز 500E، كانت رحلة عام ١٩٦٩ الأولى من نوعها التي شملت عدة أجهزة تصوير مختلفة لتوثيق لحظة انتصار برنامج الفضاء الأمريكي. ربما كان الجهاز الأكثر أهميةً من بين هذه الأجهزة هو الكاميرا السينمائية، التي استُخدِمت لالتقاط صور أول إنسان يخطو على القمر، ويغرس عليه علم أمريكا، ثم بثِّها تليفزيونيًّا. بعد بضع سنوات، في عام ١٩٧٢، التُقِطت صورة «الرخام الأزرق» الشهيرة لكوكب الأرض بواسطة طاقم «أبوللو ١٧»، لتكون أول صورة تُظهِر الكوكب بأكمله محاطًا بالفضاء. أتاحت هذه الرؤية صورة يصِفها نيكولاس ميرزيوف بأنها جعلت الكوكب «ضخمًا، وفي متناول معرفتنا في الوقت نفسه».2 باختصارٍ، انتقلَت البشرية من قرونٍ من الصور المرسومة يدويًّا للفضاء إلى القدرة على إنشاء تلك الصور والتفكير فيها عبر الصور الفوتوغرافية.
fig17
شكل ٤-٢: نيل أرمسترونج، رائد الفضاء باز ألدرين، طيار الوحدة القمرية، يمشي على سطح القمر بالقرب من ساق الوحدة القمرية (LM) «إيجل» في أثناء النشاط خارج المركبة لمهمة أبوللو ١١ (EVA)، ‏١٩٦٩. حقوق الصورة: وكالة ناسا.
أحدث هذا التحوُّل البصري والتكنولوجي تغييرًا كبيرًا في رسوم الفضاء الخارجي. كانت هناك ثقافة بصرية ثرية تتعلَّق بالفضاء والقمر سبقَت بعثات أبوللو بقرون.3 فقد استحوذَت التخيُّلات حول الحياة خارج الأرض على الانشغال البصري العالمي. وفي أقدم أفكار البشرية عن الفضاء، كانت الحياة في النجوم تشبه الحياة على الأرض، مليئة بالنباتات والحيوانات والبشر. وطوَّع البشر السموات من أجل جعل الفضاء يبدو أكثر ألفة، أشبه بالوطن. في المراحل الأولى للعصر الحديث، كانت خرائط السماء الصينية تحمل علاماتٍ لحيوانات، بينما استخدمت الخرائط السماوية الأوروبية الحيوانات والبشر لتكوين الكوكبات، كما استخدم عبد الرحمن بن عمر الصوفي في كتابه «صور الكواكب الثابتة» (٩٦٤) رسومًا توضيحية لتوحيد ما كان معروفًا عن الفضاء. عكست هذه الرسومات سماءً جعلت الناس يشعرون كأنهم يرَون الأرض، وجعلت البعيد يبدو متاحًا في مرمى البصر.

تغيَّرت المعرفة العالمية بالعلوم، وتغيَّرت المفاهيم الدينية حول الأرض، وتوسَّعت الخيارات الجمالية بفعل تزايد العولمة. تجلَّى هذا في صورٍ كانت، حتى في منتصف القرن العشرين، تعرض مجموعة متنوعة من الزخارف البصرية لتمثيلِ ما كان معروفًا عن الفضاء الخارجي. وحتى القباب السماوية، وهي المواقع المخصَّصة لإنتاجِ معرفةٍ يمكِن تصديقها حول الفضاء، لم تكن غالبًا تشغل نفسها بالفروق بين الأنواع المختلفة للصور، فوضعَت رسوماتٍ حديثة للقمر كما يُرى من خلال التلسكوبات بجانب رسومات فنية لرموز الأبراج، وأيضًا بجانب صور شعبية وتجارية تصوِّر مستقبلًا خياليًّا للسفر إلى الفضاء واستعماره. كانت في مقدور الثقافة البصرية للفضاء أن تكون دقيقة ومتجذِّرة بعمقٍ في قوانين الفيزياء والرياضيات، ولكن سُمِح للتاريخ البصري الطويل لما قبل الحداثة بالوجود جنبًا إلى جنب مع المعرفة الجديدة.

أدَّت الصور الفوتوغرافية والأفلام في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته إلى تغييرٍ جذري في هذه الديناميكية. فمع التركيز على الدقة البصرية و«الواقع»، حلَّت هذه الصور الفيلمية من المناظير الفضائية بسرعةٍ محلَّ كل الأساليب الأخرى للإنتاج البصري في مجال التثقيف العلمي. وقد تجلَّى هذا التغيير بوضوحٍ في عام ٢٠٠٠، عندما افتتح متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي في نيويورك مركز روز الجديد للأرض والفضاء (الذي كان يُعرف سابقًا بقُبة هايدن السماوية)، الذي عرض «فقط» الصورَ الفوتوغرافية والرقمية على جدرانه البيضاء الجديدة؛ فقد نُقِلت كل العناصر البصرية اليدوية الأخرى إلى مكاتب العلماء أو الأرشفة. وأُزِيلَت العلامات الفلكية والجداريات التي تحكي قصص السكان الأصليين عن القمر، وحلَّت محلَّها شاشات مليئة بصورٍ من وكالة ناسا.

ولكن في حين هيمنَت الصور التي تشبه الصور الفوتوغرافية (سنشرح هذا قريبًا) على الساحات والنقاشات العلمية، انتشرت أشكالٌ أخرى من صور الفضاء رغم هذه التطورات التقنية. في عام ١٩٧٧، صدر الجزء الأول من سلسلة أفلام «حرب النجوم» (ستار وورز)، الذي دخل هو نفسه في حوارٍ مع فيلم ستانلي كوبريك «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» (٢٠٠١: إيه سبيس أوديسي) (١٩٦٨)، الذي استُوحي بدوره من أفلام الخيال العلمي اليابانية «التوكوساتسو» في خمسينيات القرن العشرين، التي كانت تتناول عادةً موضوعات الفضاء الخارجي والمخلوقات الفضائية. وإذ أصبحت المجتمعات العلمية أكثر دقةً في صورها، وركَّزت على تعزيز مفاهيم الحقيقة من خلال المفردات البصرية للتصوير الفوتوغرافي، كانت الثقافة البصرية الشعبية تأخذ المشاهدين عبر المجرَّات، وإلى أبعد ما يمكِن للسينما والسرد تخيُّله. فقد كانت الحانات في الكواكب البعيدة المليئة بالمخلوقات الفضائية المتنوعة والقليل من البشر تتنافس مع الصور الفوتوغرافية والمعارض المتحفية لصخور القمر.

بمجرد أن مكَّنتنا التكنولوجيا من التقاط الصور من الفضاء القريب، سرعان ما واجهنا عائقًا كبيرًا. فالفضاء شاسعٌ للغاية، وكل شيء آخَر بعيد جدًّا عن الأرض ومحيطها المباشر. ومن ثَم كانت هناك حاجة إلى تقنيات جديدة للرؤية.

وكان نتاجُ ذلك نوعًا من الصور الهجينة التي أُشير إليها في البيان الصحفي حول صورة الثقب الأسود. يجب «تحويل» البيانات إلى صور. البيانات بحد ذاتها ليس لها هيكل مرئي يمكِن للعين البشرية إدراكه. فما ظهَر هو ما وصفته الباحثة ليزا ميسيري بأنه «ممارسات تكوين المكان»، أي استراتيجيات متعددة لتكوين البيانات، ومعايرة المعلومات بناءً على المعرفة البصرية المتوافرة، ومعالجة عدة رؤى ونقاط بيانات، وتحرير تلك المعلومات، واستبعاد البيانات التي لا تنسجم مع الشكل المتكوِّن، غالبًا عن طريق استبعاد القِيَم الشاذة، وجمع كل تلك المعلومات معًا في تمثيلٍ بصري يمكِن إدراكه.

يصعب هذا عند محاوَلة تصوير الكواكب، مثلًا، لكنه يصبح أكثر تعقيدًا عند محاوَلة تصوير ثقب أسود، بالنظر إلى أن طبيعته تمتاز بعدم إمكانية رؤيته. يجري امتصاص كل الضوء المجاوِر في الثقب الأسود، ولا يمكِن لأي ضوءٍ الهروبُ ليصل إلى أعيُننا أو كاميراتنا. كان الهدف الذي سعى إليه العلماء هو «التقاط صورة للغاز المتوهج الساخن وهو يسقط في الثقب الأسود».4 وهكذا، لكي يعرضوا لنا الثقب الأسود، تعيَّن عليهم تحديد وتمثيل ما هو غير مرئي تمامًا في اللحظة نفسها التي «يسقط» فيها الغاز الساخن داخله.

