الملاحق١
(١) الرسالة المُفصلة لأحوال المُتعلمين وأحكام المعلمين والمُتعلمين

والثانية: الجزء الأول والثاني والثالث من الفضيلة لأحوال المُتعلمين وأحكام المُعلمين والمتعلمين. الحمد لله وحده. طالع هذا الكتاب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى، المعترف بذنبه محمد بن حسن. غفر الله له ولوالديه ولمن ترحَّم عليه ولجميع المسلمين آمين.
تمَّت. يا قارئ الخط ترحَّم على من كتبه].
الجزء الأول

الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (الكهف: ١-٥) وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (الفرقان: ١-٢). والحمد لله الذي لم يزل واحدًا، أحدًا، حيًّا، قيومًا، له الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، ليس [٢-١] كمثله شيء، وهو السميع البصير. تكلم بالقرآن، وأنزله على محمد خير الأنام، للرحمة والتبيان، بالنور والبرهان، والحكمة والفرقان، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: ١٠٢) وقال جل ثناؤه: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (طه: ١-٨). أحمده، وأؤمن به، وأستعينه، وأتوكل عليه وأبرأ من الحول والقوة إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فقام بالرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمَّة، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [٢-ب] حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة: ١٢٨). فسبحان الله الذي سبح له ما في السماوات وما في الأرض الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الجمعة: ١-٤). والحمد لله الذي هدانا للإيمان، وعلمنا القرآن، ومنَّ علينا باتباع نبيه محمد عليه السلام. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ. اللهم وعَلِّمنا ما بعثتَ به إلينا نبيَّنا محمدًا خاتم النبيين، من كتابٍ وحكمة، وما تلا من آياتك، وزَكِّنا إنك أنت العزيز الحكيم. [٣- أ] اللهم وألهمنا شُكرَ نعمتك به علينا، فإنك قلت: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: ١٥٠-١٥١). اللهم وأعنا على ذكرك وشكرك، وحُسن عبادتك، فإنك قلت: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (البقرة: ١٥٢) وأيِّدنا على طاعتك، بأن نستعين عليها كما أمرتَنا، فإنك قلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة: ١٥٣). أنت الحق، ووعدك الحق، لا إله إلا أنت، الملك الحق المُبين. إياك نعبد، وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأنِلْنا حسن مرافقتهم بفضلك ورحمتك، فأنت أرحم الراحمين، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وأنت مولانا، فنعم المولى ونعم النصير [٣-ب] فانصرنا بحُسن الخلاص فيما أوليتنا وفيما ابتليتنا، برحمتك في عبادك الصالحين، الذين يُسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
•••
قال أبو الحسن: قد سألني سائلٌ، وألحَّ عليَّ أن أجيبه عن مسائل، كَتَبَها، وشرط فيها شروطًا، واعتذر من إلحاحه عليَّ، أنه مُضطرٌّ إليها وراغب في فهم ما تعذَّر عليه من فهمها، إذْ هي تحلُّ عليه، وتنزل به فَيَرهبُها، ويخشى القدوم عليها، ويخاف ضيق الإمساك عنها، لبُعده ممن يصلُح أن يُستعان به فيها، فَعذرْتُه بِعُذْره، وأشفقتُ من التوقُّف عنه، على وَجَلٍ مني في مُجَاوَبَتِه عن كل ما سأل عنه، فتراخيتُ عن سرعة مجاوبته طويلًا، وهو مُقيم على حَفْزي فيما أراد مني، حتى ألقى الله عز وجل في قلبي الانقياد إلى مجاوبته. فأعوذ بالله أن [٤-أ] أكون من المُتكلفين، وأسأل الله الكريم العصمةَ بالحق فيما ابتلاني به من المقالة في الدين، وأن يهديني إلى أحسن القول فأتبعه بهَدْيٍ من عنده، فهو هادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
ذكر سؤاله عن تفسير الإيمان والإسلام والإحسان وعن الاستقامة ما هي وكيف صفة الصلاح
قال أبو الحسن: فبيَّن ﷺ أن جميع ما جرى في نصِّ الحديث دين للناس، ويدل أيضًا ما في هذا الحديث، أنه كان قبل نزول فرض الحج، لأن الحج أيضًا من عمل الأبدان، وبه كمل العمل الذي هو الإسلام. يُبين ذلك ما جاء في الصحيح من حديث طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها [٥-أ] لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: ٣). قال: فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ وهو قائم بعرفة، يوم جمعة. قال أبو الحسن؛ فبَيَّنَ له عمر رضي الله عنه، أن اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية في الإسلام، مُعَظمٌ على مرِّ الدهر، هو عيد في سائر أمصار المُسلمين كلما تكرَّر يوم الجمعة، والمكان الذي أُنزلت فيه هو مكان الحج المفترض على جميع المسلمين. فقد تمَّ التعظيم لذلك اليوم، ولذلك المكان الذي أُنزِلَتْ فيه، والحمد لله رب العالمين.
والذي سمَّاه الرسول عليه السلام، في هذا الحديث، إيمانًا، هو الإقرار بما قد سمَّاه ﷺ. والذي [٥-ب] سمَّاه إسلامًا، هو عمل الجوارح بما افتُرضَ عليها؛ لأنه هو الذي يدل على استسلام مَنْ قال: أسلمت لله؛ ومَنْ قال: آمنت بالله، وملائكته وبلقائه، ورسله، وآمنت بالبعث بعد الموت، فإنما هو مُخبر عن تصديقه لما جاء به الرسول عليه السلام. ومحل صِحته التصديق فيما عقد عليه القلب واطمأن إليه. وكذلك هو في الإيمان بجميع ما جاءت به الرسل. قوله: آمنت بذلك، إنما هو إخبارٌ عن قلبه، أنه قَبِلَ ذلك، واطمأنَّ به، وفي ذلك إيمانه بفرض الصلاة والزكاة، وصيام رمضان، والحج المُفترَض على المسلمين مع سائر ما افتُرض عليهم من الحقوق كلها. فتصديقه بذلك كله — أن الله عز وجل فرضه، وأنه هو الحق الذي لا شك فيه — كل هذا هو إيمانٌ، القول يُعبر عنه، ولا يُعلَمُ صحة ما وراءَ القول من هذا [٦-أ] المُخبرِ عن نفسه بالإيمان، إلا اللهُ عز وجل، فإذا أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحجَّ البيت إذا استطاعه، وفعل بجوارحه جميع ما أُمِرَ به أنه واجب عليه، فقد استسلم، وصدَّق باستسلامه هذا قوله: إني آمنت به، عند مَنْ ظهر له ذلك منه، وهو عند الله جل وعزَّ على ما عَلِمَهُ من صحة اعتقاده، وصِدْقِه فيما صدَّق به. وقول الرسول عليه السلام، حين فسَّر الإسلام: تَعبُد الله لا تشرك به، معناه: بذلك يصحُّ لهذا العمل المذكور أن يكون إسلامه، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف: ١١٠). والإيمان هو القبول من الرسول ما جاء به، يُصحِّحه لقائله اعتقاد قلبه بتصديقه. والإسلام: هو العمل بما أمر به، ودعا إليه، والانتهاء عما نهى عنه، يُصحِّحه اعتقاد قلب [٦-ب] عامله أن الله عزَّ وجل أمر به على لسان رسوله عليه السلام. فإذا كان كذلك كان ها هنا الإسلام هو الإيمان، لقول الله جل وعز: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩). وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ (آل عمران: ٨٥-٨٦). وقال جل ذكره: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (المائدة: ٥). فبيَّن أن المُبتغي غيرَ الإسلام كافرٌ بالإيمان. وتبين بذلك أن الإيمان على الحقيقة إسلام، والإسلام على الحقيقة إيمان. ويزيدك بيانًا ما جاء في قصة آل لوط عليه السلام قوله: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (الذاريات: ٣٥-٣٦). وإذا لم يكن الإيمان من قائله على الحقيقة، كان إظهار ذلك ممن أقرَّ به نفاقًا [٧-أ] كما قال الله جل وعز: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ (المائدة: ٤١)، وكذلك من أظهر الإقرار بالإيمان، وعَمِلَ فيما أظهر بما أمره به، وانتهى فيما يُرَى منه عما نُهِيَ عنه، وقلبه غير مؤمن بذلك أنه من عند الله، فليس هو إسلامًا على الحقيقة. وهو كما قال الله جل وعز: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: ١٤) فنبَّأهم أن الإيمان، الذي هو التصديق في القول والعمل، لم يدخل قلوبهم، ولكن عملوا عملًا هو إسلام، أي استسلموا وألقوا السَّلَمَ مُداراةً لمن قَهَرهم، يحمون بذلك أنفسهم وأهليهم وأموالهم، مما يلقاه الصابئون بالكفر. وقد قال الله عز وجل: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ [٧-ب] مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (التوبة: ١٠١) وقال: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ (التوبة: ٩٧) وقال جل وعز: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (الأنعام: ١٢٥). فبيَّنَ أيضًا أن الإسلام هو ما انشرح الصدر إليه؛ وأما ما ضاق الصدر عن قبوله، ونفر منه عند سماعه، فصاحبه غير مؤمن. فقامت كلمة الإيمان مَقَامَ كلمة الإسلام. وكذلك قوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الزمر: ٢٢).
قال أبو الحسن: فافهم فقد بيَّنْتُ لك أن تفسير الإيمان أنه التصديق. [٨-أ] وقال الله جل ذكره يصِف رسوله عليه السلام: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (التوبة: ٦١). أي يُصدِّق المؤمنين. وأمره أن يقول لمن اعتذر عن تخلُّفه من المنافقين: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نُصدِّقكم قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ … الآية (التوبة: ٩٤). وأمره أيضًا أن يقول لهم: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة: ١٠٥). وبينتُ لك أن تفسير الإسلام، إذا لم يكن من قائله على الحقيقة أنه هو الاستسلام — وذلك بأنه يلقي السلم إظهارًا لطاعة من قهرَه — فيكون مِن فاعِله نفاقًا. قال الله عز وجل: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ (النساء: ٨٧) إلى قوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ … (النساء: ٩٠-٩١). فبينتُ لك وجه ما يكون به الإيمان إسلامًا، وما يكون به الإسلام إيمانًا، بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.
ذكر سؤاله عما جاء في فضائل القرآن، وما لِمن تعلَّمه وعلَّمه وما يُصحَب به القرآن، وعن آداب حامله، ومن ضيَّعه حتى نسِيَه، وما لمن علَّمه ولده، وهل ذلك في الصغير واجب على أبيه أو على غيره، ومن يعلم الإناث
قال أبو الحسن: أما سؤالك أن نبدأ لك بشيء، من فضائل القرآن فيكفيك من فضل القرآن، معرفتك [١٦-ب] أن القرآن كلام الله عز وجل، وكلام الله غير مخلوق، ثم ثناء الله على هذا القرآن في غير موضع منه. قال الله عز وجل: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر: ٢٣)، وقوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: ١-٣)، الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (البقرة: ١-٢)، المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف: ١-٢)، وكل ما جرى في أوائل السور من هذا، فهو تعظيم [١٧-أ] للقرآن، وتعريف للمؤمنين بفضله، وكذلك قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (النساء: ١٧٤)، وقوله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (المائدة: ١٥-١٦)، وقوله سبحانه لنبيه ﷺ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (المائدة: ٤٨) وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: ٤١-٤٢)، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (الإسراء: ٩-١٠)، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: ١٥٥) ومن هذا المعنى [١٧-ب] في القرآن كثير معروف تَتَبُّعُ ذكرِه في هذا الكتاب يُطيله، وهو شيء بيِّنٌ في القرآن يُغني عن كل كتاب، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو الحسن: فقد بينت لك ما جاء في فضل مَنْ تعلم القرآن وعلمه، وبينت لك من وصف حامل القرآن ما يكفيك عن سؤالك عما يصحب به القرآن وعن آداب حامله، كل ذلك من كتاب الله عز وجل، [١٩-ب] ومما جاء عن النبي ﷺ تسليمًا.
الجزء الثاني
[٢٩-أ] وأما إن كان للولد مال، فلا يدعه أبوه أو وَصِيُّه — إن كان قد مات أبوه — وليدخل الكُتَّاب، ويؤاجر المُعلم على تعليمه القرآن من ماله حسب ما يجب. فإن لم يكن لليتيم وصي نَظَر في أمره حاكم المسلمين، وسار في تعليمه سيرةَ أبيه أو وصيِّه. وإن كان ببلدٍ لا حاكم فيه، نُظِرَ له في مثل هذا، لو اجتمع صالحو ذلك البلد على النظر في مصالح أهله؛ فالنظر في هذا اليتيم من تلك المصالح. وإن لم يكن لليتيم مال، فأمه أو أولياؤه الأقرب فالأقرب به، هم المرغبون في القيام به في تعليم القرآن. فإن تطوع غيرهم بحمل ذلك عنهم، فله أجره. وإن لم يكن لليتيم من أهله مَنْ يُعنى به في ذلك، فمن عُني به من المسلمين فله أجره؛ وإن احتسب فيه المعلم فعلَّمه لله عز وجل، وصبر على ذلك، فأجره إن شاء الله يُضَعَّفُ في ذلك، إذ هي صنعته التي [٢٩-ب] يقوم منها معاشه، فإذا آثره على نفسه استأهل — إن شاء الله — حظًّا وافرًا من أُجور المؤثرين على أنفسهم، ويكفيك من البيان عما وصفت لك من ثواب من رغب في ذلك وسارع إليه، الذي تقدم عن الرسول عليه السلام، إذ قال للمرأة: نعم، ولكِ أجر.
وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم فهو حسن ومِن مصالحها. فأما أن تُعلَّم الترسُّل والشِّعر وما أشبهه، فهو مَخوف عليها. وإنما تُعلَّم ما يُرجى لها صلاحه، ويُؤمَن عليها من فتنته؛ وسلامتها من تعلُّم الخط أنجى لها. ولمَّا أذن النبي ﷺ للنساء في شهود العيد أمرهنَّ أن يُخرِجْنَ العواتق ذوات الخدور أو العواتق وذوات الخدور، وأمر الحائض أن تعتزِل مُصلى الناس، وقال: يشهدن الخير ودعوة المسلمين. فعلى مثل هذا يُقبَل في تعليمهن الخير الذي يُؤمَن عليهن [٣٠-أ] فيه، وما خيف عليهن منه، فصرْفه عنهن أفضل لهن، وأوجب على مُتولي أمرهن. فافهم ما بيَّنتُ لك، واستهدِ الله يهد، وكفى به هاديًا ونصيرًا.
