الملاحق١

(١) الرسالة المُفصلة لأحوال المُتعلمين وأحكام المعلمين والمُتعلمين

figure
[جاء في ظاهر النسخة الخطية عبارتان بقلمَين مختلفين، الأولى: الحمد لله وحده من عوادي الزمان، وهو المُعان على عفو ربه الكريم الغفار.٢ علي بن أحمد بن محمد البيطار. غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين.

والثانية: الجزء الأول والثاني والثالث من الفضيلة لأحوال المُتعلمين وأحكام المُعلمين والمتعلمين. الحمد لله وحده. طالع هذا الكتاب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى، المعترف بذنبه محمد بن حسن. غفر الله له ولوالديه ولمن ترحَّم عليه ولجميع المسلمين آمين.

الخط يبقى زمانًا بعد كاتبه
وكاتب الخط تحت التُّربِ مدفونُ
يا ربِّ فاغفر لعبدٍ كان كاتبه
يا قارئ الخط قل يا ربي٣ آمينُ

تمَّت. يا قارئ الخط ترحَّم على من كتبه].

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم وبه توفيقي
figure
قال أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعروف٤ القابسي الفقيه القيرواني:

الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (الكهف: ١-٥) وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (الفرقان: ١-٢). والحمد لله الذي لم يزل واحدًا، أحدًا، حيًّا، قيومًا، له الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، ليس [٢-١] كمثله شيء، وهو السميع البصير. تكلم بالقرآن، وأنزله على محمد خير الأنام، للرحمة والتبيان، بالنور والبرهان، والحكمة والفرقان، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: ١٠٢) وقال جل ثناؤه: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (طه: ١-٨). أحمده، وأؤمن به، وأستعينه، وأتوكل عليه وأبرأ من الحول والقوة إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فقام بالرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمَّة، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [٢-ب] حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة: ١٢٨). فسبحان الله الذي سبح له ما في السماوات وما في الأرض الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الجمعة: ١-٤). والحمد لله الذي هدانا للإيمان، وعلمنا القرآن، ومنَّ علينا باتباع نبيه محمد عليه السلام. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ. اللهم وعَلِّمنا ما بعثتَ به إلينا نبيَّنا محمدًا خاتم النبيين، من كتابٍ وحكمة، وما تلا من آياتك، وزَكِّنا إنك أنت العزيز الحكيم. [٣- أ] اللهم وألهمنا شُكرَ نعمتك به علينا، فإنك قلت: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: ١٥٠-١٥١). اللهم وأعنا على ذكرك وشكرك، وحُسن عبادتك، فإنك قلت: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (البقرة: ١٥٢) وأيِّدنا على طاعتك، بأن نستعين عليها كما أمرتَنا، فإنك قلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة: ١٥٣). أنت الحق، ووعدك الحق، لا إله إلا أنت، الملك الحق المُبين. إياك نعبد، وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأنِلْنا حسن مرافقتهم بفضلك ورحمتك، فأنت أرحم الراحمين، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وأنت مولانا، فنعم المولى ونعم النصير [٣-ب] فانصرنا بحُسن الخلاص فيما أوليتنا وفيما ابتليتنا، برحمتك في عبادك الصالحين، الذين يُسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

•••

قال أبو الحسن: قد سألني سائلٌ، وألحَّ عليَّ أن أجيبه عن مسائل، كَتَبَها، وشرط فيها شروطًا، واعتذر من إلحاحه عليَّ، أنه مُضطرٌّ إليها وراغب في فهم ما تعذَّر عليه من فهمها، إذْ هي تحلُّ عليه، وتنزل به فَيَرهبُها، ويخشى القدوم عليها، ويخاف ضيق الإمساك عنها، لبُعده ممن يصلُح أن يُستعان به فيها، فَعذرْتُه بِعُذْره، وأشفقتُ من التوقُّف عنه، على وَجَلٍ مني في مُجَاوَبَتِه عن كل ما سأل عنه، فتراخيتُ عن سرعة مجاوبته طويلًا، وهو مُقيم على حَفْزي فيما أراد مني، حتى ألقى الله عز وجل في قلبي الانقياد إلى مجاوبته. فأعوذ بالله أن [٤-أ] أكون من المُتكلفين، وأسأل الله الكريم العصمةَ بالحق فيما ابتلاني به من المقالة في الدين، وأن يهديني إلى أحسن القول فأتبعه بهَدْيٍ من عنده، فهو هادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

ذكر سؤاله عن تفسير الإيمان والإسلام والإحسان وعن الاستقامة ما هي وكيف صفة الصلاح

قال أبو الحسن: أما تفسير الإيمان والإسلام فقد بُيِّنَ ذلك في الصحيح.٥ قال أبو هريرة: كان النبي بارزًا يومًا للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورُسله، وتؤمن بالبعث الآخر. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال أن تعبُد الله [٤-ب] كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأُخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأَمَةُ رَبَّتها، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهُم في البينان، في خمسٍ لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ … (لقمان: ٣٤) الآية، ثم أدبر، فقال: ردُّوه، فلم يرَوا شيئًا، فقال: هذا جبريل، جاء يُعلِّم الناس دينهم.

قال أبو الحسن: فبيَّن أن جميع ما جرى في نصِّ الحديث دين للناس، ويدل أيضًا ما في هذا الحديث، أنه كان قبل نزول فرض الحج، لأن الحج أيضًا من عمل الأبدان، وبه كمل العمل الذي هو الإسلام. يُبين ذلك ما جاء في الصحيح من حديث طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها [٥-أ] لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: ٣). قال: فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي وهو قائم بعرفة، يوم جمعة. قال أبو الحسن؛ فبَيَّنَ له عمر رضي الله عنه، أن اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية في الإسلام، مُعَظمٌ على مرِّ الدهر، هو عيد في سائر أمصار المُسلمين كلما تكرَّر يوم الجمعة، والمكان الذي أُنزلت فيه هو مكان الحج المفترض على جميع المسلمين. فقد تمَّ التعظيم لذلك اليوم، ولذلك المكان الذي أُنزِلَتْ فيه، والحمد لله رب العالمين.

والذي سمَّاه الرسول عليه السلام، في هذا الحديث، إيمانًا، هو الإقرار بما قد سمَّاه . والذي [٥-ب] سمَّاه إسلامًا، هو عمل الجوارح بما افتُرضَ عليها؛ لأنه هو الذي يدل على استسلام مَنْ قال: أسلمت لله؛ ومَنْ قال: آمنت بالله، وملائكته وبلقائه، ورسله، وآمنت بالبعث بعد الموت، فإنما هو مُخبر عن تصديقه لما جاء به الرسول عليه السلام. ومحل صِحته التصديق فيما عقد عليه القلب واطمأن إليه. وكذلك هو في الإيمان بجميع ما جاءت به الرسل. قوله: آمنت بذلك، إنما هو إخبارٌ عن قلبه، أنه قَبِلَ ذلك، واطمأنَّ به، وفي ذلك إيمانه بفرض الصلاة والزكاة، وصيام رمضان، والحج المُفترَض على المسلمين مع سائر ما افتُرض عليهم من الحقوق كلها. فتصديقه بذلك كله — أن الله عز وجل فرضه، وأنه هو الحق الذي لا شك فيه — كل هذا هو إيمانٌ، القول يُعبر عنه، ولا يُعلَمُ صحة ما وراءَ القول من هذا [٦-أ] المُخبرِ عن نفسه بالإيمان، إلا اللهُ عز وجل، فإذا أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحجَّ البيت إذا استطاعه، وفعل بجوارحه جميع ما أُمِرَ به أنه واجب عليه، فقد استسلم، وصدَّق باستسلامه هذا قوله: إني آمنت به، عند مَنْ ظهر له ذلك منه، وهو عند الله جل وعزَّ على ما عَلِمَهُ من صحة اعتقاده، وصِدْقِه فيما صدَّق به. وقول الرسول عليه السلام، حين فسَّر الإسلام: تَعبُد الله لا تشرك به، معناه: بذلك يصحُّ لهذا العمل المذكور أن يكون إسلامه، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف: ١١٠). والإيمان هو القبول من الرسول ما جاء به، يُصحِّحه لقائله اعتقاد قلبه بتصديقه. والإسلام: هو العمل بما أمر به، ودعا إليه، والانتهاء عما نهى عنه، يُصحِّحه اعتقاد قلب [٦-ب] عامله أن الله عزَّ وجل أمر به على لسان رسوله عليه السلام. فإذا كان كذلك كان ها هنا الإسلام هو الإيمان، لقول الله جل وعز: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩). وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ (آل عمران: ٨٥-٨٦). وقال جل ذكره: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (المائدة: ٥). فبيَّن أن المُبتغي غيرَ الإسلام كافرٌ بالإيمان. وتبين بذلك أن الإيمان على الحقيقة إسلام، والإسلام على الحقيقة إيمان. ويزيدك بيانًا ما جاء في قصة آل لوط عليه السلام قوله: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (الذاريات: ٣٥-٣٦). وإذا لم يكن الإيمان من قائله على الحقيقة، كان إظهار ذلك ممن أقرَّ به نفاقًا [٧-أ] كما قال الله جل وعز: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ (المائدة: ٤١)، وكذلك من أظهر الإقرار بالإيمان، وعَمِلَ فيما أظهر بما أمره به، وانتهى فيما يُرَى منه عما نُهِيَ عنه، وقلبه غير مؤمن بذلك أنه من عند الله، فليس هو إسلامًا على الحقيقة. وهو كما قال الله جل وعز: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: ١٤) فنبَّأهم أن الإيمان، الذي هو التصديق في القول والعمل، لم يدخل قلوبهم، ولكن عملوا عملًا هو إسلام، أي استسلموا وألقوا السَّلَمَ مُداراةً لمن قَهَرهم، يحمون بذلك أنفسهم وأهليهم وأموالهم، مما يلقاه الصابئون بالكفر. وقد قال الله عز وجل: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ [٧-ب] مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (التوبة: ١٠١) وقال: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ (التوبة: ٩٧) وقال جل وعز: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (الأنعام: ١٢٥). فبيَّنَ أيضًا أن الإسلام هو ما انشرح الصدر إليه؛ وأما ما ضاق الصدر عن قبوله، ونفر منه عند سماعه، فصاحبه غير مؤمن. فقامت كلمة الإيمان مَقَامَ كلمة الإسلام. وكذلك قوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الزمر: ٢٢).

قال أبو الحسن: فافهم فقد بيَّنْتُ لك أن تفسير الإيمان أنه التصديق. [٨-أ] وقال الله جل ذكره يصِف رسوله عليه السلام: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (التوبة: ٦١). أي يُصدِّق المؤمنين. وأمره أن يقول لمن اعتذر عن تخلُّفه من المنافقين: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نُصدِّقكم قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ … الآية (التوبة: ٩٤). وأمره أيضًا أن يقول لهم: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة: ١٠٥). وبينتُ لك أن تفسير الإسلام، إذا لم يكن من قائله على الحقيقة أنه هو الاستسلام — وذلك بأنه يلقي السلم إظهارًا لطاعة من قهرَه — فيكون مِن فاعِله نفاقًا. قال الله عز وجل: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ (النساء: ٨٧) إلى قوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ … (النساء: ٩٠-٩١). فبينتُ لك وجه ما يكون به الإيمان إسلامًا، وما يكون به الإسلام إيمانًا، بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.

وأما قول الرسول عليه السلام في تفسير الإحسان: أن تعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فمعناه: أن هذا هو إحسانُ عبادة الله في كل ما تعبد، من الشهادة له بالألوهية وحدَه، ومن كل ما أمرَ به من عملٍ بطاعته، أن يكون العامل بذلك يعمل لله — وهو يعلم أن الله يراه — فيما يؤديه إليه من طاعته، ولا يخْفَى عنه ما في سِرِّه من ذلك. وكذلك فيما تعبَّدَه به، من الانتهاء عما نهاه عنه، يكون في ذلك يعلم أن الله جل وعز يراه، ويعلم ما في سِره، من الانتهاء عن ذلك مما٦ أراد به، لتخلُص عبادة العبد لله [٩-أ] على الحقيقة، سالم٧ من كل خلطٍ يَنْزِغ به الشيطان، ويميل إليه سوء الهوى. وقد عرف الناس فيما بينهم، أن عبد الرجل إذا عَمِلَ ما أمره به سيدُهُ بحضرة سيده — وهو يراه — أن العبد يجهد نفسه في ذلك العمل، ليُرضيَ سيدَه بحُسن طاعته، فإن كان سيده سلطانًا كان أشدَّ لاجتهاد العبد في نصيحة سيده، وإذا خلا العبد من معاينة سيده له، أو استغفله، قصَّر، فهذه صفة العبد مع مَنْ يغفل ويشغله شأن عن شأن. فأما عبد الله يؤدي طاعته إليه، فلا يغفل عن مُراقبة ربه فيما يُطيعه به في السر والعلانية، فإنك أيها العبد، إن لم تكن ترى ربك بعينك في حين عبادتك إيَّاه، فقد أيقنتَ أنت أنه يراك، ولا يخفى عنه ما تُسِرُّ وتعلن. فأخلص العمل له والتزم مراقبته، فإنه يقول عز وجل: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ [٩-ب] وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (يونس: ٦١) وقال عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (البقرة: ٢٣٥) وقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (ق: ١٦). في آيٍ كثير يُحذر فيهن العبد من غفلة نفسه. وقال عز وجل: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (الأعراف: ٢٠٥)، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (الأعراف: ٢٠٦) فوصف عبادة الملائكة. وقال في موضع آخر يصف عبادة الملائكة: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (الأنبياء: ٢٠). وأنتم عباد الله إنما أمركم أن تتقوا الله؛ ما٨ [١٠-أ] الموقن بهذا تعبد ربك كأنك تراه، وأنت قد أيقنت بعد أنه يراك. قال الله جل وعز: وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (الأنعام: ٣)، وقال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد: ٤)، وقال تعالى: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (المائدة: ١٢)، فبين عز وجل لمن عَمِلَ بطاعته، أن يعمل ذلك عملًا حسنًا. وكذلك قوله عز وجل: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (الكهف: ٣٠)، وإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (التوبة: ١٢٠). وما كان يمثل هذا كله، فمعنى ذلك إحسانُهُمْ ما عملوه لله عز وجل. وتفسير هذا الإحسان هو الذي جرى بين جبريل ورسول الله [١٠-ب] ، من قول النبي : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم أخبر أصحابه عن السائل، أنه جبريلُ يعلم الناس دينهم. فبيِّنٌ أن مراقبة العبيد رَبَّهم في عبادتهم إياه، أن ذلك من دينهم ليحافظوا عليه. فافهم؛ فقد طولت لك، ليرتفع الإشكال عنك فيما فسرت لك، والله وليُّ التوفيق.
وأما سؤالك عن الاستقامة ما هي؟ فاعلم أن وصفها قد مرَّ فيما تقدَّم من هذا الباب. وقال الله عز وجل لنبيه عليه السلام: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (هود: ١١٢)، فالاستقامة هي القيام بما أمر الله به، وفي الذي قدمنا قول الله جل وعز: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ [١٠-أ] هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (الرعد: ١٩). وفي وصف أولي الألباب، والذين يَصِلون ما أمر الله به أن يوصل، فتلك الأوصاف كلها، من وَفَّى بها فهو المستقيم كما أُمر. وإن مما يزيدك بيانًا لما وصفت لك قول الله جل وعز: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء: ٦٥)، ثم قال: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (النساء: ٦٦–٦٨)، ثم قال: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [١١-ب] — إلى قوله — وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا (النساء: ٦٩-٧٠) وقد أمر الله عز وجل في فاتحة الكتاب المؤمنين أن يقولوا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: ٦-٧) وفسر عزَّ وجل لهم في سورة النساء، مَن الذين أنعم الله عليهم، وذلك بما هداهم له من طاعته وطاعة رسوله، وقبولهم لما جاء عنهما، ففعلوا ما يُوعَظون به، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليمًا. والاستقامة في الدين هي مداومة المُقام فيه، على استوائه واعتداله، لا يُنَكِّب عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا يلتزم منه ما لا يُطيقه. قالت عائشة رضي الله عنها: كان أحبَّ العمل إلى رسول الله الذي يدوم عليه صاحبه. وقالت أيضًا: سُئل النبي [١٢-أ] أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدوَمُه وإنْ قلَّ. وقال: اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون. وقال أبو هريرة عن النبي : إن الدين يُسر، ولن يشادَّ الدين أحد٩ إلا غلبه، فسَدِّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغُدوَةِ والرَّوْحة وشيءٍ من الدُّلجة. فافهم؛ فقد بينتُ لك من وصف الاستقامة ما لا يدع إن شاء الله عليك إشكالًا. فاستعِنْ بالله واقتصد، فإن ابن عباس رضي الله عنه قال: القصد والتؤدة وحُسن السَّمت، جزء من خمسةٍ وعشرين جزءًا من النبوَّة، وهذه الثلاث الخصال، تجتمع لمن ائتمر لأمر رسول الله ، وانتهى لنهيه، وتأسَّى به في هديه. قال الله جل وعز: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ [١٢-ب] بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (النور: ٦٣) وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (الحشر: ٧) وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (الأحزاب: ٢١) وقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران: ٣١). قال حذيفة بن اليمان: يا معشر القرَى إنْ تستقيموا، فقد سبقتُم سبقًا بعيدًا، وإن أخذتم١٠ يمينًا وشمالًا، لقد ضللتُم ضلالًا بعيدًا. قال أبو الحسن: يريد حذيفة — رحمة الله عليه — بقوله هذا من لم يُدرِك النبي ، يأمرُهم [١٣-أ] أن يستقيموا في متابعة أصحاب النبي عليه السلام، لأن أصحاب النبي ، هم المُتبعون على السبيل التي١١ دعا إليها الرسول قال الله عز وجل لنبيه عليه السلام: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: ١٠٨). وقال جل من قائل: … وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (النساء: ١١٥). والصحابة هم الذين قال الله عز وجل فيهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … إلى آخر السورة (الفتح: ٢٨-٢٩). وقد قال ابن مسعود: أرى أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهَدْي هَدْي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وإنَّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
وأما قولك: كيف صفة الصلاح، فصفة الصلاح هي ما تقدم وصفه في هذا الباب [١٣-ب] من أوله إلى آخره، فمن وفَّى بجميعه وفاءً حسنًا، فقد استكمل صفة الصالحين، ومن عجز عن شيءٍ منه، فبمقدار ذلك الذي عجز عنه — إذا كان عن تفريط فيه — يكون نزوله عن وصف من استكمل ذلك كله. قال الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل: ٩٧). فقد بينت لك ما عندي في تفسير الإحسان، وقول الرسول : أن تعبد الله كأنك تراه، وأن هذا يلتزمه العبد لله في أحوال مُتقلَّبه ومثواه؛ وهو سهل على مَنْ يسَّره الله له، وبركته عظيمة؛ لأنه يُجدد للمؤمن إيمانه كلما ذَكره، وذلك أنه إذا أخذ في طاعة ربه، وهو ذاكرٌ مشاهدةَ ربه [١٤-أ] له في ذلك الشأن، قَوِيَ اعتصامه بربه، فإن همَّ به الشيطان أن يُلبِّس عليه شيئًا، فاستغاث ربه، واستعاذ به منه، كفاه عدوه، وأعانه عليه، فلم يجد إليه سبيلًا كما يجده إلى مَنْ كان في شأنه غافلًا في غمرة الوسواس والشهوات، وإنما المعصوم مَنْ عَصَمَهُ الله عز وجل. وإن اقتصر العبد الحسنُ العبادةِ على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، ولم يزد، فهو أيضًا من الصالحين، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (النساء: ١٢٤). فما سلم العبد من الخطايا فهو من الصالحين، وما زاد بعد ذلك من طاعة ربه زاده خيرًا. وأتى في الصحيح من حديث أبي هريرة، قال رسول الله : إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته [١٤-ب] بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحببته، فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي به. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. قال أبو الحسن: وهذا حديث حسن التبيان، بالِغ في الموعظة والبُشرى، لمن أخذ بما فيه، اقتصر على أداء الفرائض، أو زاد بعد استكمالها من النوافل؛ لأن النوافل إنما تكون من بعد استكمال الفرائض، والفرائض جارية في أعمال البِر التي أمر الله بها، والنوافل كذلك هي جارية في سائر الطاعات التي ندب الله إليها، ورغَّب فيها رسوله. وقوله في هذا الحديث: فكنت سمعه إلى آخر هذا الوصف، معناه: كنت [١٥-أ] حافظًا له، أحمي سمعه الذي يسمع به أن يسمع مأثمًا، وكذلك بصره الذي يُبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فلا يستعمل أشياء من هذه الجوارح في مأثم، ولا يصِل إليه مكروه، مع الحفظ الذي استأهله بتقرُّبه ذلك. فقد شرحتُ لك وصف ما إذا اقتصر عليه المؤمن كان به من الصالحين، وما إذا زاد منه زاد رفعةً وقربًا، وكمال ذلك كله في قول الله جل وعز: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة: ٥)، وقال عز وجل: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (الشورى: ٢٣). وأحسن الأعمال ما عهد صاحبها فيه على أن يؤديه، وهو كأنه يراه، كما بيَّنه الرسول عليه السلام، وجرى [١٥-ب] فيما بيَّن عليه السلام، أن جبريل عليه السلام جاء يُعلم الناس دينهم، قوله: متى الساعة؟ وقول الرسول عليه السلام ما المسئول بأعلم من السائل، إلى قوله: في خمسٍ لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا عليه السلام: إن الله عنده علم الساعة … الآية … يخبرهم رسول الله ، أن هذه الخمس لا يعلم أحد ما فيهن إلا الله، كما قال عز وجل: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ (النمل: ٦٥)، وقال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (الأنعام: ٥٩)، وإنما يعلم الخلق منها ما أظهره الله إليهم بعد ظهوره عند المشاهدة لحلول ذلك، أي فقد علمت ما ليس لكم أن تتكلفوا السؤال عنه. و[ليس] للساعة أشراط١٢ قبلها تدل على قربها، فاستدلوا واحذروا، فإن الله عز وجل يقول: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ [١٦-أ] فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً (الأعراف: ١٨٧)، وفي آية أخرى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا (الأنعام: ١٥٨)، وجاء في الصحيح قال رسول الله : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها، ثم قرأ الآية.١٣

ذكر سؤاله عما جاء في فضائل القرآن، وما لِمن تعلَّمه وعلَّمه وما يُصحَب به القرآن، وعن آداب حامله، ومن ضيَّعه حتى نسِيَه، وما لمن علَّمه ولده، وهل ذلك في الصغير واجب على أبيه أو على غيره، ومن يعلم الإناث

قال أبو الحسن: أما سؤالك أن نبدأ لك بشيء، من فضائل القرآن فيكفيك من فضل القرآن، معرفتك [١٦-ب] أن القرآن كلام الله عز وجل، وكلام الله غير مخلوق، ثم ثناء الله على هذا القرآن في غير موضع منه. قال الله عز وجل: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر: ٢٣)، وقوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: ١-٣)، الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (البقرة: ١-٢)، المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف: ١-٢)، وكل ما جرى في أوائل السور من هذا، فهو تعظيم [١٧-أ] للقرآن، وتعريف للمؤمنين بفضله، وكذلك قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (النساء: ١٧٤)، وقوله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (المائدة: ١٥-١٦)، وقوله سبحانه لنبيه : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (المائدة: ٤٨) وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: ٤١-٤٢)، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (الإسراء: ٩-١٠)، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: ١٥٥) ومن هذا المعنى [١٧-ب] في القرآن كثير معروف تَتَبُّعُ ذكرِه في هذا الكتاب يُطيله، وهو شيء بيِّنٌ في القرآن يُغني عن كل كتاب، والحمد لله رب العالمين.

وأما ما لِمن تعلَّمه أو علَّمه من الفضل، ففيه حديث مشهور ومنشور، وهو حديث سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي، عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي قال: «خيركم مَنْ تعلم القرآن وعلمه.»١٤ قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمارة عثمان حتى كان الحجاج. قال: وذاك الذي أقعدَني مقعدي هذا.١٥ قال أبو الحسن، قال: فأبو عبد الرحمن هو القائل: «وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا.» يريد أن حديث عثمان رضي الله عنه، عن النبي في فضل مَنْ تعلم القرآن أو علمه، هو الذي أقعده لتعليم الناس القرآن يُقرئهم [١٨-أ] إياه. وقد قال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال: حدَّثنا يحيى عن شُعبة وسفيان، قال: حدثنا علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن، عن النبي ، قال شعبة: خيرُكم مَنْ تعلم القرآن أو علَّمه. وقال سفيان: أفضلكم مَنْ تعلم القرآن وعلمه. وقال النسائي أيضًا: أخبرنا عبيد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن، قال حدثني عبد الرحمن بن بُدَيْل بن ميسرة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : إن لله أهلِين من خلقه، قالوا: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته. وقد بيَّنَ الله سبحانه مراتب أهل القرآن، وذلك قوله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ [١٨-ب] لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا … إلى قوله: لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (فاطر: ٣٢-٣٥). وفي الصحيح من حديث سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي موسى، عن النبي ، قال: المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به، كالأترجة طعمها وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها. ومَثَل المنافق الذي يقرأ القرآن، كالريحانة ريحها طيب، وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، كالحنظلة طعمها مر أو خبيث، وريحها مر.١٦ وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه [١٩-أ] جار له فقال: ليتني أُوتيت مثل ما أُوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل؛ ورجل آتاه الله مالًا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أُوتيت مثل ما أُوتيَ فعملت مثل ما يعمل.١٧ وقد بيَّن الله سبحانه في كتابه وصف قارئ القرآن، وذلك قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (فاطر: ٢٩-٣١).

