الدنمارك
(١) مقدمة
تقع الدنمارك بين درجات العرض ٥٤٫٣٤ و٧٥٫٤٥ شمالًا، ودرجات الطول ٨٫٠٥ و١٥٫١٢ شرقًا، وتبلغ مساحتها ٤٣ ألف كيلومتر مربع — حوالي ثلث مساحة بريطانيا، مرة وربع مساحة الأراضي الزراعية في جمهورية مصر العربية، وتكون الدنمارك أكثر دول نورديا اتجاهًا نحو الجنوب، كما أنها بالمقارنة بغالبية دول الشمال هذه تحتل ظروفًا طبيعية ومكانية أفضل من غيرها.
فالدنمارك في مجموعها أرض سهلية زراعية كثيفة السكان، وإلى جانب اهتمامها بالزراعة، فإن لها اهتمامات كبيرة بالبحر وحرفة السماكة والنقل البحري، ومناخها أحسن من بقية دول نورديا، لكن إلى جانب هذه المميزات فإن هناك عددًا من نقاط الضعف، فالدنمارك دولة صغيرة المساحة بالقياس إلى جيرانها، بل إنها أصغر من مستعمراتها السابقة كجمهورية أيسلندا الحالية — ١٠٣ ألف كيلومتر مربع، وبطبيعة الحال فهي قزمية المساحة بالنسبة إلى مستعمراتها الحالية جرينلاند — ٢٫١ مليون كيلومتر مربع، وهي تتكون من عدد كبير من الجزر مما يصعب معه وجود الاتصالات السهلة التي تتميز بها دول نورديا الأخرى، كما أن تركيبها الجيولوجي قد حرمها من مصادر الوقود والمعادن على النحو الذي سوف نعرفه فيما بعد.
ولكن نشاط الدنماركيين وتنظيمهم الحديث قد جعل الدنمارك تتغلب — بصعوبة — على هذه المساوئ، وتستفيد من مزايا الأرض بدرجة قل أن يكون لها نظير في العالم، ولكن هناك صعوبة واحدة لا يستطيع الدنماركيون — على الأقل في العصر الحالي — أن يفعلوا إزاءها شيئًا، تلك هي صعوبة الدفاع عن الدولة، ويعرف الدنماركيون ذلك جيدًا، يعرفون أن أي دولة كبيرة يمكن أن تحتل بلادهم في ساعات قليلة، ولكنهم برغم ذلك يتعايشون مع موقعهم وطبيعة بلادهم المكشوفة، ولعل انضمام الدنمارك لحلف الأطلنطي الشمالي يعكس هذه الحقيقة.
(٢) الظروف الطبيعية العامة وتكوين دولة الدنمارك
وقد ظلت صلات الدنمارك البرية ضعيفة بجارتها الطبيعية ألمانيا عبر البرزخ الأرضي الوحيد الذي يصلها بالبر الأوروبي نتيجة لوجود نطاق من المستنقعات صعبة الاختراق تمتد في جنوب شبه جزيرة جتلند في محور عرضي من البحر البلطي إلى بحر الشمال، وقد أدى ذلك النطاق إلى ضعف الاتصال الأرضي بين الدنمارك وألمانيا، وكون بذلك نوعًا من الحدود الحضارية والسياسة والطبيعية بين الدنمارك الصغيرة وألمانيا الكبيرة مساحة وسكانًا واقتصادًا، وقد ساعد ذلك على أن تظل الدنمارك بعيدة عن النفوذ الألماني، ونمو الدنمارك نموًّا سليمًا بعيدًا عن علاقات القارة الأوروبية المضطربة سياسيًّا طوال القرن السابع عشر إلى القرن العشرين.
هذان العاملان الطبيعيان: صعوبة الملاحة وفقر البيئة في جتلند الغربية، وحاجز الأمان في جتلند الجنوبية، قد ساعدا بدون شك على أن تتمركز الدنمارك بعيدًا إلى الشرق عن هذين الحاجزين، لكن العامل الحاسم في تكوين نواة الدنمارك في الجزر وليس في شبه الجزيرة يرتبط بدون شك بعلاقات الموقع والمكان لهذه الجزر على مدخل البلطيق، ومن ثم تأسست دولة الدنمارك على أساس العلاقات التجارية البحرية في هذا الجزء من أوروبا، مستغلة هذا الموقع الجغرافي التجاري المتحكم أحسن استغلال في الماضي والحاضر.
فأقدم الأدلة على السكن البشري في الدنمارك تشير إلى العصر الحجري القديم — الباليوليتي، وكانت المجموعات التي تعيش في الفترة التالية — الحجري المتوسط — تمارس الصيد والجمع وتعيش في قرى سكنية كبيرة نسبيًّا، كما كانت تعرف صناعة الفخار، ولا شك أن في ذلك دلالة واضحة على وجود سكن مستقر بسبب حيوان الصيد إلى جانب الصيد البحري الشاطئي، وفي خلال عصر البرونز والنحاس عرف سكان الدنمارك الزراعة حينما أصبح المناخ أميل إلى الدفء، وبذلك عاش الدنماركيون المزارعون في قرى كبيرة أو مزارع متناثرة داخل الغابات النفضية التي كانت سائدة آنذاك.
وقد أدت الزراعة وانتشارها بين السكان إلى قطع الأشجار تدريجيًّا منذ تاريخ قديم، وكان آخر عهد الدنمارك بالغابات ذات المساحات الكبيرة في خلال العصور الوسطى، وفي تلك الفترة نستطيع أن نقول: إن المنظر الطبيعي لسطح الأرض كان قد تغير إلى سطح بشري لكثرة انتشار الحقول الزراعية.
وفي القرن الحادي عشر بدأ خروج الدنماركيين من الداخل الزراعي، سواء كان ذلك في شبه جزيرة جتلند أو في الجزر، ومنذ ذلك التاريخ يبدأ التوجيه البحري يلعب دوره في حياة الدنمارك، وقد بنيت في تلك الفترة سلسلة من القلاع والحصون على الشواطئ لتحمي الجزر وشبه الجزيرة من غارات القراصنة وغزواتهم المدمرة، وفي تلك الفترة أيضًا أنشئت كوبنهاجن وآرهوس وآلبورج كمراكز مدنية رئيسية.
ومنذ إنشاء هذه المدن والحصون على ساحل البحر بدأ عهد التوسع الدنماركي خارج جتلند والأرخبيل الدنماركي، وقد امتد نفوذ الدنمارك السياسي إلى المناطق المجاورة عبر البحار، وفي فترة كانت تحتل جزءًا من جزيرة بريطانيا، ثم احتلت بعض أراضي البلطيق، كذلك ظلت تحتل النرويج من سنة ١٣٩٧ إلى سنة ١٨١٤ — أي قرابة أربعة قرون ونصف القرن، وهذا الاحتلال الطويل قد أثر — كما رأينا — تأثيرًا واضحًا في اختلاف لغة النرويج.