واعلم أن الله جل وعز قد أخذ على المؤمنات فيما عليهن، كما أخذ على المؤمنين فيما عليهم، وذلك في قوله جل وعز: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا … الآية (الأحزاب: ٣٦) وقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ … الآية (التوبة: ٧١)، وجمعها في حُسن الجزاء في غير آية من كتابه، وفي قوله تعالى: وعد الله المؤمنين والمؤمنات … الآية (التوبة ٧٢)، وأمر أزواج نبيه عليه السلام أن يذكُرنَ ما سمِعنَ منه ﷺ فقال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (الأحزاب: ٣٤) فكيف لا يُعلَّمْنَ الخير، وما يُعين عليه، ويصرف عنهن القائم عليهن ما يحذَر عليهن منه؛ إذ هو الراعي فيهنَّ والمسئول عنهن، والفضل [٣٠-ب] بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ذكر ما أراد أن يُبين له فيما يأخذه المُعلمون على المتعلمين
وسنَّة ذلك، وما يصلح أن يُعلَّم للصبيان مع القرآن، وما على المُعلم أن يعلمهم إيَّاه من سائر مصالحهم، وما لا ينبغي له أن يأخذ منهم عليه أجرًا إن هو علَّمَهم إيَّاه على الانفراد. وهل يُعلم المسلم النصراني، أو يُترَك النصارى يُعلِّمون المسلمين؟ وهل يشترِط المُعلم للحذقة أجلًا معلومًا؟
ثم اعلم أن أئمة المسلمين في صدر هذه الأمة، ما منهم إلا من قد نظر في جميع أمور المسلمين بما يُصلحهم في الخاصة والعامة، فلم يبلُغنا أن أحدًا منهم أقام مُعلمين يعلمون للناس أولادهم [٣٢-ب] من صغرهم في الكتاتيب، ويجعلون لهم على ذلك نصيبًا من مال الله جل وعز، كما قد صنعوا لِمن كلَّفوه القيام للمسلمين، في النظر بينهم في أحكامهم، والأذان لصلاتهم في مساجدهم، مع سائر ما جعلوه حفظًا لأمور المسلمين، وحيطةً عليهم، وما يمكن أن يكونوا أغفلوا شأن مُعلم الصبيان، ولكنهم — والله أعلم — رأوا أنه شيء مما يختص أمره كل إنسان في نفسه، إذ كان ما يُعلمه المرء لولده، فهو من صلاح نفسه المُختص به، فأبقوه عملًا من عمل الآباء، الذي يكون لا ينبغي أن يحمله عنهم غيرهم إذا كانوا مُطيقيه. ولما ترك أئمة المسلمين النظر في هذا الأمر، وكان مما لا بدَّ منه للمسلمين أن يفعلوه في أولادهم، ولا تطيب أنفسهم إلا على ذلك، واتخذوا لأولادهم مُعلمًا يختص بهم، ويداوِمُهم، ويرعاهم حسب ما يرعى المُعلم صبيانهم، وبَعُدَ [٣٣-أ] أن يمكن أن يُوجَد من الناس من يتطوَّع للمسلمين فيُعلِّم لهم أولادَهم ويحبس نفسه عليهم، ويترك التماس معايشه، وتصرفه في مكاسبه وفي سائر حاجياته، صَلُحَ للمسلمين أن يستأجروا مَنْ يكفيهم تعليم أولادهم، ويُلازمهم لهم، ويكتفي بذلك عن تشاغُله بغيره. ويكون هذا المُعلم قد حمل عن آباء الصبيان مئونة تأديبهم، ويبصرهم استقامة أحوالهم، وما يُنَمِّي لهم في الخير أفهامهم، ويُبْعِد عن الشر ما لَهم، وهذه عنايةٌ لا يكثر المتطوعون بها. ولو انتُظِرَ من يتطوع بمعالجة تعليم الصبيان القرآن، لضاع كثير من الصبيان، ولما تعلم القرآن كثير من الناس، فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية التي تُثَبِّتُ أطفال المسلمين على الجهل، فلا وجه لتضييق ما لم يأتِ فيه ضيق، ولا ثبت [٣٣-ب] فيه عن الرسول عليه السلام ما يدل على التنزيه عنه.
قال أبو الحسن: يريد ابن حبيب بقوله: وصارت المصاحف مُباحة غير محجوبة ولا ممنوعة، أي مَنْ أراد شراءها أو اكتتابها، وجد ذلك مُمكنًا؛ فإذا كان كذلك [٤٠-ب] وكذلك أيضًا مَنْ أراد أن يتعلَّم القرآن من عند المُعلمين يجِده كثيرًا غير محجوب ولا ممنوع، إذا أعطى عليه الإجارة، كما يُعطي الثمن في المصاحف ليشتري منها ما يجوز شراؤه، كذلك يؤاجَر من المُعلم ما يجوز إجارته من اشتغاله به، وحركاته في تعليمه. وهذا كله حسب ما قدَّمتُ لك من البيان، كله يؤكد بعضه بعضًا، ويجيز إجارة المُعلم على تعليم القرآن، ويُجيز للمُعلم أن يأخذ الأجر على ذلك، ولا يضرُّه أخذ الأجر شيئًا إذا وَفَّى بشروط التعليم، وقد قدمتُ لك قول مالك عن كل مَنْ أدرك أنهم يُجيزون إجارةَ المُعلمين. وقد قال سحنون: قال ابن وهب: قال مالك: لا بأس بما يأخُذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئًا كان له حلالًا جائزًا، ولا بأس [٤١-أ] بالاشتراك في ذلك، وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العِلم ببلدِنا.
الحارث عن ابن وهب، قال: سُئل مالك عن الغلام يُدْفَع إلى المُعلم يُعلِّمه ثلث القرآن، ويشترط ذلك عليه بشيءٍ مُسمًّى، فقال: لا أرى بذلك بأسًا. قال أبو الحسن: ولقد مرَّت بي حكاية لمُوسى بن معاوية عن مَعن بن عيسى، قال: جاء رجل إلى مالك قال: علَّمتُ رجلًا سورةً بالأجر، قال: لا بأس به. قال أبو الحسن: وتعليم سورة على المُعلم، في حفظ المُتعلم لها عناء وشغل، فيمكن أخذ الأجر على ذلك. وحكاية أُخرى عن عليِّ بن أبي طالب قال: لا بأس أن يأخذ الرجل من الرجل الأجر على تعليم القرآن، ولا يجوز له إن قال له: أفتني هذا الحرف [٤١-ب] بِجُعل، أن يأخُذ منه عليه جُعلًا لأن الحرف أمرٌ يسير؛ أو هو مثل رجل يريد الإسلام فيقول للرجل: علِّمني الإسلام، فيقول له: فأعطني على تعليمي إياك جُعلًا، فإن هذا أيضًا لا يجوز مع ما فيه من القُبح. قال أبو الحسن: فهذا يُبين لك أن ما لم يكن على المعلم في تعليمه من الخير مئونة كلفةٍ وتشاغلٍ، أن عليه أن يُعلمه لمن لا يَعلَمه إذا كان لا بدَّ من تعليمه في الوقت. ومِثْلُ هذا لو أن أحدًا من أهل الكفر أتى لمُسلم، فسأله أن يُعلِّمه الإسلام لوجَبَ عليه أن يُعلمه ذلك، ولا يسأله عليه أجرًا. وإذا علَّمَه الإسلام فليُعلِّمه ما يكون به مُسلمًا: من الشهادة، وصفة الفروض، يُخبره أن عليه خمس صلوات يُصليهن على طهارة في كل يومٍ وليلة، ويُوقفه على عدد ركوع كل صلاة، ويُريه كيف [٤٢-أ] الركوع، وكيف الصلاة، وإن لم يجد مَنْ يُعلمه القرآن وجب على هذا الذي ابتُلِي به أن يُعلِّمه أم القرآن ليُصلي بها، ولا يأخذ منه على شيءٍ من ذلك أجرًا. ثم يذهب هذا الداخل في الإسلام فيتعلَّم ما يحتاج إليه من زيادةٍ على ما يجب عليه في يومه، ويصير إلى حال الواجدين للتعليم بالأجرة، والذي أجاز أهل العلم أخذ الإجارة على تعليمه القرآن والكتاب، ليس بين من يُجيز الإجارة على التعليم اختلاف في ذلك.
فأما تعليم الفقه والفرائض، يستأجر الرجل من يُعلِّم ولده ذلك، فسُئل ابن القاسم عنه فقال: ما سمعت — يعني من مالك — فيه شيئًا، إلا أنه كره بيع كتب الفقه، فإنا نرى الإجارة على تعليم ذلك لا تُعجبني، والشرط على تعليمها أشَرُّ. وأما ابن سحنون فذكر في كتابه، قال: [٤٢-ب] قال مالك لا أرى أن يجوز إجارة من يُعلِّم الفقه والفرائض. وقال لابنه: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشِّعر والنحو، وهو مثل القرآن، فقال: كرِه ذلك مالك وأصحابنا، وكيف يُشبَّه القرآن، والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعِلم أمر قد اختُلِف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شك فيه، والفقه لا يُستظهَر مثل القرآن، وهو لا يُشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه. قال ابن حبيب: قلت لأصبغ: فكيف جوَّزتُم الشرط على تعليم الشِّعر والنحو والرسائل، إذا لم تُسَمُّوا لذلك أجلًا، وهو مما ليس له مُنتهًى ينتهي منه إلى حدٍّ معروف؟ فقال لي: هو عندنا معروف بمنزلة الحِنَاطَةِ والخَبْزِ، وقد أجاز مالك الشرط على [٤٣-أ] تعليم الحِنَاطَةِ والخبز، وما أشبه ذلك من الصناعات، فإذا بلغ من ذلك مَبلغ أهل العلم به من الناس، وجب في ذلك حقه.
فافهم، فقد بينتُ لك وجوه جواز أخذ الإجارة على تعلُّم القرآن، وما يجوز أن يُعلم بالأجر، وما يُكرَه من ذلك للمُعلم والمتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة، ليستبين طالب الحلال ما يصفو له به الحال في أُجرة التعليم، وما يُنزَّه منه ذو الورع من ذلك. وبينتُ لك ما ينبغي للمسلم أن يتعلمه أو يُعلِّمه لولده وما يختلف من ذلك.
وأزيدك [٥٠-ب] ها هنا منه ما يكون عونًا لك في استبانته. قيل لابن القاسم: إن استأجرتُ رجلًا يُعلم لي ولدي القرآن، يُحذقه القرآن بكذا وكذا درهمًا، قال مالك: لا بأس بذلك. وقال ابن القاسم: ولا بأس بالسدس أيضًا مثل قول مالك في الجميع. وقال ابن القاسم: لا بأس أن يُقدَّم إلى معلم الكتاب حقه، قبل أن يدخل الصبي. وعند ابن سحنون قال مالك: لا بأس أن يستأجِر الرجل المُعلم على أن يُعلم ولده القرآن بأجرٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم أو كل شهر، وكذلك نصف القرآن، وربعه، وما سُمِّيَ منه. قال أبو الحسن: أما قوله أو كل شهر، فقد قيل لابن القاسم أن يستأجره على تعليم ولده القرآن كل شهرٍ بدرهم، أو كل سنة بدرهم. قال: قال مالك: لا بأس بذلك، قيل إن [٥١-أ] استأجره على أن يُعلم ولده الكتابة كل شهر بدرهم؟ قال: قال: لا بأس بذلك. قيل — وهو قول مالك — قال: قال مالك في إجارة المُعلمين سنةً بسنة: لا بأس بذلك. والذي يستأجره يُعلِّم ولده الكتابة وحدَها، لا بأس بذلك، مثل قول مالك في إجارة المُعلمين سنةً بسنة. قال أبو الحسن: وأما قوله إلى أجل معلوم، فإن كان يريد أن يكون يُعلمه القرآن كله إلى أجلٍ معلوم، فإنَّ ابن الموَّاز ذكر في قول مالك، لو اشترط أن يُعلمه سنةً أو سنتَين كان ذلك لازمًا. قال محمد بن إبراهيم: جائز، ما لم يقُل له: تُعلِّمه في سنة أو سنتَين. قال أبو الحسن: قول مالك في سماع ابن القاسم، وابن وهب، كما حكاه محمد، ورواه مُطرِّف عن مالك، قال: وجميع علمائنا بالمدينة. وفسَّره محمد أنه لم يشترط استكمال القرآن في هذا [٥١-ب] الأجل، وتفسيره جار على الأصول في سائر الإجارات. ولكن قال ابن حبيب: قد أجاز مالك أن يُشارط المُعلم في الغلام على الحَذْقَة ظاهرًا أو نظرًا، سَمَّيا في ذلك أجلًا أو لم يُسمِّيا. ولقد قلتُ لأصبغ: كيف أجاز مالك الشرط على الحذقة إذا سمَّيا لها أجلًا، أرأيتَ إذا انقضى الأجل ولم يَحْذقه، ما يكون له؟ قال: يكون له أجرة مِثله فيما علَّمه في تلك السنة، وليس على حساب الأجرة الأولى. قلت: ولا ترى هذا من شرطَين في شرط؟ قال: لا، وإنما كان يَدخُلُه شرطان في شرط، لو كان عاقدَه على هذا اللفظ بديًا، فأما إذا عاقده على أن يحذقه في سنةٍ فإنما هو على شرطٍ واحد، حتى يحدث بينهما الذي وصفْنا من تقصيره عما شرط عليه، فيرد إلى أجرةِ مثله على تحذيقه إيَّاه في أكثر من السنة، لأن أبا [٥٢-أ] الغلام إنما كان رضي بالأُجرة الأولى على أن يحذق ولده في سنة، فلما جاوز المُعلم توقيت ما وَقَّتَ له، لم يكن له أن يأخذ على التأخير ما سُمِّيَ له على التعجيل، وكان ذلك مَظلمة على أبي الغلام، إن أخذ ذلك منه. وإنما الذي لا يجوز فيه التوقيت مع الحذقة، أن يُوقِّت وقتًا ضيقًا يرى ويخشى أنه لا يبلُغ ذلك فيه لضِيقه، فالعُذر والخَطر يدخله. قال أبو الحسن: وفرَّق أصبغ في هذا الجواب بين معلم الكُتَّاب وبين الخيَّاط يشترط الفراغ في أجلٍ معلوم، فأجراه مجاري الإجارة الداخلة في معاني البيوع على ما استحسن، إذا كان الأجل المُؤقت يمكن الفراغ مما اشترط عليه فيه قبل ذهاب الوقت، فلا باس به؛ كذا قال في المُعلم والخيَّاط. وقضيته للمُعلم، إذا تم الأجل قبل تمام الحذقة بأجرة مثله ليس على حساب ما استُؤجِر [٥٢-ب]، صواب مُستقيم.