قال أبو الحسن: فقد بينت لك ما جاء في فضل مَنْ تعلم القرآن وعلمه، وبينت لك من وصف حامل القرآن ما يكفيك عن سؤالك عما يصحب به القرآن وعن آداب حامله، كل ذلك من كتاب الله عز وجل، [١٩-ب] ومما جاء عن النبي تسليمًا.

وأما سؤالك عمن تعلم القرآن ثم ضيعه حتى نسيه، فإن كان تضييعه إياه، زهادة فيه — ليس بغالب عليه عمل١٨ يقومُ له به عذرٌ — فهو الذي أخشى عليه من شيء قد جاء فيمن تعلم القرآن ثم نسيه؛ فهي نعمة كفرها. وإنما يكون ذلك فيمن تعمد التشاغُل به عنه. فإن كان تشاغله عنه بعملٍ من أعمال السفهاء، كان أشد. وما يُدريك أن ذلك النسيان إنما أصابه عقوبةً لاشتغاله عنه بسوء الاكتساب، فكان اكتسابه السوء ذنبًا منه عُجلت له عقوبته بأن نسي القرآن بعدما حفظه. إن في الصحيح من حديث سمرة بن جندب عن النبي أنه قال لهم ذات غداة: أتاني الليلة اثنان، وإنما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت [٢٠-أ] معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فَيثْلغ رأسه، فيتدهده هذا الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما سبحان الله ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، وذكر الحديث إلى قوله، فقلت لهما: فإني رأيتُ منذ الليلة عجبًا! فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيتَ عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة.١٩ قال أبو الحسن: ولقد أمر مَنْ نسي شيئًا من القرآن ألا يقول نسيته، كما في الصحيح من حديث سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: قال رسول الله ما لأحدهم يقول: نسيت [٢٠-ب] آية كيت وكيت، بل هو نُسِّيَ،٢٠ واستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصِّيًا من صدور الرجال من النَّعَم.٢١ قال أبو الحسن: فانظر كيف عاب عليه السلام على أحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت. وقال عليه السلام «بل هو نُسِّيَ»، معناه أن الله أنساه ما نسي. فها هنا ينظر العبد فيما شغله عن القرآن حتى نسي منه ما نسي، هل له في ذلك عذر أم لا عذر له، فيحسن الإنابة إلى ربه مما لا عُذر له فيه. وقد قال الله عز وجل لنبيه: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (الأعلى: ٦-٧). وقد وصَّى الرسول عليه [٢١-أ] السلام أهل القرآن بالمحافظة على استذكاره، وأخبرَهُم أنه أشد تفصِّيًا من صدور الرجال من النعم. وفي حديث أبي موسى عن النبي قال: تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدُّ تفصِّيًا من الإبل في عُقُلها.٢٢ وأما ابن عمر فذكر من حديث مالك وغيره، أن رسول الله قال: إنما مَثَل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المُعقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت.٢٣ واعلم أن صاحب الإبل المُعقلة، إنْ تعمَّد إطلاقها إطلاقًا يُتلفها، فإنه٢٤ ارتكب النهي الذي جاء عن رسول الله عليه السلام، أنه نهى عن إضاعة المال؛ وإن أطلقها بعُذر يُجيز له إطلاقها خلص من ركوب النهب، وفَقَدَ نفعها. فمَثَّلَ صاحب القرآن إنْ ترك [٢١-ب] تعاهد استذكاره بصاحب هذه الإبل. وقَدْ قال النسائي: أخبرَنا قتيبة بن سعيد، قال أخبرنا يعقوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله قال: إنما مثل القرآن كمثل الإبل المُعقلة، إذا عاهد صاحبها على عقلها أمسكها، وإذا أغفلَها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقرأه نسِيَه. قال أبو الحسن: قد بُيِّنَ في هذا الحديث كيف المعاهدة التي يثبت بها حفظ القرآن ويقوى على الحفظ حتى لا يتعلثم فيه. وقد قال النسائي: أخبرنا عبد الله بن سعيد قال: حدَّثنا معاذ بن هشام، قال حدثني أبي عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام، عن عائشة، عن النبي قال: مَثَلُ الذي [٢٢-أ] يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفَرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق فله أجران. قال أبو الحسن والماهر بالقرآن يُؤمَر بترتيله، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (المزمل: ١-٦). قيل معنى هذا أشد وطأً، أي مُواطأة للقرآن بسمعك وبصرك، أي فهمك، فالقراءة على هذه الصفة أقوم قيلًا. ذكرت حفصة أم المؤمنين عن رسول الله أنه كان يقرأ السورة فيُرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وقال النسائي: أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي ذرٍّ عن عبد الله بن عمر، قال رسول الله : يُقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق [٢٢-ب] ورتل كما كنت تُرتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها. قال أبو الحسن: إن الترتيل في القراءة يُحيي الفهم للعالِم، فيستعين به على التدبُّر الذي له أنزل القرآن قال الله عز وجل: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص: ٢٩) وأهل حفظ القرآن أيضًا، فيختلفون في القوة على دراسته. قال مُعاذ بن جبل لأبي موسى الأشعري: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائمًا وقاعدًا، وعلى راحلتي، وأتفوَّقه تفوقًا. قال: أما أنا فأنام وأقوم وأحتسب نومي كما أحتسب قومتي. فأخبر كل واحد منهما عن نفسه بما يطيق.
وأما سؤالك عن الماشي هل يقرأُ القرآن، أو الراكب، أو الواقف، أو من في السوق، أو مَنْ في الحمَّام، تريد في غير الصلاة، فإن هذا للمُتصرِّف في حاجاته في الأسواق [٢٣-أ] وغير ذلك من أزقة الحضر، والصانع على صنعته، فلم يَستحب مالك من ذلك شيئًا. وإنما يُخفف من ذلك ما كان من فاعله من وجه التحفيظ للمُتعلمين ليقوى حفظه بدراسته. فأما ما كان على وجه التبرُّز،٢٥ قال مالك فإنما يقرأ القرآن في المساجد، وفي الصلاة، وعلى حال التفرُّد بقراءته؛ أو في السفر، فيقرأه ماشيًا وراكبًا في سفره؛ إلا أنه إنْ مرَّ بسجدة تِلاوةٍ، لم يقُم بها الراكب، ولكن ينزل فيسجدها إذا كان على طهارة، وفي وقت يجوز أن يسجد فيه، إلا أن يكون في سفر تُقْصر في مثله الصلاة، فيُومِئُ الراكب بسجودها إيماءً. وأما الحمَّام، فقال مالك: يقرأ الرجل القرآن إن شاء في الحمَّام، والحمَّام بيتٌ من البيوتِ، وذُكِرَ عنه الإباء منه في الحمام.
وأما قولك هل على المُعلم أو المُتعلم إذا قرءوا سجدة أن يسجدوا [٢٣-ب] في كل مرة أو في أول مرة، فقد خفَّف مالك عنهما، واستحب لهما أيضًا أن يسجُدا في أول مرة إذا تكرَّرت السجدة بعَينها. وأما المُعلم فيكثر ذلك عليه على قدْر كثرة أصحاب الأحزاب،٢٦ فأكثر القول التخفيف عنه من ذلك، فإن سجد في أول مرة فحسنٌ. ولقد قال مالك: ولو كان على مَنْ تعلَّم إذا مرَّ بسجدة يسجد، لسجد الرجل سجودًا كثيرًا، فليس التعليم كغيره. قال أبو الحسن: فافهم؛ فقد بينتُ لك من مسائلك التي جرت في هذا المعنى بيانًا حسنًا.
وسألتَ عما ذُكر من أن القرآن في صلاةٍ خير من القرآن في غير صلاة، والقرآن في غير صلاة خير من الذكر، والذكر خير من الصدقة، هل هذا ثابت أم لا؟ فاعلم أني قد سمعته سماعًا هكذا ولم أقف على صِحته بهذا النص. ولكن قول الرسول [٢٤-أ] عليه السلام إن المُصلي يُناجي ربه فلينظُر ما يُناجيه به. فقد تبيَّن لك أنه قد جاء في المُصلي ما لم يأتِ في غير المُصلي، وهو زيادة فضل. وأما فضل قراءة غير المُصلي على سائر الذكر، فقول الله عز وجل: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ (الزمر: ٢٣) بين أن القرآن أحسن القول، مع سائر ما جاء في القرآن من حسن الثناء على القرآن وما لقارئه فيه من اتساع الفوائد. وأما الذِّكر فخير من الصدقة، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة، قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور٢٧ بالدرجات والنعيم المُقيم، قال: كيف ذاك؟ قال: صلَّوا كما صلَّينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال. قال: أفلا أخبِرُكم بأمرٍ تُدركون مَنْ كان قبلكم وتسبقون مَنْ جاء بعدكم، ولا يأتي أحد بمِثل ما جئتم به إلا من جاء بمِثله: تسبحون في دُبر كل صلاةٍ عشرًا [٢٤-ب] وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا.٢٨ قال أبو الحسن: الإقبال على ذكر الله عز وجل يُورث القلوب الإشفاق من خشية الله، ويُدخلها التذكارَ لعظمة الله، فهي مع ذلك تستلين لربِّها وتتضرَّع. والصدقة عطاء يفعله المرء — إذا كان مُتطوعًا — لله جل وعز، لا يكاد يُحيط بصحته له علمًا، مع ما يدخل في ذلك من وسواس الشيطان، والله أعلم. وذِكر الله حرزٌ من الشيطان، وحُسن الظن بالله أولى على كل حال، والله ولي التوفيق.
وأما سؤالك عما لِمَنْ علَّم القرآن لولده، فيكفيك منه قول الرسول عليه السلام: خيركم مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّمه.٢٩
والذي يعلم القرآن لولده داخل في ذلك الفضل. فإن قلت: إنه لا يلي تعليمه بنفسه، ولكنه يستأجِر له مَنْ يُعلمه، فاعلم أنه هو [٢٥-أ] الذي يُعلِّم ولده، إذا أنفق ماله عليه في تعليمه القرآن، فلعلَّه أن يكون بما علمه من ذلك، من السابقين بالخيرات بإذن الله تعالى، وتكون هذه الدرجة هي نية هذا الوالد في تعليم ولده القرآن. وما زال المسلمون وهم يرغبون في تعليم أولادهم القرآن، وعلى ذلك يُربونهم، وبه يبتدونهم وهم أطفال لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يعلمون إلا ما علمهم آباؤهم. فقد جاء في الصحيح، من حديث هشام، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: جمَعْنا المُحكم في عهد رسول الله ، فقلت له: وما المُحكم؟ قال: المُفصَّل. وفي حديث أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أن الذي تدعونه المُفصل هو المُحكم.٣٠ وقال ابن عباس: تُوفِّي رسول الله ، [٢٥-ب] وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المُحْكَمَ.٣١ وقد قال أبو موسى: قال رسول الله : أيما رجل كانت عنده وليدة فعلَّمَها فأحسن تعليمها، وأدَّبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوَّجها فله أجران؛ وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيِّه، وآمن بي، فله أجران؛ وأيما مملوك أدَّى حق مواليه، وحق ربه، فله أجران.٣٢ فإذا كان لمن علَّم وليدة فأحسن تعليمها، وصنع فيها ما قال في هذا الحديث يكون له أجران، فالذي يعلم ولده فيُحسن تعليمه، ويؤدِّبه فيحسن تأديبه، فقد عمل في ولده عملًا حسنًا، يُرجى له من تضعيف الأجر فيه، كما قال الله جل وعز: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (البقرة: ٢٤٥). وقد جاء أن رسول الله مر بامرأة في مَحفَّتها، فقيل لها: هذا رسول [٢٦-أ] الله، فأخذت بعضد صَبي معها، وقالت: ألهذا حج؟ فقال رسول الله نعم ولكِ أجر.٣٣ فهل يكون لهذه المرأة أجر فيما هو لصبيِّها حج، إلا من أجل أنها أحضرته ذلك الحج، ووَلِيَت القيام به فيه. وإنما له من ذلك الحج بركة شُهُودِه الخَيْرَ، ودعوةُ المسلمين. والذي يناله الصبي من تعليمه القرآن هو عِلم يبقى له بحوزه؛ وهو أطول غناء، وأكثر نفقة. وهذا أبين من أن يطال فيه بأكثر من هذا. وقد قال رجل لابن سحنون رحمة الله عليه، ممَّن يطلب ابنه العلم عنده: إني أتولَّى العمل بنفسي، ولا أشغله عما هو فيه، فقال له: أعلمتَ أن أجرك في ذلك أعظم من الحج والرباط والجهاد.
وأما سؤالك عن رجلٍ امتنع أن يجعل ولده في الكتَّاب هل للإمام أن يُجبره؟ وهل الذكر والأنثى في ذلك [٢٦-ب] سواء؟ فإن قلت لا يَجبره فقل يوعظ ويؤثَّم. وكيف إن لم يكن له والد وله وصي، فهل يلزم ذلك بالجبر؟ فإن لم يكن وصي فهل ذلك للولي أو للإمام؟ فإن كان لا أحد لهذا الولد فهل للمُسلمين أن يفعلوا ذلك من ماله؟ فإن لم يكن له مال فهل على المُسلمين أن يؤدُّوا عنه، أو يكون في الكُتَّاب ولا يُكلفه المُعلم إجارة؟ وكيف إن كان له أب وله مال ولا يُبالي ذلك، فهل للإمام أن يسجنه، أو يضربه على ذلك أم ليس ذلك عليه؟ وكيف إن كان هذا في بلدٍ لا سلطان يكرههم على الواجبات، وينهاهم عن المنكرات، فهل٣٤ نُبيح لجماعةٍ من المسلمين المُرضين دينهم، أن يقوموا مقام السلطان، أم ليس يجوز ذلك؟

الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد
قال أبو الحسن: إن الذي قدمت لك مما يُرجى للوالد في تعليم ولده القرآن، إنما هو على وجه الترغيب للوالد في تعليم ولده الطفل، الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يميز لنفسه ما يأخذ لها، وما يدفعه عنها، وليس له ملجأ إلا لوالده، الذي تجِب عليه نفَقتُه لمعيشته. فما زاده بعد ذلك الواجب، فهو إحسان من الوالد للولد، كما لو أحسن للأجنبيين، أو لمن لا يلزمه نفقته ولكن يُرجى له فيما أحسن به إلى ولده المحتاج إليه ما هو أفضل، إذ ليس يشركه فيه غيره، ولا حيلة للطفل يستعين بها فيستغني بنفسه فيها عن نظر والده له فيها. وقد أُمِرَ المُسلمون أن يعلموا أولادهم الصلاة، والوضوء لها، ويُدرِّبوهم عليها، ويؤدبوهم بها ليسكنوا إليها ويألفوها، فتخف [٢٧-ب] عليهم إذا انتهوا إلى وجوبها عليهم. وهم لا بد لهم إذا علموهم الصلاة، أن يعلموهم من القرآن ما يقرءونه فيها. وقد مضى أمر المسلمين أنهم يُعلِّمون أولادهم القرآن، ويأتونهم بالمُعلمين، ويجتهدون في ذلك، وهذا مما لا يمتنِع منه الوالد لولده وهو يجد إليه سبيلًا، إلا مداركة شح نفسه، فذلك لا حُجة له. قال الله سبحانه: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحُّ (النساء: ١٢٨)، وقال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (التغابن: ١٦). ولا يدع أيضًا هذا والد واحد تهاونًا واستخفافًا لتركه، إلا والد جافٍ لا رغبة له في الخير. إن الله سبحانه وصف في كتابه عباده فقال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا … إلى قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (الفرقان: ٦٣–٧٤). فمن رغب إلى ربه أن يجعل له [٢٨-أ] من ذُريته قُرة عين، لم يبخل على ولدِه بما ينفق عليه في تعليمه القرآن. قال الله جل ذكره: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (الطور: ٢١) أي وما نقصناهم من عملِهم من شيء؛ فما يدع الرغبة في تعليم أهله وولده الخير شحًّا على الإنفاق أو تهاونًا به يفقدهم ذلك الخير، إلا جافٍ أو بخيل. إنَّ حُكم الولد في الدين حُكم والده، ما دام طفلًا صغيرًا، أفيدَع ابنه الصغير لا يُعلمه الدين، وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين؟ ألم يسمع قول الرسول عليه السلام: كل مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه كما تناتج الإبل من بهيمةٍ جمعاء، هل تحسن من جَدْعَاء، فقالوا يا رسول الله: أفرأيت من يموت وهو صغير؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين.٣٥ فأخبر بما يُدرِك الولدَ من أبويه مما يُعلِّمانه. فمَن [٢٨-ب] مات قبل أن يبلغ أن يعلم، ردَّ رسول الله أمره، إلى علم الله بهم ما كانوا عاملين لو عاشوا. فإذا كان ولد الكافرين يُدركهم الضرر من قِبَل آبائهم، انْبَغَى أن يدرك أولاد المؤمنين النفعُ في الدين من قِبل آبائهم. ولقد استغنى سلف المؤمنين أن يتكلَّفوا الاحْتِجَاج في مثل هذا، واكتفَوا بما جعل الله في قلوبهم من الرغبة في ذلك فعملِوا به، وأبقوا ذلك سنةً ينقلها الخلَف عن السلَف ما احتسب في ذلك على أحد من الآباء، ولا تبين على أحد من الآباء أنه ترك ذلك رغبةً عنه ولا تهاونًا به، وليس هذا من صفة المؤمن المُسلم. ولو ظهر على أحد أنه ترك أن يُعلِّم ولده القرآن تهاونًا بذلك، لجُهِّلَ وقُبِّحَ ونُقِّصَ حاله، وَوَضُعَ عن حال أهل القناعة والرضا. ولكن قد يُخَلِّفُ الآباء عن ذلك قلة ذات اليد، فيكون معذورًا حسب ما يتبيَّن من صحة عُذره.

[٢٩-أ] وأما إن كان للولد مال، فلا يدعه أبوه أو وَصِيُّه — إن كان قد مات أبوه — وليدخل الكُتَّاب، ويؤاجر المُعلم على تعليمه القرآن من ماله حسب ما يجب. فإن لم يكن لليتيم وصي نَظَر في أمره حاكم المسلمين، وسار في تعليمه سيرةَ أبيه أو وصيِّه. وإن كان ببلدٍ لا حاكم فيه، نُظِرَ له في مثل هذا، لو اجتمع صالحو ذلك البلد على النظر في مصالح أهله؛ فالنظر في هذا اليتيم من تلك المصالح. وإن لم يكن لليتيم مال، فأمه أو أولياؤه الأقرب فالأقرب به، هم المرغبون في القيام به في تعليم القرآن. فإن تطوع غيرهم بحمل ذلك عنهم، فله أجره. وإن لم يكن لليتيم من أهله مَنْ يُعنى به في ذلك، فمن عُني به من المسلمين فله أجره؛ وإن احتسب فيه المعلم فعلَّمه لله عز وجل، وصبر على ذلك، فأجره إن شاء الله يُضَعَّفُ في ذلك، إذ هي صنعته التي [٢٩-ب] يقوم منها معاشه، فإذا آثره على نفسه استأهل — إن شاء الله — حظًّا وافرًا من أُجور المؤثرين على أنفسهم، ويكفيك من البيان عما وصفت لك من ثواب من رغب في ذلك وسارع إليه، الذي تقدم عن الرسول عليه السلام، إذ قال للمرأة: نعم، ولكِ أجر.

وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم فهو حسن ومِن مصالحها. فأما أن تُعلَّم الترسُّل والشِّعر وما أشبهه، فهو مَخوف عليها. وإنما تُعلَّم ما يُرجى لها صلاحه، ويُؤمَن عليها من فتنته؛ وسلامتها من تعلُّم الخط أنجى لها. ولمَّا أذن النبي للنساء في شهود العيد أمرهنَّ أن يُخرِجْنَ العواتق ذوات الخدور أو العواتق وذوات الخدور، وأمر الحائض أن تعتزِل مُصلى الناس، وقال: يشهدن الخير ودعوة المسلمين. فعلى مثل هذا يُقبَل في تعليمهن الخير الذي يُؤمَن عليهن [٣٠-أ] فيه، وما خيف عليهن منه، فصرْفه عنهن أفضل لهن، وأوجب على مُتولي أمرهن. فافهم ما بيَّنتُ لك، واستهدِ الله يهد، وكفى به هاديًا ونصيرًا.

واعلم أن الله جل وعز قد أخذ على المؤمنات فيما عليهن، كما أخذ على المؤمنين فيما عليهم، وذلك في قوله جل وعز: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا … الآية (الأحزاب: ٣٦) وقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ … الآية (التوبة: ٧١)، وجمعها في حُسن الجزاء في غير آية من كتابه، وفي قوله تعالى: وعد الله المؤمنين والمؤمنات … الآية (التوبة ٧٢)، وأمر أزواج نبيه عليه السلام أن يذكُرنَ ما سمِعنَ منه فقال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (الأحزاب: ٣٤) فكيف لا يُعلَّمْنَ الخير، وما يُعين عليه، ويصرف عنهن القائم عليهن ما يحذَر عليهن منه؛ إذ هو الراعي فيهنَّ والمسئول عنهن، والفضل [٣٠-ب] بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ذكر ما أراد أن يُبين له فيما يأخذه المُعلمون على المتعلمين

وسنَّة ذلك، وما يصلح أن يُعلَّم للصبيان مع القرآن، وما على المُعلم أن يعلمهم إيَّاه من سائر مصالحهم، وما لا ينبغي له أن يأخذ منهم عليه أجرًا إن هو علَّمَهم إيَّاه على الانفراد. وهل يُعلم المسلم النصراني، أو يُترَك النصارى يُعلِّمون المسلمين؟ وهل يشترِط المُعلم للحذقة أجلًا معلومًا؟

قال أبو الحسن: قدمت فوق هذا الباب ما جاء لمن علم القرآن، وبيَّنتُ ما يؤكد تعليمه، والحرصَ عليه، ويُحذِّر مما يَشْغل عنه لئلا ينساه مَنْ حَفِظَه، بما فيه الكفاية وفي قول الله عز وجل لنبيه عليه السلام: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ [٣١-أ] هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: ١٩) ما يُلْزِم القيام بتعلم القرآن حتى يقوم له من يُبلِّغه إلى يوم القيامة. وكذلك قوله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (القمر: ١٧). وهو مُيسَّر للذكر إلى يوم القيامة، وما اختلف المسلمون أن القرآن هو حُجة الله على عباده إلى يوم القيامة، وأن على المسلمين القيامَ به، والدعوةَ إليه إلى يوم القيامة. وفي الصحيح لطلحة بن مُطَرِّف قال: سألتُ عبد الله بن أبي أوفى: هل أَوصَى النبي ؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتَب على الناس الوصية، أو أمر بها، ولم يُوص؟ قال: أوصى بكتاب الله.٣٦ ومشتهر عند المسلمين أنه جاء عن النبي أنه قال: تركت فيكم أمرَين لن تضلوا ما تمسكتُم بهما: كتاب الله وسُنَّتِي. فهو شيء لا بدَّ من تعلُّمه، ولكن من قام به فله أجره، ومن لم يقُم [٣١-ب] به ترك حَظَّه، وأعوذ بالله أن يتفق المسلمون على ترك القيام به، ولو كان كذلك لكانت الهلكة المُبيرة، فأعوذ بالله مِن غضبه ومن أن يُنْتَزَعَ كتابُه من صدور المؤمنين. وأسأله أن يُثبت القرآن في قلوب المؤمنين، وأن يشرح صدورهم له، وأن يُقبلوا بقلوبهم على استذكاره وحسن تدبره حتى يُفقِّههم فيه على ما بَيَّنَه لهم الرسول المبين، محمد خاتم النبيين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا، فيهديهم بذلك صراطه المستقيم، وسبيله المُستبين، الذي درج عليه صالحو سلف المؤمنين. فإنه عز وجل قال: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [٣٢- أ] وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (لقمان: ١٤-١٥). وأعوذ بالله من مُضلات الفتن التي حذَّر منها ومن كونها في آخر الزمان الرسول عليه السلام، وأسأل الله الكريم أن يُدخلنا برحمته في عباده الصالحين، المُعتصمين به المنصورين، فإنه قد جاء عن الرسول عليه السلام أنه قال: لا تزال طائفة من أُمتي على الحق ظاهرين، لا يضرُّهم مَنْ خالفهم حتى يأتي أمر الله. وأهل الحق لا يزالون يستشيرون القرآن، ويهتدون في استبانته بما بيَّنه الرسول عليه السلام، مُقتدين في ذلك بما عرفه أئمة الدين من سالف الأمة المَرضيِّين.