ومنذ نهاية القرن الثامن عشر — بعد نمو السويد وسقوط الدنمارك في البلطيق — أخذت الدنمارك تركز كل جهودها لمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية مما أعطاها فترة طويلة تعيد فيها تنظيم مواردها على أساس المساحة الصغيرة التي تشغلها، وقد كان لذلك أثر كبير على ظهور الدنمارك في الوقت الحاضر كدولة رخاء ووفرة بالقياس إلى دول أخرى كثيرة.
(٣) المظاهر الأساسية في جغرافية الدنمارك الطبيعية
قلنا إن الدنمارك أرض سهلية في مجموعها، وإن التغاير التضاريسي محدود ويتخذ صورة سهول متماوجة واسعة، وأثر التعرية الجليدية واضح وهام لتفسير الظاهرات التضاريسية وأشكال السواحل، فالمنظر الطبيعي العام تظهر فيه تشكيلات المورين — الركامات الجليدية النهائية والجانبية — في كل مكان، وتتكون هذه الركامات من كتل مختلفة الأحجام من المخلفات الصخرية مختلطة مع التربة التي تكونت نتيجة تضاغط حقول الجليد وطحن الصخور، وتتراوح السطوح بين تماوجات خفيفة جدًّا، إلى تماوجات شديدة في بعض الأحيان، وهذه الاختلافات راجعة إلى حركة واتجاه الحقول الجليدية أثناء إرساب هذه الركامات، وبالإضافة إلى ذلك فإن عودة تقدم الجليد في خلال البليوستوسين قد أدى إلى إحداث فوضى وتغيير في شكل الركامات السابقة، وترتب على هذا كله فوضى واضحة في شكل السطح العام، مع كثرة الحفر التي أحدثها الجليد والتي تكون الآن البحيرات أو المستنقعات.
وقد جفت البحيرات القديمة مما أدى إلى تكوين طبقة من التربة البحيرية الطينية التي تستخدم الآن كخامة لعمل الطوب، وقد ترتب على اختلاف طريقة ذوبان حقول الجليد ظهور أشكال أخرى من السطح، فالجليد الذائب داخل الحقول الجليدية لم يكن يجد له تصريفًا سريعًا مما أدى إلى رسوبات سميكة نسبيًّا في أشكال متفاوتة من المنحنيات والأقواس، وتظهر هذه الإرسابات الآن في صورة حافات طويلة متعرجة، متوسطة الارتفاع فوق السهول، أما في حالة ذوبان الجليد من حافات الحقول الجليدية فإننا نجد تكوينًا أشبه بالأودية، وفي حالة الجليد الذائب تحت الحافة الجليدية نجد المياه الذائبة تنحت رأسيًّا مما يؤدي إلى ظهور أودية عميقة بعد زوال الجليد، ويترتب على ذلك أن الأودية الناجمة عن الذوبان الهامشي لحقول الجليد لا تتخذ قطاعًا طوليًّا عاديًّا، بل إن القطاع الطولي يصبح غير منتظم لعدم انتظام الحفر الرأسي لهذه الأودية، ويظهر هذا النوع من الأودية غير المنتظمة في شرقي جتلند.
وبعد انقشاع الجليد تمامًا وحدوث ارتفاع في مستوى سطح الأرض، فإن تغير منسوب القاعدة للأنهار المختلفة قد أدى إلى ظهور أثر التعرية النهرية، ولقد نشأ عن ذلك أودية نهرية عادية ذات قطاع طولي معتاد، كذلك أخذت التعرية النهرية الجديدة تعمل في إزالة أجزاء من الركامات الجليدية السابقة، وقد غطت الكثبان الرملية — وخاصة في غرب جتلند — الكثير من الركامات الجليدية، وتنمو الكثبان الرملية بسرعة على هذا الساحل نتيجة لانتظام وقوة الرياح الغربية طوال العام، بالإضافة إلى ارتفاع مياه المد إلى قرابة متر ونصف يوميًّا على الساحل الغربي مما يؤدي إلى تكوين مفتتات كثيرة تأخذها الرياح لتبني بها الكثبان، وتمتد سلسلة الكثبان الرملية — بلا انقطاع تقريبًا، لمسافة ٣٠٠ كيلومتر من سكاجن — في أقصى الشمال الشرقي — إلى سكالنجن — على الساحل الغربي أزبرج، وإلى الجنوب من سكالنجن لا تظهر الكثبان في صورة شريط طويل، بل تبدو متقطعة مما يسمح بظهور الاستقرار السكني وإمكانية قيام الموانئ الصغيرة.
وأشكال السواحل الدنماركية لا مثيل لها في سواحل اسكندنافيا فإن الطبيعة السهلية وضعف مقاومة الصخور للتعرية والانزلاق الطيني البحري إلى البحر — مما يعطي للأمواج قوة أكثر في التعرية، وتكوين حافات جديدة بعد حدوث الانزلاق، كل ذلك يساعد على التآكل وتغير شكل الساحل بسبب نمو الحواجز الرملية التي تقفل الخلجان وتربط الجزر بشبه الجزيرة أو بالجزر الأكبر منها.
كذلك فإن ظاهرة ارتفاع الأرض قد أعطت للساحل الغربي شكلًا جديدًا مليئًا باللاجونات العريضة، ولكن عملية الرفع التي تعرض لها الساحل الغربي شمال أزبرج قد حدث نقيض لها في الساحل جنوبي هذا الميناء، فهبوط الأرض قد أدى إلى إغراق الكثير من الكثبان وبقاء بعضها في صورة جزر صغيرة مواجهة للشاطئ، وهذه الجزر هي الجزء الشمالي من مجموعة جزر فريزيان الشمالية الألمانية، وكذلك يتميز ساحل جتلند الشرقي وسواحل جزر الأرخبيل بأنها سواحل غارقة أدت إلى اقتطاع الأرخبيل عن جتلند.
أما جزيرة بورنهولم فإنها تتميز بسواحل مستقيمة على عكس سواحل الأرخبيل الدنماركي وجتلند، ويرجع ذلك بدون شك إلى التركيب الجيولوجي القديم لصخور هذه الجزيرة، فالصخور شديدة المقاومة للتعرية الساحلية مما يعطي هذا الشكل من السواحل المستقيمة القليلة التعاريج.