ذِكر ما أراد بيانه من سياسة مُعلم الصبيان
وقيامه عليهم، وعدله فيهم، ورفقه بهم، وهل يستعين بهم فيما بينهم، أو لنفسه، وهل يُوليهم غيره إن احتاج إلى ذلك؟ وهل يشتغل مع غيره معهم أو يشتغل له؟ وكيف يُرتب لهم أوقاتهم لدرسهم، وكتابتهم، وكيف مَحوهم ألواحهم، وأكتافهم، وأوقات بطالتهم لراحتهم، وحد أدبه إيَّاهم، وعلى مَن الآلة التي بها يؤدبهم، والمكان الذي فيه يُعلمهم؟ وهل يكون ذلك في مسجد؟ وهل يشترك مُعلمان أو أكثر؟ وهل يدرس الصبيان في حزبٍ واحد مُجتمعين؟ وهل يَمَسُّون المصحف وهم على غير طُهر، ويعلمون الوضوء لمَسِّ المصحف، ويُصَلون في جماعة يؤمهم أحدهم؟
ومن رفقه بالصبيان أن الصبي إذا أُرسِل وراءه ليتغدَّى فيأذن له ولا يمنعه من طعامه وشرابه، ويأخذ عليه في سرعة الرجوع إذا فرغ من طعامه.
ومن حقِّهم عليه أن يعدل بينهم في التعليم، ولا يُفضِّل بعضهم على بعض، وإن تفاضلوا في الجُعل، وإن كان بعضهم يُكرمه بالهدايا والأرفاق، إلا أن [٥٧-أ] يفضل من أحبَّ تفضيله في ساعة راحاته، بعد تفرُّغه من العدل بينهم. وذلك من قِبَلِ أن القليل الجُعل إنما رضي أن يؤدي أداءه ذلك على إتمام تعليم ولدِه، كما شرط الرفيع الجُعل. إلا أن يُبين المُعلم لآباء الصبيان أنه يفاضِل بينهم على قدْر ما يصِل إليه من العطاء من كل واحدٍ منهم، فيرضَوا له بذلك، فيجوز له، وعليه أن يفي بما التزم من قدْر ذلك.
ومن صلاحهم، ومن حُسن النظر لهم، ألا يخلط بين الذُّكران والإناث، وقد قال سحنون: أكره للمُعلِّم أن يُعلم الجواري، ويخلطهنَّ مع الغلمان، لأن ذلك فساد لهن.
قال أبو الحسن: وإنه لينبغي للمُعلم أن يحترس الصبيان بعضهم من بعض إذا كان فيهم مَنْ يُخشى فساده، يُناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة.
ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقله من سورةٍ حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها. قال سحنون: إلا أن يسهل لهم الآباء، فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصي، فإن كان دفع أجر المُعلم من غير مال الصبي إنما هو من عندهم، فلهم أن يُسهلوا كما للأب؛ وإن كان من مال الصبي الأجر، لم يَجُزْ لهم أن يسهلوا حتى يحفظها كما أعلمتُك. قال: وكذلك إذا كان الأب يُعطي من مال الصبي. قال: وأرى ما يلزم الصبي من مئونة المعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته.
قال أبو الحسن: صواب. ولكن قوله إن كان يأخذ المُعلم من غير مال الصبي، أنَّى لأبيه أو مَنْ قام له أن يسهل للمُعلم في نقله من السورة قبل [٥٩-ب] تمامها، ما أدري ما وجه العطاء للمُعلم على الصبي، إنما كان على حُسن العناية بالصبي فقد صار الحق للصبي، فمن أين لأحد أنْ يُسهل فيه، إلا أن يكون مراد سحنون — رحمه الله — أن للصبي التسهيل في ذلك وقع عند عقد الإجارة، فيكون صوابًا في الجواب، والأحسن ما هو أتم للصبي.
وأما بطالة الصبيان يوم الجمعة؛ فقال سحنون: يأذن في يوم الجمعة، وذلك سُنَّة المُعلمين منذ كانوا، لم يُعَبْ ذلك عليهم. وذكر أن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال في المعلم يستأجر شهرًا، له أن يتبطَّل يوم الجمعة؛ وما كان الناس قد عملوا به، وجرَوا عليه فهو كالشرط. وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو أيضًا يجري على عُرف الناس، إن كان قد عُرِفَ ذلك من شأن المُعلمين، فهو كما عُرف من شأنهم في يوم الجمعة. فأما بطالتهم يوم الخميس كله، فهذا بعيد، إنما دراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إيَّاها على مُعلميهم في عشي يوم الأربعاء، وغدو يوم الخميس، إلى وقت الكتابة، والتخابُر إلى قبل انقلابهم نصف [٦١-أ] النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر للكُتَّاب، والخيار إلى صلاة العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يُبكرون فيه إلى مُعلميهم. وهذا حسنٌ نافع رفيق بالصبيان وبالمُعلمين لا شطط فيه. وكذلك بطالة الأعياد أيضًا على العُرف المشتهر المُتواطأ عليه. وقال ابن سحنون لأبيه: كم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ فقال: الفطر يومًا واحدًا، ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام؛ والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذنهم خمسة أيام. قال أبو الحسن: يريد ثلاثة أيام في الفطر، يومًا قبل العيد، ويوم العيد، فيوم ثانيه. وخمسة أيام في الأضحى: يوم قبل يوم النحر، وثلاثة أيام النحر، واليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق، ثم يعودون إلى مُعلِّميهم في اليوم الخامس من أيام النحر؛ وهذا وسط في الرفق.
وأما بطالة [٦١-ب] الصبيان من أجل الختم، فقيل لسحنون أيضًا: أترى للمُعلم في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم. قيل له: ربما أهدى الصبي إلى المُعلم أو أعطاه شيئًا، فيأذن لهم على ذلك؟ فقالِ: إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز إلا بإذن الآباء. قال: ومن ها هنا أُسقطت شهادة أكثر المُعلمين؛ لأنهم غير مُؤدِّين لما يجب عليهم إلا مَنْ عصم الله.
الجزء الثالث
قال أبو الحسن: وهذا إذا كان المُعلم بأجر معلوم كل شهر، أو كل سنة. وأما إن كان على غير شرط، [٦٢-أ] وما أُعطي قَبِلَ، وما لم يُعطَ لم يَسْأل، فله أن يفعل ما شاء إذا كان أولياء الصبيان يَعلمون بتضييعه، فهم إن شاءوا أعطوا على ذلك، وإن شاءوا لم يُعطوه. وهذا الوصف يكفيك مما سألت عنه، وفيه بطالتهم عند الختمة؛ فإن كان بلد قد عُرِف فيه العطاء عند النصف، أو الثلث، أو الربع حتى صار ثابتًا، فالمطالبة فيه على حسب ما عُرف عنه، وتُووطئ عليه.
وأما وصفك لما جرى عندكم من صنيع مُعلميكم إذا تزوَّج رجل، أو وُلد له، فيبعثون صبيانهم، فيصيحون عند بابه، ويقولون: أستاذنا، بصوت عالٍ فيُعطَون ما أحبُّوا من طعام، أو غير ذلك، فيأتون به مُعلمهم، فيأذن لهم يتبطَّلون بذلك نصف يوم أو ربع يوم، بغير أمر الآباء، يكفيك ما سألتَ عنه قول سحنون: ولا يحل للمُعلم أن يُكلف الصبيان فوق أجرته شيئًا من هدية أو غير ذلك، ويسألهم [٦٢-ب] في ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف فإن فعلوا لم يضرَّهم في ذلك. وأما إن كان يُهدِّدهم أو يُخلِّيهم إذا أهدوا إليه، فلا يحلُّ له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية وهو مكروه. فإذا كان هذا كما وصف سحنون فيما يأتي به الصبيان، فالذي سألتَ أنت عنه أشد وأكره: لعل صاحب التزويج، أو أبا المولود، لا يُعطي ما يُعطي، إلا تقيَّة أذى المُعلم أو أذى صبيانه، أو من تقريع بعض الجهَّال، فيصير المُعلم من ذلك إلى أكل السُّحت، ولا يفعل هذا إلا مُعلم جاهل. فليُوعَظ فيه وليُنْهَ عنه ويُزجر، حتى يترك العمل الذي وصفت، فإنه من عمل الشيطان، وليس من عمل أهل القرآن.
وأما [٦٣-أ] سؤالك عما يُصَرِّف المعلم الصبيان فيه، ويُكلفهم إيَّاه، وهل يتشاغل هو عنهم بشيء، فإن سحنون قال: سُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا. فقال: إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك، إذا كان للصبي في ذلك منفعة. قال سحنون: ولا بأس أن يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن في ذلك منفعة لهم. وليتفقَّد إملاءهم. قيل له: فيأذن للصبي أن يكتُب لأحد كتابًا؟ فقال: لا بأس به، وهذا مما يخرج الصبي، إذا كتب الرسائل. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يُرسل الصبيان في حوائجه. قيل له: فيرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ فقال: لا أرى ذلك له إلا أن يأذن أولياء الصبيان في ذلك، أو يكون المَوضع قريبًا لا يشغل الصبيان في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب [٦٣-ب] الصبيان، يُخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا. قال: وأُحِب للمُعلم ألا يُولي أحدًا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفًا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعَرَف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس أن يُعينه فإن في ذلك منفعة للصبي. قال: ولا يحل له أن يأمر أحدًا أن يُعلم أحدًا منهم، إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك. ولْيَلِ ذلك هو بنفسه، أو يستأجر هو من يُعينه، إذا كان في مثل كفايته. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان إلا أن يكونوا في وقتٍ لا يَعْرضهم فيه بأس بأن يتحدَّث، وهو في ذلك ينظر إليهم يتفقدهم. قال: ولا بأس للمُعلم أن يشتري ما يُصلحه لنفسه من حوائجه، إذا لم يجد مَنْ يكفيه. قال: ولا بأس أن ينظر [٦٤-أ] في العلم في الأوقات التي يستغني [فيها] الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتابة وأملى بعضهم بعضًا، إذا كان في ذلك منفعة لهم، فإن هذا قد سهَّل فيه بعض أصحابنا. قال: وليلزَمِ المُعلم الاجتهاد، وليتفرَّغ لهم.
ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا ما لا بد له منه، ممن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عملَه ويتبع الجنائز وعيادة المرضى.
قيل: فهل ترى للمُعلم أن يكتب كتُب العلم له أو للناس؟ فقال: أما في وقت فراغه من الصبيان، فلا بأس أن يكتُب لنفسه وللناس، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب. وأما ما داموا حوله، فلا أراه يجوز له ذلك. وكيف يجوز له أن يخرُج مما يلزمه النظر فيه إلى ما لا يلزَمه؟ ألا ترى أنه لا يجوز له أن يُوكِل تعليم بعضهم [٦٤-ب] إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم! قال أبو الحسن: كل ما جرى في هذا الفصل صواب حسَن. وما قال فيه: إلا أن يأذن في ذلك أبوه أو وليُّه، فمعناه: إذا كان أجر المعلم من غير مال الصبي الذي يجوز إذنهم في ذلك من أموالهم، دفعوا الإجارة عن الصبي. وقد تقدَّم مثله، وأن معناه: أنه كان في الشرط عند عقد الإجارة، قبل أن يَجِب الحق للصبيان، وهو وجه القول عندي. والله أعلم.
وقد أتى ما وصفه سحنون على مسائلك وأكثر منها.
وأما قولك: هل للمُعلم إذا غلب عليه النوم أن ينام عندهم، أم يُغالب ذلك عن نفسه؟ فإنه إن كان في وقت تعليمه إيَّاهم، وحضورهم عنده، فليُغالِبه إن استطاع. وإن غلب فليقُم فيهم مَنْ يخلفه عليهم، إذا كان في مثل كفايته، بإجارة [٦٥-أ] يستأجره، أو يتطوَّع له إذا كان من غير الصبيان. وإن كان من الصبيان أنفسهم فقد تقدَّم من الشرائط في ذلك.
وكذلك إن مرض، أو [كان] عليه شغل، فهو يستأجر لهم مَنْ يكون فيهم بمثل كفايته لهم، إذا لم تطُل مدة ذلك. فإن طالت فلآباء الصبيان في ذلك نظر ومُتكلم من قِبَل أنه هو المستأجَر بعينه، فلا يصلُح أن يُقيم عوضًا منه إلا فيما قرُب، فيستخف إذا كانت الإجارة واجبة عليه.
كذلك إن هو سافر فأقام مَنْ يوفِّيهم كفايته لهم، إن كان سفرًا لا بدَّ منه، قريبًا اليوم واليومين وما أشبههما فيستخفُّ ذلك إن شاء الله. وأما إن بَعُدَ أو خيف بُعد القريب، لِما يعرض في الأسفار من الحوادث، فلا يصلح له ذلك.
وأما شهود النكاحات، وشهادات [٦٥-ب] البياعات، فليس له ذلك؛ هو في هذا مثل شهود الجنازة، وعيادة المريض، أو أشد. وأما إنْ كانت عنده شهادة، والسلطان عنه بعيد، في سيرِه إليه شغل عن صبيانه، فهو له عُذر في تخلُّفه عن أداء الشهادة؛ ولكن إن لم يُوجَد منه بد، أودع شهادته عند مَنْ ينقلها عنه، وله في ذلك عُذر، ويقبلها الحاكم ممَّن نقلَها إليه، ويعذُرُه بعُذره الذي لزمه. فافهم، فقد بيَّنتُ لك جميع ما سألت عنه من هذا المعنى.
فأما قولك: فإن فعل، يريد ما نهى عنه، وتشاغل عن الصبيان، ماذا عليه؟ فاعلم أنه يكون من الاشتغال الخفيف، الذي يكون في مثل حديثه في مجلسه، فيشغله من الصبيان شيئًا، فهذا وما اشبهه يقلُّ خطبُه، ويخفُّ قدرُه، فيتحلل من آباء الصبيان مما أصاب من ذلك، إن كان الأجر من أموالهم. وإن كان من [٦٦-أ] أموال الصبيان فلا بأس به عندي أن يُعوضهم من وقت عادة راحته، ما يَجبُر لهم به من نقصهم من حظوظهم باشتغاله ذلك؛ وإن كان غائبًا اليوم أو أكثر اليوم، فهذا كثير. فإن كانت إجارته أجلًا معلومًا، وقد عطلهم، ولم يقم لهم عوضًا منه، فيضع من أجره ما ينوب ذلك اليوم الذي عطَّلَه. وإن كانت الإجارة مُطلقة، وُفِّيَ كل شهرٍ بما علم فيه: وليس له أن يعتاد التشاغل، حتى يُلجئه إلى العوض؛ لأن ذلك يضر بالصبيان.
وأما سؤالك عما يُكلفه المعلم الصبيان أن يأتوه به من بيوت آبائهم، يريد بغير إذن آبائهم، أو حمله الصبيان بغير تكليف من المُعلم، وكان ذلك من الطعام أو غير الطعام، وإن قلَّ قدره من حطب أو غير ذلك، فهذا لا يحل للمُعلمين أن يأمروا به، ولا أن يقبلوه إن أُتِيَ به [٦٦-ب] إليهم، وإن لم يأمروا به، إلا بإذن الآباء، ويسلم أيضًا من أن يكون ما أذن الآباء في ذلك على وجه الحياء وتقية اللائمة. وقد تقدَّم من قول سحنون في فصل ما يجوز من بطالتهم ما فيه الكفاية من سؤالك هذا. فافهم.