لم يكن الثقب الأسود المعروف الأقرب إلى الأرض مثاليًّا للتصوير بسبب نقص البيانات عنه، مما جعل هذا التحدي الرهيب أكثر تعقيدًا لضرورةِ استخدام ثقب أسود بعيد لدراسة الحالة. ولجمع البيانات، كان من الضروري إذن تنسيق عمل ثمانية تلسكوبات في عدَّة مواقع حول العالم لمدة أربعة أيام. وهذا ما شرحته وكالة ناسا في توضيحها عمليةَ جمع البيانات ومعالجتها:

مع تسجيل كلِّ تلسكوبٍ البياناتِ من الثقب الأسود المستهدَف، سُجِّلَت البيانات الرقمية والطابع الزمني على وسائط أقراص الكمبيوتر. كما أن جمع البيانات لمدة أربعة أيام حول العالم أتاح للفريق كميةً كبيرة من البيانات لمعالجتها. ثم نُقلَت الوسائط المسجَّلة يدويًّا إلى موقعٍ مركزي لأن كمية البيانات — نحو خمسة بيتابايت — تتجاوز ما يمكِن أن تتحمَّله سرعات الإنترنت الحالية. في هذا الموقع المركزي، جرَت مزامَنة البيانات من كل المواقع الثمانية باستخدام الطوابع الزمنية، ودُمِجت لإنشاء مجموعة مركَّبة من الصور التي تكشف عن صورة ظلِّية غير مسبوقة لأفق حدث مجرة «مسييه M87*».‏5
لكن حتى فريق «مقراب أفق الحدث» احتاج إلى أن يوضِّح أن هذه كانت مجرد صورة جزئية رغم الكم الهائل من البيانات التي جمعوها. ولتعويض هذا النقص، طوَّر مبرمجو الفريق «خوارزميات التصوير» المصمَّمة «لملء فجوات البيانات». ولبيان ذلك للجمهور العام، شبَّه فريق «مقراب أفق الحدث» الأمر بالعزف على بيانو ذي مفاتيح مكسورة؛ إذ لن يبدو اللحن صحيحًا دائمًا، غير أنه يمكِن للمرء التعرُّف على المقطوعة الموسيقية. ولمزيدٍ من الإيضاح، قدَّم الفريق مثالًا صوتيًّا باستخدام أغنية المغني فانيلا آيس الشهيرة لعام ١٩٩٠ «آيس، آيس يا حبيبتي» (آيس، آيس بيبي). فبعد أن بدأت الأغنية بما يبدو أنه سلسلة عشوائية من الملاحظات، تتجمَّع معًا في نسخة يمكِن تمييزها، وإن لم تكُن مطابِقة تمامًا للأغنية المألوفة. أشار المتحدث إلى أنه من المدهِش أن «يتمكَّن الدماغ من ملء الفراغات»، موضحًا أن خوارزميات التصوير تفعل الشيءَ نفسه تقريبًا؛ فهي تملأ الفراغات.6 تُصاغ البيانات غير الكاملة فيما يعتقد المشروع أنه التجميع الأكثر منطقيةً لإنشاء صورة الثقب الأسود. هذه الطريقة في الرؤية — التي تقودها الآلات والخوارزميات — ليست خاصة بكيفية تصوُّر الثقوب السوداء، بل هي الطريقة التي يجري بها إنشاء الكثير من البيانات المرئية والمعرفة التي نصادفها يوميًّا. فالفضاء مكوَّن من أرقام وزمن وتخمينات أُنشِئت بواسطة الكمبيوتر.

مظهر الصورة جديرٌ بالملاحظة أيضًا. على الأرجح كان من الممكن استخدام جميع أنواع التقنيات البصرية، ولكن نظرًا إلى أن لغة التصوير الفوتوغرافي والرقمنة قد سيطرتا على الثقافة البصرية وأسئلة الواقعية منذ ارتياد الفضاء بعد سبعينيات القرن العشرين، لجأ الفريق إلى المَراجِع الفوتوغرافية «لسد الفجوات». النتيجة ليست صورة فوتوغرافية بأي معنًى مادي أو تاريخي. بدلًا من ذلك، تُعَد صورة الثقب الأسود محاكاةً للبيانات، وهي مصمَّمة لتبدو كصورة فوتوغرافية. أصبحَت الصور الفوتوغرافية تعبِّر عن الأصالة والعلم والواقع والحقيقة، وحتى مع معرفتنا الكاملة بكيفية التلاعب بها دائمًا، فإنها ما زالت تمتلك، بلا شك، تأثيرًا بصريًّا خاصًّا.

كان الهدف من الصورة هو الإلهام، والتأكيد، وإثارة الدهشة، والتعليم، لكن سرعان ما كان رد الفعل من عالم الإنترنت ساخرًا. فقد امتلأ «تويتر» و«إنستجرام» بملاحظاتٍ لاذعة حول عدم الانبهار بالصورة، بالإشارة إلى أنها تفتقر إلى الجودة الإلهامية. لاحَظ البعض التشابهَ العجيب بين الثقب الأسود و«عين سورون» كما جرى تصويرها في فيلم بيتر جاكسون المقتبَس من ثلاثية «سيد الخواتم» (ذا لورد أوف رينجز). وكان الانطباع السائد أن العديد من الناس شعروا كأنهم رأوا هذه الصورة من قبل. وهذا بالطبع صحيح.

وقد توافق تفسير فريق مشروع «مقراب أفق الحدث» باستخدام الموسيقى مع هذا الشعور. إذ تحتوي أغنية «آيس، آيس يا حبيبتي» (آيس، آيس بيبي) على إيقاعٍ مستعار من فرقة كوين والمغني ديفيد بوي، اللذَين بدورَيهما استعارا من تأثيرات موسيقية متنوعة. ما تردَّد هو: «لقد» سمعناها من قبل، تمامًا كما رأينا صورة الثقب الأسود من قبل. نحن نعرف ما «يملأ» الفجوات. إنه الشيء نفسه الذي يعرفه مصمِّمو الصورة. تصِف ميسيري فريقًا من الجيولوجيين في أثناء مراقبتهم وهم يضعون خرائط جغرافية لكواكب مختلفة بأنهم كانوا يقضون أمسياتهم في مشاهدة أفلام الخيال العلمي.7

إذن، ما الذي نراه بالضبط عندما نشاهد هذه الصورة الجديدة للثقب الأسود؟ هل نرى ما هو موجود حقًّا، أم فقط ما نحن (وأجهزة الكمبيوتر) قادرون على تخيله؟

متى سنصل إلى هناك؟

واحد من أكثر الكليشيهات تكرارًا التي تحفِّز الدعوات إلى العمل هو: إذا لم يكن الآن، فمتى؟ «متى» كلمة مثيرة للاهتمام. فهي لا تمثِّل دائمًا طلبًا، أو حتى تخيُّلًا، أو مستقبلًا، وقد تشير أيضًا إلى الماضي. ولكنها بطريقةٍ ما راسخة دائمًا في الحاضر، من هذه النقطة من الزمن، متى غادرنا أو سنغادر؟ متى فعلت شيئًا أو ستفعله؟ متى فهمت أو سأفهم أخيرًا؟

في بعض الحالات، تكون الاستجابة البصرية لسؤال «متى»؟ هي: «الآن!»، وفي حالاتٍ أخرى تكون: «حسنًا، عندئذٍ».

يتناول هذا الفصل الزمن البصري وإمكاناته، مما يعني أننا سنتناول في الوقت نفسه المفردات البصرية ﻟ «الآن»، بعبارة أخرى، كيف نحدِّد موقعنا «بصريًّا» فيما يتعلَّق بالزمن. امتزج الزمان والمكان في الثقافة البصرية على مَر التاريخ وعبر الثقافات. ويتَّضح ذلك في صورٍ متنوعة مثل صورة الثقب الأسود (وهي ظاهرة زمانية ومكانية)، وأنواعٍ مختلفة من خرائط السكان الأصليين التي تستند استنادًا عميقًا إلى شبكات الزمان والمكان.8 كما أن الديوراما الحديثة للتاريخ الطبيعي، التي تتميز بالحيوانات المحنَّطة والمناظر الطبيعية المرسومة، تشير إلى الطريقة التي يتشابك فيها الزمان والطبيعة بصريًّا.9 بعبارة أخرى، غالبًا ما يجري الخلط بين الزمان والمكان، ولكن لأغراض هذا الفصل من الأفضل التركيز على الزمان البصري.