أما المناخ الدنماركي فيعكس اختلاطًا بين المناخ القاري والبحري، وبذلك تصبح الدنمارك من وجهة النظر المناخية أكثر قارية من النرويج وأكثر بحرية من السويد وفنلندا، فسواحل الدنمارك لا تقع على مسار كتل المياه الدافئة — تيار الخليج — الذي تقع عليه الجزر البريطانية ومعظم سواحل النرويج، ومن ثم فإن المدى الحراري السنوي أكبر من بريطانيا والنرويج، والمطر أقل منهما، وبذلك فإن مناخ الدنمارك يتشابه مع مناخ اسكتلندا في درجات عرض أكثر تطرفًا نحو الشمال، وكذلك فإن تعاقب الفصول سريع فالربيع والخريف يمثلان فصلين قصيرين بالقياس إلى الشتاء والصيف.
ونظرًا لوقوع معظم الأرخبيل على واجهة البلطيق، فإن تأثره بالمناخ البحري محدود؛ لأن البلطيق مسطح بحري محدود المساحة ويقع كبحيرة مغلقة وسط مسطح قاري كبير، مما يؤدي إلى تجمد أجزائه الشمالية الشرقية، وبذلك يصبح دوره كعامل ملطف للتغيرات المناخية دورًا محدودًا.
ويترتب على ذلك أن التغير المناخي في الدنمارك يرتبط بنوعين من المؤثرات: غربية وشرقية، فالمؤثرات الغربية تجلب الرطوبة بينما المؤثرات الشرقية جافة على وجه العموم، لكن يعوض ذلك أن الدنمارك في مجموعها ذات طبيعة سهلية فلا تظهر عقبات تحول بين نفاذ المؤثرات الغربية أو الشرقية بحيث تغطي كل الدنمارك، بالإضافة إلى ذلك فإن المساحة محدودة، حتى كتلة الأرض الأساسية — جتلند — ليست سوى شبه جزيرة ضيقة تمتد من الشمال إلى الجنوب، بحيث لا يسمح عرضها بوجود مانع يفصل المؤثرات الغربية عن بقية الجزر الدنماركية، ولهذا كله فإن التغاير المناخي في أجزاء الدولة هو تغاير محدود، ويتحدد فصل النمو الزراعي بمدى حدوث الصقيع، والحكم الغالب أن الصقيع يحدث في الفترة الممتدة من سبتمبر/أيلول إلى مايو/أيار في داخلية البلاد بعيدًا عن السواحل، ويتراوح الفصل الخالي من الصقيع بين ١٥٠ يومًا و٢٢٥ يومًا، وذلك حسب الموقع.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه التغايرات المناخية المحلية والتأثيرات التي تمارسها الظروف القارية والبحرية على مناخ الدنمارك، فإنه يمكننا أن نسترشد ببعض أرقام المناخ في كوبنهاجن على أنها ممثل للمناخ العام في الدنمارك، (المدى الحراري السنوي ١٧٫٥ مئوية – كمية المطر الساقط السنوية حوالي ٦٠٠ مليمتر).
الشهور | يناير | فبراير | مارس | أبريل | مايو | يونيو |
---|---|---|---|---|---|---|
متوسط الحرارة (م°) | صفر | −١ | ٣ | ٧ | ١٢ | ١٥ |
متوسط المطر (ملم) | ٤٥ | ٣٥ | ٢٥ | ٤٠ | ٤٥ | ٥٠ |
الشهور | يوليو | أغسطس | سبتمبر | أكتوبر | نوفمبر | ديسمبر |
متوسط الحرارة (م°) | ١٧ | ١٦ | ١٣ | ١٠ | ٥ | ٢ |
متوسط المطر (ملم) | ٥٥ | ٧٥ | ٥٠ | ٦٠ | ٦٠ | ٥٥ |
ونظرًا لحداثة التكوين السطحي وتأثير الجليد فإن التربة في الدنمارك تختلف كثيرًا حسب الأصل الذي اشتقت منه، وأفقر أنواع التربات هي البودزول التي توجد فوق التكوينات الغربية القديمة، وهي أيضًا تربة رملية كثيرة الأملاح نتيجة للأمطار الغزيرة، أما في اتجاه الشرق فإن التربة تتحسن حيث كانت الركامات القديمة، وفي الأرخبيل تسود التربة الطينية اللومية، وتصنف مع أنواع التربات البنية الرطيبة، وقد دلت دراسة التربة على أن ثلثي تربة جتلند ينقصها الجير بكثرة، بينما لا يظهر هذا النقص إلا في حوالي ثلث تربة الجزر.
وقبل أن يصبح سطح الدنمارك سطحًا بشريًّا — أي قبل اجتثاث الغابات — كان هناك ترابط قوي بين النبات الطبيعي والتربة، والمعتقد أن الحشائش الخشنة الغربية لم تكن كذلك في الماضي، وأنها كانت أراض غابية قبل بداية الألف الثانية الميلادية، كذلك يعتقد الأخصائيون أن الإنسان قد حول مساحة قدرها حوالي ثمانية آلاف كيلومتر مربع في الدنمارك إلى أرض خراب نتيجة لسوء الاستغلال في الماضي وقطع الغابات، فمثلًا كان في إحدى أشباه الجزر في جزيرة زيلاند غابة تستخدم للصيد قطعت بأمر فالدمار الثاني عام ١٢٣١، ومنذ ذلك الوقت ساءت هذه الأرض كثيرًا ونمى العشب الخشن محلها، وعلى العموم فإن هناك اختلافًا في رأي الأيكولوجيين حول منشأ الحشائش الخشنة: بعضهم يؤكد أنه غطاء نباتي تال لقطع الأشجار، والبعض يؤكد أن أراضي الحشائش هذه كانت تربة تندرا، ثم بعد أن زالت ظروف المناخ حلت الحشائش محل نباتات التندرا.
والرأي الراجح أن الحشائش تنمو في التربات الضعيفة الرملية الغربية، بينما كانت غابات البلوط والزان وغيرها من الأشجار النفضية تنمو على الأرض الطينية الغنية في شرق جتلند والأرخبيل، لكن اقتطاع شجر البلوط بكثرة خلال القرون الثلاثة الماضية قد أدى إلى ندرته حاليًّا وسيادة الزان في الغابات القليلة الحالية، وقد أعادت الدنمارك التشجير مرة أخرى في بعض المناطق، لكنها استوردت أنواعًا من الأشجار الغريبة عن الدنمارك من الأشجار المخروطية — عكس النفضية القديمة — مثل التنوب النرويجي والشربين الفضي، والصنوبر الجبلي والصنوبر الاسكتلندي، وتشجع الدنمارك مشروعات التشجير في المناطق المحمية في الغرب على وجه الخصوص لتكوين مصدات للرياح، وبالتالي التقليل من التعرية الهوائية للتربة، وهي مشكلة خطيرة في جتلند الغربية.