وقال: إذا استؤجر المُعلم على صبيان معلومين سَنةً معلومة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المُعلم. قال أبو الحسن: وهذا صواب أيضًا؛ لأنهم هم أتوا بالمُعلم إليهم وأقعدوه لصبيانهم، وعلى هذا يعتدل الجواب.
وقال سحنون: إذا استأجر الرجل مُعلِّمًا على صبيان معلومين، جاز للمُعلَّمين أن يُعلِّم [٦٧-أ] معهم غيرهم، إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجِر لهم. ومعنى هذا: إذا كان لم يُشترَط على المُعلم أنه لا يزيد على العدة المذكورة له شيئًا، فأما أن يشترطوا عليه أن لا يزيد على العدة المذكورة له، أو شرطوا عليه أن لا يخلط مع صبيانهم غيرهم، فليس له ذلك. وهذا هو جواب سؤالك عندي له.
وأما تعليم الصبيان في المسجد، فإنَّ ابن القاسم قال: سُئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد، أتستحبُّ ذلك؟ قال: إن كان قد بلغ موضع الأدب، وعرف ذلك، ولا يعبث في المسجد فلا أرى بأسًا. وإن كان صغيرًا، لا يقرُّ فيه ويعبث، فلا أحب ذلك، ولابن وهبٍ عن مالك مثل معنى هذا. وأما سحنون فقال: سُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد فقال: [٦٧-ب] لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة، ولم يُنْصب المسجد للتعليم. قال أبو الحسن: جواب صحيح، وتكسُّب الدنيا في المسجد لا يصلُح. ألم تسمع قول عطاء بن يسار للذي أراد أن يبيع سلعةً في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. فلا يُترَك لمُعلم الصبيان أن يجلس بهم في المجسد، وإن اضطُرَّ إلى ذلك بانهدام مكانه، فليتَّخِذ مكانًا يُعلِّم فيه إلى أن يصلح ما انهدم له، إن أحب.
واتخاذ المكان عليه، كان بيتًا أو حانوتًا، إلا أن يُدعى إلى صبيانٍ بأعيانهم، فقد تقدَّم قول سحنون في كراء ذلك أنه على الصبيان. فإذا كان بيت المُعلم لهم — إذ هم بأعيانهم — فبناؤه عليهم، أو يتخذوا مكانًا غيره؛ وليس على المُعلم من ذلك شيء. إنما على المُعلم المكان، إذا كان يُعلِّم لعامة الناس. [٦٨-أ] وأما شركة المُعلِّمَين والثلاثة والأربعة، فهي جائزة إلا إذا كانوا في مكانٍ واحد، وإن كان بعضهم أجود تعليمًا من بعض؛ لأن لهم في ذلك ترافقًا وتعاونًا، ويمرَض بعضهم فيكون السالم مكانه حتى يفيق. وإن كان بعضهم عربي القراءة، يُحسِن التقويم، والآخر ليس كذلك، ولكنه ليس يلحن، فلا بأس بذلك. قلت: ذلك على ما جاء عن مالك، وعن ابن القاسم في مُعلِّمَيْن اشتركا. وقد رُوِيَ عن مالك أن ذلك لا يصلح حتى يستوي علمهما، فلا يكون لأحدهما فضلٌ على صاحبه في علمه. فإن كان أحدهما أعلم من صاحبه، لم يصلح، إلا أن يكون لأعلَمِهما فضل من الكسب يقدر عليه على صاحبه، وإلا لم يصلُح. قال أبو الحسن: أما إذا لم يكن بين المُعلِّمَين من الاختلاف إلا أنَّ أحدهما يُعرب قراءته، والآخر لا يعربها، إلا أنه [٦٨-ب] لا يلحن، فما في هذا ما يُوجب عندي التفاضُل بين أُجرتيهما إذا اشتركا. وكذلك يكون أحدهما رفيع الخط، والآخر ليس بذلك، إلا أن يكتب ويتهجَّى. والاختلاف في هذا وشبهه مُتقارب في الشركة. وكذلك هذا في الصنائع وفي التجارة يكون أحدهما أعلى من الآخر فيما يحسن من ذلك، فليس لهذا فضل على الآخر في الإجارة إذا كانا شريكَين، ولكن إذا كان أحد المُعلمين يقوم بالشكل والهجاء، وعلم العربية، والشِّعر، والنحو، والحساب، والأشياء التي لو انفرد مُعلم القرآن بجمع علومها لجاز أن يشترط عليه تعليمها مع تعليم القرآن، من قِبَل أنها ممَّا يُعين على ضبط القرآن، وحُسن المعرفة، فهذا إن شاركَ من لا يُحسن إلا قراءة القرآن والكتاب، فهو الذي تكون الإجارة [٦٩-أ] بينهما متفاضِلة على هذه الرواية، على قدْر علم كل واحدٍ منهما. وأما لو أن أحدهما يُسْتأجر ليُعلِّم النحو والشِّعر والحساب وما أشبه ذلك، والآخر يستأجر على تعليم القرآن والكتاب، ما صلُحَت هذه الشركة، على مذهب ابن القاسم، وعلى قول مَنْ يكره الإجارة على تعليم غير القرآن والكتاب. [فافهم، فقد] بينت لك ذلك ليُردَع عنه مَنْ يُحب أن يأكل حلالًا طيبًا.
وسألت هل للصبيان الصغار، أو الكبار البالغين، أن يقرءوا في سورةٍ واحدة وهم جماعة على وجه التعليم؟ فإن كنت تريد يفعلون ذلك عند المعلم، فينبغي على المُعلم أن ينظر فيما هو أصلح لتعلمهم، ليأمرهم به، ويأخذ عليهم فيه؛ لأن اجتماعهم في القراءة بحضرته يُخفي عنه قَويَّ الحفظ من الضعيف. ولكن إن كان على الصبيان من ذلك خفة، فيُخبرهم [٦٩-ب] أنه سيعرض كل واحد منهم في حزبه، فيؤدبه على ما كان من تقصير، تهديدًا يتهدَّدُهم، ولا يُوقع الضرب لأدب، إلا عن ذنبٍ يتبين حسب ما تقدَّم قبل هذا.
وأما إمساك الصبيان المصاحف، وهم على غير وضوء، فلا يفعلوا ذلك؛ وليس كالألواح. وما في نهيهم عن مس المصاحف الجامعة — وهم على غير وضوء — خلافٌ من مالك، ولا ممَّن يقول بقوله. ورأى سحنون أنَّ على المُعلم أن يأمرهم ألا يمَسُّوا المصحف إلا وهم على وضوء، حتى يعلموه. وهو حسن صواب، كما قال سحنون؛ لأن مُعلمهم يُعلمهم مصالح دينهم.
قد سئل مالك عن صبيان الكُتَّاب يُصلي بهم صبي لم يحتلم، قال: ما زال ذلك من شأن الصبيان وخفَّفه. قال أبو الحسن: يريد الذين يُصَلُّون معه لم يحتلِموا، ولو كان [٧٠-أ] في صبيان الكتاب مُحتلم، فإن صلُح للإمامة قُدِّمَ، وإن لم يصلح للإمامة فلا يُصلَّى خلف مَنْ لم يحتلم، ولا يقطع عن صبيان الكتاب عادتهم، لكي يتدرَّجوا على معرفة صلاة الجماعة، وليعرفوا فضلها حتى يكبُروا على الرغبة فيها، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.
ذكر سؤاله عما تكون فيه الأحكام بين المُعلِّمين والصبيان وعن أدب الرجل زوجته وولده وعبده وشكواه ولده الكبير
قال أبو الحسن: قد قدَّمت لك من وصف ما يطيب للمُعلمين، يأخذونه من المُتعلِّمين، ومن وصف ما ليس لهم أخذه، وما يكون نزاهةً لأهل الورع منهم، ما فيه الكفاية والبيان لما سألتَ عنه، وفيه ما يُوجب لهم في شرطهم، فإن أراد منهم أحد ترْك ما دخل فيه، أو اختلفوا في [٧٠-ب] أمر، وَسِعَتْهم الأحكام.
وسألت عن الختمة متى تجِب للمُعلم، وعلى أي وجهٍ تجب له، وكيف يكون حال الصبي في حفظه، وقراءته، وإجارته، فيستوجبها المُعلم؟ قال: ووجوب الختمة للمُعلم فيما سألتَ عنه على وجهَين:
وأما قول سحنون فيمن أخرج ولده من عند المُعلم، وقال له: لا يحضر ولدي عندك وقد قارب الختمة، وكانت الإجارة كل شهر. فقال: أقضي عليه بالختمة، ثم لا أُبالي به أخرَجه أو ترَكه. ومقاربة الختمة عند سحنون، إذا بلغ الثلثَين أو جاوز ذلك. وقيل عنه: والثلاثة أرباع أبيَنُ. وعنده إذا لم يبلغ إلا لسورة يونس، أنه لا يقضي له بشيء. وقال ابن حبيب: وإذا لم يشترطها المُعلم، ولم يشترط أبو الغلام سقوطها عنه، فأراد أن يخرجه قبل فراغه منها، كأن كانت الختمة قد تدانت بالأمر اليسير مثل السُّوَر القليلة تكون بقِيَت عليه، فالحذقة واجبة للمُعلم كلها إذا كان الغلام يحفظ كما وصفتُ لك. وإن كان الذي بقِيَ من الحذقة الشيء الذي له بال [٧٥-ب] مثل السُّدس وأقل من ذلك، أخرجه إذا شاء، ولم يكن عليه من الحذقة شيءٌ لا جميعها، ولا على حسابها. قال أبو الحسن: أما حُكمها للمعلم بجميع الختمة على مَنْ قاربها، فهو يعتدل فيمن حذق، وتمَّ حذقه في المعرفة والنفاذ، واستغنى ممَّا عنده من الخط والهجاء والإجادة والإعراب، حتى صار لا يحتاج فيما بقِيَ عليه إلى المعلم، فهذا إذا خرج عند مقاربة الختمة، فلم يبقَ من استكماله إيَّاها ما على المُعلم فيه عناء، بل تماديه مع المُعلم نفْع للمُعلم. وأما إسقاطهما الجُعل عمَّن لم يبلغ مقاربة الختمة، وقد حذق وفهِم، ولا عنت في تعليمه، فما أعرِفُ له وجهًا، ولا من أين أخذه. إنما ذكر سحنون أن المُغيرة وابن دينار اجتمعا على أن الصبي إذا أخذ عند المعلم من الثلث إلى سورة البقرة، أنَّ الختمة واجبة إذا عرف أن يقرأه كما وصفتُ لك، ولا يُسأل [٧٦-أ] عن غير ذلك ممَّا لم يكن أخَذَه عنده؛ وقول المُغيرة وابن دينار في مُبتدئ انتهى إلى الثلث يُحسن، من قِبَل أن المبتدئ لا يُحقِّق ممَّا علِم النفاذ المرفق في مِقدار بلوغ الثلث، هو يُعَدُّ في تعلُّم الصغير البعيد من الميز، فصار مَنْ عَلَّمَه الثلثَين الباقِيَين، هو الذي لقِيَ التعَب به ولم تضِعْ عنه عناية الأول من العناء ما يرفقه، هذا الغالب في عامة الناس. وإنما العمل في هذه الأشياء على الغالب المُستفيض في وصف الناس. ولم يذكر عن المغيرة وابن دينار في الذي علَّمه الثلث الأول شيئًا. وقد قال: تنازع المُغيرة وابن دينار — وكلاهما من علماء أهل الحجاز — في الصبي يختم القرآن عند المُعلم، فيقول الأب إنه لا يحفظ، فقال المغيرة: إذا كان أخذ القرآن عندَه كله، وقرأه الصبي كله نظرًا في المصحف، وأقام [٧٦-ب] حروفه، وإن أخطأ منه اليسير الذي لا بدَّ منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبت للمُعلم الختمة؛ وهي على المُوسِعِ قدره وعلى المُقتِر قدره، وهو الذي أحفظ من قول مالك. وقال ابن دينار: قد سمعتُ مالكًا يقول: تجب للمُعلم الختمة على قدر يُسر الرجل وعُسره، يجتهد في ذلك ولي النظر للمُسلمين. وأرى أنه إذا تنازع المُعلم والأب في الصبي: أنه لا يَعْلم القرآن، فإذا قرأ منه نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذَه عنده مُفردًا وجبَتْ له الختمة قضيتُ له بها، ولا أُبالي ألَّا يقرأ غير ذلك، لأنه لو لم يأخُذه عنده لم يُسأل هذا المُعلم. قال أبو الحسن: فهذا سحنون ذكر ما تنازع فيه المُغيرة وابن دينار فوصف أن المغيرة جعل للمُعلم الختمة إذا لم يبقَ على الصبي إلا الحروف اليسيرة. ولم يَصِفْ عنه فيه إن بقيت عليه حروف كثيرة [٧٧-أ] ما يكون الحُكم فيه. ووصف ما رآه ابن دينار إذا قرأ الصبي، نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مُفردًا وجبَتْ له الختمة، قضى له بها، ولا يُبالي ألا يقرأ غير ذلك، قال: لأنه لو لم يأخذه عنده لم يُسأل هذا المُعلم. فأين تصريح التنازع بينهما ها هنا؟ إذا كانا وصفا ما يجب به الجُعل للمُعلم، ولم يَصِفَا ما يسقط به جهل المُعلم، ولا وصفَهُ واحد منهما. وقد اتفق المغيرة وابن دينار في هذا الوصف أن مالكًا جعل للمُعلم الختمة على قدر يُسر الأب وعُسره، ولم يصف عنهما سحنون أنهما قالا عن مالك فيمن عَلِم ما دون الختمة شيئًا. وإن كان قول المغيرة في الذي يبقى عليه الحروف اليسيرة يدخل فيما حفظ عن مالك فهو حسن، إنما الطلب أن يُوجَد لمالك إسقاط جُعل المعلم فيما دون الختمة. وقال سحنون أيضًا: قال [٧٧-ب] أصحابنا جميعًا، مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمُعلم الختمة، وإن استؤجِر شهرًا شهرًا، أو على تعليم القرآن بأجرٍ معلوم، ولا يجب له غير ذلك. قال أبو الحسن: وليس يظهر في قولهم ولا يجب له غير ذلك، إلا أنه إنما يجب له جُعله في الختمة، ليس له مع ذلك إلا ما خُورجَ عليه في المُشاهرة، إذا كان المعروف في ذلك الوقت وعليه يقعد المُعلم، إلا مَنْ أكرمه في الأعياد، وما أشبه ذلك من الأرفاق، التي لا يقضي بها، إذ ليست مُعتادة فيعمل عليها، ومن حمل هذه الكلفة على أنهم أرادوا أنه ليس له فيما دون الختمة شيء، فما لقوله هذا بيان.