ربما لا يوجد جانبٌ من جوانب الثقافة البصرية المعاصِرة أكثر اهتمامًا بالزمان وعلاقته بالوقت الحاضر من الصور المكرَّسة للطرق المتنوعة التي يحدِّد بها الإنسان موقعه ومكانه، ويستخدمها للاعتناء بموارد الأرض والفضاء أو استغلالها. إنها ثقافة بصرية تتَّسم بالإلحاح والرعب والأمل والندم؛ لأنها ركَّزت بشدة على السجل البصري للاحتباس الحراري والتغيُّر المناخي والتصدِّي للدمار المحتمَل في المستقبل. يحمل السؤال عن المكان دائمًا لمحةً من الوجودية — لكل شخص، بالتأكيد في بعض الأحيان — لكن الثقافات البصرية تتعاطى مع أزمة المناخ على مستوى البشرية جمعاء، فلا تنظر في مسألة الموت وحسب، بل في الانقراض أيضًا.

في كتابه لعام ٢٠١٦ «الاضطراب العظيم»، يسعى الروائي أميتاف جوش إلى معالجة سبب عجز الفنانين، أمثاله، عن فَهم الأزمة المناخية المتزايدة وتخيُّلها. وهو لا يتهاون في تقييمه بأن هذه ليست مجرد غفلة مؤسِفة، بل قد تكون السبب الرئيسي وراء المحاولات الضعيفة للمجتمع البشري العالمي لتغيير العادات والأفعال، أو لمواجهة الأدلة المتزايدة على أننا ندمِّر كوكبنا. يرى جوش أن هناك الكثير من اللوم الذي يجب تقاسمه حول العالم، لكنه يزعم في النهاية أنه «عندما تنظر الأجيال المستقبلية إلى الاضطراب العظيم، ستُلقي، دون شك، باللوم على القادة والساسة في ذلك الوقت لفشلهم في معالجة أزمة المناخ. لكنهم قد يَعُدون الفنانين والكُتَّاب متواطئين في الأمر بالدرجة نفسها؛ لأن تخيُّل الاحتمالات ليس، على أي حال، من وظيفة الساسة والبيروقراطيين.»10
إنها بالفعل أزمة رؤية. يطالِب جوش بالنظر في أسباب فشل الثقافة البصرية في أن تُرينا المشكلة والمخاطر، وكيف فشلت في أن تجعلنا نرى. ويشير إلى العواقب الرهيبة؛ لأننا لا نرى الحوادث الطارئة، فنحن نفشل في معالجتها. للتفكير في هذا الأمر بطريقة أخرى، يمكِننا طرح السؤال التالي: ما الذي يمكِن عرضه، وكيف سيمكِّن العالم من الرؤية؟ بالتأكيد لا يكفي لأداء المهمة عرض مشهد رسومي لدب قطبي بعينَين يملؤهما الحزن، وغير قادر على تسلُّق صفيحة جليدية عائمة كما في الفيلم الوثائقي لنائب الرئيس السابق آل جور «حقيقة غير مريحة». فالإجابة عن سؤال «متى؟» ليست هي عام ٢٠٠٦ بالتأكيد.11
من المهم هنا توضيح مَن «نحن» في مسألة تغيُّر المناخ. غالبًا ما يسود في الحوارات حول البيئة ميلٌ إلى إخفاء الذنب أو تشتيت اللوم داخل سرديات عامة عن الاحتمالية والتزايد، فنسمع أقوالًا مثل: «لقد عمَّتنا جميعًا هذه الفوضى، فكيف سنُصلِحها؟»12 من ناحية أخرى، هناك قِطاعات مميَّزة بوضوحٍ من سكان العالم الذين سيتحمَّلون عِبئًا كبيرًا من العواقب العنيفة لتغيُّر المناخ، وهم يعانون بالفعل. فالجمع بين أولئك الذين استفادوا على نحوٍ غير متكافئ وأولئك الذين عانوا وسيعانون على نحوٍ غير متكافئ أيضًا كما لو أنهم يتشاركون اللوم أو يتحمَّلون التكاليف؛ هو في حد ذاته طمسٌ آخَر قاسٍ وغير عادل. تتحمَّل الدول الصناعية، ورأسمالية الشركات، وطبقات النخبة والطبقة المتوسطة في أوروبا والولايات المتحدة النصيبَ الأكبر من المسئولية، كما أنها صاغت النماذج الخطابية والسياسية والاقتصادية التي تبرِّر تفاقم هذه المشكلات من جانب الاقتصادات الناشئة والقوى العالمية الجديدة. إن فقراء العالم والمُستعمَرين سابقًا في جنوب العالم هم أوَّل مَن يعاني، وبالقدر الأكبر، مرة أخرى.

يقودنا هذا إلى نقطة جدلية أخرى «نحن» في حاجة إلى مواجهتها: وهي ما الزمان، تحديدًا، الذي نحن فيه؟ أصبح البعض ينظر إلى هذه الفترة — هذا الزمن — باعتبارها حِقبة الأنثروبوسين. اقترح المصطلحَ لأول مرة الجيولوجيون، وهو اسم لحِقبة جديدة في الزمن الجيولوجي للأرض، حيث يكون تأثير الإنسان مهيمنًا إلى درجةِ أنه العامل الرئيسي الذي يشكِّل ويغيِّر كل نظام بيئي، من يابسة وبحار وغلاف جوي للكوكب؛ فلا يتبقَّى أي جانبٍ من جوانب الحياة على الأرض دون تأثُّر بأفعال البشر. إنه زمان مختلف، مما يستلزم — كما يذهب البعض — تسمية جديدة للحقبة الجديدة. ومن الأمور التي تكاد تثير الجدل بالقدر نفسِه لاقتراح حقبة جديدة هو تحديد متى يمكِن القول ببدء هذه الحقبة. تتراوح الاقتراحات من انتشار الزراعة البشرية (أيْ من ثمانية آلاف عام مضت) إلى اختراع المحرِّك البخاري (١٧١٢) والانفجار النووي الأول (١٩٤٥).

واجه مؤيدو تسمية الأنثروبوسين ردودَ فعلٍ معارِضة كبيرة. يرتكز الكثير من هذه المعارَضة على اتهام المصطلح بالتمركز البشري، أو الغطرسة البشرية بشكلٍ ما. وقد ساق الكثيرون حُججًا مقنِعة على أن هذا المصطلح يعمل على تطبيع تفوُّق الإنسان وسلوكه، أو أنه لا يعالج الفجوة الهائلة بين البشر فيما يتعلَّق بالمسئولية عن التغييرات التي طالت الكوكب. وهكذا، ففي حين يجد باحثون مثل ديبيش تشاكرابارتي أن الأنثروبوسين مصطلحٌ مفيدٌ سياسيًّا وأيديولوجيًّا، فإن آخَرين، مثل جاياتري سبيفاك وبرونو لاتور، ساقوا الحُجج المقنِعة والمُلحَّة على استخدام المصطلح «كوكبي» للتركيز على الحاجة إلى «إعادة التفكير» في مفاهيم الزمن والمكان، والعلاقات بين الأنواع والبيئات وداخلها، و«إعادة تشكيلها» (وليس فقط إعادة التسمية).13
إن أفعال الرؤية وعدم الرؤية والإزالة والتخيُّل هي في صميم السرديات المتعلقة بالتغيُّر المناخي، وكذلك هذا السؤال الحتمي «متى؟». كما يُعَد اتهام جوش أيضًا دعوة إلى العمل. متى ستُحفَّز البشرية بما نراه أو يُعرض علينا؟ يزعم ميرزوف أن «الخطوة الأولى هي الاعتراف بمدى عمق ارتباط هذا المجمع البصري الحديث من الأنثروبوسين والجماليات والرأسمالية بحواسنا وطرق رؤيتنا الحديثة».14 تصف الباحثة دونا هاراواي الأمرَ بطريقة مختلفة: «العين تفسِد العالم لتصنع وحوشًا تكنولوجية.»15 فهل العين هي السبيل إلى إصلاح هذا الفساد؟

لطالما كان المجال البصري، في الواقع، أداة على قدْرٍ كبيرٍ من الفعالية — بل مدمِّرة أيضًا في بعض الأحيان — لتشكيل فَهم الناس للبيئة، ومُتَعهم فيها، وتهديداتهم لها، والتزاماتهم تجاهها. هل يخاف أحدكم من السباحة بسبب أسماك القرش؟ هل تخيَّلتم ذلك بصريًّا؟ ما نعرفه عن العالَم الطبيعي مرتبط ارتباطًا وثيقًا، سواء للأفضل أو للأسوأ، بالثقافة البصرية.

لكي نتأمَّل قصصنا الموروثة عن الأرض والكائنات التي تعيش عليها، تؤكد هاراواي ضرورة «الاستمرار في مواجَهة المشكلة». وهذا يعني مقاوَمة الرغبة في إشاحة النظر عنها، بل البقاء والوجود فيها، وتشكيلها ومعالجتها «الآن»، في الحاضر وليس «لاحقًا». تدعونا هاراواي إلى «إثارة استجابة (استجابات) قوية للأحداث المدمِّرة، وأيضًا تهدئة الأوضاع المضطربة، وبناء أماكن هادئة من جديد».16 هذا تحدٍّ كبير، وكما رأينا في الفصول السابقة، فإن العديد من الصور تعترض طريقنا. ولكن الثقافة البصرية المثمِرة، التي تلهِم العمل والانتباه والوجود في «الوقت الحالي»، كما يحثُّنا جوش على فَهمها، ممكِنة أيضًا وضرورية. الثقافة البصرية هي دائمًا المشكلة، ويكمُن حلُّها في الإجابة عن السؤال «متى؟».