(٤) المظاهر الأساسية في الجغرافيا البشرية للدنمارك
يكوِّن السكان أهم المظاهر البشرية في الجغرافيا، كعنصر يشكل الظروف الطبيعية وكمورد من موارد هذا التشكيل، ولقد دخل الإنسان منطقة اسكندنافيا عامة في العصر الحجري القديم بعد تراجع الجليد، وقد ظل الإنسان يعيش على الصيد حتى الانقلاب الزراعي في خلال عصر البرونز، ومهما كانت الظروف التي مرت بنوع السلالة البشرية، وأيًّا كانت السلالات التي سكنت اسكندنافيا قديمًا، فإن الغالبية العظمى من السكان الحاليين يكونون جزءًا من السلالة النوردية — التي تكوِّن بدورها جزءًا من مجموعة السلالات البيضاء الكبرى — التي تسمى في أحيان كثيرة مجموعة السلالات القوقازية، وهؤلاء يتميزون بلون البشرة الفاتح ومظاهر الشقرة في لون العين والشعر والرأس الطويل والقامة الطويلة والبنية القوية.
وبالرغم من سيادة النظام الإقطاعي لفترة طويلة في الدنمارك، وبرغم وجود النظام الملكي حتى وقتنا الحاضر، إلا أن بقايا النبلاء والإقطاعيين محدود جدًّا في الوقت الحاضر، وقد بدأ هذا النظام الإقطاعي في التغير والاضمحلال بعد إلغاء قانون العبودية — قن الأرض — في الدنمارك في أواخر القرن الثامن عشر ١٧٨٨، وكذلك يتميز المجتمع الدنماركي بقلة واضحة في الطبقة الفقيرة، وعلى هذا فإن أهم مميزات المجتمع الحالية هي السيطرة العددية للطبقة المتوسطة، فإن كان النبلاء والإقطاعيون قد انقرضوا نتيجة فرض المزيد من القوانين التي تحد نشاطهم وسيطرتهم على الأرض، فإن الفقراء أيضًا قد رفعتهم القوانين والنظم الاجتماعية من وهدة الفقر إلى مستوى متوسط، وقد تم كل ذلك بواسطة تحويل ملكية الأرض الزراعية إلى مزارعيها مما أدى ويؤدي بكبار الملاك الزراعيين الحاليين إلى الاشتراك الفعلي في إدارة الأعمال الزراعية.
وقد كان لهذا كله أثره على السكان من الناحية العددية، ففي خلال العصور الوسطى حتى القرن السابع عشر كانت الدنمارك — كغيرها من الدول الأوروبية — تقع تحت تأثير كوارث هائلة تودي بحياة عشرات الآلاف من الناس، ومن أمثلة ذلك انتشار الطاعون — الموت الأسود — قد أدى إلى موت ثلث سكان جتلند في عام ١٣٤٩، وتحولت مساحات كبيرة إلى أراض مهجورة، كذلك كان للتغير المناخي المفاجئ أثر هائل في إعطاب المحاصيل وبالتالي حدوث المجاعات، وموت الآلاف جوعًا.
ولقد خرجت الدنمارك من تلك الظروف التي تؤدي إلى إعاقة النمو السكاني بصفة دائمة، بعدد من السكان قدر بنحو ٧٩٧ ألف شخص في عام ١٧٦٩، ثم جاء الإصلاح والنهضة الزراعية طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، فارتفع تعداد الدنماركيين إلى ٤٫٩ مليون شخص (حسب إحصاءات عام ١٩٦٨).
وفي الفترة ذاتها ارتفع عدد ساكني المدن من ١٥٩ ألفًا إلى ٢٫٣ مليونًا، وهذا النمو في المدن راجع إلى نمو اقتصادي قائم على أساس التجارة المعتمدة على: (١) العلاقات البحرية، (٢) الإنتاج المحلي.
والدنمارك إذن دولة اصطنعها الإنسان من بين طبيعة غير خيرة تمامًا، ولا أدل على ذلك من مجهودات التوسع الزراعي في جتلند ونشأة الصناعة في كوبنهاجن، ٧٦٪ من المساحة مزروعة على أحدث الوسائل الزراعية للدرجة التي أصبح إنتاج الفدان فيها أكبر من أي دولة أوروبية أو في العالم باستثناء هولندا، ولقد تعلم الدنماركيون من الهولنديين عددًا من الأشياء مثل الزراعة الكثيفة في أرض محدودة رطبة كثيرة السكان، ولكنهم فاقوا دولًا عديدة في الإدارة الكُفْأَة للإنتاج وتعميم إنتاج عالي الجودة لمنتجات الألبان والدواجن والبيض ولحم الخنزير وكلها تصدر بكميات كبيرة، ومستوى الإنتاج الدنماركي يعتبر القمة في نوعه في أوروبا، وقد ساعد انتشار الحركة التعاونية في الإنتاج والتصنيع والتسويق على الجودة وأعطى المزارعين الصغار ميزة المزارع الكبرى.
وعلى هذا فالاقتصاد الدنماركي موجه للتجارة الدولية وليس للكفاية المحلية فقط، وصادراته تحتوي على الألبان ومنتجاتها واللحم ومنتجاته والسكر والبيرة والسفن والآلات، ولكن مقابل ذلك تستورد الدنمارك كميات كبيرة من الأغذية وخاصة الحبوب، والوقود والفحم والمعادن والمنسوجات والمخصبات، فليس في الدنمارك ثروة معدنية، وكذلك للدنمارك أسطول صيد كبير وأسطول تجاري حمولته ٢٫٣ مليون طن، بالإضافة إلى تجارة الترانزيت الكبيرة في كوبنهاجن.
وخلاصة القول أن الدنمارك، من بين دول نورديا، هي الأكثر اعتمادًا على التجارة الخارجية، وأكبر عملائها هم من دول أوروبا الغربية وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا، ونظرًا لأهمية الزراعة بهذه الصورة الحيوية، فإنه لا بد من دراسة موجزة للزراعة الدنماركية.
(٥) دراسة الزراعة في الدنمارك
الزراعة الدنماركية — كما سبق توضيحه — وصلت إلى مستوى عالٍ خلال فترة قصيرة، لدرجة أن وصف الدنمارك بالدولة الزراعية هو وصف شائع، ولكن ذلك كان إلى قبل عشرين سنة على الأكثر، والأصح أن تُوصف الآن بأنها دولة زراعية صناعية.
في عام ١٩٥٥ كان نحو ٢٢٪ من مجموع السكان يعملون بالزراعة، ولكن إذا أضفنا إليهم عدد الذين يعملون في مجال الخدمات المرتبطة بالزراعة، مثل النقل والتصنيع والتجارة فإن النسبة تُصبح أكبر من ذلك بدون شك.
وعلى عكس ذلك نجد نموًّا مستمرًّا في مساحة الغابات نتيجة لسياسة التشجير المتعمدة، وكذلك نمو المساحة المستغلة في السكن القروي والمدني وفي طرق المواصلات.