وقال ابن حبيب: الحذقة على الحفظ لازمة لأبيه، إلا أن يكون أبوه اشترط على المُعلم ألا حذقة عليه سوى إخراجه، فيُسقطها الشرط عنه، فأما إذا سكتا [٧٨-أ] عنهما، فهي تجب كما فَسَّرتُ لك، اشترَطَها المُعلم أو لم يشترطها؛ وإنما يختلف الحُكم في اشتراطها أو غير اشتراطها، إذا أراد الرجل أن يُخرِج ولده قبل الحذقة. فإنه إذا اشترطها المُعلم، مثل أن يقول: أُعلِّمه على درهم في كل شهر، أو في كل شهرين، وعلى أن لي في الحذقة كذا وكذا، كان للأب أن يُخرجه إن شاء، وكان عليه من الحذقة على قدر ما قرأ منها، ولو لم يقرأ منها إلا الثلث أو الربع، كان عليه منها بحساب ذلك، لاشتراطه فيها ما سُمِّيَ مع خراجه؛ ولو كان شارَطَه على أن يُحذقه ولو كذا وكذا، لم يكن لأب الغلام أن يُخرِجه حتى يتمَّ حذقته.
قال أبو الحسن: أما صبيٌّ هذا وصف ما تعلَّم، فما تعلَّم شيئًا، وقد قدَّمنا أن هذا لا يجب للمُعلم فيما عَلَّمَه جُعْل، وفسَّرنا الواجب عليه قبل هذا عند العلماء.
وأما قول ابن حبيب: إنَّ الحُكم بها عنده بمنزلة هدية العرس، قال: ونحن نرى أن يحكم بها، فاعلم أن هدية العرس قد قيل لمالك: فهدية العرس إذا طلبَتْها المرأة وأبى الزوج، قال مالك: لا أرى لها فيه حقًّا، ثم قال: قال الله عز وجل: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (النساء: ٤) فليس الهدية من الصداق، ولا أرى فيه حقًّا، ولا أرى ما نَحَلها عند اختلائه يلزَمُه. فقيل لمالك: فإن الذي عندنا في هدية العرس، مما يَعمل به جل الناس، حتى إنه ليكون في ذلك الخصومات، أفتَرَى أن يقضي به؟ فقال: إذا كان [٨٢-ب] قد عرف من شأنهم وهو عملهم، لم أرَ أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدَّم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرًا قد جرَوا عليه. قال ابن القاسم: وقد قال مالك مثل هذا: لا أرى لهم ذلك إلا أن يشترطوه، وهو أحبُّ قَولْيه إليَّ. قال أبو الحسن: فانظر كيف وقع جواب مالك رحمه الله، أولًا في هدية العرس واحتجاجه على ذلك بما في كتاب الله، فلمَّا وصفوا له ما جرى في أكثر الناس قال: إذا كان قد عُرِف ذلك من شأنهم، وهو عملهم، لم أرَ أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدَّم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرًا قد جرَوا عليه؛ فبيَّن مالك رحمة الله عليه أن ما اشتهر الناس وجرَوا عليه من ذلك، أن الزوج مأخوذ به، لأنه عليه قدم. وهكذا يجب أن يكون العمل في المُعلمين، ما جرى في الناس سُنَّة لهم جائزة، أن آباء الصبيان [٨٣-أ] مأخوذون به لهم، إذا على ذلك جاء الآباء بأبنائهم، وعليه قعد المُعلمون لصبيانهم؛ على أن هدية العرس إنما هي شيء يُقدَّم للمرأة عند الدخول بها، لتدخُل به، فالانتفاع بالمرأة مُستقبل، وانتفاع الصبيان بالمُعلم قد نالوه في القدر الذي علَّمَهم إيَّاه، فبأيِّ وجهٍ يطرح ذلك عن آباء الصبيان، وهم مأخوذون بجميعه، إذا استكملوا الختمة على شرطهم من ظاهر أو نظر؟ إنما استحبَّ ابن القاسم الأخذ في هدية العرس بالأول من قول مالك، من قِبَل أنَّ عقد النكاح قد وجب، واستحلال الفرْج قد ثبت بالصداق المُسمَّى، لا خيار للمرأة بعد في التمادي على ذلك. والمُعلم ما لزِمه ذلك، إذا لم يُشتَرَط عليه. وكذلك آباء الصبيان إذا لم يكن عليهم شرط يَمنعهم من إخراج أبنائهم، لم يلزمهم التمادي، فليس لهم من ذلك مثل ما للزوج [٨٣-ب] والزوج أيضًا لو اختار الفراق قبل البناء، وجب عليه نصف الصداق، وهو ما انتفع منها بشيء، وإن كان لم يفرض لها شيئًا قبل الطلاق، لم يُفْرَض لها بالطلاق شيء، وصار أمرها إلى المُتعة التي لا يُحكَم بها، إذ هي حق على المُحسنين، وعلى المُتقين، فيمن دخل بها، فلأن اسم التكارُم مما لا يُحكَم به. فأما ما يُوجِب الحكم، فالتكارُم فيه لمن يريد، على الواجب عليه، وإنما المُتعة عوض للزوجات من أشياء منه كنَّ يُؤمِّلنها. وأخذ المعلم إنما هو عن شيءٍ عمله، فهو بما شبَّهناه من الجَعالة، ومن مكافأة الهبة للثواب أشبه، وفي بابها أدخل. وقد أجرَوا مسائل منه على معاني البيوع.
قال سحنون: وقد سُئلَ بعض علماء أهل الحجاز منهم ابن دينار وغيره، أن يستأجر المُعلم جماعة، وأن يُقرض على كل واحدٍ ما ينوبه [٨٤-أ] فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة، ولا بدَّ للناس منه، وهو أشبه. وقال: هو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدَين من رجُلَين، لكل واحدٍ عبد، وإنما ذلك بمنزلة البيع، في كتاب ابن سحنون؛ وابن القاسم لا يُجيز هذه الإجارة؛ لأنه لا يُجيز ذلك في البيع، والله أعلم.
قال أبو الحسن: نعم قد منع ابن القاسم من جوازه في البيع، وفي الإجارات، إذا لم يكن معلومًا؛ ومنع أيضًا أن يُجمَع في النكاح بعقدٍ واحدٍ وصداقٍ واحد، على امرأتَين أو أكثر، إذا لم يُسَمِّ لكل واحدةٍ صداقها على حِدَته. وما عَقْدُ هذا المعلم على الصبيان الذين آباؤهم شتَّى، إلا من هذا الباب، يجري فيه كله الاختلاف؛ وليس هذا مَوضع التكارُم الذي بنى عليه ابن حبيب، وذكر أنه كاشَفَ عن ذلك أصبغ وغيرَه من أهل العلم والفقه، ونكَّب عن اسم مُطرِّف وابن الماجشون. ولو كان عنده منهما لبدأ بهما وبِمَن عنده عنه [٨٤-ب] من ذلك شيء منهما، أو بعبد الله بن عبد الحكم لو كان عنده منه شيء. وقد تقدَّم ما عنده من رواية مطرف، عن مالك وغيره من علماء أهل المدينة، وهو مُخالف لما بنى عليه حسب ما بيَّنَّا. والله أعلم، وهو ولي المُتقين.
وما أرى سحنون قصد لما قاله: فمن لم يُقارِب الختمة، ممَّن لم يشترط، فأخرجه أبوه، أنه لا شيء عليه، إلا أنه كان هو المفهوم عنده من قول المُغيرة وابن دينار الذي قد تقدَّم، والله أعلم. وقد قدَّمت البيان عن ذلك وجواب مَسائلك في هذا المعنى، قد أتى عليه جميع ما وصفنا، واضح لا إشكال فيه عليك ولا على غيرك، إن شاء الله.
ومسألتك في الذي عَلَّمه مُعلم بعض القرآن، ثم خرج من عنده إلى مُعلمٍ آخر استكمل عنده الختمة، يجري على ما بيَّنتُ لك: يكون للمُعلم الأول بمقدار ما علَّم نصفًا ونصفًا، أو ثُلثًا وثلثين، أو رُبعًا وثلاثة أرباع، ينظر الحاكم فيما يجب [٨٥-أ] على أبي هذا الصبي في الختمة كلها، على قدر يُسره وعُسره، وما انتهى إليه ولدُه من الفهم فيما تعلَّم. فإذا عرف مُنتهى ذلك الجُعل، غَرِمَه أبو الصبي، واقتسمه المُعلمان، على قدْر عناء كل واحدٍ منهما، وما وصل إلى الصبي من نفع تعليمه، يجتهد في ذلك. وربما جعل للأول جميع ذلك، أو يَنقص منه قليل، فيعطي للثاني، وذلك إذا كان الأول قد بلغ من تعليم الصبي إلى مقاربة الختمة نظرًا أو استظهارًا، حتى بلغ من الحذق في ذلك إلى الاستغناء عن المُعلم، فكان خروجه إلى الثاني لا يزيد علمًا في تعليمه، فأي شيءٍ يكون لهذا؟ إلا أن يكون له شيء في إمساكه وحياطته للصبي، فذلك ليس على الأول منه شيء، وقد يكون له في كتابة ما بقِيَ عليه، وإن كانت سورة البقرة، زيادة قوة غرض ينتفع به، فهذا يجتهد له فيما يعطي من ذلك الجعل؛ وقد يكون الجعل يجب للثاني كله، وقلَّ ما ينال منه الأول، وذلك أن يبتدئ في تعليم الصبي، فقلَّ ما لبِث عنده، حتى أُخرِج عنه ولم [٨٥-ب] ينَلْ من التعلُّم شيئًا له فيه منفعة، لعِوَج قراءته في سُوَرٍ يسيرة تعلَّمها، ولا خطَّ ولا هجاء، فأي شيءٍ يستأهل هذا في التعليم؟ ولو كان قد نال الصبي من فَهْم ما عُلِّم شيئًا، وعرف ما هو، لأخذ المُعلم بمقدار ذلك. فإن كان فيه مرفق للمُعلم الثاني بما نبَّه منه المُعلم الأول، وخروجه فيه، نقص ما يصيب ذلك القدْر من جُعل الختمة، فيأخذ الأول، ويدفع سائر الجُعل إلى الثاني. وإن تبيَّن أن ليس للثاني مرفق على حال بما علمه الأول، لم ينقص من الجُعل شيئًا، وكان ذلك على أبي الصبي؛ لأنه باختياره نزَعَه من عند الأول. وكل هذا مفاد قول مالك الذي ذهب إليه.
وأما سحنون فقال: إن علَّمه الأول إلى يونس، فالختمة للثاني. وإن جاوز الأول ذلك إلى ثُلثَين أو زاد على ثلثَين في معنى ما قال، لم يقضِ للثاني بشيء. قال: وأستحسن أن يرضخ له بشيءٍ استحسانًا، وليس بالقياس. وهذا على أصل الذي قدَّمت لك وصفَه، وعرَّفتُك [٨٦-أ] وجه مذهبي فيه.
وأما سؤالك عن مُعلِّم قومٍ نزل بهم ما اضطرَّهم إلى الرحيل، فرحلوا: بعضهم إلى مكان وبعضهم إلى مكان آخر، أو رحل بعضهم، وثبت بعضهم في البلدة. ما يصنع هذا المُعلم؟ فالجواب أن ينظُر إلى ما عاقدَهم هذا المُعلم عليه، فإن كان إنما جلس على المُشاهرة شهرًا بشهر، أو سنةً بسنة، فالحُكم فيه أن يترك تعليمهم متى شاء، ويتركوه متى شاءوا، والحُكم بينهم فيما قد علَّم لهم، على ما قد بيَّنَّا قبل هذا، في الذي له أن يُخرِج ولده. ولا يُلتفَت في هذا العقد إلى خروجهم كان بغلبةٍ أو بغير غلبة. إنما للمُعلم بقدْر ما علم، رحلوا عنه، أو رحل عنهم. ولو كان عقد معهم على سنةٍ بعينها، أو أشهُر بأعيانها، نظر فيما نزل بالقوم، فإن كان ما لا يجدون معه ثباتًا، ولا بدَّ لهم من الرحيل عنه، لما نزل بهم من بلاء لا يطيقونه بفتنةٍ أو مجاعة، فهُم في رحيلهم مَعذورون، وليس عليه أن يتبعهم في الأسفار، لم يستأجروا على [٨٦-ب] ذلك. فإن رجعوا في بقيةٍ من المدة، رجع إليهم في تلك البقية، وسقط عنهم من الأجر بحساب الأيام التي حِيل فيها بينه وبينهم؛ لأنهم لم يمنعوه من السَّير معهم، ولا مَسَكوا أولادهم عنه طوعًا، وليس عليهم أن يستكملوا له الأجر، وهو لم يستكمِل عمَل الأجل، ولو كان قد حاسبَهم عند رحيلهم وفاسَخَهم، لم يلزَمه إنْ رجعوا بقيةً من المدة، أن يرجع إليهم؛ وإن كان رحيلهم طوعًا، فليس لهم أن ينقُصوا إجارته. فإن أحبُّوا الرحيل بأولادهم دفعوا إليه أجره كاملًا، وصنعوا ما شاءوا. فإن رحل بعضهم مَقطوعين، وثبت بعضهم، فالحُكم بينه وبين الراحِلين كما تقدَّم في رحيل جميعهم مُتطوِّعين، ويلزمه وفاء الأجل للثابتين، ولو لم يثبُت منهم إلا واحد؛ لأنه يأخذ أجرَه كاملًا، وتخفُّ عنه مئونة من غاب عنه ما دام غائبًا. وأما إن كان رحيل من رحل عن قهرةٍ غلبته على ذلك فذهب بولده، فهو عندي عُذر تنفسِخ به الإجارة بينه وبين الراحِلين، ويُحاسبهم، ثم ينظُر فيمن بقي ممن لم يرحل، فإن كانوا هم الأكثر، ولم ينتقِص عليه ما يضربه، فهو يُوفِّي الثابتين أجلَهم. وإن وجد من يُعلمهم مكان الراحلين كان له ذلك، إذ لا مضرَّة على المُقيمين في ذلك. وأما إن كان الراحلون هم الأكثر ولم يبقَ من المُقيمين إلا من عليه في الثبات معهم المضرَّة البيِّنَة، فهو عندي عُذر له، إن شاء أن يُفاسِخهم فعل، وإن شاء أن يثبت معهم فعل، وله إن وجد عِوضًا من الراحلين فيُعلمهم، ولا يمنع من ذلك أيضًا.
وأما إن مات المُعلم فالإجارة مُنفسخة، لا يستأجر من ماله مَنْ يُعلِّم مكانه، وله من الإجارة بحساب ما علَّم من الأجل، ومَنْ جعل الختمة بمقدار ما علَّم من القرآن حسب ما تقدَّم [٨٧-ب] تفسيره؛ وكذلك إذا مات الصبي سواء، إنما للمُعلم من الإجارة بحساب ما علَّم، وكذلك من جُعل الختمة.