ثم اعلم أن أئمة المسلمين في صدر هذه الأمة، ما منهم إلا من قد نظر في جميع أمور المسلمين بما يُصلحهم في الخاصة والعامة، فلم يبلُغنا أن أحدًا منهم أقام مُعلمين يعلمون للناس أولادهم [٣٢-ب] من صغرهم في الكتاتيب، ويجعلون لهم على ذلك نصيبًا من مال الله جل وعز، كما قد صنعوا لِمن كلَّفوه القيام للمسلمين، في النظر بينهم في أحكامهم، والأذان لصلاتهم في مساجدهم، مع سائر ما جعلوه حفظًا لأمور المسلمين، وحيطةً عليهم، وما يمكن أن يكونوا أغفلوا شأن مُعلم الصبيان، ولكنهم — والله أعلم — رأوا أنه شيء مما يختص أمره كل إنسان في نفسه، إذ كان ما يُعلمه المرء لولده، فهو من صلاح نفسه المُختص به، فأبقوه عملًا من عمل الآباء، الذي يكون لا ينبغي أن يحمله عنهم غيرهم إذا كانوا مُطيقيه. ولما ترك أئمة المسلمين النظر في هذا الأمر، وكان مما لا بدَّ منه للمسلمين أن يفعلوه في أولادهم، ولا تطيب أنفسهم إلا على ذلك، واتخذوا لأولادهم مُعلمًا يختص بهم، ويداوِمُهم، ويرعاهم حسب ما يرعى المُعلم صبيانهم، وبَعُدَ [٣٣-أ] أن يمكن أن يُوجَد من الناس من يتطوَّع للمسلمين فيُعلِّم لهم أولادَهم ويحبس نفسه عليهم، ويترك التماس معايشه، وتصرفه في مكاسبه وفي سائر حاجياته، صَلُحَ للمسلمين أن يستأجروا مَنْ يكفيهم تعليم أولادهم، ويُلازمهم لهم، ويكتفي بذلك عن تشاغُله بغيره. ويكون هذا المُعلم قد حمل عن آباء الصبيان مئونة تأديبهم، ويبصرهم استقامة أحوالهم، وما يُنَمِّي لهم في الخير أفهامهم، ويُبْعِد عن الشر ما لَهم، وهذه عنايةٌ لا يكثر المتطوعون بها. ولو انتُظِرَ من يتطوع بمعالجة تعليم الصبيان القرآن، لضاع كثير من الصبيان، ولما تعلم القرآن كثير من الناس، فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية التي تُثَبِّتُ أطفال المسلمين على الجهل، فلا وجه لتضييق ما لم يأتِ فيه ضيق، ولا ثبت [٣٣-ب] فيه عن الرسول عليه السلام ما يدل على التنزيه عنه.

ولقد ذكر الحارث بن مسكين في تاريخ سَنة ثلاثٍ وسبعين، أخبرَنا ابن وهب قال: سمعتُ مالكًا يقول: كل مَنْ أدركتُ من أهل العلم لا يرى بأجر المعلمين — معلمي الكتَّاب — بأسًا. ولابن وهب أيضًا في مُوطَّئه عن عبد الجبار بن عمر قال: كل مَنْ سألتُ بالمدينة لا يرى لتعليم المُعلمين بالأجر بأسًا. وللحارث عن ابن وهب قال: وسُئل مالك عن الرجل يجعل للرجل عشرين دينارًا، يُعلِّم ابنه الكتب، والقرآن حتى يحذقه، فقال: لا بأس بذلك، وإن لم يضرب أجلًا. ثم قال: والقرآن أحق ما يُعَلَّم، أو قال عُلِّم. وقال ابن وهب في موطئه: سمعت مالكًا يقول: لا بأس بأخذ الأجر على تعليم القرآن والكتاب. قال: فقلت لمالك: أفرأيتَ إذا شرط من ماله من الأجر في ذلك شيئًا مُسمَّى كلَّ فِطرٍ أو أضحى؟ [٣٤-أ] قال لا بأس بذلك. قال، قال أبو الحسن: ولقد مرَّت بي حكاية تُذكَر عن ابن وهب أنه قال: كنتُ جالسًا عند مالك فأقبل إليه مُعلم الكُتَّاب، فقال له: يا أبا عبد الله، إني رجل مؤدِّب الصبيان، وإنه بلغني شيء، فكرهتُ أن أشارط، وقد امتنع الناس عليَّ، وليس يُعطونني كما كانوا يعطون، وقد اضطررتُ بعيالي وليس لي حيلة إلى التعليم. فقال له مالك اذهب وشارط. فانصرَفَ الرجل. فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله، تأمُرُه أن يشترط على التعليم؟ فقال لهم مالك: نعم. فمن يُمَحِّط٣٧ لنا صبياننا؟ ومَنْ يؤدبهم لنا؟ لولا المُعلمون، أي شيء كنَّا نكون نحن؟ ويَشُدُّ ما في هذه الحكاية عن مالك ما ذكَرَه ابن سحنون قال: حدَّثونا عن سفيان الثوري، عن العلاء بن السائب، قال: قال ابن مسعود: ثلاثٌ لا بدَّ للناس منهم؛ من أمير يحكم [٣٤-ب] بينهم، ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضًا؛ ولا بدَّ للناس من شراء المصاحف وبيعها، ولولا ذلك لبطل كتاب الله؛ ولا بدَّ للناس من مُعلِّم يُعلم أولادهم، ويأخذ على ذلك أجرًا، ولولا ذلك كان الناس أُميِّين. يريد لولا المصاحف لنُسِيَ القرآن. وكلُّ هذا يشدُّ لك قولي: فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فَقْدِ القرآن من الصدور.
وقد احتج كثير من علمائنا في جواز أخذ الإجارة، بشرطٍ كانت أو بغير شرط أن الناس قد عملوا به، وأجازوه، وذكروا ذلك عن عطاء بن أبي رباح، وعن الحسن البصري، وعن غير واحدٍ من الأئمة والصالحين، فمَنْ زعم أنه يكرَه الشرط فيه، ويُجيزه بغير شرط، لِمَ فَرَّقَ بينهما؟ هل هو يكرهه إذا اشترط إلا من قِبَل أنه أخذ عِوضًا عن تعليمه القرآن؟ وإنما يجب أن يُعلِّم لله. أفليس هكذا إذا أخذه بغير شرط؟ ومن علِم أنه سيُعطى [٣٥-أ] أليس هو كالشرط؟ وإذا كان مُقام التعليم مُقام الصدقات التي إنما يُراد بها وجه الله، كيف يصلح أن يؤخَذ عليها عِوض؟٣٨ هذا ما لا ينبغي ولكن ما يُؤخَذ على تعليم القرآن، ليس معناه أن يُؤخَذ مُعارضةً هكذا، لعلَّةِ ما فَهَّم المُعلم من القرآن، وإنما هو عِوَض من العناية بالتعليم، والقيام لرياضته حسب ما تقدَّم من أول. وما كان إنما يُعْمَل لله، لا يجوز أن يُعمَل لغير ذلك من الأعواض التي تُنال في الدنيا، إلا على معنى غير المُعاوضة من العمل نفسه الذي لا يكون إلا لله. وذكر في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: انطلق نفر من أصحاب رسول الله في سفرةٍ سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يُضيِّفوهم؛ فلُدغ سيد ذلك الحي، فسَعَوا إليه بكل شيءٍ لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء [٣٥-ب] الرهط الذين نزلوا، لعلَّه أن يكون عندهم بعض شيء. فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدِغَ، وسعَينا له بكلِّ شيءٍ لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي. ولكن والله لقد استضفناكم، فلم تُضيِّفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعلًا؛ فصالَحَهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفُل عليه ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال، فانقلب يمشي وما به قلبةٌ. فقال: فأوفوهم جُعلَهم الذي صالحوهم عليه. فقال بعضهم: اقسِموا. قال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله فنذكُر له الذي كان، فننظُر ما يأمُرنا. فقدِموا على رسول الله فذكروا له فقال: وما يُدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتُم، اقسِموا واضربوا لي معكم سهمًا [٣٦-أ]، وضحِك النبي .٣٩
قال البخاري: وقال ابن عباس، قال النبي : أحقُّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله.٤٠ قال، وقال الحَكَم: لم أسمع أحدًا كرِهَ أجر المُعلم. وقال الشعبي: لا يشترط المُعلم إلا أن يُعطى شيئًا فيقبله، وأعطى الحسَن عشرة دراهم. وأما النسائي فقال: أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدَّثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السقر، عن الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمِّه قال: أقبلنا من عند النبي ، فأتينا على حيٍّ من العرب، فقالوا: هل عندكم دواء أو رُقية، فإنَّ عندنا مَعتوهًا في القيود. فجاءوا بمَعتوه في القيود، فقرأتُ عليه فاتحة الكتاب ثلاثةَ أيام غدوةً وعشية، أجمع بُزَاقي وأتفُل، فكأنما نشطَ من عقال. فأعطوني جُعلًا، فقلت: لا. فقالوا: سَلِ النبي . فسألته، فقال: كُلْ، فلعمري من أكلَ برُقْيةِ باطل، فلقد أكلتَ برقيةِ حق. وقال أبو داود السجستاني: حدثنا عبد الله بن معاذ، قال: حدَّثنا شعبة بإسناده عن خارجة بن الصلت عن عبد الله، أنه مرَّ بقوم فأتوه، فقالوا: إنك جئتَ من عند هذا الرجل بخيرٍ فارْقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجلٍ معتوه في القيود، فرقاه بأمِّ القرآن ثلاثة أيام غدوةً وعشية، كلَّما ختمَها جمع بزاقه ثم تفَل، فكأنما أنشط من عقال، فأعطوه شيئًا. فأتى النبي ، فذكر له. فقال له النبي : كُلْ؛ فلعمري فلمن أكلَ برُقيَةِ باطلٍ لقد أكلتَ برقيةِ حق. قال أبو الحسن. فهذا الحديث موافق للذي تقدَّم ذِكره عن الصحيح يُصدِّق بعضه بعضًا، في إجازة أخذ الإجارة على كتاب الله ممَّن ينتفع به. وقد بُيِّنَ في حديث أبي سعيد الخدري، أن الراقي يشترط عليهم [٣٧-أ] الجُعل على رُقيته وهو [إتفاله]٤١ في ذلك العناء الذي عُني بالملدوغ حتى شفاه الله بكتابه. وفيه قال النبي واضربوا لي معكم بسهم. فذهب عن هذا الكسْب الذمُّ كلُّه، ولا إعافة فيه، ولا فيما مغناه مغنى. وفي حديث خارجة بن الصلت، عن عمِّه، أن أهل المَعتوه أعطوه، ولم يكن شرَط. فذكر عن النبي إباحته له، وإن كان لم يشترط. وبين في حديث النسائي أنه أبى أن يأخذ، فقالوا له: سَلِ النبي ، وفي هذا بيان أنه رَقى، ولم يكن في نفسه أخذُ شيء، فلم يمنع من قبوله. وما في حديث أبي داود أنه أخذ ما أعطوه، وإذا كان لم يأخُذ ما أُعطيَ حتى سأل، فيُحتَمَل أن قول النبي — إن صح الحديث كل إلى آخره — معناه الإذن له — فيما يُستقبَل — أن يفعل ذلك، ليأخُذ عليه الأجر [٣٧-ب] ولا يتأثَّم منه. وما في نص حديث خارجة، ما يدل على أنه أخذ من هذا المَعتوه شيئًا بعد إذن النبي له في ذلك. وكذا يُحتمَل أنه ما فعل لأنه قصده في أول رُقياه، إنما كان لله عز وجل احتسابًا، والاحتساب لا يصلُح أخذ العِوَض عنه. فإن قيل: فقد قال ابن وهب أخبرَني عروة بن الحارث، والليث بن سعد، عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي عبد الرحمن، أنه بلَغَه أن رجلًا من الأنصار جاء النبي ومعه قوس، فأبصرها النبي فقال: من أين لك هذه القوس؟ فقال: أعطانيها رجل ممَّن يستقرئني. فقال: اردُدْها وإلا فقوس من نار. وقال: اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تُراءوا به، ولا تَسَمَّعوا به. قال أبو الحسن: هذا يُوضِّح لك أن في الصحيح له أصل، كما بحديث خارجة بن الصلت الذي [٣٨-أ] قدَّمناه. فأما قوله اقرءوا القرآن إلى آخر الحديث، فمعناه ليس من معنى الإجارة على تعليم القرآن والرقية به في شيء. إنما معنى ما صحَّ نقلُه من هذا، عيب من لا يقرأ القرآن إلا ليأكُل به، أي من أجل أنه يقرأ القرآن يطعم، فيقرأ هو القرآن لهذه العلة. وقارئه للرقية وللتعليم، إنما يريد به نفع المَرقي والمُعَلَّم بالعِوض ليس من قراءته القرآن، إنما هو من عنايته بالمَرقي والمُعلم. والأجر المعيب إنما يطعَم لقراءته، وللإطعام قرأ، لا لينفع بقراءته أحدًا. ألا ترى كيف قيل: ولا تُراءوا به ولا تُسمِّعوا به. وقصد هذَين٤٢ الثناء عليهما بما أظهرا من ذلك، كما قصد الآخر أن يأكل به لا منفعة في ذلك لأحد. وأما قصة القوس فقد قال فيها أبو داود: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن مُغيرة [٣٨-ب] بن زياد، عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة، عن عبادة بن الصامت، قال: علمتُ ناسًا من أهل الصُّفَّة٤٣ الكتاب والقرآن، فأهدى لي رجل منهم قوسًا، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله فلأسألنه. فأتَيْتُه، فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى لي قوسًا ممن كنتُ أُعلِّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. فقال: إن كنتَ تُحِب أن تكون طوقًا من النار فاقبلها. وقال: حدَّثنا عمر بن عثمان، وكُثير بن عبيد، قالا: حدثنا معبد، قال: حدَّثني بشر بن عبد الله بن بشار. قال عمرو: قال حدَّثني عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أُمية، عن عبادة بن الصامت بنحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال: جمرة بين كتفيك تقلَّدتَها أو تعلَّقتَها. قال أبو الحسن: هذه الأسانيد ليس بمِثلها [٣٩-أ] تضيق ما دلَّت الأسانيد الصحيحة على جوازه وسَعَتِه، ولو ثبت نقل حديث هذا القوس على ما ذكر، لتوجَّه إلى معانٍ: منها أن هذا المُعلَّم إنما كان يُعلِّمه لله، لا يرجو على ذلك من المُتعلم أخذ شيءٍ من الدنيا، فيمكن أن يكون هذا المُتعلِّم ممن لا يصلح أن يقبل منه تطوُّع عطائه؛ ورأى هذا المُعلِّم أن القوس ليست مالًا كما قال، وإنما هي آلة يُستعان بها في الحرب. ولعلَّ مُعطيها لا يصلح لشهود الحرب، فرأى المُعلم أن أخذه إيَّاها ليُقاتل بها في سبيل الله يتسع له، فأخذها ليستشير فيها رسول الله ، كما نص في حديث أبي داود هذا له، فقال له: إن كنتَ تُحب أن تُطوَّق طوقًا من النار فاقبلها. فمَثَّل له العقوبة في أخذها بما جاء من العقوبة في أكل أموال اليتامى ظلمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا (النساء: ١٠)، والقوس ليست تؤكَل [٣٩-ب] إنما توضع على العنق وبين الأكتاف، لأنها تتقلد؛ إذ رأى رسول الله أن أخذه إيَّاها من الظلم لدافعها؛ إذ ليس ذلك واجبًا عليه، إذ كان تعليمه من وجه الصدقة عليه، وهو ممَّن لا يصلُح له أن يُعطي. ويمكن أن يكون هذا كما قال ابن حبيب على أثر روايته لقصة القوس: إنما تأويل هذا النهي، ومعنى هذا الحديث، أن ذلك كان في مُبتدأ الإسلام، وحين كان القرآن قليلًا في صدور الرجال، غير فاشٍ ولا مُستفيض في الناس، وكان الأخذ على تعليمه يومئذ، وفي تلك الحال، إنما ثمنًا للقرآن. وأما بعد أن صار فاشيًا في الناس، قد أثبتوه في المصاحف، وصارت المصاحف وما فيها مُباحة للجاهل والعالِم، وللقارئ وغير القارئ، غير محجوبة ولا ممنوعة، ولا مطلوبة إلى قوم [٤٠-أ] دون قوم، ولا مخصوص بها قوم دون غيرهم، فإنما الإجارة على تعليمه، إجارة البدَن المُشتغِل بذلك، وليس ثمنًا للقرآن، كما أن بيع المصاحف إنما هو بيع للرقوق والخط والصنعة، وليس بيعًا لما فيها؛ لأن الذي فيها موجود غير مطلوب إلى أحد، ولا محجوب عن أحد، ولا ممنوع من أحد، ولا مخصوص به بائع المصحف دون مُشتريه. وكذلك تعليم ما في المصاحف إنما هو ثمن وإجارة للمُعلم في اشتغاله بمن علَّمَه، وانفراده بمن علَّمه، وشغل نفسه بمن قعد لتعليمه. وقد علَّم الكتاب والقرآن رجالٌ من أئمة هذا الدين، لم يرَوا به لأنفسهم بأسًا ولم يُرَ لهم به بأس.

قال أبو الحسن: يريد ابن حبيب بقوله: وصارت المصاحف مُباحة غير محجوبة ولا ممنوعة، أي مَنْ أراد شراءها أو اكتتابها، وجد ذلك مُمكنًا؛ فإذا كان كذلك [٤٠-ب] وكذلك أيضًا مَنْ أراد أن يتعلَّم القرآن من عند المُعلمين يجِده كثيرًا غير محجوب ولا ممنوع، إذا أعطى عليه الإجارة، كما يُعطي الثمن في المصاحف ليشتري منها ما يجوز شراؤه، كذلك يؤاجَر من المُعلم ما يجوز إجارته من اشتغاله به، وحركاته في تعليمه. وهذا كله حسب ما قدَّمتُ لك من البيان، كله يؤكد بعضه بعضًا، ويجيز إجارة المُعلم على تعليم القرآن، ويُجيز للمُعلم أن يأخذ الأجر على ذلك، ولا يضرُّه أخذ الأجر شيئًا إذا وَفَّى بشروط التعليم، وقد قدمتُ لك قول مالك عن كل مَنْ أدرك أنهم يُجيزون إجارةَ المُعلمين. وقد قال سحنون: قال ابن وهب: قال مالك: لا بأس بما يأخُذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئًا كان له حلالًا جائزًا، ولا بأس [٤١-أ] بالاشتراك في ذلك، وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العِلم ببلدِنا.

الحارث عن ابن وهب، قال: سُئل مالك عن الغلام يُدْفَع إلى المُعلم يُعلِّمه ثلث القرآن، ويشترط ذلك عليه بشيءٍ مُسمًّى، فقال: لا أرى بذلك بأسًا. قال أبو الحسن: ولقد مرَّت بي حكاية لمُوسى بن معاوية عن مَعن بن عيسى، قال: جاء رجل إلى مالك قال: علَّمتُ رجلًا سورةً بالأجر، قال: لا بأس به. قال أبو الحسن: وتعليم سورة على المُعلم، في حفظ المُتعلم لها عناء وشغل، فيمكن أخذ الأجر على ذلك. وحكاية أُخرى عن عليِّ بن أبي طالب قال: لا بأس أن يأخذ الرجل من الرجل الأجر على تعليم القرآن، ولا يجوز له إن قال له: أفتني هذا الحرف [٤١-ب] بِجُعل، أن يأخُذ منه عليه جُعلًا لأن الحرف أمرٌ يسير؛ أو هو مثل رجل يريد الإسلام فيقول للرجل: علِّمني الإسلام، فيقول له: فأعطني على تعليمي إياك جُعلًا، فإن هذا أيضًا لا يجوز مع ما فيه من القُبح. قال أبو الحسن: فهذا يُبين لك أن ما لم يكن على المعلم في تعليمه من الخير مئونة كلفةٍ وتشاغلٍ، أن عليه أن يُعلمه لمن لا يَعلَمه إذا كان لا بدَّ من تعليمه في الوقت. ومِثْلُ هذا لو أن أحدًا من أهل الكفر أتى لمُسلم، فسأله أن يُعلِّمه الإسلام لوجَبَ عليه أن يُعلمه ذلك، ولا يسأله عليه أجرًا. وإذا علَّمَه الإسلام فليُعلِّمه ما يكون به مُسلمًا: من الشهادة، وصفة الفروض، يُخبره أن عليه خمس صلوات يُصليهن على طهارة في كل يومٍ وليلة، ويُوقفه على عدد ركوع كل صلاة، ويُريه كيف [٤٢-أ] الركوع، وكيف الصلاة، وإن لم يجد مَنْ يُعلمه القرآن وجب على هذا الذي ابتُلِي به أن يُعلِّمه أم القرآن ليُصلي بها، ولا يأخذ منه على شيءٍ من ذلك أجرًا. ثم يذهب هذا الداخل في الإسلام فيتعلَّم ما يحتاج إليه من زيادةٍ على ما يجب عليه في يومه، ويصير إلى حال الواجدين للتعليم بالأجرة، والذي أجاز أهل العلم أخذ الإجارة على تعليمه القرآن والكتاب، ليس بين من يُجيز الإجارة على التعليم اختلاف في ذلك.

فأما تعليم الفقه والفرائض، يستأجر الرجل من يُعلِّم ولده ذلك، فسُئل ابن القاسم عنه فقال: ما سمعت — يعني من مالك — فيه شيئًا، إلا أنه كره بيع كتب الفقه، فإنا نرى الإجارة على تعليم ذلك لا تُعجبني، والشرط على تعليمها أشَرُّ. وأما ابن سحنون فذكر في كتابه، قال: [٤٢-ب] قال مالك لا أرى أن يجوز إجارة من يُعلِّم الفقه والفرائض. وقال لابنه: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشِّعر والنحو، وهو مثل القرآن، فقال: كرِه ذلك مالك وأصحابنا، وكيف يُشبَّه القرآن، والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعِلم أمر قد اختُلِف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شك فيه، والفقه لا يُستظهَر مثل القرآن، وهو لا يُشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه. قال ابن حبيب: قلت لأصبغ: فكيف جوَّزتُم الشرط على تعليم الشِّعر والنحو والرسائل، إذا لم تُسَمُّوا لذلك أجلًا، وهو مما ليس له مُنتهًى ينتهي منه إلى حدٍّ معروف؟ فقال لي: هو عندنا معروف بمنزلة الحِنَاطَةِ والخَبْزِ، وقد أجاز مالك الشرط على [٤٣-أ] تعليم الحِنَاطَةِ والخبز، وما أشبه ذلك من الصناعات، فإذا بلغ من ذلك مَبلغ أهل العلم به من الناس، وجب في ذلك حقه.