والشكل الوحيد من أشكال استغلال الأرض الذي يتناقض هو مساحة الحشائش الطبيعية والمستنقعات والكثبان — وكلها كانت تكوِّن احتياطيًّا كبيرًا للنمو المدني والغابي والزراعي.
وأهمية الزراعة لا تتضح من نسبة العمالة الزراعية إلى كل العمالة، بل من نصيب الدولة من الزراعة والتجارة الخارجية والاقتصاد القومي، فبرغم الارتفاع الكبير في قيمة وكمية صادرات الصناعة، إلا أن نسبة الإنتاج الزراعي والسلع الزراعية ما تزال تتفوق عليه بدرجة كبيرة.
ولا توجد في أرض الدنمارك من المؤهلات للزراعة ما لا يوجد عند دولة أخرى، بل هناك ما يفوقها في مؤهلات الزراعة من حيث جودة التربة أو اعتدال المناخ، ولكن موقعها إلى جوار دولتين مزدحمتين بالسكان وصناعيتين، هما بريطانيا وألمانيا، قد جعل للزراعة الدنماركية أهمية حيوية.
ولولا الروح التنظيمة العالية عند المزارع الدنماركي لما استطاع أن يقوم بهذه المهمة، فالزراعة الدنماركية قد ارتبطت منذ فترة بالتوجيه نحو السوق، ولهذا تأقلم كل من المزارع والزراعة على هذا النوع، بالإضافة إلى سرعة اتخاذ القرارات في المواقف المختلفة، ويدرس تغير الطلب على ضوء أنماط الإنتاج المستقبلة، وفوق هذا فالحركة التعاونية قد سهلت وأسرعت بالتغير اللازم الناجم عن الدراسة المستمرة للسوق والطلب، فمثل هذه الزراعة، المرتبطة بحساسيات السوق الخارجية تعد الآن أشبه ﺑ «جهاز عصبي» يخضع للإشراف والرقابة حكوميًّا وينتهج الدراسة والاستشارة لكي يستطيع أن يعيش في صورته الحية المعاصرة، والنتيجة أن الزراعة الدنماركية صناعة حية متقدمة على عكسها في كثير من الدول الأوروبية، حيث تمثل صناعة أو حرفة أقل شأنًا في مجالات الحياة الاقتصادية.
(٥-١) حجم المزارع
بينما ظلت مساحة الأرض المزروعة ثابتة، فإن حجم المزرعة قد تغير كثيرًا خلال نصف القرن الماضي وذلك نتيجة لسياسة زراعية متعمدة، ومنذ مائتي سنة كان الملك والنبلاء يمتلكون مساحات كبيرة من الأرض الزراعية، ومن ثم كان نمط الزراعة الكبيرة أو الأبعادية أو الخاصة الملكية هو النمط السائد للمزرعة الدنماركية، ومن ناحية إدارة هذه المزارع كان النمط هو إعطاء أجزاء من الأرض للمستأجرين يزرعونها، ونتيجة للتطور سقطت قيمة المزرعة الكبيرة وظهرت أهمية الملكية الصغيرة، ويعطينا الإحصاء الزراعي لعام ١٩٥٦ عدد المزارع وهو (١٩٩٠٠٠) مزرعة في مساحة قدرها ٣٫١ مليون هكتار، ونسبة المزارع الكبيرة ١٠٪ من مجموع الملكيات الزراعية — على عكس عدد من الدول الأوروبية ما بين ٢٥٪ و٤٠٪ كما هو الحال في ألمانيا.
تبلغ مساحة المزرعة الدنماركية السائدة بين ١٠ و٣٠ هكتارًا، وفي هذا النوع توجد ٨١٠٠٠ ملكية زراعية، وهناك نوع ثالث هو المزرعة الصغيرة التي هي أقل من ١٠ هكتارات، ولكنها كبيرة بما فيه الكفاية للمزارع، ونظرًا لاختلاف التربة فإن المزارع الصغيرة تختلف عن بعضها، وقد شجعت الدولة المزارع الصغيرة (١٨٩٩ و١٩١١ قوانين زراعية) نتيجة لنقص العمالة في الريف أولًا ثم لأسباب سياسية ثانيًا، ونجم عن هذه القوانين تكوين ٢٧ ألف مزرعة صغيرة.
مساحة المزرعة بالهكتار | عدد المزارع الإجمالي | عدد المزارع في جتلند | عدد المزارع في الجزر |
---|---|---|---|
(١) ٠٫٥ إلى ٥ | ٤٢٠٠٠ | ٢٠٠٠٠ | ٢٢٠٠٠ |
(٢) ٥ إلى ١٠ | ٥٣٠٠٠ | ٢٤٠٠٠ | ٢٩٠٠٠ |
(٣) ١٠ إلى ٣٠ | ٨١٠٠٠ | ٥٨٠٠٠ | ٢٣٠٠٠ |
(٤) ٣٠ إلى ٦٠ | ١٨٠٠٠ | ١٢٠٠٠ | ٦٠٠٠ |
(٥) ٦٠ وأكثر | ٥٠٠٠ | ٢٠٠٠ | ٢٠٠٠ |
- (١)
أكبر مساحة تحتلها المزارع المتوسطة (تفكيك الملكيات الكبيرة).
- (٢)
المزارع الصغيرة ١ + ٢ كثيرة الانتشار في الجزر (تربة خصبة).
- (٣)
المزارع المتوسطة والكبيرة منتشرة في جتلند أكثر من الجزر (تربة متوسطة).
(٥-٢) التربة والمناخ
إن الظروف الطبيعية السائدة على العموم مشجعة على الزراعة إلا مناطق التلال المنحدرة بشدة أو المناطق الساحلية المستنقعية، ففي الماضي كان سوء تصريف المياه يشكل عاملًا مانعًا للزراعة، لكن التقدم في وسائل الصرف ساعد على اكتساب أراض كثيرة للزراعة، والتربة في الجزر وفي شرق وشمال جتلند ذات ركامات جليدية لعبت فيها عوامل التعرية، وأضيفت إليها كميات من الصلصال والرمال والحصى وحجارة متوسطة أزالها المزارعون خلال القرون، والأمطار أغزر في غرب جتلند، ولكن لأن التربة رملية فالماء لا يظل طويلًا في التربة العليا، والدنمارك في مجموعها تتمتع بفترة طويلة لا يحدث فيها الصقيع، وأمطارها الخفيفة في الربيع مفيدة في سرعة نمو المحصول، وأمطارها الغزيرة في أغسطس تتفق مع موسم حصاد الحبوب.
(٥-٣) المحصول
- (١)
زيادة قدرها ١٣٪ في مساحات النباتات الدرنية.
- (٢)
زيادة قدرها ٣٪ في مساحة الحبوب.
- (٣)
نقص قدره ٨٪ في مساحة الحشائش التي تزرع في دورة زراعية.