وأما إذا مات أبو الصبي فلا تنفسِخ الإجارة، ولكن إن كان لم يقبض المُعلم شيئًا فهو يأخُذ من تِركة الميت حساب ما مضى، وما بقي من الأجل فيما ينوبه، يؤخَذ من مال الصبي إن كان له مال ورِثَه من أبيه، أو من غير ذلك، وإن كان لم يكن للصبي مال، فللمُعلم أن يفسخ الإجارة، إلا أن يشاء أن يتطوَّع للصبي بذلك، ولا يتبعه بشيء رجاء أن يتيسَّر. هذا لا يُلْزِمُ الصبي، وإن أبى المُعلم من التطوُّع، فتطوَّع غيره من أولياء الصبي، أو من غيرهم، بأن يدفع ذلك للمُعلم، ثبتت الإجارة ولم تُفسَخ، والله ولي التوفيق.
وأما سؤالك عن صبيٍّ أدخلَه أبوه الكُتَّاب بغير شرط، هل يلزَمه ما يلزم صبيان الكُتَّاب؟ وربما [٨٨-أ] كان الشرط يختلف؛ وعن يتيمٍ رمى نفسه في الكُتَّاب، فهل يُؤخَذ منه مثل ما يُؤخَذ من غيره؟ قال أبو الحسن: إن كان لليتيم مال لزِمه في ماله مثل ما يُؤدي مَنْ هو مثله، وكذلك الأب يُؤدي عن ابنه مثل ما يُؤدي مِثله، وذلك هو إجارة المِثل، اختلف الشرط أو لم يختلف. إنما يحتاج إلى ذِكر اختلاف الشرط عن إسلام الصبي للكُتَّاب، فيُقال له: نؤدي إليك كما تأخذ من غيرنا في الشهر. فهنالك ينبغي ألا يعقد على هذا الإجارة، حتى يُبين كيف أخذه من الصبيان على اختلافه. وأما إن كان ليس لليتيم مال، فعلَّمه المُعلم، فليس له عليه أجر، هو متطوع في ذلك، ليس له أن يتبعه به. وأما إن أتت بالصبي أمه إلى المُعلم أو غيرها من الناس، فسأله تعليمه، فهو المطلوب [٨٨-ب] بإجارة التعليم إن كان ليس لليتيم مال، إلا أن يُبين الذي جاء به المُعلم أنه ليس له مال، ولا له مَنْ يُؤدي عنه، فحينئذٍ ليس للمُعلم أن يطلُب منهم إجارة.
وأما قولك في المُعلم: كيف يُشارطهم؟ فقد تقدَّم في نصوص المسائل شرح ذلك عن مالك وعن غيره؛ وشرطكم الذي ذكرت أنه يقع على الغنم، فإذا كانت الغنم مؤجَّرة لم يجُز إلا أن تكون مضمونة، على صفةٍ معلومة، إلى أجل معلوم، يجوز في مِثله السَّلم، مثل ما إذا أوجر نفسه بها في خدمة، وشرع في العمل؛ وكذلك المُعلم إذا شرع في التعليم، أو كانت إجارته أجلًا معلومًا، فإذا حلَّ أجل الغنم، جاز أن يقبض من المَعز ضأنًا، ومن الضأن معزًا، وأما إذا لم يحل الأجل، لم يصلُح أن يأخذ غير شرطه، كما لا يصلح في البيوع. وكذلك لو استأجر [٨٩-أ] نفسه بطعامٍ مضمون، أو بطعامٍ بعَينه على الكيل، لم يجُز له أن يبيع شيئًا من ذلك حتى يستوفيه.
وأما سؤالك عمَّا وجب في ذلك من الدِّية على العاقلة كيف الأمر فيها، وليس بجاريةٍ عندنا، ولم تُبيِّن لِمَ لَمْ تكن جارية عندكم، فإن كنت ترى أنه ليس لكم عواقل مضبوطة، ولا تقدرون أن تُحيطوا بذلك، ولا تعرفوه، فإن القول فيمَن لا عاقلة له، أنَّ جنايته في بيت مال المُسلمين، وعلى الجاني في قتل الخطأ عتق رقبة.
وإن كنت تريد أن الحُكم بها ضُيِّع عندكم، وأما العواقل فمعروفة، فاعلم أن المُعاقلة إنما كان أصلُها في العرب [٩١-ب] لحملِها فخُذ الجاني إن أطاقوا ذلك، وإن لم يُطيقوه ضُم إليهم أقرب الأفخاذ إليهم، ثم الأقرب إليه، فإن فرغَت القبيلة، ولم تُطِق حمل الدِّية فتضم إلى القبيلة أقرب القبائل منها. وكذلك جرى في الإسلام أمرهم. وإنما تَضُم إلى هذه العاقلة مَنْ يحمل معها ممَّن وصفْنا، مَنْ كان إقليمه الإقليم الذي فيه الجاني لأنَّ ديوانهم واحد، ليس بضم المصري إلى الشامي، ولا إلى الإفريقي. فإن ضبطتُم عواقلكم، وصحَّت عندكم، وثبتت لدَيكم، فهكذا يكون انضمام الأفخاذ والقبائل في حمْل العاقل، ليس بضم إلى فخذ الجاني ولا إلى قبيلته من هو في جواره، إذا كان نسبُه غير نسبه. وكذلك لا يضمُّ إليه مَنْ كان من نسبه إذا كان إقليمه من غير إقليمه. فافهم ما وصفتُ لك، واستعِنْ بالله.
وسألتَ هل يؤدِّب الرجل امرأته؟ فاعلم: أنَّ أدبه إيَّاها [٩٣-أ] مأخوذ من كتاب الله. وذلك قوله عز وجل وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (النساء: ٣٤). فكذلك كل شيء يجب عليها أن تُطيعه فيه، إذا كان هو مُؤديًا إليها حقوقها، وسالمًا من ظلمها، فله أن يؤدِّبها عليه. وأدَبُه إيَّاها يكون بقدْر استئهالها. وكذلك قال فيه العلماء. فإن ضربها على وجه التأديب لها ففقأ عينها، أو أعنَتَها، إن ذلك من الخطأ، تحمِل العاقلة ما بلغ الثلث منه فصاعدًا، وإن أنكرَتْه ما ادَّعاه قبلها من خلافه، فهذا لا ينتهي منها إلى ما يُوجب من ضربها وإلا ولا بدَّ أن يُسمَع في الأهلين والجيران؛ لأن أدبه إيَّاها ليس يقع في أول مرة، فإن ادَّعى عليها ما لم يُسمَع منها، وما لم يُعرَف به عند أحد من الأهلِين ولا الجيران [٩٣-ب] وظاهرها الصحة والسلامة، لم يُقبَل قوله عليها. وينبغي له إذا كانت هذه صفتها، أن يُطْلِع — على ما يَنسِبه إليها — مَنْ يُوثَق به من الأهل والجيران، قبل أن يظهر عليه بسط يدِه إليها. فإن لم يُمكنه أن يُظهِر عليها ما ينسِبه إليها، فقد ابتلى، فإن شاء تماسك بها على ما يرى، ويؤدبها إن حَقَّ له أدب مأمورًا عليها، ولا يتجاوز فيه أدبه لها، كأدب المُعلم لصبيانه، سالمًا من العطب والحميَّة، لأنه إنما يؤدِّبها لمُصلِحها له ولنفسها.
وسألتَ عن الوالد يشكو ولده الكبير، ويذكر عنه أنه يعقُّه، ويعقُّ أمه، فاعلم — رحمك الله — أن الولد إذا احتلم، وملك أمره، فقد ارتفع عنه نظر والده، وبقِيَ على الولد حق الوالدَين، فعليه أن يُوفِّيهما أو مَنْ كان معه منهما ما ألزمه الله عز وجل منهما. فإنه عزَّ وجل يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [٩٤-ب] إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء: ٢٣-٢٤). فإذا رأيتَ والدًا يشكو ولده، فاقرأ على ولده القرآن وفَهِّمْه ما عليه لوالده، في لينٍ ورفق، لعلَّه يتذكَّر أو يخشى، وحذره عقوق والديه، فإن الرسول عليه السلام عدَّ عقوق الوالدين مع الكبائر التي تُدخِل النار. فأما أن يُؤخَذ بقول والده، أو يُحكَم بذلك عليه، فلا. ولكن إن كان والده من أهل الصلاح، ويؤمَن منه أن يكون فيه انحراف لولد غيره، أو إلى زوجةٍ له غير أُمِّه، فيعرف الولد أن أباه لا يُتَّهَم عندنا بالكذب، ولا سبيل إلى سُوء الظن به فيك. وهو إن لم تجرِ عليك الأحكام [٩٥-أ] بقوله، فإن قوله فيك السوء يُزري بك، ويَمقُتك، ويُنَفِّر عنك القلوب، وترى بعين الجهالة والسَّفَه. فإن كان هذا الولد من أهل المروءة والقناعة، فيُستَنْهى ويتأبَّخ ويستشعر الصبر على والديه. وإن كان من أهل السَّفه والجهالة والمُرادَّة، نظر فيه حاكم المسلمين العدل بحُسن النظر، وزجَرَه عما لم تقُم به عليه بيِّنة، إلا شكوى الأب، بعض الزجر. ورُبَّ والدٍ يكون السَّفَه صفته وله الولد الحليم، فيعتو عليه والده بسَفَهِه، فلا يُقبل منه، ولا يُطاع فيه، ويُزجَر عنه حتى يَكُفَّ أذاه. ولك في هذا الوصف مُقنِع ممَّا سألتَ عنه إن شاء الله.
ذكر سؤاله عن قول الرسول عليه السلام نزل القرآن على سبعة أحرف٨٨
وسألت عن تفسير: أُنزِل القرآن على سبعة أحرف. فاعلَم أن المُراد منه مفهوم في نصِّه، كما جاء عن عمر بن الخطاب [٩٥-ب] رضي الله عنه، قال سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها عليه، وكان رسول الله ﷺ أقرأنيها، فكدتُ أن أُعجِّل عليه، ثم أمهلتُه حتى انصرف، ثم لببتُهُ بردائه، فجئتُ به رسول الله ﷺ. فقلت: يا رسول الله إني سمعتُ هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتَنيها. فقال له رسول الله ﷺ: اقرأ. فقرأ القراءة التي سمِعتُه يقرأ. فقال ﷺ هكذا أُنزِلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت. فقال: هكذا أُنزِلت، إن هذا القرآن أُنزِل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منه. فبيَّنَ ﷺ بقوله، فاقرءوا ما تيسَّر منه أنها [٩٦-أ] سبع قراءات، في كل واحدةٍ منها ألفاظ مُخالفة لما في الأخرى، فليقرأ كل امرئٍ بما تيسَّر منه من هذه السبعة. وقد تختلف الألفاظ في القراءة في كلمةٍ والمعنى فيها واحد. وقد تختلف المعاني فيها باختلاف الألفاظ في قراءتها. والقراءتان المشهورتان الثابتتان عن من نُسِبتا إليه، ممن وجبت إمامته، وصحَّت ثقته، بمنزلة الآيتَين عند حُذَّاق المُقرئين، تُفسِّر إحداهما الأخرى، أو يُخالف معناها فتكون إحداهما ناسخةً للأخرى؛ فلينشرح صدرك إلى ما قرأ به أئمة المُسلمين المَشهورون، الذين سَلَّم لهم أهل الأمصار الجامعة ما تقلَّدوه، ووثقوا بهم فيما رَوَوه، فما منهم إلا مَن قراءته حسنة [٦٩-ب] مُسَلَّم بها ويُحتَج بها، ونكِّبْ عن غيرهم، فإنه ليس لما جاء به قوة كقوتهم. وهؤلاء الأئمة هم: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، إمام القرَّاء بالمدينة؛ وعبد الله بن كثير إمام القرَّاء بمكة؛ وعبد الله بن عامر إمام القرَّاء بالشام؛ وأبو عمرو بن العلاء إمام القراء بالبصرة. وثلاثة منهم بالكوفة، وهم عاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي؛ وليس هو حمزة المُقرئ. فقد عرَّفتُك بأسمائهم وبلدانهم لئلَّا يشتكل عليهم غيرهم بهم، ومع هذا فأنت بطرفٍ بعيد فلا تقبلنَّ غير ما تعرِف إلا من المأمونين. وقد قال مالك رحمه الله: قراءة نافع حسَنةٌ ولم يضيق غيرها [٩٧-أ] ولا كره خلافها، إلا ما شذ، وخرج على المُتواطأ عليه. وقد قدَّمتُ لك ما في كتاب سحنون من استحسان قراءة نافع، والتوسِعة في غيرها، ما لم يكن مُستبشعًا. فافهم. واستمسِك بهدي المُتقين. عصَمَنا الله وإياك من الفتنة في الدين، وأعاذنا من شرِّ الفاتنين والمَفتونين، وختم لنا بما يُرضيه عنَّا، ليُميتنا عليه، فيدخلنا برحمته في عباده الصالحين آمين رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله، بتاريخ ثامن عشر ذي القعدة سنة ستٍّ وسبعمائة.
تم الجزء الأول والثاني والثالث من المُفصلة لأحوال المُعلمين وأحكام المُعلمين والمُتعلمين، [لأبي الحسن القابسي] رحمه الله، ودعا لصاحبه بالمغفرة ولجميع المسلمين.
ذكر لنا بعض أصحابنا أنه سُئل الفقيه أبو عمران الفاسي رحمه الله عن حذقات القرآن. فأجاب في ذلك بأن قال: لولا أنه أمْرٌ لم يسبقني إليه أحد لجعلتُ في آخر كل سورة حذقة.
(٢) آداب المُعلمين لابن سحنون
ما جاء في تعليم القرآن العزيز
قال أبو عبد الله محمد بن سحنون: حدثني أبي سحنون، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: أفضلكم من تعلم القرآن وعلَّمه.
محمد عن أبي طاهر، عن يحيى بن حسان، عن عبد الواحد بن زيادة، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ خيركم مَنْ تعلم القرآن وعلَّمه.
محمد عن يعقوب بن كاسب عن يوسف بن أبي سلمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن ابن هرمز، عن عبد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: يرفع الله بالقرآن أقوامًا.
عن سحنون، عن عبد الله بن عبد الله بن نافع قال: حدثني حسين، عن عبد الله بن حمزة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: عليكم بالقرآن فإنه ينفي النفاق كما تنفي النار خبث الحديد.

موسى عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال رسول الله ﷺ: إن لله أهلين من الناس. قيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: هم حملَة القرآن، هم أهل الله وخاصته.
عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: أُنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منه.
قال حدَّثَني موسى بن معاوية الصمادحي، عن سفيان، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن حذيفة، قال: قال رسول الله ﷺ: من قرأ القرآن بإعرابٍ فله أجر شهيد.
وحدَّثني عن الزهري أحمد بن أبي بكر، عن محمد بن طلحة، عن سعيد بن سعيد المغربي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: مَنْ تعلم القرآن في شبيبته اختلط القرآن بلحمه ودمِه، ومَنْ تعلم في كِبَره وهو يتفلَّت منه ولا يتركه، فله أجره مرَّتَين.
وحدَّثني أبو موسى، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أسد ابن وداعة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في قول الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (فاطر: ٣٢) قال: كل مَنْ تعلم القرآن وعلَّمه فهو مِمَّن اصطفاه الله من بني آدم.