لطالما كان المجال البصري، في الواقع، أداة على قدْرٍ كبيرٍ من الفعالية — بل مدمِّرة أيضًا في بعض الأحيان — لتشكيل فَهم الناس للبيئة، ومُتَعهم فيها، وتهديداتهم لها، والتزاماتهم تجاهها.

متى وليس أين

غالبًا عندما تبدو الصورة البصرية كأنها تدور حول الجغرافيا أو الأرض، فإنها في الواقع تتناول شيئًا آخر تمامًا: الزمن، التنقل، الحرية، الخوف. في عام ٢٠١٦، بدأت صفحة @streetview.portraits بنشر صورٍ من خدمة جوجل ستريت فيو على «إنستجرام». كانت الصور مأخوذة من مختلِف أنحاء العالم، ولكنها لم تكن من الأماكن السياحية الشهيرة، بل من شوارع عشوائية ومنازل منفردة، وأحيانًا كانت تُظهِر أشخاصًا، ولكن بلا زحامٍ مطلقًا. يسيطر شعورٌ بالعزلة على طابع الصور، وكذلك اهتمامٌ ملحوظ بالمساحة: مساحة للانتشار، للتنفُّس، للنظر حولك. تُعرِّف الفنانة جاكي كيني، التي نشرت هذه الصور، نفسَها بأنها مُصابة برهاب الأماكن المفتوحة، مما يجعلها غير قادرة على السفر إلى أيٍّ من المواقع التي تلتقط صورَها. وتصف ما تفعله قائلة:
لقد وجدت مَلاذًا مفاجئًا وفريدًا في الفرص الإبداعية التي توفِّرها خدمة «جوجل ستريت فيو». فبدأت بالتنقُّل عبر خرائط جوجل لاستكشافِ دولٍ بعيدة مثل منغوليا، والسنغال، وتشيلي. وجدتُ بلداتٍ نائية ومناظر طبيعية مغبَّرة، وجواهر معمارية نابضة بالحياة، وأشخاصًا مجهولين، مجمَّدين جميعًا في الزمن. لقد فتَنَني هذا العالم الموازي الغريب والواسع لستريت فيو، والتقطتُ لقطاتِ شاشةٍ لحفظ عوالمه السحرية المخفيَّة وتوثيقها.17
fig18
شكل ٤-٣: جاكي كيني، «منزل متنقِّل: قيرغيزستان»، ٢٠١٧. صورة فوتوغرافية، إنستجرام @streetview.portraits الصورة بإذن من الفنانة، أنشأتها جاكي كيني. حقوق النشر محفوظة لشركة جوجل.

يوفِّر السفر وفرصة رؤية أشياء وأماكن وأشخاص جُدد بالضرورة طرقًا جديدة للتفكير في الذات وعلاقتها بالعالم. إنها رفاهية كبيرة تظل غير متاحة للكثيرين. علاوة على ذلك، تشير أعمال كيني إلى أن هذه الرفاهية مرتبطة بالقدرة البدنية. فلطالما كافَح الأشخاص ذوو الإعاقة بطرقٍ متنوعة للتنقُّل عبر المساحات وتجاوز الحدود. قد يكون السفر محاوَلةً للخروج من الذات، أو الهروب من الجسد، ما لم تكُن عاجزًا عن ذلك بالطبع.

لقد أحدثت التكنولوجيا عبر الإنترنت ثورة في عالم السفر بطرقٍ عديدة، مما زاد من غموض مفهوم الزمان والمكان. إذ تتيح تطبيقاتٌ مثل خرائط جوجل وستريت فيو وغيرهما من التطبيقات الأخرى أنواعًا من التصورات التي لم تكُن ممكنة قبل عَقد من الزمان. وبطبيعة الحال، ثَمة حدود لذلك، وهو ما تشعر به كيني بشدة: «أرى شيئًا في الأفق يبدو رائعًا، لكن السيارة تتوقَّف أو يَعوق شيءٌ ما الطريق. يحدث ذلك بنسبة ٩٠ في المائة من الوقت. عليَّ دائمًا أن أكون مستعدَّة لذلك الإحباط.»18 كل السفر مليء بخيبات الأمل، والعديد منها ينبع من حدود الرؤية والأماكن التي لا يمكِن للعين الوصول إليها أو رؤيتها. من ذلك المنطلق، فإن مشروع كيني يشبه كثيرًا مشروعات مصوِّري السفر الذين يذهبون فعليًّا إلى المواقع التي يصوِّرونها، أو مشروعات السياح. الجميع يَتُوق إلى زوايا أفضل للرؤية، أو يريد إلقاء نظرة أقرب، ولكن يجد بعض الأشياء مستحيلة. نرغب في الوصول إلى كل شيء، والإحباطات الناتجة عن الحرمان من ذلك قاسية في خدمة جوجل ستريت فيو كما هي في الواقع.

ولكن حتى عندما نتمكَّن من الوصول إلى ما نريد، ماذا نستطيع أن نرى بالضبط من البيئة، أو سكانها، أو الكوكب؟ عمل كيني مذهِل، ولكن تَبرز في منشوراتها نسخة مميزة من العالم بنبرة ولون وخط رؤية معينة. تتأثر طرق الرؤية المميزة حتمًا بالقصص السائدة والسرديات البصرية في ثقافة الفرد وزمانه. وكيني ليست استثناءً من ذلك؛ فعوالمها «المخفية والسحرية» داخل جوجل ستريت فيو ليست اكتشافاتٍ جديدة، بل مَشاهد مألوفة تشكَّلت عدة مرات.

المناظر الطبيعية بصفتها فكرة هي في حد ذاتها أداة استراتيجية، وحُجة بصرية حول المكان والزمان تعتمد على تكرار أو خرق الأنماط الشائعة لتصبح مرئية ومفهومة. يوفر هذا الإحساس بالمعرفة أرضًا صلبة للمُشاهِد. عندما لا يكون لدى الأشخاص إحساس بموقع أجسادهم أو توجُّههم في المكان، فإنهم يُعانون مما تسمِّيه ميسيري «طرق الوجود غير الملموسة».19 إنهم يخافون فعليًّا من فقدان أنفسهم. يحاول الدماغ إجراءَ فرزٍ لفوضى البيانات الحِسِّية، مما يمنحها ترتيبًا ووضوحًا. في هذه العملية، يتحوَّل الزمان والمكان من «المُدرَك إلى المُجرَّب».20 هذا أيضًا وصف ملائم لإنشاء صور المناظر الطبيعية. ليس لجميع المعلومات الأهميةُ البصرية نفسها؛ فبعض التفاصيل يجب إبرازها، وبعضها الآخَر يمكِن تجاهله، وبعض الأشياء يُعاد ترتيبها. مرة أخرى، تتعلَّق هذه الترتيبات البصرية حول الزمن، أو «متى»، بقدرِ تعلُّقها بأي جغرافيا محددة. غالبًا ما يكون النظر إلى الأرض أو السماء بحثًا عن رؤيةِ شيءٍ آخَر تمامًا.

انظر على سبيل المثال إلى اللوحتَين «جرس المساء من المعبد المغطَّى بالضباب» و«قمر الخريف فوق بحيرة دونجتنج»، وهما زوج من اللفائف المرسومة من منتصف إلى أواخر القرن الخامس عشر. رُسمت اللوحتان بأسلوب آن جيون؛ أحد أهم الفنانين الكوريين في عهد مملكة جوسون، ومن المحتمَل أنهما كانتا جزءًا من سلسلة من ثماني لفائف تصوِّر المَشاهِد حول نهرَي شياو وشيانج في هونان بالصين. بالنسبة إلى الفنانين الصينيين، كانت هذه المناظر الطبيعية شائعة وأُعِيد إنتاجها مرارًا وتكرارًا منذ القرن الحادي عشر. تشهد حقيقةُ أن هذا العمل قد صنعه فنان كوري على ذوق البلاط الكوري وتفضيلاته الجمالية والفكرية في تلك الفترة.