- (٤)
نقص قدره ٣٢٪ في مساحة الحشائش النامية بدون دورة زراعية؛ أي تلك التي تنمو طبيعيًّا.


ومرة أخرى يؤكد هذا التغير في مساحة المحاصيل خلال عشرين عامًا (١٩٣٩–١٩٥٨) الاتجاهات والاهتمامات الجديدة في الزراعة الدنماركية لمواجهة السوق المتغيرة إلى جوارها.
فالنمو الكبير في مساحة المحاصيل الجذرية والدرنية — البنجر والبطاطس وغيرهما من الدرنيات — يوضح الاهتمام بغذاء الحيوان، وذلك على عكس تناقص مساحة الحشائش سواء الطبيعية أو المزروعة.
أما مساحة الحبوب فإن النمو فيها ضئيل وذلك لأن الظروف الطبيعية، وخاصة التربة تتحكم في هذا النمو، بالإضافة إلى أن الدنمارك تستورد كثيرًا من احتياجاتها من الغذاء البشري من الخارج.
تحتل الحبوب ٤٥٪ من مساحة الزراعة الدنماركية، أما الحشائش فتنمو في دورة زراعية أو مراعٍ دائمة، وكلتاهما تحتل ٣٣٪ من المساحة وتحتل النباتات الدرنية المكانة الثالثة ١٩٪ من المساحة (١٩٥٨) وتتكون من البطاطس والبنجر، وتختلف مساحة هذه المحصولات الثلاثة بين الجزر وجتلند، ففي جتلند مساحات أكبر من الدرنيات والمراعي، بينما في الجزر نسبة أكبر من الحبوب والبذور، ونظرًا للأهمية العظمى لتربية الحيوان في الدنمارك، فإن المحاصيل الموجهة لغذاء الحيوان تسيطر على الزراعة الدنماركية، سواء كانت حشائش أو جذورًا أو حبوبًا.
الحبوب
وبرغم قلة إنتاج الفدان من الحبوب بالقياس إلى إنتاج الدرنيات إلا أن هذه الحبوب تزرع؛ لأنها تغطي احتياجات العلف الحيواني، والحقيقة أن هناك تكاملًا ضروريًّا بالنسبة لعلف الحيوان في الزراعة الدنماركية، فالحشائش والدرنيات تعطيه أحسن غذاء والحبوب تعطيه الكربوهيدرات، أما البروتين المتمثل في بذور الزيت فيجب أن تُستورد.
الدرنيات
أما البطاطس فينمو جيدًا في التربة الرملية الخفيفة في غرب جتلند وشمال شرق زيلند، ويستهلك ثلاثة أوجه: (١) الغذاء الإنساني، (٢) عمل الكحول، (٣) عمل دقيق البطاطس.
الحشائش
إن ثلث المساحة الزراعية مخصصة للحشائش وزراعة العلف الأخضر، ويلاحظ نقص كبير في مساحة الأرض التي تترك فيها الحشائش تنمو طبيعيًّا كمراعٍ دائمة بعد الحرب الثانية، وذلك للزيادة الكبيرة في زراعة العلف الأخضر في دورة زراعية، وأكبر مساحة لهذا المحصول في جتلند وتحتل هناك ٣٨٪ من مجموع المساحة بينما في الجزر ٢٤٪ فقط.
(٥-٤) تربية الحيوان
تحولت الدنمارك في أواخر القرن الماضي من دولة زراعية إلى دولة تعيش على تربية الحيوان، وتحولت معها الزراعة لكي تخدم هذا الغرض، فكما أوضحنا أن ٨٥٪ من إنتاج الزراعة موجه نحو العلف الحيواني، ولم تتميز الدنمارك بنوع معين في مجال تربية الحيوان؛ أي لم تتجه فقط إلى اللحوم أو الألبان، أو الخنازير، بل كل هذه الاتجاهات تظهر في هذا النوع من الاقتصاد، وبرغم الاتجاه خلال هذا القرن إلى الألبان إلا أن الاتجاه إلى اللحوم ظهر أيضًا.
وأبقار الدنمارك الأصلية نوعان: (١) الدنماركي الأبيض والأسود، (٢) الدنماركي الأحمر، ويكونان معًا ٨٥٪ من أبقار الدنمارك، وهناك ٨٪ من أبقار جرسي و٤٪ شورت هورن أو قصير القرن، وتتركز الأبقار البيضاء والسوداء — أبقار اللبن — في جتلند، وكانت منتشرة في كل أرجاء الدولة لكنها تتناقص. سبب انتشارها الكثير في الماضي راجع إلى مقاومتها وإمكان حياتها في الأرض أو الحشائش غير الجيدة، ولكن مع تحسن العلف أصبح النوع الأحمر أفضل لكمية اللبن الكبيرة، والنوع الأحمر هو تهجين بين البقر الأصلي في الجزر ونوع سلزفيج الأحمر، وتكوِّن هذه الأبقار المهجنة نحو ٨٨٪ من أبقار اللبن الدنماركي في الجزر و٦١٪ في جتلند.
وإنتاج اللبن السنوي حوالي ٥٫٥ مليون طن، وإنتاج البقرة هو نحو ٣٥٠٠كجم سنويًّا من اللبن، لكن هناك ذبذبة وبعض الأبقار تنتج ١٠٠٠٠كجم لبن، معظم اللبن يستخدم لعمل الزبدة ولكن نسبته قلت أخيرًا إلى ٦١٪ من مجموع إنتاج اللبن، وتستهلك صناعة الجبن ١٣٪.
والخنازير هي بمثابة حيوان التربية الثاني وعددها ٧٩٦٣٠٠٠ رأس، ويلاحظ أن أعداد الخنازير يمكن أن تزيد أو تنقص بسرعة، وذلك بذبح أو عدم ذبح النتاج الجديد، ويرتبط ذلك بطبيعة الحال بحالة السوق الخارجية والمنافسة التي تحدث في هذه السوق، وكذلك سعر العلف — خاصة الحبوب — بالنسبة لسعر السوق للخنازير، وغذاء الخنازير المعتاد هو الحبوب والبطاطس، وفي أحيان بنجر السكر واللبن الخالي الدسم الذي يعود إلى المزارعين بعد أخذ القشدة منه في المصانع.
وأخيرًا فإن الدجاج قد أصبح يمثل نوعًا جديدًا هامًّا من أنواع الثروة الحيوانية في الدنمارك، وقد بلغ إنتاج البيض مليار ونصف مليار بيضة عام ١٩٦٨.
(٦) الصناعة في الدنمارك
نظرًا لقلة المعادن ولتوجيه الدنمارك الزراعي فإن غالبية الصناعات في الدنمارك موجه نحو الصناعات الزراعية فيما يختص بمكان المصانع ومورد الخامات الزراعية، ويستثنى من ذلك الصناعة التي قامت في كوبنهاجن التي تخرج في كثير من صفاتها عن التوجيه الزراعي.