قال أبو الحسن: أما الاستئجار على تعليم الشِّعر لولده: فقال فيه ابن القاسم: قال مالك: لا يُعجبني هذا. والذي اختلَف فيه مَن قدَّمنا ذكره، إنما في إفراد العِلم بالإجارة على غير القرآن والكتابة، فأما ما كان من معاني التقوية على القرآن: من الكتابة والخط، فما اختلفوا فيه. ولقد ذكر ابن سحنون أنه ينبغي أن يُعلمهم إعراب القرآن، ذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسَن، والقراءة الحسنة بالتوقيف والترتيل، يلزَمُه ذلك، ويلزَمُه أن يُعلمهم ما علم من المقارئ الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إنْ أقرأهم بغيره إذا لم يكنْ مُسْتَشْنَعًا٤٤ [٤٣-ب]؛ ولا بأس أن يُعلمهم الخُطَب إن أرادوا. قال: ويُعلمهم الأدب، فإنه من الواجب لله عليه، وهو من النصيحة لهم، وحفظهم ورعايتهم. وينبغي للمعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك؛ أخبرنا عنه عبد الرحمن وقال: قال مالك: يُضرَبوا عليها بنو عشر، ويفرَّق بينهم في المضاجع. قلت: الذكور والإناث؟ قال: نعم. قال: ويلزَمُه أن يُعلمهم الوضوء والصلاة لأن ذلك من دينهم، وعدد ركوعها وسجودها، والقراءة فيها والتكبير، وكيف الجلوس، والإحرام، والسلام، وجميع التكبير، وما يلزمهم في الصلاة، والتشهُّد والقنوت في الصبح؛ فإنه من سنة الصلاة، ومن واجب حقِّها. وليُعلمهم الصلاة على الجنائز، والدعاء عليها، فإنه من دينهم؛ وينبغي [٤٤-أ] له أن يُعلمهم سُنن الصلاة، مثل ركعتي الفجر، والوتر، وصلاة العيدين، والاستسقاء، والخسوف، حتى يُعلمهم دينهم الذي تعبَّدهم الله عز وجل، وسنة نبيهم ، وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله عز وجل، ويعرفهم عظمته وجلاله، ليُكبروا على ذلك؛ وإذا أجدب الناس، فاستسقى بهم الإمام، فأحبُّ للمُعلم أن يخرج منهم بمن يعرف ليبتهِلوا إلى الله عز وجل ويرغبوا إليه، فإنه بلغَني أن قوم يونس عليه السلام لمَّا عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم يتضرَّعون إلى الله تبارك وتعالى بهم معهم، فرُفِع عنهم. وينبغي له أن يعلمهم الحساب، وليس ذلك بِلازمٍ له إلا أن يُشتَرَط عليه ذلك. وكذلك الشِّعر، والغريب، والعربية، وجميع النحو، هو في ذلك مُتطوع. ولا بأس أن يُعلمهم الشِّعر مما لا يكون فيه [٤٤-ب] فُحش، ومن كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجب عليه؛ كل هذا عند سحنون لا بأس أن يُعلمه الذي يُعلِّم القرآن والكتاب، يتطوَّع به، أو يُشترَط عليه. فأما إقراره بالإجارة على تعليم هذه الأشياء. ولم يكن القصد إلى تعليم القرآن والكتاب، فسحنون يأباه، كما تقدَّم عنه كل ذلك، لقول مالك في الإجارة على تعليم الشِّعر: لا يُعجبني. وأما ابن حبيب فقال: لا بأس بإجارة المُعلم على تعليم الشِّعر والنحو والرسائل وأيام العرب، وما أشبه ذلك من عِلم الرجال وذوي المروءات، لا بأس بالإجارة على ذلك كله. إلا أني أكره من تعليم الشِّعر وتعلُّمه وروايته الكبير والصغير، ما فيه ذكر الحميَّة والخنا، أو قُبح الهجاء. قال: وقد ثبتت الرواية عن رسول الله [٤٥-أ] أنه قال: إنما الشِّعر كلام فحَسَنه حسَن وقبيحه قبيح.٤٥ وقال رسول الله : إن من الشِّعر حكمة.٤٦ قال أبو الحسن: فثبتت الرواية عن رسول الله بقوله: إن من الشِّعر لحكمة. فأما، إنما الشِّعر كلام، فما أدري، ولكن ثبت عن الرسول عليه السلام قوله: لأَنْ يمتلئ جوف أحدكم قَيْحًا خير له من أن يمتلئ شِعرًا.٤٧ معناه — وثبت أيضًا قوله: لأن يمتلئ جوف رجلٍ قَيْحًا — فيما قال بعض العلماء: أن يكون الشِّعر غالبًا على الإنسان حتى يَصُدَّه عن ذكر الله عز وجل والعلم والقرآن. وثبت أيضًا أن الرسول عليه السلام قال: أصدق كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم.٤٨ معناه لما في شِعره من الثناء على الله، فلم ينفعه ذلك إذا مات ولم يُجِب إلى الإسلام. وأما لبيد، فقد أجاب إلى الإسلام. ويُقال إنه كفَّ في الإسلام عن قول الشِّعر تعظيمًا للقرآن والله أعلم. وليس يُعَد [٤٥-ب] شاعرًا مَنْ جرى له في بعض الأوقات كلام موزون، ولا سيما إذا كانت الفصاحة من طبعه، كما قال جندب: بينما النبي : يمشي إذا أصابه حجر فعثر، فدميت إصبعه، فقال: هل أنت إلا إصبع دَمِيتِ، وفي سبيل الله ما لقيتِ. ولا يُعَدُّ راويه شاعرًا. ومَنْ كان حفظ منه شيئًا يُقيم لسانه ويفصحه، ويأنس إليه في بعض الأوقات، ويستشهد به فيما يريد بيانه، لا بأس. فقد قال ابن وهب، قال الليث: سألت ربيعة عن تعليم النحو لإعراب القرآن، فقال: وددتُ لو أني أُحسنه. وقال ابن وهب أيضًا: حدَّثني حمَّاد بن زيد، عن يحيى بن عتيق قال: قلتُ للحسن: أرأيتَ الرجل يتعلم العربية ليُقيم بها لسانه، ويصلح بها منطقه؟ قال: نعم، فليتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية، فيعيا [٤٦-أ] بوجهها فيهلك. وإنما قصد ابن حبيب إلى جواز الإجارة على تعلُّم الشعر وما ذكره معه دون تعلُّم القرآن والكتاب، وهو الذي خالف فيه قول سحنون، ولكن إذا اشترط ذلك على المُعلم للقرآن فما بينهما في جوازه خلاف إن شاء الله؛ وكذلك ذكر ابن حبيب يعلمه من الشِّعر ما يُخالف فيه سحنون. ولسحنون: لا بأس بأن يستأجر مَنْ يُعلِّم ولدَه الخط والهجاء. وقال في المُدونة ابن وهب: وأخبرني حفص بن عمر، عن يونس، عن ابن شهاب أن سعد بن أبي وقَّاص قدِم برَجلٍ من العراق يُعلِّم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويُعطونه على ذلك الأجرة. وكذا هو في مُوطأ ابن وهب من روايتنا عن أبي الحسن ابن مسرور٤٩ عن أبي سليمان عن سحنون، عن ابن وهب أخبرني حفص بن عمر، عن يونس بن [٤٦-ب] يزيد، ثم كما قال في المدونة. وقال ابن حبيب فيه: حدَّثني أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، أن سعد بن أبي وقاص قدِم برجل من أهل العراق وكان يُعلِّم أبناءهم الكتاب والقرآن بالمدينة، ويُعطونه على ذلك الأجر. فأسقط من الإسناد حفص بن عمر وزاد مع تعلُّمهم الكتاب والقرآن، فالله أعلم. وقال محمد: سمعتُ سحنون يقول: لا أرى للمُعلم أن يُعلِّم أبا جاد؛٥٠ وأرى أن يتقدَّم إلى المُعلمين في ذلك. وقد سمعتُ حفص بن غياث يُحدِّث: أن أبا جاد أسماء الشياطين ألقَوْها على ألسنة العرَب في الجاهلية فكتبوها. قال محمد: وسمعتُ بعض أهل العلم يزعُم أنها اسم ولد سابور ملك فارس، أمر العرب الذين كانوا في طاعته أن يكتبوها، فلا أرى لأحدٍ أن يكتبها [٤٧-أ] فإن ذلك حرام. قال أخبرني سحنون بن سعيد، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قوم ينظرون في النجوم، يكتبون أبا جاد أولئك لا خَلاق لهم. ولسحنون قال: ولا أرى أن يُعلمهم ألحان القرآن؛ لأن مالكًا قال: لا يجوز أن يُقرأ القرآن بألحان. ولا أرى أن يعلمهم التغبير؛٥١ لأن ذلك داعية إلى الغناء، وهو مكروه. وأرى أن يُنهى عن ذلك بأشدِّ النهي. قال: ولقد سُئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمعون فيها للقراءة، فقال: بدعة. وأرى للوالي أن ينهاهم عن ذلك، ويُحسِن أدبهم. وقال أبو الحسن: نهى مالك عن الاجتماع في المجالس لاستماع القراءة بالألحان وما يصحبه من تغبير، وغير ذلك مشهور. فكل ما نهى عنه سحنون المُعلم والمُتعلم في هذا الباب، كله صحيح [٤٧-ب] المُوافقة لمذهب مالك، على ما جرى من تشديد أو كراهية.

فافهم، فقد بينتُ لك وجوه جواز أخذ الإجارة على تعلُّم القرآن، وما يجوز أن يُعلم بالأجر، وما يُكرَه من ذلك للمُعلم والمتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة، ليستبين طالب الحلال ما يصفو له به الحال في أُجرة التعليم، وما يُنزَّه منه ذو الورع من ذلك. وبينتُ لك ما ينبغي للمسلم أن يتعلمه أو يُعلِّمه لولده وما يختلف من ذلك.

ومن ذلك أيضًا قال ابن وهب: سمعتُ مالكًا سُئل عن الذي يجعل ابنه في كُتَّاب العجم، يُعلِّمه به الوقف، فقال: لا. فقيل له: فهل يعلم المُسلم النصراني؟ فقال: لا. فقيل له: فيُعلم أبناء المشركين الخط؟ فقال: لا. ولابن وهب أيضًا في تاريخ سَنة ثلاثة وسبعين قال: وقال مالك: لا أرى أن يُترك أحد من اليهود والنصارى يُعلِّم المسلمين القرآن [٤٨-أ]. قال أبو الحسن: إن كان معنى هذا القرآن الذي أنزل على محمد ن فيمكن النهي عن ذلك، والمُسلم يُنهى أن يُعلِّم الكافر القرآن. قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (الواقعة: ٧٧–٧٩) فالكافر نجس، ولذلك يُنهى أن يُعلموا الخط العربي، والهجاء العربي؛ لأنهم يَصِلون بذلك إلى مس المصحف إذا أرادوه. وإن كان إنما أراد مالك لا يُترَكوا أن يُعلموا كتابهم المُسلمين، فيصحُّ أيضًا منعهم من ذلك، لأنهم غير مأمونين على كتابهم. قد جاء كعب الأحبار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام بين يديه، فاستخرج من تحت يدِه مُصحفًا قد تشرَّمَت حواشيه، فقال: يا أمير المؤمنين في هذه التوراة، أفأقرؤها؟ فسكت عمر طويلًا، فأعاد عليه كعب مرَّتَين أو ثلاثًا، فقال [٤٨-ب] عمر: إن كنتَ تعلم أنها التوراة التي أُنزلت على موسى بن عمران يومَ طور سيناء، فاقرأها آناء الليل وآناء النهار، وإلا فلا. فراجَعَه كعب، فلم يزِدْه عمر على هذا. وكعب قد بان فضلُه في الإسلام في فقهه في الدين، فلم يُطلِق له عمر ما سأله فيه، إنما رد الأمر في ذلك إليه، ثم لم يُذكَر عن كعب أنه دام على دراسة ذلك المصحف.٥٢ والله أعلم ما صنع ذلك. وأما المقيم على كفره فهو بعيد من أن يُؤْمَنَ على كتاب الله، أو على أولاد المسلمين، ليُعلمهم شيئًا ما، أو يُخالط صبيانُ المسلمين صبيانَ الكافرين في تعليم كل ما قدَّمنا؛ عن ابن وهب عن مالك يمنع من ذلك. وفي الموَّازية:٥٣ وكرِهَ مالك أن يطرَح المُسلم ولدَه في كُتَّاب النصارى؛ ولسحنون قال: ولا يجوز للمُعلم [٤٩-أ] أن يعلم أولاد النصارى الكتاب ولا القرآن. وقال ابن حبيب قيل لمالك: أيُعلِّم أبناء المشركين الخط دون القرآن؟ فقال: لا، وعظَّم فيه الكراهية. وقال ابن حبيب: وكل مَنْ لقيتُ يكرهون ذلك، ويرَون للإمام العدل أن يُغير ذلك ويُعاقب عليه، ومَنْ فعله من جُهَّال المعلمين فذلك طارح شهادته، مُوجِب لسَخْطَتِهِ، لمَسِّهم لكلام الله وكتابه وهم أنجاس.
والذي وصفتُ لك أيضًا في هذا الفصل صواب كله. وقد وصفتُ لك فيما تقدم احتجاج سحنون في الإباء من تحذير الإجارة على تعليم الفقه والفرائض وغير ذلك مما فرَّق بينه وبين الإجارة على تعليم القرآن؛ فافهمه، إذا مررتَ به، فإنه حسن، أخبر فيه أن القرآن لتعلُّمه غاية يُنْتَهى إليها، والفقه وغيره من العلوم ليس له غاية. يريد أن القرآن [٤٩-ب] إنما يُتعَلَّم استظهاره، وهو شيء مجموع، إنْ يُشْرط استكماله، فلَهُ غاية وهو ما حواه المصحف المُجتَمَع عليه من سور القرآن المعدودة. والفقه إنما التعلُّم به الفهم فيه، وهو شيء لا يُحاط به، ولا يُعرَف من الفهم جزء مقتصر عليه. والنحو مثله. وكل شيء يحتاج إلى الاستنباط منهم بالفهم فيه، فهذه سبيله؛ وقد يرى الفهم فيه شيئًا ثم ينتقل عنه بعد ذلك لمعنًى يحدث عند المُتفهِّم فتبعُدُ الغاية فيه، ويُختلَف عليه. وأما ما٥٤ طريقه حفظه، كالشِّعر وما أشبهه من مقالات العرب يستأجره ليحفظ ذلك ظاهرًا، فوجْهُ الكراهية فيه أنه إنما يُراد ليفهم منهم ما يستعان به، والتفهُّم فيه أيضًا لا غاية له، واستظهاره لغير التفهُّم أي فائدة فيه؟ وأي أجرٍ يؤجَر عليه؟ وليس هو كالقرآن. فإن [٥٠-أ] قلت ليستظهر حفظ حروفه خاصة، ثم ينظرَ في تفهمه بعد استظهاره بغير أجرٍ على يدي غير هذا المُعلم، فاعلم أن الباب المكروه، لا وجه إلى أن يُستثنى منه شيء إلا بتوقيف، ولا يُحمى الباب إلا بمنع جميعه، وإن دخل فيه ما لا تقوى حُجته إلا لإحماء الباب؛٥٥ ولذلك جرى فيه الاختلاف الذي وصفناه. على أن القاصد إلى حفظ حروف ذلك ليفهم فيه بعد ذلك، قد لا ينتهي إلى التفهُّم، فيحصُل بما يحفظ على غير فائدة تُفيده في دينه. والقرآن من استكمل حفظه انتفع به، وإن حفظ منه حرفًا انتفع به في دينه، فخالف القرآنُ كلَّ شيءٍ يحفظ من كلام الناس خلافًا بيِّنًا، لا إشكال فيه. ولذلك أجازوا إجارة التعليم على أجزائه واستكماله، فقد تقدَّم من ذلك في صدر الباب فضل.

وأزيدك [٥٠-ب] ها هنا منه ما يكون عونًا لك في استبانته. قيل لابن القاسم: إن استأجرتُ رجلًا يُعلم لي ولدي القرآن، يُحذقه القرآن بكذا وكذا درهمًا، قال مالك: لا بأس بذلك. وقال ابن القاسم: ولا بأس بالسدس أيضًا مثل قول مالك في الجميع. وقال ابن القاسم: لا بأس أن يُقدَّم إلى معلم الكتاب حقه، قبل أن يدخل الصبي. وعند ابن سحنون قال مالك: لا بأس أن يستأجِر الرجل المُعلم على أن يُعلم ولده القرآن بأجرٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم أو كل شهر، وكذلك نصف القرآن، وربعه، وما سُمِّيَ منه. قال أبو الحسن: أما قوله أو كل شهر، فقد قيل لابن القاسم أن يستأجره على تعليم ولده القرآن كل شهرٍ بدرهم، أو كل سنة بدرهم. قال: قال مالك: لا بأس بذلك، قيل إن [٥١-أ] استأجره على أن يُعلم ولده الكتابة كل شهر بدرهم؟ قال: قال: لا بأس بذلك. قيل — وهو قول مالك — قال: قال مالك في إجارة المُعلمين سنةً بسنة: لا بأس بذلك. والذي يستأجره يُعلِّم ولده الكتابة وحدَها، لا بأس بذلك، مثل قول مالك في إجارة المُعلمين سنةً بسنة. قال أبو الحسن: وأما قوله إلى أجل معلوم، فإن كان يريد أن يكون يُعلمه القرآن كله إلى أجلٍ معلوم، فإنَّ ابن الموَّاز ذكر في قول مالك، لو اشترط أن يُعلمه سنةً أو سنتَين كان ذلك لازمًا. قال محمد بن إبراهيم: جائز، ما لم يقُل له: تُعلِّمه في سنة أو سنتَين. قال أبو الحسن: قول مالك في سماع ابن القاسم، وابن وهب، كما حكاه محمد، ورواه مُطرِّف عن مالك، قال: وجميع علمائنا بالمدينة. وفسَّره محمد أنه لم يشترط استكمال القرآن في هذا [٥١-ب] الأجل، وتفسيره جار على الأصول في سائر الإجارات. ولكن قال ابن حبيب: قد أجاز مالك أن يُشارط المُعلم في الغلام على الحَذْقَة ظاهرًا أو نظرًا، سَمَّيا في ذلك أجلًا أو لم يُسمِّيا. ولقد قلتُ لأصبغ: كيف أجاز مالك الشرط على الحذقة إذا سمَّيا لها أجلًا، أرأيتَ إذا انقضى الأجل ولم يَحْذقه، ما يكون له؟ قال: يكون له أجرة مِثله فيما علَّمه في تلك السنة، وليس على حساب الأجرة الأولى. قلت: ولا ترى هذا من شرطَين في شرط؟ قال: لا، وإنما كان يَدخُلُه شرطان في شرط، لو كان عاقدَه على هذا اللفظ بديًا، فأما إذا عاقده على أن يحذقه في سنةٍ فإنما هو على شرطٍ واحد، حتى يحدث بينهما الذي وصفْنا من تقصيره عما شرط عليه، فيرد إلى أجرةِ مثله على تحذيقه إيَّاه في أكثر من السنة، لأن أبا [٥٢-أ] الغلام إنما كان رضي بالأُجرة الأولى على أن يحذق ولده في سنة، فلما جاوز المُعلم توقيت ما وَقَّتَ له، لم يكن له أن يأخذ على التأخير ما سُمِّيَ له على التعجيل، وكان ذلك مَظلمة على أبي الغلام، إن أخذ ذلك منه. وإنما الذي لا يجوز فيه التوقيت مع الحذقة، أن يُوقِّت وقتًا ضيقًا يرى ويخشى أنه لا يبلُغ ذلك فيه لضِيقه، فالعُذر والخَطر يدخله. قال أبو الحسن: وفرَّق أصبغ في هذا الجواب بين معلم الكُتَّاب وبين الخيَّاط يشترط الفراغ في أجلٍ معلوم، فأجراه مجاري الإجارة الداخلة في معاني البيوع على ما استحسن، إذا كان الأجل المُؤقت يمكن الفراغ مما اشترط عليه فيه قبل ذهاب الوقت، فلا باس به؛ كذا قال في المُعلم والخيَّاط. وقضيته للمُعلم، إذا تم الأجل قبل تمام الحذقة بأجرة مثله ليس على حساب ما استُؤجِر [٥٢-ب]، صواب مُستقيم.

ذِكر ما أراد بيانه من سياسة مُعلم الصبيان

وقيامه عليهم، وعدله فيهم، ورفقه بهم، وهل يستعين بهم فيما بينهم، أو لنفسه، وهل يُوليهم غيره إن احتاج إلى ذلك؟ وهل يشتغل مع غيره معهم أو يشتغل له؟ وكيف يُرتب لهم أوقاتهم لدرسهم، وكتابتهم، وكيف مَحوهم ألواحهم، وأكتافهم، وأوقات بطالتهم لراحتهم، وحد أدبه إيَّاهم، وعلى مَن الآلة التي بها يؤدبهم، والمكان الذي فيه يُعلمهم؟ وهل يكون ذلك في مسجد؟ وهل يشترك مُعلمان أو أكثر؟ وهل يدرس الصبيان في حزبٍ واحد مُجتمعين؟ وهل يَمَسُّون المصحف وهم على غير طُهر، ويعلمون الوضوء لمَسِّ المصحف، ويُصَلون في جماعة يؤمهم أحدهم؟

قال أبو الحسن: قد تقدَّم من بيان [٥٣-أ] ما يُخبره٥٦ الشرط لمُعلم الصبيان على آبائهم من إجارتهم، وما على المُعلمين أن يُعلموه الصبيان، وما لا ينبغي أن يُعلموه لهم ما فيه الكفاية. فالواجب على المُعلم الاجتهاد حتى يُوفِّيَ ما يجب عليه للصبيان، فإن وَفَّى ذلك يطيب له ما يأخُذه على التعليم بشرط. وليعلم أنه إن فرَّط في وفاء ما عليه، أنه لا يجب له ولا يطيب له ما يأخُذ من ذلك؛ لأن الذين أجازوا له شرط الإجارة، بيَّنوا له ما يجب عليه، فإن خالف ما بيَّنوا له لم يُطيبوا له ما أخذ بشرطه. فليس يجد إلى من يستند من العلماء في جواز ما فعل من التفريط، لما في الأخذ على تعليم القرآن من الخلاف الذي قدَّمنا التعريض به. وبعد، فإن التزامه لما التزم من هذا يدخل في العقود التي أمر الله سبحانه بوفائها، ونظره فيمن التزم النظر له من الصبيان رعاية يدخل بها في قول الرسول : [٥٣-ب] كُلكم راعٍ وكل راعٍ مسئول عن رعيته.٥٧ وليعلم أنه إن قام فيهم بالواجب عليه لهم ونصح لهم، ووفَّاهم كما ينبغي أنه يدخل في معنى قول الرسول عليه السلام: أيما مملوكٍ أدى حق مواليه، وحق رَبه، فله أجران.٥٨ لأن المملوك استأهل ذلك بما وفَّى به، مما وجب عليه لمالِكه. هذا وليَعْلَم المُلتزم الصبيانَ إنما استأهل ذلك بما وفَّى به ما وجب لهم عليه، بشرطه أخذ الإجارة عليهم، قد ملكوا منافعه وتصرُّفاته حتى يستوفوا واجبهم، وكان لمن وفَّاهم ذلك تأدية لحَقِّهم الواجب لهم عليه، ولحقِّ ربه فيما أمره به من أداء ما عليه لهم، في المعنى الذي استأهل به المملوك أجرَين. وكذلك كل أجير ملكت عليه منافعه؛ لأن المؤدي لما عليه طيِّبةً بذلك نفسه من المُحسنين. وقال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ [٥٤-أ] أَحْسَنَ عَمَلًا (الكهف: ٣٠).
ومن حُسن رعايته لهم أن يكون بهم رفيقًا، فإنه قد جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن رسول الله ، قال: اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئًا فَرَفَقَ بهم فيه فارفق به.٥٩ وقد قال رسول الله : إن الله يُحب الرفق في الأمر كله، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.٦٠
قال أبو الحسن: فقولُك هل يستحب للمُعلم التشديد على الصبيان، أو ترى أن يرفق بهم ولا يكون عبوسًا، لأن الأطفال كما علمتَ تدخُل في هذه الوصية المتقدمة؛ ولكن إذا أحسن المُعلم القيام، وعُنِيَ بالرعاية، وضع الأمور مواضعها، لأنه هو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرِهم عمًّا لا يصلح لهم، والقائم بإكرامهم على مثل منافعهم، فهو يسُوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يُخرجهم ذلك من حُسن رفقِه بهم، ولا من رحمته إيَّاهم [٥٤-ب] فإنما هو لهم عوض من آبائهم. فكونه عبوسًا أبدًا من الفظاظة المَمقوتة، ويستأنس الصبيان بها فيجترئون عليه، ولكنه إذا استعملها عند استئهالهم الأدب، صارت دلالة على وقوع الأدب بهم، فلم يأنسوا إليها، فيكون فيها إذا استعملت أدبًا لهم في بعض الأحايين دون الضرب، وفي بعض الأحايين، يوقَّع الضرب معها، بقدر الاستئهال الواجب في ذلك الجرم. ولكن ينبغي له ألا ينبسط إليهم تبسُّط الاستئناس في غير تقبُّضٍ مُوحِش في كل الأحايين، ولا يُضاحك أحدًا منهم على حال، ولا يبتسِم في وجهه، وإن أرضاه وأرجاه٦١ على ما يجب، ولكنه لا يغضب عليه فيُوحِشه إذا كان مُحسنًا.
وإذا استأهل الضرب، فاعلم أن الضرب من واحدةٍ إلى ثلاث، فليستعمِل اجتهاده لئلا يزيد في [٥٥-أ] رتبة فوق استئهال. وهذا هو أدبه إذا فرط، فتثاقل عن الإقبال على المعلم، فتباطأ في حفظه، أو كثر الخطأ في حزبه، أو في كتابة لوحه، من نقص حروفه، وسوء تهجِّيه، وقُبح شكله، وغلَطِه في نقطه، فَنُبِّه مرة بعد مرة، فأكثر التغافُل ولم يُغنِ فيه العذل، والتقريع بالكلام، الذي فيه التواعد من غير شتم ولا سب لعرض، كقول من لا يعرف لأطفال المؤمنين حقًّا فيقول: يا مِسْخ، يا قرد. فلا يفعل هذا ولا ما كان مِثله في القُبح، فإن قلتَ له واحدة، فلتستغفر الله منها ولتنتهِ عن مُعاودتها. وإنما تجري الألفاظ القبيحة من لسان التقي لتمكُّن الغضب من نفسه، وليس هذا مكان الغضب. وقد نهى الرسول عليه السلام أن يقضي القاضي وهو غضبان. وأمر عمر بن عبد العزيز — [٥٥-ب] رحمة الله عليه — بضرب إنسان، فلَّما أُقيم للضرب قال: اتركوه. فقيل له في ذلك فقال: وجدتُ في نفسي عليه غضبًا، فكرهتُ أن أضربه وأنا غضبان. قال أبو الحسن: كذا ينبغي لمُعلِّم الأطفال أن يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم، وليس لمُعلهم في ذلك شفاء من غضبه، ولا شيء يريح قلبه من غيظه، فإن ذلك إن أصابه فإنما ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه، وهذا ليس من العدل، فإن اكتسب الصبي جُرمًا من أذًى، ولعب، وهروب من الكُتَّاب، وإدمان البطالة، فينبغي للمُعلم أن يستشير أباه، أو وصيَّه إن كان يتيمًا، ويُعلمه بجرمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث، فتكون الزيادة على ما يُوجبه التقصير في التعليم عن إذن من القائم بأمر [٥٦-ب] هذا الصبي؛ ثم يزاد على الثلاث ما بينه وبين العشر، إذا كان الصبي يطيق ذلك. وصفة الضرب هو ما يؤلِم ولا يتعدَّى الألم إلى التأثير المُشنع، أو الوهن المُضر. وربما كان من صبيان المُعلم من يناهز الاحتلام، ويكون سيئ الرعية،٦٢ غليظ الخلق، لا يُريعه وقوع عشر ضربات عليه، ويرى للزيادة عليه مكانًا، وفيه مُحتمَل مأمون، فلا بأس — إن شاء الله — من الزيادة على العشر ضربات، والله يعلم المُفسد من المُصلح. وإنما هي أعراض المُسلمين وأبشارهم فلا يتهاون بنَيلها بغير الحق الواجب؛ ولِيَلِ أدبهم بنفسه، فقد أحبَّ سحنون ألا يولي أحدًا من الصبيان الضرب. قال أبو الحسن: ونِعْمَ ما أحب سحنون من ذلك، من قِبَلِ أن الصبيان تجري بينهم الحميَّة والمنازعة، فقد [٥٦-ب] يتجاوز الصبي المُطيق فيما يؤلِم المضروب، فإنْ أمِن المُعلم التقي من ذلك، وعلم أن المُتولي للضرب لا يتجاوز فيه، وسِعَه ذلك إن كان له عُذر في تخلفه عن ولاية ذلك بنفسه. وليجتنب أن يضرب رأس الصبي أو وجهه، فإن سحنون قال فيه: لا يجوز أن يضربه فيهما، وضرر الضرب فيهما بَيِّن، قد يُوهن الدماغ، أو تطرف العين أو يؤثِّر أثرًا قبيحًا، فليُجتَنَبا. فالضرب في الرِّجلَين آمَن، وأحمَلُ للألم في سلامة.