تفتقر كلتا اللفافتَين إلى التفاصيل الواضحة حول الجغرافيا الخاصة بالموقع الصيني. وهذا يتماشى مع الاعتقاد الجمالي في ذلك الوقت بأن هذه التفاصيل لم تكُن ذات أهمية للفنان أو المشاهدين. بدلًا من ذلك، كانت الجبال الشاهقة، والأشجار الرشيقة والبهيجة، والسماء الخالية من القمر هي العلامات البصرية في اللفافتَين لما تعنيه هذه المناظر الطبيعية، ولما يُستحَق رؤيته.21

صُوِّر البشر والأبنية بطريقة تُذيب جميع الأدلة على وجودهم في المشهد. من الممكِن رؤية أسطح المنازل، ولكنها لا تتصادم مع البيئة الطبيعية، أو تشوِّش عليها، وتنصهر المعابد المنحنية انصهارًا عضويًّا مع خطوط الفرشاة التي تحيطها. وهكذا، يحث الفنان المشاهدين على رؤيةِ أن الطبيعة والإنسانية والروحانية تتَّحد معًا بانسجامٍ في كيان واحد.

fig19
شكل ٤-٤: على طراز آن جيون، «جرس المساء من المعبد المغطَّى بالضباب» و«قمر الخريف فوق بحيرة دونجتنج»، ١٤٥٠–١٥٠٠ تقريبًا. زوج من اللفائف المعلَّقة، حبر على حرير، كل لفافة بمقاس بوصة. متحف متروبوليتان للفنون، نيويورك.

هذه الفكرة عن الروابط العضوية بين البشر والطبيعة في أُلفة مريحة وتبادُل متساوٍ أصبحَت مألوفة نوعًا ما في تصوير المناظر الطبيعية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وكذلك شرق آسيا. حتى في لوحات المناظر الطبيعية الرومانسية في القرن الثامن عشر، التي تركِّز على قسوة الطبيعة ومَخاطرها، حيث مَشاهِد العواصف العنيفة أو الأشجار المدمَّرة أو الضباب المقفِر، لا تزال الطبيعة تلبي احتياجات الإنسان. كان الهدف النهائي للجلال البصري هو إيصال دروس عن «الهيبة»، وكيفية الشعور بالجسد والروح بطرقٍ عميقة. ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن ثَمة خطًّا بصريًّا مباشرًا يمتد من اللفائف الكورية في القرن الخامس عشر إلى المناظر الطبيعية الرومانسية في القرن الثامن عشر، وصولًا إلى الصور المعاصرة في التليفزيون وصور الإعلانات المطبوعة التي تروِّج لشاحنات صغيرة بخلفية من الجبال الشامخة. لقد تدرَّبت أعيننا على رؤية الأرض ليس كما هي، ولكن كشيءٍ آخر؛ كإحساس، كزمن، كحالة شعورية.

يُعيدنا هذا إلى أعمال كيني على «إنستجرام». لا ينبغي أن نقلل من الإحساس بالحرية، والإمكانية الإبداعية، والفرح العميق الذي تُظهِره كيني في عملها في تشكيل الأماكن البصرية عبر جوجل ستريت فيو. في الواقع، ثَمة تاريخٌ طويلٌ للاستخدام الفني للمناظر الطبيعية التي لم يرَها الفنان، كما هي الحال في مثال اللفائف الكورية. لكن يجب علينا أيضًا أن نسأل، هل تخلو خدمتَي جوجل ستريت فيو وخرائط جوجل من الرموز والمعاني المضمنة؟ هل المواد التي تستخدمها كيني غير ضارة؟ وما الرموز والمعرفة والتحيزات التي تنطوي عليها تلك الصور؟

لبدء تحليل هذه الأسئلة، يجب علينا أولًا أن نأخذ بعين الاعتبار كيفية إنشاء الصور. تأتي خرائط جوجل، مثل معظم صور الخرائط التي تأتي من الأقمار الاصطناعية، من التكنولوجيا العسكرية. على سبيل المثال، انظر إلى صورة لبحيرة البندقية. من السهل التركيز على التفاصيل، والمداخل، واليابسة، والألوان المتباينة (جميعها محاكاة)، أو انظر إلى الساحل ككل. قد لا يراها المرء على أنها خريطة، بل تصميم يتكوَّن من خطوط وألوان.

أصبحت هذه التكنولوجيا سهلة ومفيدة وشائعة إلى درجةِ أننا قد ننسى أنها لم تُطوَّر في البداية للسياح أو للباحثين الفضوليين على الإنترنت. فقد صُمِّمت بهدف محدد للغاية هو مراقَبة البُلدان الأخرى، وتسجيل التغيُّرات والتحركات والفروقات؛ من أجل تحقيق ميزة عسكرية دفاعية وهجومية. وفقًا للباحث تي جي ديموس، فإنها إذن «مدمَجة في إطارٍ سياسي واقتصادي محدَّد، يتكوَّن من نظام بصري مُقدَّم ومُؤسَّس من قِبَل جهاز الدولة العسكري-الصناعي الذي يتَّخذ من الغرب أساسًا له بعد الحرب الباردة.»22 فقد صُمِّمَت أداة الرؤية العامة لتلبية استخدام محدَّد للغاية، ومن الأهمية بمكانٍ التساؤل عما إذا كانت هذه الوظيفة المقصودة تختفي حقًّا عن الأشياء المرئية التي تقدمها الأداة. ما تراه كيني، على سبيل المثال، حدودًا لرؤيتها قد يكون أقل براءةً أو عفوية، بل هو مصنوع بواسطة ما سمَّاه الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته والجنرال السابق دوايت أيزنهاور ﺑ «المجمع العسكري الصناعي».
fig20
شكل ٤-٥: بحيرة البندقية، التُقِطت بواسطة الجهاز المتقدِّم لقياس الانبعاث الحراري والانعكاس الإشعاعي، وهو أداة تصوير تُحلِّق فوق قمر تيرا، التابع لوكالة ناسا، التُقِطت في ٩ ديسمبر ٢٠٠١ (بألوانٍ طبيعية محاكية)، حقوق نشر الصورة: وكالة ناسا، مركز جودارد لرحلات الفضاء، وزارة التجارة الدولية والصناعة، مركز تحليل بيانات الاستشعار عن بُعد للأرض، نظام مراقبة الموارد ومنظمة استخدام الفضاء في اليابان، والفريق العلمي الأمريكي/الياباني للجهاز المتقدم لقياس الانبعاث الحراري والانعكاس الإشعاعي (أستر).
ما هو أكثر خطورةً هو احتمال أن تَعوق التكنولوجيا بشكلٍ دائمٍ قدرتَنا على تحديد مواقعنا من دون هواتفنا وشاشات لوحة القيادة. أمكن تطوير أنظمة تحديد المواقع العالمية (GPS) أيضًا لأغراضٍ عسكرية، وتحديدًا للمساعَدة في توجيه الصواريخ نحو أهدافها. حاليًّا، هناك أكثر من خمسة مليارات منصة لأنظمة تحديد المواقع العالمية قيْد الاستخدام حول العالم، وربما أقربها إليك موجودة على هاتفك المحمول. لا تَعِد أنظمة تحديد المواقع العالمية فقط بإعادة إنتاج خريطة للطرق والمعالم بتنسيقٍ سهل القراءة، ولكن أيضًا بتقييمٍ أسرع أو لأنسب الطرق المباشِرة للانتقال من نقطة إلى أخرى. يمكِنها أن تخبرنا بالمسافة، ومحطات الوقود على الطريق، كما يمكِنها حساب مدى التأخير بسبب حركة المرور ومدة هذا التأخير، وحتى إنه يمكِنها تقديم عرض بصري لأيهما سيكون الأسرع، المشي أم استخدام وسائل النقل العامة. ثَمة ما يُسمَّى أيضًا «الموت بسبب نظام تحديد المواقع العالمي»، حيث يعتمد الأشخاص الذين لا يمتلكون إحساسًا بمحيطهم الفعلي على نظام تحديد المواقع العالمي، ويجدون أنفسهم في وسط بحيرة أو فوق أخدود. هذا ليس مفاجئًا على الإطلاق، حيث توجد أدلة متزايدة على أن هذه الخرائط المُنشأة رقميًّا تغيِّر حواسنا الداخلية للفضاء. مرة أخرى، نجد تقنيات الثقافة البصرية وتصوُّراتها المتغيرة تغيِّر العلاقة بين الجسم والفضاء المحيط به. يحذِّر المؤلف جريج ميلنر من أن «ثمة قيمة هائلة في معرفة الموقع الدقيق للأشياء في الفضاء المادي.»23 بعبارة أخرى، قد نخسر أنفُسنا تمامًا.