وحدَّثونا عن سفيان الثوري، عن العلاء بن السائب قال: قال ابن مسعود: ثلاثٌ لا بدَّ للناس منهم، لا بدَّ للناس من أمير يحكم بينهم ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضًا؛ ولا بدَّ للناس من شراء المصاحف وبيعها ولولا ذلك لقلَّ كتاب الله؛ ولا بدَّ للناس من مُعلم يُعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرًا ولولا ذلك لكان الناس أُمِّيين.
ابن وهب عن عمر بن قيس، عن عطاء: أنه كان يُعلِّم الكتاب على عهد معاوية ويشترط. ابن وهب عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أآخذ الأجر على تعليم الكتاب؟ قال: أعلمتَ أن أحدًا كرَّهه؟ قال: لا. ابن وهب عن حفص بن ميسرة، عن يونس، عن ابن شهاب: أن سعدًا بن أبي وقاص قدِم برجل من العراق يُعلِّم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. قال ابن وهب، وقال مالك: لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئًا كان حلالًا جائزًا؛ ولا بأس بالاشتراط في ذلك وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدِنا في المُعلمين.
ما جاء في العدل بين الصبيان
حدَّثني محمد بن عبد الكريم البرقي، قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم العمري، قال: حدثنا آدم بن بهرام بن إياس، عن الربيع، عن صُبيح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: أيما مؤدِّب ولَي ثلاثة صبية من هذه الأمَّة فلم يُعلمهم بالسوية، فقيرهم مع غنيهم، وغنيهم مع فقيرهم، حُشِرَ يوم القيامة مع الخائنين.
عن موسى، عن فضيل بن عياض، عن ليث، عن الحسن قال: إذا قوطع المُعلم على الأجرة فلم يعدِل بينهم — يعني الصبيان — كُتب من الظَّلَمَة.
باب ما يُكره محوُه من ذكر الله تعالى وما ينبغي أن يُفعل من ذلك
حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود، عن زيد بن ربيع، عن بشر بن حكيم، عن سعيد بن هارون، عن أنس بن مالك قال: إذا محت صِبية الكُتَّاب تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الواقعة: ٨٠) من ألواحهم بأرجُلهم، نبذ المُعلم إسلامه خلف ظهره، ثم لم يبالِ حين يلقى الله على ما يَلقاه عليه.
قيل لأنَس: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم؟ قال أنس: كان المؤدِّب له إجَّانة، وكل صبي يأتي كل يوم بنَوبته ماءً طاهرًا فيصبُّونه فيها، فيمحون به ألواحهم؛ قال أنس: ثم يحفرون حفرةً في الأرض، فيصبُّون ذلك الماء فيها فينشف.
قلت: أفتَرَى أن يُلعَط؟ قال: لا بأس به، ولا يُمسَح بالرِّجْل، ويُمسح بالمنديل وما أشبهه. قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكُتَّاب من المسائل؟ قال: أمَّا ما كان من ذِكر الله فلا يمحُه برِجْله، ولا بأس أن يُمحى غير ذلك مما ليس من القرآن.
وحدثنا عن موسى عن جويبر بن منصور قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفته مداد؛ قال: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعَطه، يعني يلعقه.
ما جاء في الأدب وما يجوز من ذلك وما لا يجوز
قال: وحدثنا عن عبد الرحمن: عن عبيد بن إسحاق، عن يوسف بن محمد، قال: كنت جالسًا عند سعد الخفَّاف فجاءه ابنه يبكي فقال: يا بني ما يُبكيك؟ قال: ضربني المُعلم. قال: أما والله لأُحدِّثنكم اليوم: حدَّثني عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: شرار أُمتي مُعلِّمو صبيانهم، أقلهم رحمةً لليتيم وأغلظهم على المسكين.
قال محمد: وإنما ذلك لأنه يضربهم إذا غضب، وليس على مَنافعهم؛ ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يُجاوز بالأدب ثلاثًا، إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدًا. ويؤدبهم على اللعِب والبطالة ولا يجاوز بالأدب عشرًا، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثًا.
قلت: لِمَ وقَّت عشرًا في أكثر الأدب في غير القرآن، وفي القرآن ثلاثة؟ فقال: لأن عشرة غاية الأدب؛ وكذلك سمعتُ مالكًا يقول: وقد قال رسول الله ﷺ: لا يضرب أحدُكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حدٍّ.
قال محمد: وحدَّثنا يعقوب بن حميد، عن وكيع، عن هشام بن أبي عبد الله بن أبي بكر عن النبي ﷺ قال: لا يحل لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يضرِب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ.
حدَّثنا رباح، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: بلغني أن رسول الله ﷺ قال: أدَبُ الصبي ثلاثَ دِرَر، فما زاد عليه قُوصِصَ به يوم القيامة؛ وأدب المُسلم في غير الحد عشرة إلى خمس عشرة فما زاد عنه إلى العشرين يُضرب به يوم القيامة.
قال محمد: وكذلك أرى ألا يضرب أحدٌ عبدَه أكثر من عشرة، فما زاد على ذلك قُوصِص به يوم القيامة إلا في حَدٍّ، إلا إذا تكاثرَتْ عليه الذنوب، فلا بأس أن تضربه أكثر من عشرة، وذلك إذا كان لم يَعِفَّ عما تقدَّم؛ وقد أذن النبي ﷺ في أدب النساء. ورُوي أن ابن عمر رضي الله عنهما ضرب امرأته. وقال النبي ﷺ: يؤدِّب الرجل ولدَه خير له من أن يتصدق. وقد قال بعض أهل العلم: إن الأدب على قدر الذنب، وربما جاوز الأدب الحد، منهم سعيد بن المُسيب وغيره.
ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمُعلم
وسألته متى تجب الختمة فقال: إذا قاربها وجاوز الثلثَين؛ فسألته عن ختمة النصف، فقال: لا أرى ذلك يلزم. قال سحنون: ولا يلزم ختمة غير القرآن كله لا نصف ولا ثلث ولا ربع، إلا أن يتطوَّعوا بذلك.
قال محمد: وحضرتُ لسحنون قضى بالختمة على رجل؛ وإنما ذلك على قدر يُسر الرجل وعُسره. وقيل له: أترى للمُعلم سَعة في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم.
قلت: وما أهدى الصبي للمُعلم أو أعطاه شيئًا فيأذن له في ذلك؟ فقال: لا، إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز له إلا بإذن الآباء، قال: ومن هنا سقطت شهادة أكثر المُعلمين؛ لأنهم غير مُؤدِّين لما يجب عليهم، إلا مَنْ عصم الله.
قال لي: هذا إذا كان المُعلم يُعلِّم بأجرٍ معلوم كل شهر أو كل سنة، وأما إن كان على غير شرطٍ فما أُعطِيَ قَبِلَ، وما لم يُعْطَ لم يسأل شيئًا، فله أن يفعل ما شاء، إذا كان أولياء الصبيان يعلمون تضييعه فإن شاءوا أعطَوه على ذلك، وإن شاءوا لم يُعطوه.
ما جاء في القضاء بعطية العيد
قلت: فعطية العيد يقضي بها؟ قال: لا، ولا أعرف ما هي إلا أن يتطوَّعوا بها. قال: ولا يحلُّ للمُعلم أن يُكلِّف الصبيان فوق أُجرته شيئًا من هدية وغير ذلك، ولا يسألهم في ذلك، فإن أهدَوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف، فإن لم يفعلوا فلا يضربهم في ذلك، وأما إن كان يُهدِّدهم في ذلك، فلا يحلُّ له ذلك؛ أو يُخليهم إذا أهدَوا له، فلا يحلُّ له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية، وهو مكروه.
ما ينبغي أن يُخلِّي الصبيان فيه
قلت له: فكم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ قال: الفطر يومًا واحدًا ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام، والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذن لهم خمسة أيام.
قلت: أفيُرسِل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ قال: لا أرى ذلك يجوز له إلا أن يأذن له آباؤهم أو أولياء الصبيان في ذلك، أو تكون المواضع قريبةً لا يشتغل الصبي في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب الصبيان ويُخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا.
قال: وأُحِب للمُعلم ألا يولي أحدًا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفًا منهم إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعرَف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس بذلك، وأن يُعينه فإن ذلك منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك، ولْيَلِ هو ذلك بنفسه، أو يستأجر مَنْ يُعينه، إذا كان في مثل كفايته.
ما يجب على المُعلم من لزوم الصبيان
ولا يحلُّ للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكون في وقتٍ لا يعرضهم فيه، فلا بأس أن يتحدَّث وهو في ذلك ينظُر إليهم ويتفقَّدهم.
قال وليلزم المُعلم الاجتهاد وليتفرَّغ لهم، ولا يجوز له الصلاة على الجنائز، إلا فيما لا بدَّ له منه ممَّن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عمله ولا يتبع الجنائز ولا عيادة المرضى.
قلت: فهل ترى للمُعلم أن يكتب لنفسه كتب الفقه أو لغيره؟ قال: أما في وقت فراغه من الصبيان فلا بأس أن يكتب لنفسه وللناس، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب، وأما ما داموا حوله فلا، ولا يجوز له ذلك؛ وكيف يجوز له أن يخرج مما يلزمه النظَر فيه لما لا يلزمه؟ ألا ترى أنه لا يَجوز له أن يُوكِل تعليم بعضهم إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم؟
قلت: فيأذن للصبي أن يكتُب إلى أحد كتابًا؟ قال: لا بأس به، وهذا مما يُخرِّج الصبي إذا كتب الرسائل. وينبغي أن يعلمهم الحسابَ، وليس ذلك بلازِمٍ له إلا أن يُشترط ذلك عليه، وكذلك الشِّعر، والغريب، والعربية، والخط وجميع النحو؛ وهو في ذلك مُتطوِّع.
وينبغي له أن يُعلمهم إعراب القرآن وذلك لازم له، والشكل، والهجاء والخط الحسَن، والقراءة الحسنة، والتوقيف، والترتيل، يلزمه ذلك. ولا بأس أن يُعلِّمهم الشِّعر مما لا يكون فيه فحش من كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجبٍ عليه.
ويلزمه أن يُعلمهم ما عَلِمَ من القراءة الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إنْ أقرأهم لغيره إذا لم يكن مُستبشعًا مثل «يَبْشُرُك» و«وُلْدُهُ» و«حِزْمٌ على قريَةٍ» ولكن يُقرِئها «يُبَشِّرُك» و«وَلدُه» و«حَرامٌ على قَرْيَةٍ» وما أشبه هذا، وكل ما قرأ به أصحاب رسول الله ﷺ.
وعلى المُعلم أن يكسب الدِّرَّة والفلقة، وليس ذلك على الصبيان. وعليه كراء الحانوت وليس ذلك على الصبيان. وعليه أن يتفقدهم بالتعليم والعرض ويجعل لعرض القرآن وقتًا معلومًا مثل يوم الخميس وعشية الأربعاء، ويأذن لهم في يوم الجمعة، وذلك سُنة المُعلمين منذ كانوا لم يُعَب ذلك عليهم.
وليعلمهم الأدب فإنه من الواجب لله عليه النصيحة وحفظهم ورعايتهم.
وليجعل الكُتَّاب من الضحى إلى وقت الانقلاب. ولا بأس أن يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن ذلك منفعة لهم، وليتفقَّد إملاءهم. ولا يجوز أن ينقلهم من سورةٍ إلى سورة، حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها، إلا أن يُسهِّل له الآباء. فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصيٌّ، فإن كان دفع أجر المُعلم من غير مال الصبي إنما هو من عنده، فله أن يُسهل للمُعلم كما للأب، وإن كان من مال الصبي يُعطي الأجرة، لم يجُز أن يُسهِّل للمُعلم أن يُخرجه من السورة حتى يحفظها كما علمت، وكذلك إن كان الأب يُعطي من مال الصبي؛ قال وأرى ما يلزم الصبي من مؤنة المُعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته.
قلت: فالصبيُّ يدخل عند المُعلم وقد قارب الختمة هل له أن يقضي له بالختمة وقد ترك الأول أن يُطالبه؟ فقال: إن كان أخذ عنه من المَوضع الذي لا يلزمه الختمة للأول أو لو قام مثل أكثر من الثلث من «يونس» و«هود» ونحو ذلك فالختمة لازمة له؛ لأن الأول حينئذٍ لو قام لم يُقضَ له بشيءٍ، وأما إن كان دخوله عنده في وقت لو قام عليه الأول لزِمَتْه الختمة لم يُقضَ للداخل عنده بشيء؛ لأن الأول كأنه إنما تركها لأبيه أو للصبي إلا أن يتطوَّع لهذا بشيء، وأستحسن إن تطوَّع لهذا بشيءٍ استحسانًا، وليس بقياس.
قلت: أرأيت لو أن والده أخرجه وقال: لا يختم عندك وقد قارب الختمة، وإنما كانت الأُجرة على شهر؟ فقال: أقضي عليه بالختمة ثم لا أبالي أأخرَجَه أم تركه. قلت: فما يقول إن قال: ابني لا يعلم القرآن، هل تجِب عليه الختمة؟ فقال: إن قرأ الصبي القرآن في المصحف وعرف حروفه وأقام إعرابه، وجبتْ للمُعلم الختمة، وإن لم يقرأه ظاهرًا، لأنه قلَّ صبيٌّ يستظهر القرآن أول مرة. قلت: فإن كان أخطأ في قراءة المصحف؟ فقال: إن كان الشيء اليسير، والغالب عليه المعرفة، فلا بأس.
قال سحنون: ولا يجوز للمُعلم أن يرسِل الصبيان في حوائجه، وينبغي للمُعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك: حدَّثنا عنه عبد الرحمن قال: قال مالك: يُضربون عليها بنو عشر ويُفرَّق بينهم في المضاجع؛ قلت: الذكور والإناث؟ قال: نعم.
قال سحنون: ويلزَمه أن يُعلمهم الوضوء والصلاة؛ لأن ذلك دينهم، وعدد ركوعها وسجودها والقراءة فيها والتكبير وكيف الجلوس والإحرام والسلام، وما يلزمهم في الصلاة والتشهُّد والقنوت في الصبح، فإن من سُنَّة الصلاة ومن واجب حقِّها الذي لم يزل رسول الله ﷺ عليها، حتى قبضه الله تعالى صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم الأئمة بعدَه على ذلك لم يُعْلَمُ أحد منهم ترك القنوت في الفجر رغبةً عنه، وهم الراشدون والمَهديُّون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم على ذلك، ومَنْ تبعهم رضي الله عنهم أجمعين.
وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله، ويُعِّرفهم عظمته، وجلاله، ليَكبُروا على ذلك. وإذا أجدب الناس واستسقى بهم الإمام، فأحب للمُعلم أن يخرج بهم مَنْ يعرف الصلاة منهم، وليبتهِلوا إلى الله بالدعاء، ويرغبوا إليه، فإنه بلغَني أنَّ قوم يونس صلى الله على نبينا وعليه، لمَّا عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم فتضرَّعوا إلى الله بهم.