ومن رفقه بالصبيان أن الصبي إذا أُرسِل وراءه ليتغدَّى فيأذن له ولا يمنعه من طعامه وشرابه، ويأخذ عليه في سرعة الرجوع إذا فرغ من طعامه.

ومن حقِّهم عليه أن يعدل بينهم في التعليم، ولا يُفضِّل بعضهم على بعض، وإن تفاضلوا في الجُعل، وإن كان بعضهم يُكرمه بالهدايا والأرفاق، إلا أن [٥٧-أ] يفضل من أحبَّ تفضيله في ساعة راحاته، بعد تفرُّغه من العدل بينهم. وذلك من قِبَلِ أن القليل الجُعل إنما رضي أن يؤدي أداءه ذلك على إتمام تعليم ولدِه، كما شرط الرفيع الجُعل. إلا أن يُبين المُعلم لآباء الصبيان أنه يفاضِل بينهم على قدْر ما يصِل إليه من العطاء من كل واحدٍ منهم، فيرضَوا له بذلك، فيجوز له، وعليه أن يفي بما التزم من قدْر ذلك.

ومن صلاحهم، ومن حُسن النظر لهم، ألا يخلط بين الذُّكران والإناث، وقد قال سحنون: أكره للمُعلِّم أن يُعلم الجواري، ويخلطهنَّ مع الغلمان، لأن ذلك فساد لهن.

قال أبو الحسن: وإنه لينبغي للمُعلم أن يحترس الصبيان بعضهم من بعض إذا كان فيهم مَنْ يُخشى فساده، يُناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة.

وعليه كما قال سحنون: أن يتفقَّدَهم بالتعليم [٥٧-ب] والعرض، ويجعل لعرض القرآن وقتًا معلومًا، مثل عشية الأربعاء يوم الخميس. قال: فينبغي له أن يجعل لهم وقتًا من النهار يُعلمهم فيه الكتاب، ويجعلهم يتخايرون؛٦٣ لأن ذلك مما يُصلحهم، ويخرجهم ويبيح لهم أدب بعضهم بعضًا، ولا يجاوز ثلاثًا. ويجعل الكتاب، يعني في كل يوم من الضحى إلى وقت الانقلاب.
ويأخذ عليهم ألا يؤذي بعضهم بعضًا، فإن شكا بعضهم أذى بعض، فقد سُئل سحنون عن المُعلم يأخذ الصبيان بقَول بعضهم على بعض في الأذى. قال: ما أرى هذا من ناحية الحكم، وإنما على المُعلم أن يؤدِّبهم إذا آذى بعضهم بعضًا. وذلك عندي إذا استفاض على الإيذاء من الجماعة منهم، أو كان الاعتراف، إلا أن يكونوا صبيانًا قد عرفهم بالصدق فيقبل قولهم، ويُعاقب على ذلك، ولا يجوز٦٤ في الأدب [٥٨-أ] كما أعلمتك. قال أبو الحسن: يريد كما تقدَّم من واحدٍ إلى ثلاث؛ فإن استأهلوا الزيادة للأذى، فعلى قدر شدَّة ذلك، يُريد من الثلاث إلى العشر، ويأمرهم بالكف عن الأذى، ويردُّ ما أخذ بعضهم لبعض، وليس هو من ناحية القضية، وكذلك سمعت من غير واحد من أصحابنا. وقد أُجيزت شهادة الصبيان في القتل والجراح، فكيف هذا؟ والله أعلم. قال أبو الحسن: وما يُوجَد في هذا الفصل الذي تقدَّم أسعد٦٥ به من كلام سحنون، هذا وتعلم به أن على المعلم أن يتعاهدهم، ويتحفَّظ منهم، وينهاهم عن الرِّبا، فإن باع بعضهم من بعض كِسْرَةً بزبيب أو زبيبًا برُمان، أو تفاحًا بقثاء، كما ذكرت، فإن أدرك ذلك بأيديهم، رد كل واحدٍ ما كان له، وإن أفاتوه، أعلمَ آبائهم بما صنعوا من ذلك فيكون غُرم [٥٨-ب] ما صار إلى كل واحد من الصبيان من صاحبه، في ماله إن كان له مال، أو يتبعه به إن لم يكن له مال، إذا وقع الاستقصاء في ذلك. وإن كان إنما أسلم بعضهم إلى بعض طعامًا في طعام، فيغرم القابض مثل ما قبض، أو قيمته إن لم يكن له مِثل إن كان له مال. وإلا فليتبع بما وجب عليه من ذلك، ويفسخ ما كان بينهما؛ ثم يأخذ عليهم المُعلم، ويشدد عليهم في الأخذ ألا يعودوا إلى التبايُع فيما بينهم، لا فيما يحل بين الأكابر، ولا فيما لا يحل. ويعرفهم وجه الرِّبا فيما صنعوا في ذلك: يُخبره بعينه، ويقبحه عنده، ويتواعده بشدة العقوبة عليه إن هو عاوده، ليتدرَّج على مجانَبَةِ الخطأ؛ وإذا هو أحسن، يَغبطه بإحسانه في غير انبساط إليه، ولا مُنافرة له، ليعرف وجه الحُسن من القُبح، فيتدرَّج على اختيار الحسن [٥٩-أ] وهذا ما يدل الاجتهاد. والله يُزكي من يشاء، وهو السميع العليم.

ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقله من سورةٍ حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها. قال سحنون: إلا أن يسهل لهم الآباء، فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصي، فإن كان دفع أجر المُعلم من غير مال الصبي إنما هو من عندهم، فلهم أن يُسهلوا كما للأب؛ وإن كان من مال الصبي الأجر، لم يَجُزْ لهم أن يسهلوا حتى يحفظها كما أعلمتُك. قال: وكذلك إذا كان الأب يُعطي من مال الصبي. قال: وأرى ما يلزم الصبي من مئونة المعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته.

قال أبو الحسن: صواب. ولكن قوله إن كان يأخذ المُعلم من غير مال الصبي، أنَّى لأبيه أو مَنْ قام له أن يسهل للمُعلم في نقله من السورة قبل [٥٩-ب] تمامها، ما أدري ما وجه العطاء للمُعلم على الصبي، إنما كان على حُسن العناية بالصبي فقد صار الحق للصبي، فمن أين لأحد أنْ يُسهل فيه، إلا أن يكون مراد سحنون — رحمه الله — أن للصبي التسهيل في ذلك وقع عند عقد الإجارة، فيكون صوابًا في الجواب، والأحسن ما هو أتم للصبي.

وأما ما يصنعه الصبيان من محو ألواحهم وأكتافهم، فذكر ابن سحنون فيه عن أنس بن مالك بإسناد ليس هو من رواية سحنون، قال: إذا محت صِبية الكُتَّاب تنزيل رب العالمين بأرجلهم، نبذ المُعلم إسلامه خلف ظهرِه، ثم لم يبالِ حين يلقى الله على ما يلقاه عليه. قيل لأنَس: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم؟ قال أنس: كان المؤدب له إنجانة٦٦ وكل صبي يجيء كل يوم بنوبته ماء [٦٠-أ] طاهرًا فيصبُّه فيها، فيمحون به ألواحهم. قال أنس: ثم يحفرون له حفرةً في الأرض، فيصبون ذلك الماء فينشف، قال محمد: قلت لسحنون فترى أن يلعط؟ قال: لا بأسَ به، ولا يُمسح بالرجل، ويمسح بالمنديل وما أشبه. قلت له: فما تقول فيما يكتب الصبيان في الكتف من الرسائل؟ فقال: أما ما كان من ذِكر الله تعالى، فلا يمْحُه برِجله، ولا بأس أن يُمحى غير ذلك مما ليس من القرآن. وقال محمد: وحدَّثني موسى عن جابر بن منصور، قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد. قال محمد: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعط الكتاب بلسانه. وكان سحنون ربما كتب الشيء ثم يلعطه. وهذا الوصف يكفيك فيما سألتَ عنه من هذا المعنى، فإنه وصف حسن. وما جاء فيه عن أنس من التغليظ، فينبغي [٦٠-ب] أن يحذر منه فإنه تغليظ شديد على المعلم، إن هو ترك الصبيان يمحون القرآن بأرجلهم.

وأما بطالة الصبيان يوم الجمعة؛ فقال سحنون: يأذن في يوم الجمعة، وذلك سُنَّة المُعلمين منذ كانوا، لم يُعَبْ ذلك عليهم. وذكر أن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال في المعلم يستأجر شهرًا، له أن يتبطَّل يوم الجمعة؛ وما كان الناس قد عملوا به، وجرَوا عليه فهو كالشرط. وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو أيضًا يجري على عُرف الناس، إن كان قد عُرِفَ ذلك من شأن المُعلمين، فهو كما عُرف من شأنهم في يوم الجمعة. فأما بطالتهم يوم الخميس كله، فهذا بعيد، إنما دراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إيَّاها على مُعلميهم في عشي يوم الأربعاء، وغدو يوم الخميس، إلى وقت الكتابة، والتخابُر إلى قبل انقلابهم نصف [٦١-أ] النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر للكُتَّاب، والخيار إلى صلاة العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يُبكرون فيه إلى مُعلميهم. وهذا حسنٌ نافع رفيق بالصبيان وبالمُعلمين لا شطط فيه. وكذلك بطالة الأعياد أيضًا على العُرف المشتهر المُتواطأ عليه. وقال ابن سحنون لأبيه: كم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ فقال: الفطر يومًا واحدًا، ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام؛ والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذنهم خمسة أيام. قال أبو الحسن: يريد ثلاثة أيام في الفطر، يومًا قبل العيد، ويوم العيد، فيوم ثانيه. وخمسة أيام في الأضحى: يوم قبل يوم النحر، وثلاثة أيام النحر، واليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق، ثم يعودون إلى مُعلِّميهم في اليوم الخامس من أيام النحر؛ وهذا وسط في الرفق.

وأما بطالة [٦١-ب] الصبيان من أجل الختم، فقيل لسحنون أيضًا: أترى للمُعلم في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم. قيل له: ربما أهدى الصبي إلى المُعلم أو أعطاه شيئًا، فيأذن لهم على ذلك؟ فقالِ: إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز إلا بإذن الآباء. قال: ومن ها هنا أُسقطت شهادة أكثر المُعلمين؛ لأنهم غير مُؤدِّين لما يجب عليهم إلا مَنْ عصم الله.

الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أبو الحسن: وهذا إذا كان المُعلم بأجر معلوم كل شهر، أو كل سنة. وأما إن كان على غير شرط، [٦٢-أ] وما أُعطي قَبِلَ، وما لم يُعطَ لم يَسْأل، فله أن يفعل ما شاء إذا كان أولياء الصبيان يَعلمون بتضييعه، فهم إن شاءوا أعطوا على ذلك، وإن شاءوا لم يُعطوه. وهذا الوصف يكفيك مما سألت عنه، وفيه بطالتهم عند الختمة؛ فإن كان بلد قد عُرِف فيه العطاء عند النصف، أو الثلث، أو الربع حتى صار ثابتًا، فالمطالبة فيه على حسب ما عُرف عنه، وتُووطئ عليه.

وأما وصفك لما جرى عندكم من صنيع مُعلميكم إذا تزوَّج رجل، أو وُلد له، فيبعثون صبيانهم، فيصيحون عند بابه، ويقولون: أستاذنا، بصوت عالٍ فيُعطَون ما أحبُّوا من طعام، أو غير ذلك، فيأتون به مُعلمهم، فيأذن لهم يتبطَّلون بذلك نصف يوم أو ربع يوم، بغير أمر الآباء، يكفيك ما سألتَ عنه قول سحنون: ولا يحل للمُعلم أن يُكلف الصبيان فوق أجرته شيئًا من هدية أو غير ذلك، ويسألهم [٦٢-ب] في ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف فإن فعلوا لم يضرَّهم في ذلك. وأما إن كان يُهدِّدهم أو يُخلِّيهم إذا أهدوا إليه، فلا يحلُّ له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية وهو مكروه. فإذا كان هذا كما وصف سحنون فيما يأتي به الصبيان، فالذي سألتَ أنت عنه أشد وأكره: لعل صاحب التزويج، أو أبا المولود، لا يُعطي ما يُعطي، إلا تقيَّة أذى المُعلم أو أذى صبيانه، أو من تقريع بعض الجهَّال، فيصير المُعلم من ذلك إلى أكل السُّحت، ولا يفعل هذا إلا مُعلم جاهل. فليُوعَظ فيه وليُنْهَ عنه ويُزجر، حتى يترك العمل الذي وصفت، فإنه من عمل الشيطان، وليس من عمل أهل القرآن.

وأما [٦٣-أ] سؤالك عما يُصَرِّف المعلم الصبيان فيه، ويُكلفهم إيَّاه، وهل يتشاغل هو عنهم بشيء، فإن سحنون قال: سُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا. فقال: إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك، إذا كان للصبي في ذلك منفعة. قال سحنون: ولا بأس أن يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن في ذلك منفعة لهم. وليتفقَّد إملاءهم. قيل له: فيأذن للصبي أن يكتُب لأحد كتابًا؟ فقال: لا بأس به، وهذا مما يخرج الصبي، إذا كتب الرسائل. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يُرسل الصبيان في حوائجه. قيل له: فيرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ فقال: لا أرى ذلك له إلا أن يأذن أولياء الصبيان في ذلك، أو يكون المَوضع قريبًا لا يشغل الصبيان في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب [٦٣-ب] الصبيان، يُخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا. قال: وأُحِب للمُعلم ألا يُولي أحدًا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفًا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعَرَف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس أن يُعينه فإن في ذلك منفعة للصبي. قال: ولا يحل له أن يأمر أحدًا أن يُعلم أحدًا منهم، إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك. ولْيَلِ ذلك هو بنفسه، أو يستأجر هو من يُعينه، إذا كان في مثل كفايته. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان إلا أن يكونوا في وقتٍ لا يَعْرضهم فيه بأس بأن يتحدَّث، وهو في ذلك ينظر إليهم يتفقدهم. قال: ولا بأس للمُعلم أن يشتري ما يُصلحه لنفسه من حوائجه، إذا لم يجد مَنْ يكفيه. قال: ولا بأس أن ينظر [٦٤-أ] في العلم في الأوقات التي يستغني [فيها] الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتابة وأملى بعضهم بعضًا، إذا كان في ذلك منفعة لهم، فإن هذا قد سهَّل فيه بعض أصحابنا. قال: وليلزَمِ المُعلم الاجتهاد، وليتفرَّغ لهم.

ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا ما لا بد له منه، ممن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عملَه ويتبع الجنائز وعيادة المرضى.

قيل: فهل ترى للمُعلم أن يكتب كتُب العلم له أو للناس؟ فقال: أما في وقت فراغه من الصبيان، فلا بأس أن يكتُب لنفسه وللناس، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب. وأما ما داموا حوله، فلا أراه يجوز له ذلك. وكيف يجوز له أن يخرُج مما يلزمه النظر فيه إلى ما لا يلزَمه؟ ألا ترى أنه لا يجوز له أن يُوكِل تعليم بعضهم [٦٤-ب] إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم! قال أبو الحسن: كل ما جرى في هذا الفصل صواب حسَن. وما قال فيه: إلا أن يأذن في ذلك أبوه أو وليُّه، فمعناه: إذا كان أجر المعلم من غير مال الصبي الذي يجوز إذنهم في ذلك من أموالهم، دفعوا الإجارة عن الصبي. وقد تقدَّم مثله، وأن معناه: أنه كان في الشرط عند عقد الإجارة، قبل أن يَجِب الحق للصبيان، وهو وجه القول عندي. والله أعلم.

وقد أتى ما وصفه سحنون على مسائلك وأكثر منها.

وأما قولك: هل للمُعلم إذا غلب عليه النوم أن ينام عندهم، أم يُغالب ذلك عن نفسه؟ فإنه إن كان في وقت تعليمه إيَّاهم، وحضورهم عنده، فليُغالِبه إن استطاع. وإن غلب فليقُم فيهم مَنْ يخلفه عليهم، إذا كان في مثل كفايته، بإجارة [٦٥-أ] يستأجره، أو يتطوَّع له إذا كان من غير الصبيان. وإن كان من الصبيان أنفسهم فقد تقدَّم من الشرائط في ذلك.

وكذلك إن مرض، أو [كان] عليه شغل، فهو يستأجر لهم مَنْ يكون فيهم بمثل كفايته لهم، إذا لم تطُل مدة ذلك. فإن طالت فلآباء الصبيان في ذلك نظر ومُتكلم من قِبَل أنه هو المستأجَر بعينه، فلا يصلُح أن يُقيم عوضًا منه إلا فيما قرُب، فيستخف إذا كانت الإجارة واجبة عليه.

كذلك إن هو سافر فأقام مَنْ يوفِّيهم كفايته لهم، إن كان سفرًا لا بدَّ منه، قريبًا اليوم واليومين وما أشبههما فيستخفُّ ذلك إن شاء الله. وأما إن بَعُدَ أو خيف بُعد القريب، لِما يعرض في الأسفار من الحوادث، فلا يصلح له ذلك.

وأما شهود النكاحات، وشهادات [٦٥-ب] البياعات، فليس له ذلك؛ هو في هذا مثل شهود الجنازة، وعيادة المريض، أو أشد. وأما إنْ كانت عنده شهادة، والسلطان عنه بعيد، في سيرِه إليه شغل عن صبيانه، فهو له عُذر في تخلُّفه عن أداء الشهادة؛ ولكن إن لم يُوجَد منه بد، أودع شهادته عند مَنْ ينقلها عنه، وله في ذلك عُذر، ويقبلها الحاكم ممَّن نقلَها إليه، ويعذُرُه بعُذره الذي لزمه. فافهم، فقد بيَّنتُ لك جميع ما سألت عنه من هذا المعنى.

فأما قولك: فإن فعل، يريد ما نهى عنه، وتشاغل عن الصبيان، ماذا عليه؟ فاعلم أنه يكون من الاشتغال الخفيف، الذي يكون في مثل حديثه في مجلسه، فيشغله من الصبيان شيئًا، فهذا وما اشبهه يقلُّ خطبُه، ويخفُّ قدرُه، فيتحلل من آباء الصبيان مما أصاب من ذلك، إن كان الأجر من أموالهم. وإن كان من [٦٦-أ] أموال الصبيان فلا بأس به عندي أن يُعوضهم من وقت عادة راحته، ما يَجبُر لهم به من نقصهم من حظوظهم باشتغاله ذلك؛ وإن كان غائبًا اليوم أو أكثر اليوم، فهذا كثير. فإن كانت إجارته أجلًا معلومًا، وقد عطلهم، ولم يقم لهم عوضًا منه، فيضع من أجره ما ينوب ذلك اليوم الذي عطَّلَه. وإن كانت الإجارة مُطلقة، وُفِّيَ كل شهرٍ بما علم فيه: وليس له أن يعتاد التشاغل، حتى يُلجئه إلى العوض؛ لأن ذلك يضر بالصبيان.

وأما سؤالك عما يُكلفه المعلم الصبيان أن يأتوه به من بيوت آبائهم، يريد بغير إذن آبائهم، أو حمله الصبيان بغير تكليف من المُعلم، وكان ذلك من الطعام أو غير الطعام، وإن قلَّ قدره من حطب أو غير ذلك، فهذا لا يحل للمُعلمين أن يأمروا به، ولا أن يقبلوه إن أُتِيَ به [٦٦-ب] إليهم، وإن لم يأمروا به، إلا بإذن الآباء، ويسلم أيضًا من أن يكون ما أذن الآباء في ذلك على وجه الحياء وتقية اللائمة. وقد تقدَّم من قول سحنون في فصل ما يجوز من بطالتهم ما فيه الكفاية من سؤالك هذا. فافهم.

وشراء الدِّرَّة٦٧ والفلقة على المُعلم، ليس على الصبيان. وكذلك كراء الحانوت لمجلس التعليم، على المُعلم أن يكون. كل ذلك لسحنون، وهو صواب.

وقال: إذا استؤجر المُعلم على صبيان معلومين سَنةً معلومة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المُعلم. قال أبو الحسن: وهذا صواب أيضًا؛ لأنهم هم أتوا بالمُعلم إليهم وأقعدوه لصبيانهم، وعلى هذا يعتدل الجواب.

وقال سحنون: إذا استأجر الرجل مُعلِّمًا على صبيان معلومين، جاز للمُعلَّمين أن يُعلِّم [٦٧-أ] معهم غيرهم، إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجِر لهم. ومعنى هذا: إذا كان لم يُشترَط على المُعلم أنه لا يزيد على العدة المذكورة له شيئًا، فأما أن يشترطوا عليه أن لا يزيد على العدة المذكورة له، أو شرطوا عليه أن لا يخلط مع صبيانهم غيرهم، فليس له ذلك. وهذا هو جواب سؤالك عندي له.

وأما تعليم الصبيان في المسجد، فإنَّ ابن القاسم قال: سُئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد، أتستحبُّ ذلك؟ قال: إن كان قد بلغ موضع الأدب، وعرف ذلك، ولا يعبث في المسجد فلا أرى بأسًا. وإن كان صغيرًا، لا يقرُّ فيه ويعبث، فلا أحب ذلك، ولابن وهبٍ عن مالك مثل معنى هذا. وأما سحنون فقال: سُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد فقال: [٦٧-ب] لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة، ولم يُنْصب المسجد للتعليم. قال أبو الحسن: جواب صحيح، وتكسُّب الدنيا في المسجد لا يصلُح. ألم تسمع قول عطاء بن يسار للذي أراد أن يبيع سلعةً في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. فلا يُترَك لمُعلم الصبيان أن يجلس بهم في المجسد، وإن اضطُرَّ إلى ذلك بانهدام مكانه، فليتَّخِذ مكانًا يُعلِّم فيه إلى أن يصلح ما انهدم له، إن أحب.