ما تغيَّر في القرن الحادي والعشرين هو سُلطة الصور الرقمية، ونظام تحديد المواقع العالمي، وجوجل ستريت فيو. مثل صورة الثقب الأسود، فإن عددًا متزايدًا من الصور التي نراها، والتي تبدو كأنها صور دقيقة وواقعية للبيانات، ليست صورًا على الإطلاق. بل هي توضيحات، وتخيُّلات، وإعادة تشكيل للمعلومات. إذا كنا نعلم هذا، فقد نثِق بها بقدر ما وثق مُشاهِدو لفافتَي «جرس المساء من المعبد المغطَّى بالضباب» و«قمر الخريف فوق بحيرة دونجتنج» باعتبارهما تمثيلات دقيقة لتضاريس الصين. فقيمة اللفائف وصدقها يكمُنان في مكان آخَر. فلا تزال هناك مصادر للمعلومات والتعليم حول ما كانت تَعنيه الأرض آنذاك. وكان الجمهور يفهم التبادل البصري والحوار كما هو، ليس عن الأرض بل عن الأفكار.

تتلاعب الثقافة البصرية المعاصرة بشكلٍ كبيرٍ بالدينامية التي تمثِّل من خلالها صورُ المناظر الطبيعية نوعًا من الحقيقة الملموسة أو السلطة بشأن الأرض. لهذا السبب من المفيد أن نأخذ في الاعتبار التساؤلَ الحكيم للباحثة الرقمية ويندي هوي كيونج تشون: «أيُّ شكلٍ من أشكال الفعل لا يتطلَّب المخاطَرة؟»24 هذه الصور الجديدة لها قيمة، لكننا نحتاج إلى التفكير في تلك القيمة بعناية. على مَر التاريخ، كان هناك إنسان (حتى لو كان شخصًا مجهولًا)، كائن يمتلك قدرة على الفعل، في قلب كل كيان بصري يمكِنه أن يقدِّم (أملًا) نوعًا من الفهم الفلسفي العام للتفاعل معه. «أكره بيكاسو» هي فكرة مشروعة لأن هناك شخصًا يُدعى بيكاسو يمكِن أن يُكرَه. ولكن مع مولدات الخوارزميات، وأفضل التخمينات، وتوليف البيانات، والتصورات المتناقلة بين أجهزة الكمبيوتر، لا يوجد هناك كيان قائم. هذا ما يخيف الكثيرين بشأن مستقبل الثقافة البصرية؛ ألَّا يكون هناك شخص يتحكَّم في الأمور مباشَرةً، أو فورًا، أو على الإطلاق.
بعد أن قضَت عالِمة الاجتماع جانيت فيرتيسي وقتًا مع الفِرق التي استخدمَت أحدث الأدوات لتصوير كوكب المريخ، اقترحت أنه قد يكون هناك طريقة أفضل وأكثر واقعيةً لرؤية المريخ والأجرام السماوية الأخرى. فقد خلصت قائلةً: يجب أن «نرى مثل المركبة الجوَّالة». تشير فيرتيسي هنا إلى بعثة استكشاف المريخ الجوَّالة التابعة لوكالة ناسا، التي أرسلت مركبتَين آليتَين إلى الكوكب في عام ٢٠٠٤؛ جمعت إحداهما البيانات حتى عام ٢٠١٠، بينما استمرت الأخرى في العمل حتى عام ٢٠١٨. بدلًا من قَبول طرق الرؤية المعتمَدة من الدولة، التي تبدو محدودة، وتجعل المعلومات تبدو أكثر اتساقًا مما تتيحه البيانات الحقيقية، تصِف فيرتيسي الرؤيةَ مثل المركبة الجوَّالة كعملية «تجذب عدة مراقبين في علاقات اجتماعية معقَّدة، لكن هذه العلاقات موجَّهة نحو التوافق، وليس السيطرة السلطوية».25 ربما لا تزال التكنولوجيا تحمل آثار استخداماتها الأصلية وطرق الرؤية واللارؤية، ولكن من شأن عملية إعادة استخدام تعاونية ومقصودة تهدف إلى التعددية، بدلًا من الوهم بوجود حقيقة واحدة، أن تيسِّر رؤيةً أفضل ومعرفة أكثر ثراءً.
تتبنَّى الباحثة جوانا زيلينسكا موقفًا مشجعًا آخر، حيث تزعم أنه يجب علينا إعادة التفكير في هذه الصور على أنها تصوير غير بشري. هذا «الاندماج بين الوكالة والرؤية البشريتَين وغير البشريتَين … يعمل كشكلٍ من أشكال السيطرة وكقوة تشكيل للحياة.»26 وتكتب قائلةً إنه لا داعي لأن نخاف من المنتَجات البصرية غير البشرية، أو أن نقلق كثيرًا بشأن قصة أصلها. كانت السيطرة دائمًا جزءًا من المعادلة؛ دائمًا جزءًا من العديد من تصوُّرات الأرض. السيطرة هي الجزء البشري، الذي قد تساعدنا الصورُ غير البشرية على التحرر منه. ترى زيلينسكا مستقبلًا مشرقًا للبشر في هذه الخطوة، حيث تسمح لنا الأعين غير البشرية أخيرًا برؤية العالم الذي يحيط بنا بوضوح. وترى أن هذه الرؤية الجديدة سوف «تسمح للبشر برؤيةِ ما يتجاوز الحدود الإنسانية لفلسفاتهم الحالية ووجهات نظرهم العالمية، والتوقف عن رؤية أنفسهم في موقعهم الإلهي الذي هو في كل مكان وفي اللامكان في الوقت نفسه، واستعادة الشعور بالاتصال مع العالم والتجذُّر فيه».27 وبالطبع، قد يتساءل المرء: متى كنا «نحن» متَّصلين ومتجذِّرين إلى هذا الحد؟

إن لم يكن الآن …

من الناحية البصرية، لا تبدو الصورة لافتة للنظر بحق. فمعظمها جليد وثلج أبيض، مع ظِل خفيف على خط الأفق يتدرَّج من الأبيض إلى الأزرق السماوي الكثيف. لا يبدو الصدع المتعرج مرعبًا عند النظر إليه مباشَرةً. قد يبدو كمسارِ مَركبةٍ ما، أو طريق مُنحنٍ يربط بين مكانَين. قد تعتقد حتى أنه ربما نتج عن حركة زلَّاجة تجرُّها الكلاب. في الزاوية اليسرى من إطار الصورة يتدلَّى جناح الطائرة ومحركاتها، مما يُشعِر المُشاهِد بقوةٍ بأنه داخل الطائرة، كما لو كان ينظر من نافذتها.

fig21
شكل ٤-٦: صدع في كتلة لارسن الجليدية من منظور طائرة الأبحاث DC-8 التابعة لوكالة ناسا، ١٠ نوفمبر ٢٠١٦. تصوير: جون سونتاج، وكالة ناسا.
يصِف الباحث أليكس بوش هذه الصورة بطريقة مختلفة: «وجدت نفسي غير قادرٍ على أن أشاهد الصدع في كتلة لارسن الجليدية»، حيث وجدته «مرعبًا جدًّا إلى درجةٍ لا يمكِن تخيُّلها». الأمر كما لو كان «رؤية فناء الأرض كلها وجميع سكانها مقدمًا.»28 السر وراء فزع بوش هو ذِكر «كتلة لارسن الجليدية»، التي تشير إلى رفٍّ جليدي في القطب الجنوبي. راقَب العلماء هذه الرفوف بقلقٍ متزايد، حيث تَسبَّب الاحترار العالمي بالفعل في تفكُّك عدة أجزاء منها، مما يشير إلى بداية إعادة تشكيل كبيرة للكوكب. على الرغم من فقدان كتلة لارسن الجليدية بالفعل عدَّةَ أجزاء، اكتُشِف صدع أكبر بكثير في عام ٢٠١٦، وذلك أولًا عبر صور الأقمار الاصطناعية، ثم تأكَّد الأمر بالمشاهَدة البصرية المباشِرة عندما أتاح الطقس ذلك. هذه الصورة دليل على هذا التأكيد. فالخط الموجود فيها بالتأكيد ليس مجردَ آثار في الثلج؛ فقد يكون بدايةَ نهايةِ البشرية ومعظم أشكال الحياة الأخرى على الأرض. بالنسبة إلى بوش، تمثِّل هذه الصورة نهايةَ العالم كما نعرفه؛ موتًا جماعيًّا متوقَّعًا، فيلمَ رعب. إنها صورة لا يمكِن النظر إليها لأنها صورة تجيب عن السؤال: «متى؟»، وقد مضى الموعد النهائي.
قد تتساءل الباحثة في دراسات السينما إي آن كابلان عما إذا كان ما يتحدَّث عنه بوش هنا هو «متلازمة إجهاد ما قبل الصدمة»، حيث يعاني الشخص من الصدمة مسبقًا قبل وقوع كارثة مناخية. يرى مشاهِدو الأفلام وعشَّاق الخيال قدومَ الفناء المناخي، وقد تأثَّروا بالفعل بآثاره. وترى كابلان أن هذه الحالة تشغل حيزًا كبيرًا في الأدب والسينما الحديثة. إذ تُقدَّم للقراء وروَّاد السينما صورٌ متكررة لكوارث مناخية ونتائجها البائسة.29 إلى جانب الصور «الحقيقية» التي يقدِّمها العلم، فلا نهاية للصور المختلَقة التي يمكِن أن تُشكِّل أسوأ كوابيسنا.
ثَمة مثال حديث هو فيلم «ماكس المجنون: طريق الغضب» (ماد ماكس: فيري رود)، الفيلم الذي أخرجه جورج ميلر عام ٢٠١٥. وهو إعادة تخيُّل للسلسلة التي عُرِضَت في أواخر سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته (أيضًا من إخراج ميلر)؛ حيث يأخذ الفيلم الحديث نغمةً أكثرَ إلحاحًا وصدًى سياسيًّا. يبدأ فيلم عام ٢٠١٥، في إعادة إنتاج من نوعٍ ما، بالإشارة إلى أن هذا الانهيار العالمي لم يكُن عامًّا، بل كان بيئيًّا على وجه التحديد. بسبب النفط، والجشع، وسوء استغلال الأرض، أصبح الكوكب في المستقبل صحراءَ قاحلةً جافة، حيث لا توجد نباتات، وتحوَّلت جميع الحيوانات وتشوَّهَت إلى درجةِ أنها أصبحت شِبه غير قابلة للتعرُّف عليها، واتَّسمت حياة البشر بنُدرة المياه، والعنف، وهيمنة الأقوياء، والإعاقة الجسدية والمرض. ويَسُود هذا المستقبلَ بالكامل تقريبًا، وعلى نحوٍ غير مفهوم، أصحابُ البشرة البيضاء.30