ومع ذلك فإن هناك تنازعًا واختلافًا في الاتجاهات الصناعية في دولة زراعية سكانها شبه مدينيين شبه ريفيين — كما هو الحال في نيوزيلندا. وهذا الصراع يتلخص في المجتمع الريفي الذي يرغب في الحصول على المصنوعات رخيصة، والمجتمع المديني الذي يرجو أن يشتري المواد الغذائية رخيصة، ومن ثم يعارضون المنح والمساعدات التي تُعطى للزراع للمساعدة على التصدير الزراعي.
وعلى أية حال فنظرًا لأن الدنمارك تفتقر إلى مواد الوقود وإلى الغابات، فقد كان لزامًا على الصناعة الدنماركية أن تتجه بكل ثقلها وترتبط بمصدرين أساسيين من مصادر الثروة هما الزراعة والبحر.
وتقوم الصناعات الزراعية على أساس تصنيع المواد الغذائية: الزبدة – الجبن – لحم الخنزير – سكر البنجر (الشمندر)، ولكن نظرًا لسيادة الزراعة على أشكال الاقتصاد فقد قامت أيضًا صناعات مرتبطة بالآلات والأدوات الزراعية، وكذلك نظرًا للاحتياج إلى علف الماشية في صورة أقراص الغذاء الزيتية، فإن الصناعات تحتوي أيضًا على معاصر كبيرة لحبوب الزيت وخاصة فول الصويا وفول السوداني، وثمار نخيل الزيت — وكلها منتجات الإقليم المداري، ومن ثم لا بد من استيرادها، وتستخدم هذه الزيوت أيضًا لعمل المرجرين — السمن النباتي، وبرغم أن الدنمارك دولة تنتج الزبدة الحيوانية بكثرة، إلا أن معظم منتجاتها يوجه إلى التصدير، ويكتفي الدنماركيون بالزيوت النباتية في غذائهم!
وقد كان في الدنمارك أيضًا صناعات كبيرة لنسج الصوف، ولكن مع تناقص أعداد الأغنام بكثرة في الفترة بين ١٨٧١ و١٩٣٨، حل القطن محل الصوف كصناعة نسيج رئيسية، ولا تزال صناعات الجلود تحتل مكانة هامة بين الصناعات الزراعية في الدنمارك، ولكثرة الاهتمام بها فإن هناك فائضًا كبيرًا يدخل تجارة الصادرات الدنماركية.
وهناك أيضًا صناعات بيو-كيميائية (كيمائية عضوية) مرتبطة بمذابح الحيوانات، وتنتج هذه الصناعة الأنسولين والهرمونات والمضادات الحيوية، وكذلك العقاقير الطبية، بالإضافة إلى الدم المجفف، وأنواع من السماد الكيميائي والعضوي الذي يدخل في احتياجات الزراعة.
وكانت الدنمارك قد أدخلت زراعة الخشخاش وغيره من أجل الحصول على المورفين والكودايين للأغراض الطبية، ولكنها عدلت نهائيًّا عن زراعة هذه النباتات في عام ١٩٣٨، وبرغم أن الصناعة الطبية الدنماركية تنتج الكثير من الأحماض ومشتقاتها إلا أنه لا توجد صناعة تقطير لقطران الفحم «لعدم وجود الفحم في الدنمارك»، ولهذا فإن كميات الأحماض المشتقة من القطران مثل «حامض أستيل ساليساليك» تستورد من الخارج، ولا شك أن صغر حجم السوق في الدنمارك يجعل من الأرخص استيراد هذه الأحماض عن محاولة تصنيعها محليًّا.
ويلعب الأسطول التجاري الدنماركي دورًا هامًّا وحيويًّا بالنسبة للحياة الاقتصادية للدولة، وهو فضلًا عن كبر حمولته بالقياس إلى حجم الدولة، فإنه أسطول حديث يستخدم المحركات — الموتورات — في الدفع، فإلى جانب أهمية النقل البحري بالنسبة للدنمارك — بطبيعتها الجزرية — فإن الأسطول الدنماركي منتشر فوق معظم مياه المحيطات ويزور أكثر بلاد العالم ما عدا الهند ومعظم أفريقيا جنوب خط الاستواء، ومعظم القواعد البحرية للأسطول التجاري توجد في المنطقة الشرقية من جتلند وبعض جزر الأرخبيل الدنماركي وخاصة زيلاند، وذلك لأن السواحل الغربية ليست مهيأة كمرافئ أو موانئ جيدة نظرًا لطبيعة التكوين الساحلي.
ونظرًا لنقص الثروة المعدنية في الدنمارك فإن الصناعات الكيميائية الموجودة حاليًّا تعاني من عقبة كبيرة، فإن احتياجات الدنمارك الكبيرة من الأسمدة المعدنية تؤدي إلى استيراد خام الفوسفات من شمال أفريقيا بكميات كبيرة، وفي جرينلاند يوجد منجم لخام الكريولايت الذي قامت عليه صناعة تنقية وتكرير في كوبنهاجن تنتج معدنًا درجة نقاوته ٩٩٫٧٪ وهو يستخدم في صهر الألمونيوم، ووضع طبقة من الميناء على الحديد والصلب، وفي عمل الزجاج الذي يقترب لونه من لون اللبن، وتستهلك صناعة الألومنيوم ثلاثة أخماس الكريولايت المنتج، بينما يبلغ نصيب ميناء الحديد والصلب قرابة الثلث والباقي يستخدم في صناعة الزجاج المشار إليها.
والطباشير هو أهم منتج معدني في الدنمارك، ويستخدم في صناعة الطوب وفي عمل الأسمنت وصناعة الجير، وكذلك يستخدم الصوان — الذي يحفر بواسطة الحفارات الكبيرة من مناطق المستنقعات والتربات الرطبة، ويستخدم عدة آلاف الأطنان منه في عمل الصيني، كما يستخدم أيضًا في المطاحن؛ لأن المطاحن الفولاذية تضيف بعض الشوائب إلى الطحين، ولقد كان لوجود الحجر الجيري، إلى جانب بعض الطين الذي يعود إلى العصر الجليدي أثر واضح في نشأة صناعة كبيرة لعمل الأسمنت والطوب الأسمنتي الرملي، ولكن نقص الوقود والاحتياج إلى استيراده يرفع تكلفة الإنتاج بدرجة محسوسة، وفي جزيرة بورنهولم الدنماركية — في البلطيق — تكوينات جرانيتية تستخدم أيضًا في البناء أو تصدر إلى ألمانيا، ومنذ عام ١٧٩٤ بدأت النهضة الزراعية تسيطر على شبه جزيرة جتلند، وقد أدى ذلك إلى إعداد الأرض للزراعة، وكان أهم عائق هو وجود الكثير من الأحجار داخل التكوين الطيني، وقد أزيلت هذه الأحجار واستخدمت في صورة جدران لتحديد الحقول والملكيات الزراعية، وفي الربع الثاني من هذا القرن أزيلت هذه الجدران الحجرية واستخدمت لعمل طرق مكدامية حديثة في ريف جتلند، فجاء ذلك مرتبطًا بنهضة الزراعة ودخول السيارات إلى مجال النقل الحديث للمنتجات الزراعية وإيصالها إلى مراكز الصناعات الزراعية، ولكن هذه الأحجار لم تسد الاحتياج، وفي عام ١٩٣١ نقلت من جزيرة بورنهولم كميات من الحجارة بلغت ١١٠ آلاف طن لإكمال شبكة الطرق في جتلند والجزر الأخرى، كما استورد في العام نفسه حوالي مائة ألف طن أخرى من السويد للغرض نفسه، ويدل هذا على مدى النقص المعدني في تركيب الدنمارك الجيولوجي حتى فيما يختص بالأحجار!