واتخاذ المكان عليه، كان بيتًا أو حانوتًا، إلا أن يُدعى إلى صبيانٍ بأعيانهم، فقد تقدَّم قول سحنون في كراء ذلك أنه على الصبيان. فإذا كان بيت المُعلم لهم — إذ هم بأعيانهم — فبناؤه عليهم، أو يتخذوا مكانًا غيره؛ وليس على المُعلم من ذلك شيء. إنما على المُعلم المكان، إذا كان يُعلِّم لعامة الناس. [٦٨-أ] وأما شركة المُعلِّمَين والثلاثة والأربعة، فهي جائزة إلا إذا كانوا في مكانٍ واحد، وإن كان بعضهم أجود تعليمًا من بعض؛ لأن لهم في ذلك ترافقًا وتعاونًا، ويمرَض بعضهم فيكون السالم مكانه حتى يفيق. وإن كان بعضهم عربي القراءة، يُحسِن التقويم، والآخر ليس كذلك، ولكنه ليس يلحن، فلا بأس بذلك. قلت: ذلك على ما جاء عن مالك، وعن ابن القاسم في مُعلِّمَيْن اشتركا. وقد رُوِيَ عن مالك أن ذلك لا يصلح حتى يستوي علمهما، فلا يكون لأحدهما فضلٌ على صاحبه في علمه. فإن كان أحدهما أعلم من صاحبه، لم يصلح، إلا أن يكون لأعلَمِهما فضل من الكسب يقدر عليه على صاحبه، وإلا لم يصلُح. قال أبو الحسن: أما إذا لم يكن بين المُعلِّمَين من الاختلاف إلا أنَّ أحدهما يُعرب قراءته، والآخر لا يعربها، إلا أنه [٦٨-ب] لا يلحن، فما في هذا ما يُوجب عندي التفاضُل بين أُجرتيهما إذا اشتركا. وكذلك يكون أحدهما رفيع الخط، والآخر ليس بذلك، إلا أن يكتب ويتهجَّى. والاختلاف في هذا وشبهه مُتقارب في الشركة. وكذلك هذا في الصنائع وفي التجارة يكون أحدهما أعلى من الآخر فيما يحسن من ذلك، فليس لهذا فضل على الآخر في الإجارة إذا كانا شريكَين، ولكن إذا كان أحد المُعلمين يقوم بالشكل والهجاء، وعلم العربية، والشِّعر، والنحو، والحساب، والأشياء التي لو انفرد مُعلم القرآن بجمع علومها لجاز أن يشترط عليه تعليمها مع تعليم القرآن، من قِبَل أنها ممَّا يُعين على ضبط القرآن، وحُسن المعرفة، فهذا إن شاركَ من لا يُحسن إلا قراءة القرآن والكتاب، فهو الذي تكون الإجارة [٦٩-أ] بينهما متفاضِلة على هذه الرواية، على قدْر علم كل واحدٍ منهما. وأما لو أن أحدهما يُسْتأجر ليُعلِّم النحو والشِّعر والحساب وما أشبه ذلك، والآخر يستأجر على تعليم القرآن والكتاب، ما صلُحَت هذه الشركة، على مذهب ابن القاسم، وعلى قول مَنْ يكره الإجارة على تعليم غير القرآن والكتاب. [فافهم، فقد] بينت لك ذلك ليُردَع عنه مَنْ يُحب أن يأكل حلالًا طيبًا.

وسألت هل للصبيان الصغار، أو الكبار البالغين، أن يقرءوا في سورةٍ واحدة وهم جماعة على وجه التعليم؟ فإن كنت تريد يفعلون ذلك عند المعلم، فينبغي على المُعلم أن ينظر فيما هو أصلح لتعلمهم، ليأمرهم به، ويأخذ عليهم فيه؛ لأن اجتماعهم في القراءة بحضرته يُخفي عنه قَويَّ الحفظ من الضعيف. ولكن إن كان على الصبيان من ذلك خفة، فيُخبرهم [٦٩-ب] أنه سيعرض كل واحد منهم في حزبه، فيؤدبه على ما كان من تقصير، تهديدًا يتهدَّدُهم، ولا يُوقع الضرب لأدب، إلا عن ذنبٍ يتبين حسب ما تقدَّم قبل هذا.

وأما إمساك الصبيان المصاحف، وهم على غير وضوء، فلا يفعلوا ذلك؛ وليس كالألواح. وما في نهيهم عن مس المصاحف الجامعة — وهم على غير وضوء — خلافٌ من مالك، ولا ممَّن يقول بقوله. ورأى سحنون أنَّ على المُعلم أن يأمرهم ألا يمَسُّوا المصحف إلا وهم على وضوء، حتى يعلموه. وهو حسن صواب، كما قال سحنون؛ لأن مُعلمهم يُعلمهم مصالح دينهم.

قد سئل مالك عن صبيان الكُتَّاب يُصلي بهم صبي لم يحتلم، قال: ما زال ذلك من شأن الصبيان وخفَّفه. قال أبو الحسن: يريد الذين يُصَلُّون معه لم يحتلِموا، ولو كان [٧٠-أ] في صبيان الكتاب مُحتلم، فإن صلُح للإمامة قُدِّمَ، وإن لم يصلح للإمامة فلا يُصلَّى خلف مَنْ لم يحتلم، ولا يقطع عن صبيان الكتاب عادتهم، لكي يتدرَّجوا على معرفة صلاة الجماعة، وليعرفوا فضلها حتى يكبُروا على الرغبة فيها، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.

ذكر سؤاله عما تكون فيه الأحكام بين المُعلِّمين والصبيان وعن أدب الرجل زوجته وولده وعبده وشكواه ولده الكبير

قال أبو الحسن: قد قدَّمت لك من وصف ما يطيب للمُعلمين، يأخذونه من المُتعلِّمين، ومن وصف ما ليس لهم أخذه، وما يكون نزاهةً لأهل الورع منهم، ما فيه الكفاية والبيان لما سألتَ عنه، وفيه ما يُوجب لهم في شرطهم، فإن أراد منهم أحد ترْك ما دخل فيه، أو اختلفوا في [٧٠-ب] أمر، وَسِعَتْهم الأحكام.

وسألت عن الختمة متى تجِب للمُعلم، وعلى أي وجهٍ تجب له، وكيف يكون حال الصبي في حفظه، وقراءته، وإجارته، فيستوجبها المُعلم؟ قال: ووجوب الختمة للمُعلم فيما سألتَ عنه على وجهَين:

أحدهما أن يستظهر القرآن حفظًا من أوَّلِه إلى آخِره، فهذا الذي تجِب له الختمة على نظر حاكم المُسلمين، المأمون على النظر في ذلك. وتكون على قدْر يُسْر الأب وعسره؛ وقدْر ما فهمه الصبي، مما علَّمَه المُعلم، مع استظهاره للقرآن؛ وليس في ذلك حدٌّ موقَّت، إنما هو ما يُرى أنه هو الواجب في عادات الناس في مثل هذا المُعلم، بمثل هذا الصبي، وفي حال أبيه. والوجه الآخر أن يكون الصبي استكمَلَ قراءة القرآن في المصحف نظرًا، لا يخفى عليه شيء من حروفه، [٧١-أ] مع ما فَهِمه الصبي مما ينضاف إلى ذلك، من ضبط الهجاء، والشكل، وحُسن الخط، فيكون الاجتهاد في الواجب لمُعلم هذا الصبي أيضًا، على قدْر عادات الناس في أحوالهم، إلا أنَّ المُستظهر للحفظ مع ما صَاحَبه من حُسنِ خَطٍّ، وضبط شكلٍ، وهجاء، وإعراب قراءة، يكون في الاجتهاد أفضلَ جُعلًا ممَّن لم يستظهِر الحفظ، إنما قويَ على تلاوة القرآن نظرًا؛ وما نقص تعلُّم كل واحدٍ منهما عما وصفتُ لك، كان الاجتهاد له فيما يجب من الجُعل دون من استكمل ذلك. فعلى هذَين الوجهَين، يُحْمَلُ ما يجب للمُعلم على المُتعلم إذا هو استكمل ختم القرآن. وهذا إذا لم يكن شرط المُعلم للختمة جُعلًا مُسَمًّى. فأما إن شرط ذلك كان له ما شرط إذا حذق الصبي الوجه الذي عُلِّمَ من ظاهر أو نظر [٧١-ب] فإن نقص تعلم الصبي مما عُلِّم به، نقص من الأجر المُسمَّى بمقدار ما نقص من تعلُّم الصبي، حتى ينتهي من نقص التعليم إلى أقل ما ينفعه، فيكون له بمقدار المنفعة التي له فيه. وإن كان لم يشترط للختمة شيئًا مُسَمًّى، حتى يكون للمُعلِّم فيها إذا أحذقها الصبي الاجتهاد، فنقص حذق الصبي حتى ينتهي إلى ما لا يُسمَّى تعلُّمًا، في إجادته، ومعرفته بالهجاء والشكل، والنظر في المصحف، فبأي شيءٍ خَتم هذا؟ ما لهذا ختمة: يُمْلى على الصبي فلا يتهجَّى، ويرى الحروف فلا يضبطها، ولا يستمر في قراءتها. مُعلِّم هذا قد فرَّط فيه، إن كان يُحسن التعليم، وإن كان لا يُحسِن التعليم، فقد غرَّر. ورأيُ العلماء أن مثل هذا المُعلم يستأهل الأدب لتفريطه فيما وَلِيه، وتهاونه بما التزمه، وأن يمنع من التعليم؛ وهو صواب، إذا كان شأنه التفريط أو الغرور بتعليمه وهو لا يُحسن. ورأي [٧٢-أ] بعضهم أن مثل هذا المُعلم لا يستأهل الإلزام، بل يستأهل اللَّوم، والتعنيف والغلظة والتأنيب من الإمام العدل. فإن اعتذر المُعلم ببلهِ الصبي، واختُبِرَ الصبي فوُجِدَ لذلك لا يحفظ ما عُلِّمَ، ولا يضبط ما فهم، فلم يحصل لهذا المعلم إلا إجارة حوزه وتأديبه، لا إجارة التعليم، إذا لم يُعرِّف آباءه بمكانه من فَقْدِ الفهم. لأنه لو عرَّف أباه، فرضي له بشيءٍ لزمه، فإذا لم يُعرِّفه فقد غرَّه. والمُغرِّر لا يستأهل على تغريره جُعلًا ولا إحسانًا. وأما الصبي عُلِّم حتى تدانى من الختمة فأراد الخروج من عند المُعلِّم إلى مُعلم آخر، أو إلى صنعة، أو إلى ما أحب من الانتقال، أو مات الصبي قبل استكمال الختمة، وهو لم يسمِّ لها جعلًا مُسمًّى، فهو عندي أصل واحد، كأنَّ الذي بقي عليه من استكمال الختمة الثلث، أو الربع، أو أقل من ذلك [٧٢-ب] أو أقل من السدس، فإنه يكون للمُعلم عندي على أبي الصبي ممَّا يجب على مِثله في جُعل ختمة ابنه، بمقدار ما انتهى؛ ثلاثة أرباع ذلك، أو خمسة أسداسه، أو أكثر، أو أقل من ذلك. ولو كان إنما علَّمه نصف القرآن، لوجب له حساب ذلك. وكذلك يجب عندي في الوقت للمُعلم ما اشتهرت عادة وجوبه له في البلد الذي يُعلِّم فيه مثل الجُعل في لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة] إذا بلَغَها الصبي وفي عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ] وفي تَبَارَكَ [الملك] وفي إِنَّا فَتَحْنَا [الفتح] و(الصافات) وفي سورة (الكهف) لاشتهار أداء الناس في ذلك؛ وجلوس المُعلِّمين ورغبتهم في التعليم إنما هو لذلك. وإذا كانت الإجارة على تعلُّم القرآن جائزة، والأخذ على ذلك بالشرط إنما هو إجارة لم يصلح أن يَجري إلا مجاري الإجارات [٧٣-أ] إلا فيما اتُّفق على تجويزه من ترك شرط تسمية الجُعل. وكذلك الجعل في ختمة القرآن على مَنْ أدى الختمة المُسمَّاة، لوجوبها عليه في عادة البلد، يكون أخف من الجعل في الختمة على مَنْ لا٦٨ يؤدي في الختمة المُسمَّاة شيئًا. وما معنى قول سحنون: عندي أنه لا تلزم ختمة غير القرآن كله، لا نصف، ولا ثلث، ولا ربع، إلا أن يتطوَّعوا بذلك، إلا أنه لم يكن في عادة عامة الناس الأداء في ذلك، وإنما كان يفعله الأقل إكرامًا للمُعلم ومسَرَّةً للصبيان، وهذا هو سبيل التكرُّم الذي لا يجب به حُكم.
ولمَّا كانت الختمة في تعلُّم القرآن كاملًا إنما وجبت على مَنْ أدى منهم٦٩ من قِبَلِ عادة العامة، فحُمِلت على عادتهم في ذلك على وجه الوجوب، وإن لم يشترط لها جُعلًا مُسَمًّى، وجب ذلك في كل ما فشا في العامة والتزمته [٧٣-ب] حتى صار عندها في الوجوب كمَنْ ختم جميع القرآن. وكذلك عندي قوله، إذا قيل له: فعطيَّة العيد يقضي بها؟ قال: لا، ولا أعرف ما هي إلا أن يتطوَّعوا. وكذلك قول ابن حبيب: ولا يجب للمُعلم الحُكم بالأخطار٧٠ الذي يأخذونه من الصبيان في الأعياد، ذلك تطوُّعٌ، مَنْ شاء منهم فعل، ومَنْ شاء لم يفعل. وفعلُ ذلك حسنٌ ممَّن فعله، وتكرُّمٌ من آباء الصبيان لمُعلميهم، ولم يزل ذلك مُستحسَنًا فعله في أعياد المسلمين. فقول سحنون وابن حبيب عندي في هذا، إذا كان ذلك ليس في عامة الناس أداؤه، يرَونه مما لا بدَّ منه. فأما إذا فشا في عامة الناس، وصار عند العامة مما يَرَونه واجبًا، وعلى ذلك جلس المُعلمون، وإن لم يشترطوه، للعادة المُنتشِرة في عامة الناس في المُعاوضات، واجبة،٧١ كالهبة للمُكافآت [٧٤-أ] إذا نال الموهوب الهبة وأفاتها وجب عليه قيمتها، وذلك ما أفات منها، وجب عليه العوض منه. وكذلك المُعلمون عندي في هذه العادات، إذا كانت مُستحسَنة في الخاصة، فانتشارها على ما وصفْنا يُوجِبها.
وصوابٌ قول ابن حبيب، ومكروه عليه أن يفعل من ذلك شيئًا، في أعياد النصارى مثل النيروز والمهرجان، لا يحلُّ لمن فعلَه ولا لمن يقبله من المُعلمين، بل ذلك تعظيم للشِّرك، وإعظام لأيام أهل الكفر بالله. قال: وحدَّثني أسد بن موسى عن الحسن بن دينار عن الحسَن البصري، أنه كان يكرَه أن يُعطى المُعلم في النيروز٧٢ والمهرجان.٧٣ وقال: كان المسلمون يعرفون حق مُعلميهم، إذا جاء العيدان، أو دخل رمضان، أو قدِم غائب من سفره، أعطوه. قال أبو الحسن: ما انتشر في عامة الناس، ولا قصد المُعلمون إلى الجلوس عليه، من هذا الذي [٧٤-ب] سماه الحسن رحمه الله، إلا العيدين. فأما رمضان، والقدوم من السفر، فهو باقٍ لفعل الخاصة، وعاشوراء مثل ذلك.
وكذلك المذموم أن يُؤخَذ في أعياد أهل الكفر، يدخل فيها أيضًا الميلاد، والفصح، والانبداس عندنا، والغبطة بالأندلس، والغطاس بمصر، كل هذا من أعياد الكفرة، لا يجب أن يطلُب مُعلم المسلمين فيه شيئًا، وإن أُتِيَ إليه بشيءٍ في ذلك لا يقبله وإن أطاعوا له به. ولا ينبغي للمسلمين أن يتطوَّعوا بذلك ولا يتزيَّنوا له بشيء من الزي، ولا يتهيئوا له بشيء من التهيئة، ولا يفرح الصبيان كعمل القباب في الانبداس، والقصوفات٧٤ في الميلاد. كل ذلك لا يصلح من عمل المسلمين، ويُنهَون عنه، ويأبى المُعلم من قبول الإكرام منهم فيه، ليَعلَم جاهلهم أن هذا خطأ فينتهي، ويخجل مُستخفُّهم له فيترك ذلك؛ والمؤمن للمؤمن كالبنيان [٧٥-أ] يشد بعضه بعضًا، كذا قال الرسول عليه السلام.

وأما قول سحنون فيمن أخرج ولده من عند المُعلم، وقال له: لا يحضر ولدي عندك وقد قارب الختمة، وكانت الإجارة كل شهر. فقال: أقضي عليه بالختمة، ثم لا أُبالي به أخرَجه أو ترَكه. ومقاربة الختمة عند سحنون، إذا بلغ الثلثَين أو جاوز ذلك. وقيل عنه: والثلاثة أرباع أبيَنُ. وعنده إذا لم يبلغ إلا لسورة يونس، أنه لا يقضي له بشيء. وقال ابن حبيب: وإذا لم يشترطها المُعلم، ولم يشترط أبو الغلام سقوطها عنه، فأراد أن يخرجه قبل فراغه منها، كأن كانت الختمة قد تدانت بالأمر اليسير مثل السُّوَر القليلة تكون بقِيَت عليه، فالحذقة واجبة للمُعلم كلها إذا كان الغلام يحفظ كما وصفتُ لك. وإن كان الذي بقِيَ من الحذقة الشيء الذي له بال [٧٥-ب] مثل السُّدس وأقل من ذلك، أخرجه إذا شاء، ولم يكن عليه من الحذقة شيءٌ لا جميعها، ولا على حسابها. قال أبو الحسن: أما حُكمها للمعلم بجميع الختمة على مَنْ قاربها، فهو يعتدل فيمن حذق، وتمَّ حذقه في المعرفة والنفاذ، واستغنى ممَّا عنده من الخط والهجاء والإجادة والإعراب، حتى صار لا يحتاج فيما بقِيَ عليه إلى المعلم، فهذا إذا خرج عند مقاربة الختمة، فلم يبقَ من استكماله إيَّاها ما على المُعلم فيه عناء، بل تماديه مع المُعلم نفْع للمُعلم. وأما إسقاطهما الجُعل عمَّن لم يبلغ مقاربة الختمة، وقد حذق وفهِم، ولا عنت في تعليمه، فما أعرِفُ له وجهًا، ولا من أين أخذه. إنما ذكر سحنون أن المُغيرة وابن دينار اجتمعا على أن الصبي إذا أخذ عند المعلم من الثلث إلى سورة البقرة، أنَّ الختمة واجبة إذا عرف أن يقرأه كما وصفتُ لك، ولا يُسأل [٧٦-أ] عن غير ذلك ممَّا لم يكن أخَذَه عنده؛ وقول المُغيرة وابن دينار في مُبتدئ انتهى إلى الثلث يُحسن، من قِبَل أن المبتدئ لا يُحقِّق ممَّا علِم النفاذ المرفق في مِقدار بلوغ الثلث، هو يُعَدُّ في تعلُّم الصغير البعيد من الميز، فصار مَنْ عَلَّمَه الثلثَين الباقِيَين، هو الذي لقِيَ التعَب به ولم تضِعْ عنه عناية الأول من العناء ما يرفقه، هذا الغالب في عامة الناس. وإنما العمل في هذه الأشياء على الغالب المُستفيض في وصف الناس. ولم يذكر عن المغيرة وابن دينار في الذي علَّمه الثلث الأول شيئًا. وقد قال: تنازع المُغيرة وابن دينار — وكلاهما من علماء أهل الحجاز — في الصبي يختم القرآن عند المُعلم، فيقول الأب إنه لا يحفظ، فقال المغيرة: إذا كان أخذ القرآن عندَه كله، وقرأه الصبي كله نظرًا في المصحف، وأقام [٧٦-ب] حروفه، وإن أخطأ منه اليسير الذي لا بدَّ منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبت للمُعلم الختمة؛ وهي على المُوسِعِ قدره وعلى المُقتِر قدره، وهو الذي أحفظ من قول مالك. وقال ابن دينار: قد سمعتُ مالكًا يقول: تجب للمُعلم الختمة على قدر يُسر الرجل وعُسره، يجتهد في ذلك ولي النظر للمُسلمين. وأرى أنه إذا تنازع المُعلم والأب في الصبي: أنه لا يَعْلم القرآن، فإذا قرأ منه نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذَه عنده مُفردًا وجبَتْ له الختمة قضيتُ له بها، ولا أُبالي ألَّا يقرأ غير ذلك، لأنه لو لم يأخُذه عنده لم يُسأل هذا المُعلم. قال أبو الحسن: فهذا سحنون ذكر ما تنازع فيه المُغيرة وابن دينار فوصف أن المغيرة جعل للمُعلم الختمة إذا لم يبقَ على الصبي إلا الحروف اليسيرة. ولم يَصِفْ عنه فيه إن بقيت عليه حروف كثيرة [٧٧-أ] ما يكون الحُكم فيه. ووصف ما رآه ابن دينار إذا قرأ الصبي، نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مُفردًا وجبَتْ له الختمة، قضى له بها، ولا يُبالي ألا يقرأ غير ذلك، قال: لأنه لو لم يأخذه عنده لم يُسأل هذا المُعلم. فأين تصريح التنازع بينهما ها هنا؟ إذا كانا وصفا ما يجب به الجُعل للمُعلم، ولم يَصِفَا ما يسقط به جهل المُعلم، ولا وصفَهُ واحد منهما. وقد اتفق المغيرة وابن دينار في هذا الوصف أن مالكًا جعل للمُعلم الختمة على قدر يُسر الأب وعُسره، ولم يصف عنهما سحنون أنهما قالا عن مالك فيمن عَلِم ما دون الختمة شيئًا. وإن كان قول المغيرة في الذي يبقى عليه الحروف اليسيرة يدخل فيما حفظ عن مالك فهو حسن، إنما الطلب أن يُوجَد لمالك إسقاط جُعل المعلم فيما دون الختمة. وقال سحنون أيضًا: قال [٧٧-ب] أصحابنا جميعًا، مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمُعلم الختمة، وإن استؤجِر شهرًا شهرًا، أو على تعليم القرآن بأجرٍ معلوم، ولا يجب له غير ذلك. قال أبو الحسن: وليس يظهر في قولهم ولا يجب له غير ذلك، إلا أنه إنما يجب له جُعله في الختمة، ليس له مع ذلك إلا ما خُورجَ عليه في المُشاهرة، إذا كان المعروف في ذلك الوقت وعليه يقعد المُعلم، إلا مَنْ أكرمه في الأعياد، وما أشبه ذلك من الأرفاق، التي لا يقضي بها، إذ ليست مُعتادة فيعمل عليها، ومن حمل هذه الكلفة على أنهم أرادوا أنه ليس له فيما دون الختمة شيء، فما لقوله هذا بيان.

وقال ابن حبيب: الحذقة على الحفظ لازمة لأبيه، إلا أن يكون أبوه اشترط على المُعلم ألا حذقة عليه سوى إخراجه، فيُسقطها الشرط عنه، فأما إذا سكتا [٧٨-أ] عنهما، فهي تجب كما فَسَّرتُ لك، اشترَطَها المُعلم أو لم يشترطها؛ وإنما يختلف الحُكم في اشتراطها أو غير اشتراطها، إذا أراد الرجل أن يُخرِج ولده قبل الحذقة. فإنه إذا اشترطها المُعلم، مثل أن يقول: أُعلِّمه على درهم في كل شهر، أو في كل شهرين، وعلى أن لي في الحذقة كذا وكذا، كان للأب أن يُخرجه إن شاء، وكان عليه من الحذقة على قدر ما قرأ منها، ولو لم يقرأ منها إلا الثلث أو الربع، كان عليه منها بحساب ذلك، لاشتراطه فيها ما سُمِّيَ مع خراجه؛ ولو كان شارَطَه على أن يُحذقه ولو كذا وكذا، لم يكن لأب الغلام أن يُخرِجه حتى يتمَّ حذقته.