هذه ليست السردية المروِّعة الوحيدة، من ضمن السرديات البصرية أو غيرها، التي تشير إلى نهاية الحضارة وإلى مستقبلٍ عنيفٍ لن ينجو فيه إلا الأقوى والأكثر بياضًا. ما تصوِّره هذه الأفلام أيضًا، إلى جانب العنصرية الجارفة، هو الفرصة الأنانية المستحيلة للفرد للبدء من جديد، مما يعني أن الأجساد نفسها التي كانت تملك القوة والظهور في العالم القديم، والتي تتحمَّل المسئولية الكبيرة عن الحالة الجديدة، ستحصل على فرصة أخرى. وفي حين أن الخوف والرعب يلهمان رحلات خيالية مروعة، فإن هذه النسخ من المستقبل غالبًا ما تعزِّز الظلم الاجتماعي والرغبات الحاضرة. يهدف تصوير المستقبل، وما سيبدو عليه العالم، إلى تهدئة جمهور الحاضر. فالتمثيل البصري هو للأرض المحترقة والمدمَّرة، ولكن الرسالة تتعلَّق بالزمن والقوة، كنوعٍ من التسكين للتقاعُس أو الصدمة التي يشعر بها الناس حاليًّا تجاه ما جرى.

هذا هو العكس تمامًا لِمَا يقول جوش إننا في حاجة إليه. فهذا هو النوع من الفن، النوع من الخيال، الذي يُعيدنا إلى داخل أنفسنا، ولا يدفعنا إلى الخروج نحو العمل الجماعي، وبالتأكيد ليس نحو الإجابة عن السؤال «متى؟». كما يتساءل الباحث روب نيكسون: «كيف يمكِننا تحويل الكوارث التي تتحرك ببطءٍ، وتستغرق وقتًا طويلًا في التكوين، الكوارث المجهولة التي لا بطلَ لها كما في الأفلام، إلى صورة وسرد؟»31

لذا نعود إلى كتلة لارسن الجليدية، وإلى الأفلام الوثائقية، وصور الأقمار الاصطناعية، والرسوم التوضيحية، والمخططات، و«الميمات»، والمحاكاة بالكمبيوتر، والمرئيات التي لا تنتهي التي يصنعها البشر وغير البشر على حدٍّ سواء. الحقيقة أن هناك بالفعل ثقافة بصرية قوية لطرق رؤية الأدلة على ما يحدث لكوكبنا. ترتب الرسومات والمخططات العديدة والمجموعات المختلفة البيانات، وتُعيد ترتيبها، وتجذب الأعيُن، وتحفِّز على العمل. ويُستثمَر الكثير من الوقت والاهتمام والموهبة في خلق التجميع الصحيح من الصور الذي من شأنه أن يهز البشرية من سُباتها العالمي، ويدفعها إلى العمل.

ولكن كما يشير تعليق بوش على صورة الجرف الجليدي المتصدِّع في القارة القطبية الجنوبية، يمكِن أن تأتي الصور بنتائج عكسية، وتجعل الأمور تبدو يائسة للغاية، وحزينة للغاية، وبلا أمل. فننظر بعيدًا بدلًا من مواجَهة زماننا. قد تتعثَّر الأفلام الوثائقية والحقائق، لكنَّ ثمة صانعين آخَرين تصوَّروا طرقًا جديدة لرؤية العالم وبيئاته. تعود الفنانة المعاصرة فاليري هيجارتي إلى تاريخ المناظر الطبيعية الغربية العريقة لجذب انتباه المُشاهِد وعواطفه من أجل توليد رؤية جديدة وعمل جديد. تصِف الفنانة عملها «المنظر الطبيعي المشوَّه» (٢٠١٦) قائلةً:

[إنه] عمل خزفي يستمر في تعميق اهتمامي باستلهام الصور الأيقونية من تاريخ الولايات المتحدة وتعديلها بطرقٍ تنتقد محتواها. رسمتُ المنظر الطبيعي بالتزجيج كنسخة مفكَّكة ومصغَّرة من لوحة ألبرت بيرشتات «بين جبال سييرا» من عام ١٨٦٨، وقد كانت اللوحة مشهدًا شاسعًا يمتد على نطاقٍ واسعٍ يعرض غابات الغرب البكر الوفيرة. ساعدت هذه المناظر الطبيعية المثالية، التي امتزج فيها الخيال بالواقع — التي تفتقر أيضًا إلى وجود السكان الأصليين — في ترسيخ فكرة «القَدَر المحتوم»، وهو الاعتقاد بأن أمريكا هي «الأرض الموعودة»، مما شجَّع المستوطنين الأوروبيين على التوسُّع غربًا. يمثِّل التجعيد في العمل حركة الفنان التي أنتجت صورة فاشلة. إذ يجسِّد تصوير هذا المشهد وتجعيده في الخزف فشل الأسطورة الأمريكية في تمثيل الحقيقة الوحشية للعنف الناتج عن التوسُّعية والتحوُّل الصناعي، ويشمل ذلك القضاءَ على السكان الأصليين وتدمير المناظر الطبيعية نفسها.32

يُعَد عمل هيجارتي بمنزلة قنبلة موقوتة فيما يتعلَّق برؤية الأرض وإرث الرؤية. فالمادة نفسها المصنوع منها — وهي الخزف — لها تاريخٌ معقدٌ للغاية ضمن فئات الفن الراقي. في بعض الثقافات، يُقدَّر الخزف بشكلٍ كبير، ولكن في الفن الغربي غالبًا ما يُعَد مجرد زينة، وليس فنًّا حقيقيًّا. يحمل اختيار هيجارتي العملَ بهذه المادة سياقًا جنسيًّا وعِرقيًّا واضحًا؛ تلك الأجساد والمواد نفسها المستبعَدة من بعض الحوارات حول الأرض والتصوُّر البصري سيُعاد إدخالها، حتى عبر اختيارها المواد.

fig22
شكل ٤-٧: فاليري هيجارتي، «منظر طبيعي مشوَّه»، ٢٠١٦. سيراميك مزجج، ١١ × ١٣ × ٣ بوصات. الصورة بتصريح من الفنانة.

إنها تتصدى أيضًا لأحد أشهر فناني المناظر الطبيعية الأمريكيين وأصحاب الأعمال الأوسع اقتناءً، الذي أصبحت أعماله تعبيرًا عن طابعٍ جمالي خاص بالغرب الأمريكي. أنتج بيرشتات، الفنان الذي ينحدر من أصل ألماني، صورًا للمناطق الغربية بعد الحرب الأهلية، وحوَّل النقاش بصريًّا من تجارب الحرب والعِرق إلى ما صوَّره على أنه حدود مفتوحة مليئة بالفرص. وكما تشير هيجارتي، كانت هذه الأرض مأهولة بالفعل بالسكان الأصليين؛ ففي الوقت الذي كان بيرشتات يرسم فيه مَناظره المَهيبة لأرضٍ طبيعية ومفتوحة وداعية إلى التفاؤل، كانت الحكومة الفيدرالية الأمريكية تَخوض حروبًا مع العديد من القبائل، وتجبِرهم على الانتقال، وتتجاهل المعاهَدات أو تلغيها ببساطة. باختصارٍ، كانت هذه فترة من المذابح والحزن في معظم أنحاء الغرب، لكن هذا ليس ما صوَّره بيرشتات وغيره من الفنانين البيض في تلك الفترة. فقد كانت موضوعات صورهم هي النصر، والغزو، والأراضي الغنية المتَّسعة التي تنتظر المستوطنين البيض والسيَّاح.