(٧) صيد الأسماك
إن تكوين الدنمارك الجزري يجعلها من الدول القليلة المحظوظة بطول السواحل، وذلك أن هناك ميلًا واحدًا من أطول الشواطئ لكل خمسة أميال مربعة وثلاثة أرباع الميل من مساحة الدولة، ويضاف إلى ذلك أن البحار المحيطة في مجموعها هي مياه ضحلة غنية بالموارد السمكية، ومن ثم، فلا عجب أن يكون الدنماركيون شعبًا من السماكين، وتقوم السماكة الدنماركية على أساس تسويق الأسماك طازجة للاستهلاك المباشر، ولكن جزءًا من الصيد — يُقدر بحوالي الخمس — يُصنع ويُعلب، لكن هذه الصناعة قد أخذت مؤخرًا تسلك نفس الاتجاه العالمي: إعداد الأسماك وتجميدها بدلًا من تعليبها — وذلك مرتبط أشد الارتباط بتغير الذوق الغذائي عند الشعوب عامة، والشعوب المتقدمة على وجه خاص، التي أصبحت تفضل الطعام الطازج أو أقرب الأشكال إليه، وهو المجمد، بينما المعلب لم يعد سلعة رائجة إلا في الأسواق البعيدة التي لا تحتمل النقل مجمدًا، أو أسواق الفقراء، وفي نفس الاتجاه أخذ سوق الأسماك المملحة ينكمش ويهبط بسرعة، وتقوم صناعة الأسماك الحديثة في الدنمارك بإعداد سمك الباكلاه — القد — في شرائح مجمدة مطهية أو معدة للطهو، وكذلك في صورة أقراص — كفتة، وإلى جانب ذلك أيضًا تعد شرائح من الرنجة والماكاريل وغير ذلك بصورة مجمدة، بالإضافة إلى تعليب السردين، وقد بلغ إنتاج الأسماك ١٫٥ مليون طن عام ١٩٦٨.
(٨) التجارة الخارجية للدنمارك
بدأت التجارة في الدنمارك منذ فترة طويلة تؤرخ بعصر ائتلاف مدن الهانزا التجارية، وحينما سقط هذا الائتلاف التجاري في القرن السادس عشر كان لموقع كوبنهاجن على مضيق السوند أثر واضح في نمو قبضة هذه المدينة على تجارة منطقة بحر البلطيق، وكان التجار الدنماركيون يجوبون البلطيق محتكرين تجارته لفترة طويلة مما أدى إلى نمو الثروة والرخاء حتى جاءت فترة توسع نابليون في أوروبا، وقد أدت الحروب النابليونية إلى تدمير الأسطول التجاري الدنماركي، ولكن التجارة عادت إلى النمو ابتداء من منتصف القرن الماضي، ومنذ ذلك التاريخ أخذت التجارة الدنماركية طابعًا ما زال حتى الآن يمثل النمط الدنماركي في التجارة: وهو تصدير المنتجات الحيوانية — ألبان ومنتجاتها واللحوم والجلود — والمنتجات الزراعية، وبعض الآلات، أما الاستيراد فيدور حول الخامات اللازمة للزراعة والغذاء الحيواني والمخصبات الزراعية، بالإضافة إلى الوقود — الفحم والبترول — والمعادن.
ولقد تناقصت الروابط التجارية مع ألمانيا في أوائل هذا القرن، وبتأثير الأزمات الاقتصادية العالمية فيما بين الحربين العالميتين اضطرت الدنمارك إلى عقد اتفاقيات تجارية مع دول أخرى، ومن بين هذه الاتفاقات ذلك الاتفاق الذي عقد مع بريطانيا وبمقتضاه منحت الدنمارك امتياز توريد ٦٢٪ من لحم الخنزير و٣٨٪ من البيض من مجموع احتياجات بريطانيا، بالإضافة إلى نسبة لا بأس بها من الزبدة، وفي مقابل ذلك أعطى لبريطانيا امتياز تصدير أربعة أخماس الاحتياجات الدنماركية من الفحم.
وبرغم الموارد الدنماركية المحدودة فإن لهذه الدولة نشاطًا تجاريًّا أكبر من مساحتها وعدد سكانها، ويدل ذلك على مدى التنظيم الاقتصادي الممتاز وعلى نشاط الشعب والتخطيط، فللدنمارك الآن علاقات تجارية وثيقة بعدد كبير من الدول، وخاصة مع جيرانها بريطانيا وألمانيا والسويد والنرويج، وبرغم أن الصادرات أقل من قيمة الواردات، وبالتالي فإن الميزان التجاري ليس في مصلحة الدنمارك، إلا أن هذا النقص في الميدان التجاري يعوضه النشاط الكبير للأسطول التجاري الدنماركي وأرباحه الكثيرة، بالإضافة إلى الفوائد السنوية التي تعود إلى الدنمارك نتيجة لقروضها ورأسمالها في الخارج.
فلكي تقوم الصناعة المعدنية في الدنمارك يجب أن تستمر واردات الفحم والحديد والصلب، وتقوم مبيعات صناعة الآلات الدنماركية، ومبيعات ترسانة السفن الدنماركية، بتغطية أكثر من نصف قيمة هذه الواردات، ونظرًا لصغر مساحة الأراضي الزراعية وقلة محاصيل الغذاء الحيواني فإن الدنمارك تستورد كميات كبيرة من الخامات الزراعية والأغذية الحيوانية والزيوت، كذلك تستورد الدولة الكثير من الحبوب الغذائية اللازمة للغذاء البشري، أما الصادرات الدنماركية فلا تزال السلع والمنتجات الزراعية تتصدرها، إلى جانب السفن والأسمنت والآلات.