قال أبو الحسن: ففرَّق في وصف هذا بين ما جمع الشرط فيه بشرط الحذقة وتسمية الجُعل عليها، أو المخارجة في كل شهرٍ وبين شهر الحذقة [٧٨-ب] وتسمية الجُعل عليها. ولم يكن مع ذلك خراج مشاهرة فيما إذا أراد أبو الصبي إخراجه قبل تمام الحذقة، ولم يذكُر حجةً لتفرقته، ولم يكن لِمن شرط وسمَّى لها جُعلًا وزاد مع الجُعل درهمًا في كل شهر، إلى أن يتمَّ الحذقة أن يُخرِج ابنه قبل تمامها، ويسقط للمُعلم بقية شرطه مما سُمِّيَ له من الجُعل في جميع الحذقة، وهو لو لم يُسَمِّ الخراج في كل شهرٍ لمُنع أبو الصبي أن يُخرجه قبل تمام الحذقة؛ لأن العقد قد أوجب على المُعلم قبل تمام الحذقة، وأوجب على أبي الصبي الجُعل المُسمَّى، فليس له أن يُنقصه منه بإخراجه ابنه قبل التمام. فإن كان زيادة الخراج في المشاهرة بشرط إلزام شرط الحذقة رجع ذلك إلى حُكم من لم يشترط الحذقة. فهذا الذي أردتُ بيانه إذ جعل على أبي الصبي حصة من جُعل الحذقة، إذا أخرجه قبل [٧٩-أ] تمامها، وهو صواب من القول. فلِمَ جعل لِمَنْ يشترط الحذقة فأخرج ابنه قبل مُقاربتها، أنه لا يغرم شيئًا من جُعل الحذقة؟ فإن قيل لأنها لم تُشتَرَط، ولم يُسَمِّ لها جُعلًا مُسمًّى، قلت: فإذا كمَّل هذا الختمة، ولم تكن اشتُرِطَت، ولا سُمِّيَ لها جُعلٌ، وقد كان يؤدي مشاهرة أو مُساناة خراجًا فلِمَ جعل عليه حق الختمة وهو لم يُسمِّ ولم يشترِط؟ ولَمْ يكتفِيا من ذلك بما كان يؤدَّى من المشاهرة؟ فإن قيل: لأن العادة قد جرت في الناس بأداء الختمة إذا كمُلت وتُجْعَل بالاجتهاد على قدْر أحوال أبي الصبي، وقدر ما انتهى إليه حذق الصبي من معرفة ما حفظ، قيل٧٥ فهذا الذي يُوجبه الحُكم، ولا كراهية فيه، ولا إباء منه، مقامه ومقام شرط التسمية سواء. إذا أخرج الصَّبيَّ أبوه قبل تمام الختمة، يجب عليه ما يُوجِبه الاجتهاد في الختمة، لو كانت حصته بقدر ما تعلَّم من الختمة، كما يجب في التسمية التي له أن يخرج إليه قبل تمامها. [٧٩-ب] هذا وجه القياس فيما عندي والله أعلم. وكذلك قول ابن حبيب أيضًا: ولا يجوز للمُعلم إذا اشترط الحذقة مع الخراج إلا أن يُسمِّي لها شيئًا معلومًا. فأما أن يقول أُعلِّمه كل شهر بدرهم، على أن الحذقة لي واجبة، وسكت عن تسميتها، فلا يجوز ذلك إذا اشترطها، فلا بدَّ لها من تسمية. قال أبو الحسن: هو يجعل لأبي الصبي في هذه المسألة يُخرجه متى شاء قبل الختمة، كأنه لم يلتزم الحذقة، ثم يُمنَع من أن يشترط حتى يُسمَّى لها جُعل مُسمًّى. وإذا كان لأبي الصبي أن يُسقط ما سمَّى له جُعلًا من هذا، لِمَ لَمْ يكن إدخال هذا الشرط فيها من التغرير بالمُعلم؟ وإذا جاز هذا بالغرر٧٦ الذي فيه لِمَ لمْ يَجُز، إذا لم يُسَمَّ الخراجُ، ما هو حتى يُبينه الاجتهاد فيه، عند الحاجة إليه: التغرير فيهما واحد [٨٠-أ] والله أعلم. واعلم أني ما ذهبتُ إلى أن يجعل للمُعلم حصة مما يُوجب الاجتهاد في الختمة إذا كملت، إذا أخرج الصبيَّ أبوه، ولم يستكملها وقد تعلَّم منها شيئًا؛ لأني رأيتُه من وجه الإجارة التي لم يُشتَرَط لها غاية، فما نِيلَ منها كان عليه الواجب فيه، ولم يبطل عناء الأجير، وكذلك المُجاعلة على الشيء الذي لم يُشتَرَط كماله إلزامًا، فعمل فيه العامل ما شاء ثم ترك. فإن كان لربِّ العمل فيما عُمِلَ منفعةٌ ينتفِع بها، وأدى حصتها من الجَعالة، فلِمَ لا يكون لمُعلم الصبي لم يستكمل تعليم الختمة هكذا؟ وهو لو عَلَّم سورة واحدة لانتفع بها المُتعلِّم، والمُعلم لم يُعلِّمه حِسْبَةً، وإني لأرى رأيي بمنصوص قول مالك. قلت: في ذلك قال مالك في الذي يُعلِّم الصبيان إنه إذا اشترط سنةً أو سنتَين فذلك له لازم، وإن لم يكن شرْط مُسمًّى، فأراد أن [٨٠-أ] يَخْرُجَ أو يُخرِج عنه الصبي فله بقدْرِه ما علم. وكذا روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك في سماعيهما، وفي مُوطَّأ ابن وهب. وقال ابن حبيب: سمعتُ مطرفًا يقول: قال مالك وجميع علمائنا بالمدينة: لا بأس بأخْذ الأجر على تعليم الصبيان الكتاب والقرآن، والاشتراط على ذلك سنةً أو سنتين. فإذا كان ذلك، لم يكن لأب الغلام أن يُخرِجه حتى يستوفي الشرط، وإذا لم يكن شرط مُسمًّى، فلا بأس أن يُخرِجه إذا شاء، وعليه قدْر ما علَّمه. فهذه الروايات قد اجتمعت على أن للمُعلِّم حصته بمقدار ما علَّم. وما ذُكِر في هذه الروايات من شرط تمام حذقة، ولا تسمية جُعلها، وإنما منع أبو الصبي من إخراجه في هذه الروايات إذا كانت الإجارة فيه أجلًا معلومًا، بشرط سنةٍ أو سنتين [٨١-أ] فإذا لم يكن شرْط أجل مُسمًّى، لم يكن لإخراج الصبي مانع. وكذلك المُعلم إن أراد الترك. هذا ما في هذه الروايات عن مالك بَيِّنٌ لا إشكال فيه. والذي قدَّمناه من رواية مطرف هو عند ابن حبيب، ولكنه لم يستعمِله في جميع وجوه المسألة. قال: ونحن نُوجِب للمُعلم الحذقة، ونرى أن يُحْكَم له بها في النظر والظاهر على قدر الغلام، وقدر درايته، وقدر حفظه في حذقة الظاهر، وقدْر معرفته بالهجاء والخط في حذقة النظر؛ وليس لها قدر معلوم، وليس كل الناس فيها سواء، وليس ذو الفقر من الآباء كغيرِه من الغَني، وإنما رأينا أن يُحكم بها لأنها مُكارَمة جرى الناس عليها فيما بينهم وبين مُعلمي صبيانهم بمنزلة هدية العرس. ونحن نرى أن يُحكَم بها على قدر الرجل، وقدر المرأة، وليس لها قدر معلوم. وكذلك الحذقة. وقد كاشفت [٨١-ب] عن ذلك أصبغ بن الفرج وغيره من أهل العلم والفقه، فأوضحوا لي من ذلك ما أوضحتُ لك، وأسقطوا ذلك عن المُعلم في حذقة الظاهر، إذا لم يستظهر الغلام فيها شيئًا، أو يستظهر فيها اليسير وفاتَهُ الكبير. فأما أن يُخطئ في السورة الحرف والأحرف اليسيرة وهو مُستمر في القراءة، إلا أنه يُخطئ، ويعثر، فَلْيُلَقَّن،٧٧ فهو عندي حِفظ يجب للمُعلم به أن يُكافأ. وليس الذي يُخطئ كالذي لا يُخطئ في قدر ما يعطي. فانتظر كيف جَعَل جُعْل المُعلم في الحذقة، إنما هو مكافأة على وجه التكارُم. وكذلك قال في حذقة النظر إنما يجب للمُعلم فيها أن يكارَم ويُكافأ، إذا كان الغلام يتهجَّى تهجيًّا حسنًا، ويخط خطًّا جميلًا، ويكتب ما يُملى عليه، ويقرأ نظرًا ما أُمِر بقراءته. فأما إذا لم يُحسِن الهجاء ولم يُحكم الخط، ولم يقرأ شيئًا نظرًا [٨٢-أ] فلا يجب للمُعلم في ذلك شيء، بل يجب عليه ما وصفنا فوق هذا من التأنيب والتعنيف.

قال أبو الحسن: أما صبيٌّ هذا وصف ما تعلَّم، فما تعلَّم شيئًا، وقد قدَّمنا أن هذا لا يجب للمُعلم فيما عَلَّمَه جُعْل، وفسَّرنا الواجب عليه قبل هذا عند العلماء.

وأما قول ابن حبيب: إنَّ الحُكم بها عنده بمنزلة هدية العرس، قال: ونحن نرى أن يحكم بها، فاعلم أن هدية العرس قد قيل لمالك: فهدية العرس إذا طلبَتْها المرأة وأبى الزوج، قال مالك: لا أرى لها فيه حقًّا، ثم قال: قال الله عز وجل: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (النساء: ٤) فليس الهدية من الصداق، ولا أرى فيه حقًّا، ولا أرى ما نَحَلها عند اختلائه يلزَمُه. فقيل لمالك: فإن الذي عندنا في هدية العرس، مما يَعمل به جل الناس، حتى إنه ليكون في ذلك الخصومات، أفتَرَى أن يقضي به؟ فقال: إذا كان [٨٢-ب] قد عرف من شأنهم وهو عملهم، لم أرَ أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدَّم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرًا قد جرَوا عليه. قال ابن القاسم: وقد قال مالك مثل هذا: لا أرى لهم ذلك إلا أن يشترطوه، وهو أحبُّ قَولْيه إليَّ. قال أبو الحسن: فانظر كيف وقع جواب مالك رحمه الله، أولًا في هدية العرس واحتجاجه على ذلك بما في كتاب الله، فلمَّا وصفوا له ما جرى في أكثر الناس قال: إذا كان قد عُرِف ذلك من شأنهم، وهو عملهم، لم أرَ أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدَّم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرًا قد جرَوا عليه؛ فبيَّن مالك رحمة الله عليه أن ما اشتهر الناس وجرَوا عليه من ذلك، أن الزوج مأخوذ به، لأنه عليه قدم. وهكذا يجب أن يكون العمل في المُعلمين، ما جرى في الناس سُنَّة لهم جائزة، أن آباء الصبيان [٨٣-أ] مأخوذون به لهم، إذا على ذلك جاء الآباء بأبنائهم، وعليه قعد المُعلمون لصبيانهم؛ على أن هدية العرس إنما هي شيء يُقدَّم للمرأة عند الدخول بها، لتدخُل به، فالانتفاع بالمرأة مُستقبل، وانتفاع الصبيان بالمُعلم قد نالوه في القدر الذي علَّمَهم إيَّاه، فبأيِّ وجهٍ يطرح ذلك عن آباء الصبيان، وهم مأخوذون بجميعه، إذا استكملوا الختمة على شرطهم من ظاهر أو نظر؟ إنما استحبَّ ابن القاسم الأخذ في هدية العرس بالأول من قول مالك، من قِبَل أنَّ عقد النكاح قد وجب، واستحلال الفرْج قد ثبت بالصداق المُسمَّى، لا خيار للمرأة بعد في التمادي على ذلك. والمُعلم ما لزِمه ذلك، إذا لم يُشتَرَط عليه. وكذلك آباء الصبيان إذا لم يكن عليهم شرط يَمنعهم من إخراج أبنائهم، لم يلزمهم التمادي، فليس لهم من ذلك مثل ما للزوج [٨٣-ب] والزوج أيضًا لو اختار الفراق قبل البناء، وجب عليه نصف الصداق، وهو ما انتفع منها بشيء، وإن كان لم يفرض لها شيئًا قبل الطلاق، لم يُفْرَض لها بالطلاق شيء، وصار أمرها إلى المُتعة التي لا يُحكَم بها، إذ هي حق على المُحسنين، وعلى المُتقين، فيمن دخل بها، فلأن اسم التكارُم مما لا يُحكَم به. فأما ما يُوجِب الحكم، فالتكارُم فيه لمن يريد، على الواجب عليه، وإنما المُتعة عوض للزوجات من أشياء منه كنَّ يُؤمِّلنها. وأخذ المعلم إنما هو عن شيءٍ عمله، فهو بما شبَّهناه من الجَعالة، ومن مكافأة الهبة للثواب أشبه، وفي بابها أدخل. وقد أجرَوا مسائل منه على معاني البيوع.

قال سحنون: وقد سُئلَ بعض علماء أهل الحجاز منهم ابن دينار وغيره، أن يستأجر المُعلم جماعة، وأن يُقرض على كل واحدٍ ما ينوبه [٨٤-أ] فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة، ولا بدَّ للناس منه، وهو أشبه. وقال: هو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدَين من رجُلَين، لكل واحدٍ عبد، وإنما ذلك بمنزلة البيع، في كتاب ابن سحنون؛ وابن القاسم لا يُجيز هذه الإجارة؛ لأنه لا يُجيز ذلك في البيع، والله أعلم.

قال أبو الحسن: نعم قد منع ابن القاسم من جوازه في البيع، وفي الإجارات، إذا لم يكن معلومًا؛ ومنع أيضًا أن يُجمَع في النكاح بعقدٍ واحدٍ وصداقٍ واحد، على امرأتَين أو أكثر، إذا لم يُسَمِّ لكل واحدةٍ صداقها على حِدَته. وما عَقْدُ هذا المعلم على الصبيان الذين آباؤهم شتَّى، إلا من هذا الباب، يجري فيه كله الاختلاف؛ وليس هذا مَوضع التكارُم الذي بنى عليه ابن حبيب، وذكر أنه كاشَفَ عن ذلك أصبغ وغيرَه من أهل العلم والفقه، ونكَّب عن اسم مُطرِّف وابن الماجشون. ولو كان عنده منهما لبدأ بهما وبِمَن عنده عنه [٨٤-ب] من ذلك شيء منهما، أو بعبد الله بن عبد الحكم لو كان عنده منه شيء. وقد تقدَّم ما عنده من رواية مطرف، عن مالك وغيره من علماء أهل المدينة، وهو مُخالف لما بنى عليه حسب ما بيَّنَّا. والله أعلم، وهو ولي المُتقين.

وما أرى سحنون قصد لما قاله: فمن لم يُقارِب الختمة، ممَّن لم يشترط، فأخرجه أبوه، أنه لا شيء عليه، إلا أنه كان هو المفهوم عنده من قول المُغيرة وابن دينار الذي قد تقدَّم، والله أعلم. وقد قدَّمت البيان عن ذلك وجواب مَسائلك في هذا المعنى، قد أتى عليه جميع ما وصفنا، واضح لا إشكال فيه عليك ولا على غيرك، إن شاء الله.

ومسألتك في الذي عَلَّمه مُعلم بعض القرآن، ثم خرج من عنده إلى مُعلمٍ آخر استكمل عنده الختمة، يجري على ما بيَّنتُ لك: يكون للمُعلم الأول بمقدار ما علَّم نصفًا ونصفًا، أو ثُلثًا وثلثين، أو رُبعًا وثلاثة أرباع، ينظر الحاكم فيما يجب [٨٥-أ] على أبي هذا الصبي في الختمة كلها، على قدر يُسره وعُسره، وما انتهى إليه ولدُه من الفهم فيما تعلَّم. فإذا عرف مُنتهى ذلك الجُعل، غَرِمَه أبو الصبي، واقتسمه المُعلمان، على قدْر عناء كل واحدٍ منهما، وما وصل إلى الصبي من نفع تعليمه، يجتهد في ذلك. وربما جعل للأول جميع ذلك، أو يَنقص منه قليل، فيعطي للثاني، وذلك إذا كان الأول قد بلغ من تعليم الصبي إلى مقاربة الختمة نظرًا أو استظهارًا، حتى بلغ من الحذق في ذلك إلى الاستغناء عن المُعلم، فكان خروجه إلى الثاني لا يزيد علمًا في تعليمه، فأي شيءٍ يكون لهذا؟ إلا أن يكون له شيء في إمساكه وحياطته للصبي، فذلك ليس على الأول منه شيء، وقد يكون له في كتابة ما بقِيَ عليه، وإن كانت سورة البقرة، زيادة قوة غرض ينتفع به، فهذا يجتهد له فيما يعطي من ذلك الجعل؛ وقد يكون الجعل يجب للثاني كله، وقلَّ ما ينال منه الأول، وذلك أن يبتدئ في تعليم الصبي، فقلَّ ما لبِث عنده، حتى أُخرِج عنه ولم [٨٥-ب] ينَلْ من التعلُّم شيئًا له فيه منفعة، لعِوَج قراءته في سُوَرٍ يسيرة تعلَّمها، ولا خطَّ ولا هجاء، فأي شيءٍ يستأهل هذا في التعليم؟ ولو كان قد نال الصبي من فَهْم ما عُلِّم شيئًا، وعرف ما هو، لأخذ المُعلم بمقدار ذلك. فإن كان فيه مرفق للمُعلم الثاني بما نبَّه منه المُعلم الأول، وخروجه فيه، نقص ما يصيب ذلك القدْر من جُعل الختمة، فيأخذ الأول، ويدفع سائر الجُعل إلى الثاني. وإن تبيَّن أن ليس للثاني مرفق على حال بما علمه الأول، لم ينقص من الجُعل شيئًا، وكان ذلك على أبي الصبي؛ لأنه باختياره نزَعَه من عند الأول. وكل هذا مفاد قول مالك الذي ذهب إليه.

وأما سحنون فقال: إن علَّمه الأول إلى يونس، فالختمة للثاني. وإن جاوز الأول ذلك إلى ثُلثَين أو زاد على ثلثَين في معنى ما قال، لم يقضِ للثاني بشيء. قال: وأستحسن أن يرضخ له بشيءٍ استحسانًا، وليس بالقياس. وهذا على أصل الذي قدَّمت لك وصفَه، وعرَّفتُك [٨٦-أ] وجه مذهبي فيه.

وأما سؤالك عن مُعلِّم قومٍ نزل بهم ما اضطرَّهم إلى الرحيل، فرحلوا: بعضهم إلى مكان وبعضهم إلى مكان آخر، أو رحل بعضهم، وثبت بعضهم في البلدة. ما يصنع هذا المُعلم؟ فالجواب أن ينظُر إلى ما عاقدَهم هذا المُعلم عليه، فإن كان إنما جلس على المُشاهرة شهرًا بشهر، أو سنةً بسنة، فالحُكم فيه أن يترك تعليمهم متى شاء، ويتركوه متى شاءوا، والحُكم بينهم فيما قد علَّم لهم، على ما قد بيَّنَّا قبل هذا، في الذي له أن يُخرِج ولده. ولا يُلتفَت في هذا العقد إلى خروجهم كان بغلبةٍ أو بغير غلبة. إنما للمُعلم بقدْر ما علم، رحلوا عنه، أو رحل عنهم. ولو كان عقد معهم على سنةٍ بعينها، أو أشهُر بأعيانها، نظر فيما نزل بالقوم، فإن كان ما لا يجدون معه ثباتًا، ولا بدَّ لهم من الرحيل عنه، لما نزل بهم من بلاء لا يطيقونه بفتنةٍ أو مجاعة، فهُم في رحيلهم مَعذورون، وليس عليه أن يتبعهم في الأسفار، لم يستأجروا على [٨٦-ب] ذلك. فإن رجعوا في بقيةٍ من المدة، رجع إليهم في تلك البقية، وسقط عنهم من الأجر بحساب الأيام التي حِيل فيها بينه وبينهم؛ لأنهم لم يمنعوه من السَّير معهم، ولا مَسَكوا أولادهم عنه طوعًا، وليس عليهم أن يستكملوا له الأجر، وهو لم يستكمِل عمَل الأجل، ولو كان قد حاسبَهم عند رحيلهم وفاسَخَهم، لم يلزَمه إنْ رجعوا بقيةً من المدة، أن يرجع إليهم؛ وإن كان رحيلهم طوعًا، فليس لهم أن ينقُصوا إجارته. فإن أحبُّوا الرحيل بأولادهم دفعوا إليه أجره كاملًا، وصنعوا ما شاءوا. فإن رحل بعضهم مَقطوعين، وثبت بعضهم، فالحُكم بينه وبين الراحِلين كما تقدَّم في رحيل جميعهم مُتطوِّعين، ويلزمه وفاء الأجل للثابتين، ولو لم يثبُت منهم إلا واحد؛ لأنه يأخذ أجرَه كاملًا، وتخفُّ عنه مئونة من غاب عنه ما دام غائبًا. وأما إن كان رحيل من رحل عن قهرةٍ غلبته على ذلك فذهب بولده، فهو عندي عُذر تنفسِخ به الإجارة بينه وبين الراحِلين، ويُحاسبهم، ثم ينظُر فيمن بقي ممن لم يرحل، فإن كانوا هم الأكثر، ولم ينتقِص عليه ما يضربه، فهو يُوفِّي الثابتين أجلَهم. وإن وجد من يُعلمهم مكان الراحلين كان له ذلك، إذ لا مضرَّة على المُقيمين في ذلك. وأما إن كان الراحلون هم الأكثر ولم يبقَ من المُقيمين إلا من عليه في الثبات معهم المضرَّة البيِّنَة، فهو عندي عُذر له، إن شاء أن يُفاسِخهم فعل، وإن شاء أن يثبت معهم فعل، وله إن وجد عِوضًا من الراحلين فيُعلمهم، ولا يمنع من ذلك أيضًا.

وأما سؤالك عن مُعلم أراد أن يُحوِّل كُتَّابه من موضعٍ إلى موضع قريبٍ أو بعيد، فأبى بعضهم، ورضِي بعض، فهذا أيضًا إنما ينظر فيه [٨٧-أ] إذا كان شرط المُعلم لازمًا ليس له أن يخرج منه، فإذا كان كذلك، فإن كان٧٨ المكان الذي صار إليه لا مضرَّة فيه على الآتين منه، ولا مشقَّة، ولا خوف، وقد يكون الصغير من الصبيان أن يُعنته ذلك أو يُكلِّف أهله مئونة تَضُرُّ بهم وتشغلهم، فإن لم يكن من ذلك، لم يمنعوا من انتقال مَنْ هذه صفته، فإن كان فيه مضرَّة على واحدٍ منهم ممَّن أبى منه، لم يكن له التحوُّل عن مكانٍ على التعليم فيه وقعت الإجارة، يرفق من كان له الرفق فيه واجبًا، وإلى مكانٍ يضرُّ به وهو …٧٩

وأما إن مات المُعلم فالإجارة مُنفسخة، لا يستأجر من ماله مَنْ يُعلِّم مكانه، وله من الإجارة بحساب ما علَّم من الأجل، ومَنْ جعل الختمة بمقدار ما علَّم من القرآن حسب ما تقدَّم [٨٧-ب] تفسيره؛ وكذلك إذا مات الصبي سواء، إنما للمُعلم من الإجارة بحساب ما علَّم، وكذلك من جُعل الختمة.

وأما إذا مات أبو الصبي فلا تنفسِخ الإجارة، ولكن إن كان لم يقبض المُعلم شيئًا فهو يأخُذ من تِركة الميت حساب ما مضى، وما بقي من الأجل فيما ينوبه، يؤخَذ من مال الصبي إن كان له مال ورِثَه من أبيه، أو من غير ذلك، وإن كان لم يكن للصبي مال، فللمُعلم أن يفسخ الإجارة، إلا أن يشاء أن يتطوَّع للصبي بذلك، ولا يتبعه بشيء رجاء أن يتيسَّر. هذا لا يُلْزِمُ الصبي، وإن أبى المُعلم من التطوُّع، فتطوَّع غيره من أولياء الصبي، أو من غيرهم، بأن يدفع ذلك للمُعلم، ثبتت الإجارة ولم تُفسَخ، والله ولي التوفيق.

وأما سؤالك عن صبيٍّ أدخلَه أبوه الكُتَّاب بغير شرط، هل يلزَمه ما يلزم صبيان الكُتَّاب؟ وربما [٨٨-أ] كان الشرط يختلف؛ وعن يتيمٍ رمى نفسه في الكُتَّاب، فهل يُؤخَذ منه مثل ما يُؤخَذ من غيره؟ قال أبو الحسن: إن كان لليتيم مال لزِمه في ماله مثل ما يُؤدي مَنْ هو مثله، وكذلك الأب يُؤدي عن ابنه مثل ما يُؤدي مِثله، وذلك هو إجارة المِثل، اختلف الشرط أو لم يختلف. إنما يحتاج إلى ذِكر اختلاف الشرط عن إسلام الصبي للكُتَّاب، فيُقال له: نؤدي إليك كما تأخذ من غيرنا في الشهر. فهنالك ينبغي ألا يعقد على هذا الإجارة، حتى يُبين كيف أخذه من الصبيان على اختلافه. وأما إن كان ليس لليتيم مال، فعلَّمه المُعلم، فليس له عليه أجر، هو متطوع في ذلك، ليس له أن يتبعه به. وأما إن أتت بالصبي أمه إلى المُعلم أو غيرها من الناس، فسأله تعليمه، فهو المطلوب [٨٨-ب] بإجارة التعليم إن كان ليس لليتيم مال، إلا أن يُبين الذي جاء به المُعلم أنه ليس له مال، ولا له مَنْ يُؤدي عنه، فحينئذٍ ليس للمُعلم أن يطلُب منهم إجارة.

وأما قولك في المُعلم: كيف يُشارطهم؟ فقد تقدَّم في نصوص المسائل شرح ذلك عن مالك وعن غيره؛ وشرطكم الذي ذكرت أنه يقع على الغنم، فإذا كانت الغنم مؤجَّرة لم يجُز إلا أن تكون مضمونة، على صفةٍ معلومة، إلى أجل معلوم، يجوز في مِثله السَّلم، مثل ما إذا أوجر نفسه بها في خدمة، وشرع في العمل؛ وكذلك المُعلم إذا شرع في التعليم، أو كانت إجارته أجلًا معلومًا، فإذا حلَّ أجل الغنم، جاز أن يقبض من المَعز ضأنًا، ومن الضأن معزًا، وأما إذا لم يحل الأجل، لم يصلُح أن يأخذ غير شرطه، كما لا يصلح في البيوع. وكذلك لو استأجر [٨٩-أ] نفسه بطعامٍ مضمون، أو بطعامٍ بعَينه على الكيل، لم يجُز له أن يبيع شيئًا من ذلك حتى يستوفيه.