تشوِّه هيجارتي فعليًّا هذا الحوار البصري، فهي تشوِّه عمل بيرشتات بحيث يظل قابلًا للتعرُّف عليه ولكنه تغيَّر إلى الأبد. وتزعم أننا قبل أن نمضي قُدُمًا، يجب أن نتداخل مع الماضي. يجب أن نفكِّك ما جرى صُنعه حول الأرض ومعانيها، وأن نصنع منه شيئًا جديدًا. لقد رأينا هذا النوع من الإصلاح من قبلُ؛ على سبيل المثال، تؤدي ميكالين توماس عملًا مشابهًا فيما يتعلَّق بإرث أجساد النساء السود في الثقافة البصرية. تشدِّد كلتا الفنانتَين على أنه لا يكفي التحوُّل ببساطة إلى صورٍ «جديدة». لا يمكِن أن يكون هناك جديدٌ دون تفكيك الماضي البصري. لذا، بينما تحاول توماس إعادة إنشاء إجابة للسؤال «مَن؟» في إطار الثقافة البصرية، تستحضر هيجارتي السؤال «متى؟» فيما يتعلَّق برؤيتنا الحاضرة.

fig23
شكل ٤-٨: هان سوك هيون، «طبيعة فائقة»، ٢٠١١. وسائط مختلطة، منتَجات مُنتَجة بكمياتٍ كبيرة، أبعاد متغيرة. متحف الفنون الجميلة، بوسطن. الصورة بتصريح من الفنان.

يتناول الفنان الكوري هان سوك هيون مسألة المناظر الطبيعية، والنشاط البصري، والتغيُّر البيئي بأسلحة لا تقل حِدة. تهدف أعماله الفنية من الوسائط المختلطة، مثل «طبيعة فائقة» (٢٠١١)، إلى إدهاش المُشاهِد في المقام الأول. عند دخولك إلى غرفة العرض، تجد نفسك أمام منظر طبيعي فعلي من تلال، وأودية، ومَشاهِد، وأجراف مذهلة مكوَّنة من أشياء خضراء. ولكن عندما تنظر عن قرب، تكتشف أن هذا الشكل الضخم يتكوَّن من منتَجات استهلاكية وعناصر من متاجر البقالة مثل ألعاب الأطفال، والمظلات، والأرفف، وصفائح الري، والمكانس. يتمثَّل الاتساق الوحيد في العمل في كون جميع هذه الأشياء خضراء، ويمكن شراؤها بسهولة من المتاجر. إنها أغراض يومية، كلها قابلة للتخلص منها، وقد أُعِيد تجميعها لتشكِّل جزيرة وسط أرضية المعرض أو المتحف. للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر مضحكًا ومرِحًا، كل هذه المنتَجات التافهة بتدرُّجات اللون الأخضر التي لا حصر لها، مكدَّسة ومنتشرة، بعضها يبدو ثابتًا جدًّا، وبعضها الآخر يبدو غير مستقر. يبدو كأنه منظر طبيعي، ويدعو إلى تسلُّق مرتفعاته، والمُشاهِد يتنقَّل بين النظر إلى الشكل ككلٍّ والنظر إلى أجزائه الأصغر.

ولكن هان، مثل هيجارتي، يلعب لعبة بصرية ماكرة. فما يبدو مرحًا وحتى جذابًا من الناحية البصرية، سرعان ما يصبح قابضًا للنفس؛ فجميع الأنماط المتكررة، وكل هذا البلاستيك اللامع، وكل التبذير في هذا التجميع للأشياء ليس به شيء ضروري حقًّا. في نهاية المَطاف هذا ليس مشهدًا طبيعيًّا، بل كما يوحي العنوان، هو كابوس من الاستهلاك المبالَغ فيه، بلاستيكي وأخضر. سرعان ما يتحوَّل لون يرتبط عادةً بالبيئة، بالطبيعة، بالنقاء، من مألوفٍ إلى ما يشبه شيئًا مفرطًا في الحلاوة، مفرطًا في الانتعاش، مفرطًا في الإثارة.

fig24
شكل ٤-٩: هان سوك هيون، «طبيعة فائقة»، ٢٠١١، تفاصيل. وسائط مختلطة، منتَجات مُنتَجة بكميات كبيرة، أبعاد متغيرة. متحف الفنون الجميلة، بوسطن. الصورة بتصريح من الفنان.
إذا كانت بداية علاقة المُشاهِدين البصرية مع التركيب هي المناظر الطبيعية التقليدية (تذكَّر هنا اللفائف الكورية التي ذُكِرت سابقًا في هذا الفصل)، فكلما نظر أحدهم أكثر إلى العمل الفني، قد يبدأ برؤية تلك الصور التي أصبحت مألوفة الآن للنفايات البلاستيكية، لجُزُر البلاستيك العائمة التي تجمَّعت في المحيط. يتحدث هان مباشَرةً في هذا العمل، كما في الكثير من أعماله، عن مصير مسقط رأسه سيول، ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى الصورة البيئية الأكبر.33 وبينما يُجبَر المُشاهِدون على المرور عبر هذه المساحات، والتحرك من الشعور بالإعجاب إلى الاشمئزاز، يخلق هان معانيَ جديدة في رؤية الأرض، ومعانيَ جديدة للزمن. ربما يكون الوقت قد تأخَّر جدًّا، ولكن هان يدفع المُشاهِد إلى النظر.

•••

تُظهِر صورة «إريتريا» (٢٠٠٤) للمصور سكوت والاس كيف يُطلَب منَّا بصفتنا مُشاهِدين رؤيةُ كوكبنا بطرقٍ غير مألوفة، وغالبًا ما تكون معقَّدة. الملصَق في الصورة هو جزء من حملة توعية بشأن الجنس الآمِن، تشجِّع على استخدام الواقيات الذكرية لمكافحة انتشار فيروس الإيدز. الرسالة، المكتوبة بثلاث لغات، هي النص الوحيد على الملصَق. الأمر متروك للمُشاهِد ليربط بين العناصر الموجودة على الملصَق، وهي زوجان على الشاطئ، وغروب الشمس، ودولفين يقفز في الهواء. في الصورة، وُضِع المنظر الطبيعي في الملصَق، الذي عُدِّل للتحدث عن قضية إنسانية شديدة التحديد، في منظر طبيعي آخَر. يلتقط والاس ببراعةٍ التباينَ بين الصورة وعرضها في تقاطُع مزدحم. إنه ملصَق إعلاني فريد من نوعه، ولكن كم عدد الناس (باستثناء والاس) الذين ينظرون إليه حقًّا في هذه اللحظة، في هذا المكان؟ أم هل كان الهدف طوال الوقت هو إنشاء صورة للحب والجنس والموت والمحيطات والدلافين لتُشاهَد، ولكن ربما لا يفكِّر فيها الناس بعمق؟ يتسلل الإعلان إذن إلى اللاوعي، ويصطدم بكل صورنا الأخرى للحب والجنس والموت والمحيطات والدلافين. يُعيد والاس تسليط الضوء عليه، موضحًا كيف نرى الأرض والحيوانات والطبيعة بطرقٍ تتنافس فيما بينها دائمًا. ما الذي يَعلق في الأذهان؟ متى سيصبح كل هذا مهمًّا؟

fig25
شكل ٤-١٠: سكوت والاس، «إريتريا»، ٢٠٠٤. صورة فوتوغرافية. الصورة بتصريح من الفنان.

نحتاج إلى معرفة المزيد عن كيفية إنتاج ثقافاتنا البصرية، وما نستهلكه بصريًّا طوال اليوم. نحتاج إلى فهم السلطات، والتحيزات، والتاريخ المتجذر في الصور والأشياء. نحتاج إلى أن نكون قادرين على قَبول بعضها ورفض بعضها الآخر.

كيف جُعلت صورة الثقب الأسود مهمة. من المقبول أن نحذر من الآلات، ولكنها ليست المشكلة. نحن نعرف المشكلة. نحتاج إلى معرفة المزيد عن كيفية إنتاج ثقافاتنا البصرية، وما نستهلكه بصريًّا طوال اليوم. نحتاج إلى فهم السلطات، والتحيزات، والتاريخ المتجذر في الصور والأشياء. نحتاج إلى أن نكون قادرين على قَبول بعضها ورفض بعضها الآخر. نحتاج إلى أن نتذكَّر أن جوش لا يهمس في آذاننا فحسب؛ بل يصرخ ويتوسَّل. نحتاج إلى رؤية الأرض. نحتاج الآن إلى رؤية «متى» يكون الوقت مناسبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