وينبغي أن يُعلِّمهم سُنَن الصلاة مثل ركعتي الفجر والوتر وصلاة العيدَين والاستسقاء والخسوف، حتى يُعلمهم دينهم الذي تعبد الله به، وسُنة نبيهم ﷺ. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يُعلم أولاد النصارى القرآن ولا الكتاب.
قال: وقال مالك: ولا بأس أن يكتُب المُعلم الكتاب على غير وضوء؛ ولا بأس على الصبي إذا لم يبلُغ الحُلم، أن يقرأ في اللوح على غير وضوء، إذا كان يتعلَّم، وكذلك المُعلم. ولا يمَسُّ الصبي المصحف إلا على وضوء، وليأمُرهم بذلك حتى يتعلَّموه. قال: وليتعلَّموا الصلاة على الجنائز والدعاء عليها فإنه من دينهم، وليجعلهم بالسواء في التعليم، الشريف والوضيع، وإلا كان خائنًا. وسُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد. قال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة ولم يُنصَب المسجد للتعليم. قال مالك: ولا أرى أن يُنام في المسجد ولا يُؤكَل فيه إلا من ضرورة، ولا يجد بدًّا منه مثل: الغريب والمسافر والمحتاج الذي لا يجد موضعًا.
قال محمد: وحدَّثني سحنون، عن عبد الله بن نافع، قال سمعتُ مالكًا يقول: لا أرى لأحدٍ أن يقرأ القرآن وهو مارٌّ على الطريق، إلا أن يكون مُتعلمًا. ولا أرى أن يقرأ في الحمَّام.
قال مالك: وإذا مرَّ المُعلم بسجدة وهو يقرؤها عليه الصبي، فليس عليه أن يسجد؛ لأن الصبي ليس بإمام، إلا أن يكون بالغًا، فلا بأس أن يسجدها، فإن تركها فلا شيء عليه لأنها ليست بواجبة. وكذلك إذا قرأها هو، فإن شاء سجد، وإن شاء ترك: ألا ترى أن عُمرًا قرأها مرةً على المنبر، فنزل فسجد، ثم قرأها مرة أخرى، فلم يسجد وقال: إنها لم تُكْتَب علينا.
قال مالك: وكذلك المرأة إذا قرأت السجدة على الرجل، لم يسجد الرجل معها؛ لأنها ليست بإمام. وقال رسول الله ﷺ للذي قرأ عليه: كنتَ إمامًا، فلو سجدتَ سجدتُ معك.
قال سحنون: وأكره للمُعلم أن يُعلِّم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهم.
وسُئل سحنون عن المُعلم: أيأخذ الصبيان بقول بعضهم على بعض في الأذى؟ فقال: ما أرى هذا من ناحية الحُكم، وإنما على المؤدِّب أن يؤدبِّهم إذا آذى بعضهم بعضًا، وذلك عندي إذا استفاض عِلم الأذى من الجماعة منهم، أو كان الاعتراف، إلا أن يكون صبيانًا قد عرفهم بالصدق فيقبل قولهم ويُعاقِب على ذلك، ولا يجاوز في الأدب كما أعلمتُك، ويأمرهم بالكفِّ عن الأذى، ويردُّ ما أخذ بعضهم لبعض، وليس هو من ناحية القضاء. وكذلك سمعتُ من غير واحد من أصحابنا، وقد أُجيزت شهادتهم في القتل والجراح فكيف بهذا؟ والله أعلم.
ما جاء في إجارة المُعلم ومتى تجِب
قال محمد: وكتب شجرة بن عيسى إلى سحنون يسأله عن المُعلم يُستأجَر على الصبيان يعلمهم، فيمرض أحد الصبيان أو يُريد أبوه أن يخرج به إلى سفرٍ أو غيره. فقال: إذا استؤجِر سنةً معلومةً فقد لزِمَت آباءهم الإجارة خرجوا أو أقاموا. وإنما تكون الإجارة ها هنا تقضي على حال الصبيان لأن منهم الخفيف والثقيل، وقد يكون الصبي له المؤنة في تعليمه ومِنهم مَنْ لا مؤنة على المعلم فيه، ففي هذا ينظر.
قال: وقال سحنون: انتقض ما ينوب أباه من إجارة في باقي الشرط ولا يلزمه ذلك، وكذلك إن مات الأب انتقض ما بقي من الإجارة وكان ما بقي في مال الصبي، قال محمد: مثل الرضاع إذا استأجر الرجل لولده مَنْ يُرضعه ثم مات الأب أو الصبي، فإنَّ عبد الرحمن روى عن مالك: أن الإجارة تنتقض، ويكون ما بقي في مال الصبي إن كان له مال، ويكون ذلك موروثًا عن الميت، وإن مات الصبي أخذ الأب باقي الإجارة، وروى أشهب عن مالك أن تلك العطية نفذت للصبي، فإن مات الأب كانت للصبي، وإن مات الصبي كان ما بقي موروثًا عن الصبي كأنه ماله، وكذلك أُجرة المُعلم مثل هذا، والله أعلم. قال محمد: وهذا قولي، وهو القياس.
قال سحنون: وقد سُئل بعض علماء الحجاز — منهم ابن دينار وغيره — أن يَستأجر المُعلمَ الجماعة وأن يفرض على كل ولدٍ ما ينوبه، فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة ولا بدَّ للناس منه، وهو أشبه. وقال: وهو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدَين من رجُلَين، لكل واحدٍ عبْد، وإنما ذلك بمنزلة البيع؛ وعبد الرحمن لا يُجوِّز هذه الإجارة؛ لأنه لا يجوز ذلك في البيع. والله أعلم.
قال: ولا بأس للمُعلم أن يشتري لنفسه ما يُصلحه من حوائجه إذا لم يجد مَنْ يكفيه. ولا بأس أن ينظُر في العِلم في الأوقات التي يستغني الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتاب وإملاء بعضهم على بعض، إذا كان ذلك منفعةً لهم، فإن هذا قد سَهَّلَ فيه بعض أصحابنا.
وسُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا، فقال: إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك إذا كان للصبي في ذلك منفعة. وسمعتُه يقول: تنازع المُغيرة بن شعبة وابن دينار — وكلاهما من علماء الحجاز — عن صبي يختم القرآن عند المُعلم فيقول الأب: إنه لا يحفظ، فقال المُغيرة: إذا كان أخذ القرآن كله عنده وقرأه الصبي كله نظرًا في المصحف وأقام حروفه، فإن أخطأ منه اليسير الذي لا بدَّ منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبتْ للمُعلم الختمة، وهو على المُوسِع قدره وعلى المُقتر قدره، وهو الذي أحفظ من قول مالك.
وقال ابن دينار: سمعت مالكًا يقول: تجب للمُعلم الختمة على قدر يُسر الرجل وعُسره، يجتهد في ذلك وليُّ النظر للمسلمين.
وأرى أنه إذا تنازع الأب والمُعلم في الصبي، أنه لا يعلم القرآن، فإنه إذا قرأ منه نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مفردًا وجبت له الختمة، قضيتُ له بها، ولا أُبالي ألَّا يقرأ غير ذلك؛ لأنه لو لم يأخُذه عنده، لم يسأل هذا المُعلم عنه. وأجمعوا جميعًا على أنه إذا أخذ عنده الثلث إلى سورة البقرة أن الختمة واجبة، إذا عرف أن يقرأه كما وصفتُ لك، ولا يُسأل عن غير ذلك مما لم يكن أخَذَه عنده.
وسُئل عن المُعلم يُستأجر على تعليم الصبيان فيموت، فقال: إذا مات انفسخت الإجارة، وكذلك إذا مات أحد الصبيان انفسخ من الإجارة بقدْر ما بقي من إجارة مثل الصبي، وقد قيل إن الإجارة لا تنفسِخ وأن على المُعلم فيما له مقاصَّة في التعليم، وعلى أبي الصبي أن يأتي بمَن يُعلمه تمام السنة، وإلا كانت له الإجارة كاملة.
قال محمد: الأول كلام عبد الرحمن وعليه العمل، وإنما ذلك بمنزلة الراحلة بعينها، إذا هلكت انفسخ الكراء، ولا يجوز أن يأتي بمثلها، ولا يُشتَرَط عليه ذلك. والله أعلم.
وسمعته يقول: قال أصحابنا جميعًا — مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمُعلم الختمة ولو استُؤجِر شهرًا شهرًا، أو على تعليم القرآن بأجرٍ معلوم، ولا يجب له غير ذلك. وقالوا: إذا استظهر الصبيُّ القرآن كله كان له أكثر في العطية للمُعلم ممن إذا قرأه نظرًا، وإذا لم يتهجَّ الصبيُّ ما يُملى عليه، ولا يفهم حروف القرآن، لم يُعْطَ المُعلم شيئًا، وأُدِّبَ المُعلم ومُنع من التعليم إذا عُرف بهذا، وظهر تفريطه.
ما جاء في إجارة المصحف وكتُب الفقه وما شابهها
قال سحنون: قلت لابن القاسم: أرأيت المصحف أيصحُّ أن يُستأجَر ليُقرأ فيه؟ فقال: لا بأس به لأن مالكًا قال: لا بأس ببيعه. ابن وهب عن ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عمارة بن عرفة عن ربيعة قال: لا بأس ببيع المصحف، وإنما يُباع الحبر والورق والعمل.
ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر أن ابن مصيح كان يكتب المصاحف في ذلك الزمان ويبيعها. أحسَبُه قال في زمان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولا ينكر عليه أحد؛ ولا رأيتُ أحدًا بالمدينة يُنكر ذلك. قال: وكلهم لا يرَون به بأسًا.
قال: ولا أرى أن تجوز إجارة كتُب الفقه؛ لأن مالكًا كرِه بيعها، لأن فيه اختلف العلماء؛ قوم يُجيزون ما يُبطل قوم. قلت: فقد أجزتُم إجارة الحُر وهو لا يحلُّ بيعه، فكيف لا تُجيزون إجارة كتب الفقه؟ فقال: لأن الإجارة في الحُر معلومة؛ خدمته تُملَك. وإنما في كتب الفقه القراءة، والقراءة لا تُملَك.
قال محمد: لا أرى بأسًا بإجارتها وبيعها إذا علمَ مَن استأجرها واشتراها.
قال محمد: لا بأس أن يَستأجر الرجل المُعلم على أن يُعلم أولاده القرآن بأجرة إلى أجل معلوم، أو كل شهر. وكذلك نصف القرآن أو ربعه أو ما سَمَّيا منه. قال: وإذا استأجر الرجل مُعلمًا على صبيان معلومين، جاز للمُعلم أن يُعلم معهم غيرَهم إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجِر لهم. قال: وإذا استؤجر المُعلم على صبيان معلومين سنةً، فعلى أولياء الصبيان كراء مَوضع المُعلم. قال: وإذا قيل للمُعلم عَلِّمْ هذا الوصيف ولك نصفه لم يجُز ذلك. قال: وإذا أدَّب المعلم الصبي الذي يجوز له فأخطأ ففقأ عينه، أو أصابه فقتله، كانت على المُعلم الكفارة في القتل، والدِّية على العاقلة إذا جاوز الأدب، وإذا لم يجاوز الأدب، وفعل ما يجوز له، فلا دِية عليه، وإنما يضمن العاقلة من ذلك ما يبلغ الثلث، وما لم يبلغ الثلث ففي ماله.
قال: ولا بأس بالرجل يَستأجر الرجُل أن يُعلِّم ولده الخط والهجاء، وقد كان النبي ﷺ يُفادي بالرجل يُعلِّم الخط. قال: ولا أرى أن يجوز بيع كتُب الشِّعر ولا النحو ولا أشباه ذلك، ولا يجوز إجارة من يُعلم ذلك. قال مالك: ولا أرى إجارة مَنْ يُعلم الفقه والفرائض. قال: وقال سحنون: وإذا ضرب المُعلم الصبي بما يجوز له أن يضربه إذا كان مِثله يقوى على مثل ذلك فمات أو أصابه بلاء، لم يكن على المُعلم شيء غير الكفارة إنْ مات، وإن جاوز الأدب ضمن الدِّية في ماله مع الأدب، وقد قيل على العاقلة مع الكفارة. فإن جاوز الأدب فمرض الصبي من ذلك فمات، فإن كان جاوز ما يُعلَم أنه أراد به القتل أقسم وقتلَه به الأولياء، وإن كان لم يجاوز ما يُرى أنه أراد به القتل إلا على وجه الأدب، إلا أنه جهِل الأدب، أقسم واستحقُّوا الدِّية قِبَل العاقلة، وعليه هو الكفارة. فإن كان المُعلم لم يَلِ الفعل وإنما ولِيَه غيره، كان الأمر على ما فسَّرتُ لك، ولا شيء على المأمور؛ وإن كان بالغًا، فمن أصحابنا مَنْ رأى الدِّية على عاقلة الفاعل وعليه الكفارة، ومنهم من رأى الدِّية على عاقلة المُعلم، وعلى الفاعل الكفارة، والله أعلم. قال: وسمعتُ سحنون يقول: لا أرى للمُعلم أن يُعلم أبا جاد وأرى أن يتقدَّم للمُعلمين في ذلك؛ وقد سمعتُ حفص بن غياث يُحدِّث أن أبا جاد أسماء الشياطين ألقَوها على ألسنة العرب في الجاهلية فكتبوها؛ قال: وسمعتُ بعض أهل العِلم يزعُم أنها أسماء ولد سابور ملك فارس أمر العرب الذين كانوا في طاعته أن يكتبوها، فلا أرى لأحدٍ أن يكتبها، فإنَّ ذلك حرام. وقد أخبرَني سحنون بن سعيد، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قوم ينظرون في النجوم يكتبون «أبا جاد» أولئك لا خلاق لهم.
قال: وسُئل مالك عن مُعلمٍ ضرب صبيًّا ففقأ عينه، أو كسر يده. فقال: إنْ ضُرب بالدِّرَّة على الأدب وأصابه بعودها فكسر يده، أو فقأ عينه، فالدِّية على العاقلة إذا عمل ما يجوز له، فإن مات الصبي فالدِّية على العاقلة بقسامةٍ وعليه الكفارة. وإن ضربه باللَّوح أو بعصا قتلَه فعليه القصاص؛ لأنه لم يؤذَن له أن يضربه بعصًا ولا بلوح.
قلت: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشِّعر والنحو وهو مثل القرآن، فقال: كره ذلك مالك وأصحابنا. وكيف يُشبه القرآن والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعِلم أمر قد اختلف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شكَّ فيه. والفقه لا يُستظْهَر مثل القرآن فهو لا يُشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه.
كمل كتاب «آداب المُعلِّمين» محمد بن سحنون عن أبيه رضي الله عنهما.
كتبه لنفسه عبيد الله، الراجي سَعة فضل الله ورحمته محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البري المُرادي غفر الله له ولوالديه.