وأما سؤالك عما يتعدَّى به المُعلم في ضرب الصبي، فترقى إلى ما هو أكثر من الضربة، فهذا إنما يقع من المُعلم الجافي الجاهل، وقد قدَّمتُ لك نهيَ المُعلم عن ضرب الصبي وهو غضبان. والضرب على التعليم إنما هو لخطأ الصبيان، فما يصلُح أن يضربهم به إنما هي الدِّرَّة، وتكون أيضًا رطبةً مأمونة، لئلَّا تؤثِّر أثَرَ سُوء. وقد أعلمتُ أنه يجتنب ضرب الرأس والوجه، فما لهذا يُضرَب بالعصا واللوح. قال في كتاب ابن سحنون: سُئل مالك عن مُعلم لو ضرب صبيًّا ففقأ عينه، أو كسر يده، فقال: إنْ ضربه بالدِّرَّة على الأدب، وأصابه بعودها فكسر يده، أو فقأ عينه، فالدِّية على العاقلة،٨٠ إذا فعل ما يجوز. [٨٩-ب] فإن مات الصبي فالدِّية على العاقلة بالقسَامة، وعليه الكفَّارة. فإن ضربه باللوح أو بعصًا فقتله، فعليه القصاص؛ لأنه لم يؤذن له أن يضربه بعصا، ولا بلَوح. قال أبو الحسن: إنما كانت الدِّية على العاقلة في الذي أصاب الصبي بعُود الدِّرَّة، من قِبَل أنَّ ضربه بالدِّرَّة للصبي جائز، فمُصادفة عود الدِّرَّة الصبي لم يقصد إليه المُعلم، وكان خطأ، وكانت فيه القسامة إن مات، من قبل أنه إنما يعلم بإقرار المُعلم على أحد الأقاويل، ولو حضرَه شاهدان، ومات في مقامه، ما كانت فيه قسامة، وكانت الدِّية على العاقلة. وأما العصا واللَّوح فقصد إلى ضرب الصبي بهما تَعَدٍّ منه فليس له عُذر أكثر من أنه غضب فتعدَّى الواجب، فاستأهل القَود، وهو مأخوذ بإقراره في ذلك [٩٠-أ] فلا قسامة فيه. وقد قال سحنون: إذا ضرب المُعلم الصبي ما يجوز له أن يضربه، إذا كان مِثله يقوى على مثل ذلك، فمات أو أصابه منه بلاء، لم يكن على المُعلم شيء غير الكفارة إن مات؛ وإن جاوز، ضمِن الدية في ماله مع الأدب؛ وقد قيل على العاقلة مع الكفارة. فإن جاوز الأدب فمرض الصبي من ذلك فمات، فإن كان جاوز بما يعلم أنه أراد به القتل أقسموا، وقتلوه به الأولياء. وإن كان لم يجاوز بما يرى أنه أراد به إلا على وجه الأدب، إلا أنه جهل الأدب أقسم الأولياء، واستحقُّوا الدِّية قبل العاقلة، وعليه هو الكفارة. قال أبو الحسن: تفسير حسن. وقوله فيما يُصيب الصبي ممَّا للمُعلم أن يُوجبه به: لا شيء على المُعلم غير الكفارة إن مات، [٩٠-ب] معناه أن المُعلم ضرب الصبيَّ ثلاثًا بالدِّرَّة، أو أكثر من ذلك، لاستئهاله إيَّاه، وطاقته عليه، ولم يتجاوز الواجب في صفة الضرب. فمن أجل ذلك لم يكن فيه غرم، كالذي يموت من جَلْدٍ وجب عليه في حدٍّ فهو هدر قتيل الحق. وأما إذا جاوز أدبه الواجب من الأدب عن غلَط بَيِّنٍ، كان هو الذي تحمِله العاقلة. وإن كان في مجاوزته إشكال، فالدية في ماله، ويُحتمَل أن تكون على العاقلة، إذ كل شيء يستطاع القود٨١ منه، فيمنع منه مانع، وهو حاظر في الفاعل، فالدية فيه على العاقلة، كالمأمومة والجائفة إذا تعمَّدتا. وما الوجه فيما أشكل من زيادة المُعلم إلا أن يكون في ماله. والله أعلم.
قال سحنون: وإن كان المُعلِّم لم يَلِ الفعل [٩١-أ] وإنما وَلِيَه٨٢ غيره بأمره، كان الأمر على المُعلم كما فسَّرتُ لك، ولا شيء على المأمور. فإن كان — يعني المأمور — بالِغًا، فمِن أصحابنا مَنْ رأى الدية على عاقلة الفاعل، وعليه٨٣ الكفارة، يعني على الفاعل. ومنهم مَنْ رأى الدِّية على عاقلة المُعلم، وعلى الفاعل الكفارة. والله أعلم.

وأما سؤالك عمَّا وجب في ذلك من الدِّية على العاقلة كيف الأمر فيها، وليس بجاريةٍ عندنا، ولم تُبيِّن لِمَ لَمْ تكن جارية عندكم، فإن كنت ترى أنه ليس لكم عواقل مضبوطة، ولا تقدرون أن تُحيطوا بذلك، ولا تعرفوه، فإن القول فيمَن لا عاقلة له، أنَّ جنايته في بيت مال المُسلمين، وعلى الجاني في قتل الخطأ عتق رقبة.

وإن كنت تريد أن الحُكم بها ضُيِّع عندكم، وأما العواقل فمعروفة، فاعلم أن المُعاقلة إنما كان أصلُها في العرب [٩١-ب] لحملِها فخُذ الجاني إن أطاقوا ذلك، وإن لم يُطيقوه ضُم إليهم أقرب الأفخاذ إليهم، ثم الأقرب إليه، فإن فرغَت القبيلة، ولم تُطِق حمل الدِّية فتضم إلى القبيلة أقرب القبائل منها. وكذلك جرى في الإسلام أمرهم. وإنما تَضُم إلى هذه العاقلة مَنْ يحمل معها ممَّن وصفْنا، مَنْ كان إقليمه الإقليم الذي فيه الجاني لأنَّ ديوانهم واحد، ليس بضم المصري إلى الشامي، ولا إلى الإفريقي. فإن ضبطتُم عواقلكم، وصحَّت عندكم، وثبتت لدَيكم، فهكذا يكون انضمام الأفخاذ والقبائل في حمْل العاقل، ليس بضم إلى فخذ الجاني ولا إلى قبيلته من هو في جواره، إذا كان نسبُه غير نسبه. وكذلك لا يضمُّ إليه مَنْ كان من نسبه إذا كان إقليمه من غير إقليمه. فافهم ما وصفتُ لك، واستعِنْ بالله.

وأما قولك: [٩٢-أ] وهل ينبغي للرجُلِ أن يؤدي ما وجب عليه، يعني من الدِّية إلى أولياء المقتول، ويكون بها بريئًا في الدنيا والآخرة، فإن الرجل الذي يفعل هذا مُنصف من نفسه، ولا يلزمه إلا ذلك، لو ودَّت٨٤ العاقلة. ولزومه أيضًا إيَّاه مع العاقلة مؤجلًا في ثلاث سنين. فإذا نجزه وجعله ذهبًا إن كان من أهل الذهب، أو ورقًا إن كان من أهل الورق، أو عرضًا من العروض يفي بالذي عليه أو أكثر منه قيمةً أو أقل، فذلك جائز إذا عجَّل العروض ولم يؤخِّرها. فإن قُبِلَ ذلك منه برئ، وإن أبى من له قبوله، فإن أراد تركه له، وتخيَّلته منه، فلا بأس إذا أسقط قدره عن بقية العاقلة؛ وإن كان إباؤه من قَبوله جهلًا يُريد أن يأخذ منه ما على غيره، فليس على هذا المُتطوع أكثر من بذل ما عليه، فإن لم يؤخَذ منه، أوقف الواجب عليه عند أمين. وإن أحبَّ ألا يُخرجه إلى أمين، أو يَضُرَّه إمساكه [٩٢-ب] لأنه إن تلف عند الأمين لم يبرأ منه، ولكن لو أوقفه حاكم من حُكام المسلمين أمين مأمون عند عدل مأمون، فإن كان دفع ذلك إلى العدل كما وجب عليه العين نفسها، على ثلاث نجوم،٨٥ كلما حلَّ نجم دفع ثلث الواجب عليه، فهو يراه له. وإن أبى من هذا كله، بأن أحب أن يتصدَّق بالواجب عليه من الذي يستأهله بالمِيراث، وإن أحبَّ صَنع به ما شاء. فإن هو قبله متى ما طلب به أخذ منه. وهذا كله إذا استوى أن للجاني عواقل على ما وصفنا تحتمِل ذلك، فإن لم يثبت ذلك، وصار وجوب هذه الدِّية على بيت المال، فليس على هذا الرجل شيء، ولا على غيره، من قرابة الجاني. فافهم. فقد فسَّرتُ لك جميع ما سألتَ عنه حسب ما أمكنني، لضيق الوقت.

وسألتَ هل يؤدِّب الرجل امرأته؟ فاعلم: أنَّ أدبه إيَّاها [٩٣-أ] مأخوذ من كتاب الله. وذلك قوله عز وجل وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (النساء: ٣٤). فكذلك كل شيء يجب عليها أن تُطيعه فيه، إذا كان هو مُؤديًا إليها حقوقها، وسالمًا من ظلمها، فله أن يؤدِّبها عليه. وأدَبُه إيَّاها يكون بقدْر استئهالها. وكذلك قال فيه العلماء. فإن ضربها على وجه التأديب لها ففقأ عينها، أو أعنَتَها، إن ذلك من الخطأ، تحمِل العاقلة ما بلغ الثلث منه فصاعدًا، وإن أنكرَتْه ما ادَّعاه قبلها من خلافه، فهذا لا ينتهي منها إلى ما يُوجب من ضربها وإلا ولا بدَّ أن يُسمَع في الأهلين والجيران؛ لأن أدبه إيَّاها ليس يقع في أول مرة، فإن ادَّعى عليها ما لم يُسمَع منها، وما لم يُعرَف به عند أحد من الأهلِين ولا الجيران [٩٣-ب] وظاهرها الصحة والسلامة، لم يُقبَل قوله عليها. وينبغي له إذا كانت هذه صفتها، أن يُطْلِع — على ما يَنسِبه إليها — مَنْ يُوثَق به من الأهل والجيران، قبل أن يظهر عليه بسط يدِه إليها. فإن لم يُمكنه أن يُظهِر عليها ما ينسِبه إليها، فقد ابتلى، فإن شاء تماسك بها على ما يرى، ويؤدبها إن حَقَّ له أدب مأمورًا عليها، ولا يتجاوز فيه أدبه لها، كأدب المُعلم لصبيانه، سالمًا من العطب والحميَّة، لأنه إنما يؤدِّبها لمُصلِحها له ولنفسها.

وأدبه لابنه الصغير هو مأمور فيه حتى يظهر منه الجفاء وسُوء الخلُق، فيُزجَر عنه. إنما السبيل في أدب من يريد صلاحه، أن يؤدبه في غير عطب ولا حمية، إذ هو ليس على باب العداوة. وكذلك عبده وأمَتَه، إليه أدَبُهما [٩٤-أ] فيؤدب كل واحد منهما على قدر جُرمه أدبًا عدلًا ليس لعدده حدٌّ يُقتَصَر عليه، حتى يظهر منه الظلم لعبده والعتوُّ عليه فيُرَد عنه ويُنهى، كما جاء «إن الله يحب الرفق في الأمر كله.»٨٦ قال الرسول عليه السلام: «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون ولا تُكلفوهم فوق طاقتهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم.»٨٧

وسألتَ عن الوالد يشكو ولده الكبير، ويذكر عنه أنه يعقُّه، ويعقُّ أمه، فاعلم — رحمك الله — أن الولد إذا احتلم، وملك أمره، فقد ارتفع عنه نظر والده، وبقِيَ على الولد حق الوالدَين، فعليه أن يُوفِّيهما أو مَنْ كان معه منهما ما ألزمه الله عز وجل منهما. فإنه عزَّ وجل يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [٩٤-ب] إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء: ٢٣-٢٤). فإذا رأيتَ والدًا يشكو ولده، فاقرأ على ولده القرآن وفَهِّمْه ما عليه لوالده، في لينٍ ورفق، لعلَّه يتذكَّر أو يخشى، وحذره عقوق والديه، فإن الرسول عليه السلام عدَّ عقوق الوالدين مع الكبائر التي تُدخِل النار. فأما أن يُؤخَذ بقول والده، أو يُحكَم بذلك عليه، فلا. ولكن إن كان والده من أهل الصلاح، ويؤمَن منه أن يكون فيه انحراف لولد غيره، أو إلى زوجةٍ له غير أُمِّه، فيعرف الولد أن أباه لا يُتَّهَم عندنا بالكذب، ولا سبيل إلى سُوء الظن به فيك. وهو إن لم تجرِ عليك الأحكام [٩٥-أ] بقوله، فإن قوله فيك السوء يُزري بك، ويَمقُتك، ويُنَفِّر عنك القلوب، وترى بعين الجهالة والسَّفَه. فإن كان هذا الولد من أهل المروءة والقناعة، فيُستَنْهى ويتأبَّخ ويستشعر الصبر على والديه. وإن كان من أهل السَّفه والجهالة والمُرادَّة، نظر فيه حاكم المسلمين العدل بحُسن النظر، وزجَرَه عما لم تقُم به عليه بيِّنة، إلا شكوى الأب، بعض الزجر. ورُبَّ والدٍ يكون السَّفَه صفته وله الولد الحليم، فيعتو عليه والده بسَفَهِه، فلا يُقبل منه، ولا يُطاع فيه، ويُزجَر عنه حتى يَكُفَّ أذاه. ولك في هذا الوصف مُقنِع ممَّا سألتَ عنه إن شاء الله.

ذكر سؤاله عن قول الرسول عليه السلام نزل القرآن على سبعة أحرف٨٨

وسألت عن تفسير: أُنزِل القرآن على سبعة أحرف. فاعلَم أن المُراد منه مفهوم في نصِّه، كما جاء عن عمر بن الخطاب [٩٥-ب] رضي الله عنه، قال سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها عليه، وكان رسول الله أقرأنيها، فكدتُ أن أُعجِّل عليه، ثم أمهلتُه حتى انصرف، ثم لببتُهُ بردائه، فجئتُ به رسول الله . فقلت: يا رسول الله إني سمعتُ هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتَنيها. فقال له رسول الله : اقرأ. فقرأ القراءة التي سمِعتُه يقرأ. فقال هكذا أُنزِلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت. فقال: هكذا أُنزِلت، إن هذا القرآن أُنزِل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منه. فبيَّنَ بقوله، فاقرءوا ما تيسَّر منه أنها [٩٦-أ] سبع قراءات، في كل واحدةٍ منها ألفاظ مُخالفة لما في الأخرى، فليقرأ كل امرئٍ بما تيسَّر منه من هذه السبعة. وقد تختلف الألفاظ في القراءة في كلمةٍ والمعنى فيها واحد. وقد تختلف المعاني فيها باختلاف الألفاظ في قراءتها. والقراءتان المشهورتان الثابتتان عن من نُسِبتا إليه، ممن وجبت إمامته، وصحَّت ثقته، بمنزلة الآيتَين عند حُذَّاق المُقرئين، تُفسِّر إحداهما الأخرى، أو يُخالف معناها فتكون إحداهما ناسخةً للأخرى؛ فلينشرح صدرك إلى ما قرأ به أئمة المُسلمين المَشهورون، الذين سَلَّم لهم أهل الأمصار الجامعة ما تقلَّدوه، ووثقوا بهم فيما رَوَوه، فما منهم إلا مَن قراءته حسنة [٦٩-ب] مُسَلَّم بها ويُحتَج بها، ونكِّبْ عن غيرهم، فإنه ليس لما جاء به قوة كقوتهم. وهؤلاء الأئمة هم: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، إمام القرَّاء بالمدينة؛ وعبد الله بن كثير إمام القرَّاء بمكة؛ وعبد الله بن عامر إمام القرَّاء بالشام؛ وأبو عمرو بن العلاء إمام القراء بالبصرة. وثلاثة منهم بالكوفة، وهم عاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي؛ وليس هو حمزة المُقرئ. فقد عرَّفتُك بأسمائهم وبلدانهم لئلَّا يشتكل عليهم غيرهم بهم، ومع هذا فأنت بطرفٍ بعيد فلا تقبلنَّ غير ما تعرِف إلا من المأمونين. وقد قال مالك رحمه الله: قراءة نافع حسَنةٌ ولم يضيق غيرها [٩٧-أ] ولا كره خلافها، إلا ما شذ، وخرج على المُتواطأ عليه. وقد قدَّمتُ لك ما في كتاب سحنون من استحسان قراءة نافع، والتوسِعة في غيرها، ما لم يكن مُستبشعًا. فافهم. واستمسِك بهدي المُتقين. عصَمَنا الله وإياك من الفتنة في الدين، وأعاذنا من شرِّ الفاتنين والمَفتونين، وختم لنا بما يُرضيه عنَّا، ليُميتنا عليه، فيدخلنا برحمته في عباده الصالحين آمين رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله، بتاريخ ثامن عشر ذي القعدة سنة ستٍّ وسبعمائة.

تم الجزء الأول والثاني والثالث من المُفصلة لأحوال المُعلمين وأحكام المُعلمين والمُتعلمين، [لأبي الحسن القابسي] رحمه الله، ودعا لصاحبه بالمغفرة ولجميع المسلمين.

ذكر لنا بعض أصحابنا أنه سُئل الفقيه أبو عمران الفاسي رحمه الله عن حذقات القرآن. فأجاب في ذلك بأن قال: لولا أنه أمْرٌ لم يسبقني إليه أحد لجعلتُ في آخر كل سورة حذقة.

(٢) آداب المُعلمين لابن سحنون

ما جاء في تعليم القرآن العزيز

قال أبو عبد الله محمد بن سحنون: حدثني أبي سحنون، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: أفضلكم من تعلم القرآن وعلَّمه.

محمد عن أبي طاهر، عن يحيى بن حسان، عن عبد الواحد بن زيادة، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله خيركم مَنْ تعلم القرآن وعلَّمه.

محمد عن يعقوب بن كاسب عن يوسف بن أبي سلمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن ابن هرمز، عن عبد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي قال: يرفع الله بالقرآن أقوامًا.

عن سحنون، عن عبد الله بن عبد الله بن نافع قال: حدثني حسين، عن عبد الله بن حمزة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه أن رسول الله قال: عليكم بالقرآن فإنه ينفي النفاق كما تنفي النار خبث الحديد.

figure

موسى عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال رسول الله : إن لله أهلين من الناس. قيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: هم حملَة القرآن، هم أهل الله وخاصته.

عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله : أُنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منه.

قال حدَّثَني موسى بن معاوية الصمادحي، عن سفيان، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن حذيفة، قال: قال رسول الله : من قرأ القرآن بإعرابٍ فله أجر شهيد.

وحدَّثني عن الزهري أحمد بن أبي بكر، عن محمد بن طلحة، عن سعيد بن سعيد المغربي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : مَنْ تعلم القرآن في شبيبته اختلط القرآن بلحمه ودمِه، ومَنْ تعلم في كِبَره وهو يتفلَّت منه ولا يتركه، فله أجره مرَّتَين.

وحدَّثني أبو موسى، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أسد ابن وداعة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في قول الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (فاطر: ٣٢) قال: كل مَنْ تعلم القرآن وعلَّمه فهو مِمَّن اصطفاه الله من بني آدم.

وحدَّثونا عن سفيان الثوري، عن العلاء بن السائب قال: قال ابن مسعود: ثلاثٌ لا بدَّ للناس منهم، لا بدَّ للناس من أمير يحكم بينهم ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضًا؛ ولا بدَّ للناس من شراء المصاحف وبيعها ولولا ذلك لقلَّ كتاب الله؛ ولا بدَّ للناس من مُعلم يُعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرًا ولولا ذلك لكان الناس أُمِّيين.

ابن وهب عن عمر بن قيس، عن عطاء: أنه كان يُعلِّم الكتاب على عهد معاوية ويشترط. ابن وهب عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أآخذ الأجر على تعليم الكتاب؟ قال: أعلمتَ أن أحدًا كرَّهه؟ قال: لا. ابن وهب عن حفص بن ميسرة، عن يونس، عن ابن شهاب: أن سعدًا بن أبي وقاص قدِم برجل من العراق يُعلِّم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. قال ابن وهب، وقال مالك: لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئًا كان حلالًا جائزًا؛ ولا بأس بالاشتراط في ذلك وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدِنا في المُعلمين.

ما جاء في العدل بين الصبيان

حدَّثني محمد بن عبد الكريم البرقي، قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم العمري، قال: حدثنا آدم بن بهرام بن إياس، عن الربيع، عن صُبيح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : أيما مؤدِّب ولَي ثلاثة صبية من هذه الأمَّة فلم يُعلمهم بالسوية، فقيرهم مع غنيهم، وغنيهم مع فقيرهم، حُشِرَ يوم القيامة مع الخائنين.

عن موسى، عن فضيل بن عياض، عن ليث، عن الحسن قال: إذا قوطع المُعلم على الأجرة فلم يعدِل بينهم — يعني الصبيان — كُتب من الظَّلَمَة.

باب ما يُكره محوُه من ذكر الله تعالى وما ينبغي أن يُفعل من ذلك

حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود، عن زيد بن ربيع، عن بشر بن حكيم، عن سعيد بن هارون، عن أنس بن مالك قال: إذا محت صِبية الكُتَّاب تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الواقعة: ٨٠) من ألواحهم بأرجُلهم، نبذ المُعلم إسلامه خلف ظهره، ثم لم يبالِ حين يلقى الله على ما يَلقاه عليه.

قيل لأنَس: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم؟ قال أنس: كان المؤدِّب له إجَّانة، وكل صبي يأتي كل يوم بنَوبته ماءً طاهرًا فيصبُّونه فيها، فيمحون به ألواحهم؛ قال أنس: ثم يحفرون حفرةً في الأرض، فيصبُّون ذلك الماء فيها فينشف.

قلت: أفتَرَى أن يُلعَط؟ قال: لا بأس به، ولا يُمسَح بالرِّجْل، ويُمسح بالمنديل وما أشبهه. قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكُتَّاب من المسائل؟ قال: أمَّا ما كان من ذِكر الله فلا يمحُه برِجْله، ولا بأس أن يُمحى غير ذلك مما ليس من القرآن.

وحدثنا عن موسى عن جويبر بن منصور قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفته مداد؛ قال: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعَطه، يعني يلعقه.

ما جاء في الأدب وما يجوز من ذلك وما لا يجوز

قال: وحدثنا عن عبد الرحمن: عن عبيد بن إسحاق، عن يوسف بن محمد، قال: كنت جالسًا عند سعد الخفَّاف فجاءه ابنه يبكي فقال: يا بني ما يُبكيك؟ قال: ضربني المُعلم. قال: أما والله لأُحدِّثنكم اليوم: حدَّثني عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله : شرار أُمتي مُعلِّمو صبيانهم، أقلهم رحمةً لليتيم وأغلظهم على المسكين.

قال محمد: وإنما ذلك لأنه يضربهم إذا غضب، وليس على مَنافعهم؛ ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يُجاوز بالأدب ثلاثًا، إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدًا. ويؤدبهم على اللعِب والبطالة ولا يجاوز بالأدب عشرًا، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثًا.

قلت: لِمَ وقَّت عشرًا في أكثر الأدب في غير القرآن، وفي القرآن ثلاثة؟ فقال: لأن عشرة غاية الأدب؛ وكذلك سمعتُ مالكًا يقول: وقد قال رسول الله : لا يضرب أحدُكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حدٍّ.

قال محمد: وحدَّثنا يعقوب بن حميد، عن وكيع، عن هشام بن أبي عبد الله بن أبي بكر عن النبي قال: لا يحل لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يضرِب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ.

حدَّثنا رباح، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: بلغني أن رسول الله قال: أدَبُ الصبي ثلاثَ دِرَر، فما زاد عليه قُوصِصَ به يوم القيامة؛ وأدب المُسلم في غير الحد عشرة إلى خمس عشرة فما زاد عنه إلى العشرين يُضرب به يوم القيامة.

قال محمد: وكذلك أرى ألا يضرب أحدٌ عبدَه أكثر من عشرة، فما زاد على ذلك قُوصِص به يوم القيامة إلا في حَدٍّ، إلا إذا تكاثرَتْ عليه الذنوب، فلا بأس أن تضربه أكثر من عشرة، وذلك إذا كان لم يَعِفَّ عما تقدَّم؛ وقد أذن النبي في أدب النساء. ورُوي أن ابن عمر رضي الله عنهما ضرب امرأته. وقال النبي : يؤدِّب الرجل ولدَه خير له من أن يتصدق. وقد قال بعض أهل العلم: إن الأدب على قدر الذنب، وربما جاوز الأدب الحد، منهم سعيد بن المُسيب وغيره.

ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمُعلم

وسألته متى تجب الختمة فقال: إذا قاربها وجاوز الثلثَين؛ فسألته عن ختمة النصف، فقال: لا أرى ذلك يلزم. قال سحنون: ولا يلزم ختمة غير القرآن كله لا نصف ولا ثلث ولا ربع، إلا أن يتطوَّعوا بذلك.

قال محمد: وحضرتُ لسحنون قضى بالختمة على رجل؛ وإنما ذلك على قدر يُسر الرجل وعُسره. وقيل له: أترى للمُعلم سَعة في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم.

قلت: وما أهدى الصبي للمُعلم أو أعطاه شيئًا فيأذن له في ذلك؟ فقال: لا، إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز له إلا بإذن الآباء، قال: ومن هنا سقطت شهادة أكثر المُعلمين؛ لأنهم غير مُؤدِّين لما يجب عليهم، إلا مَنْ عصم الله.

قال لي: هذا إذا كان المُعلم يُعلِّم بأجرٍ معلوم كل شهر أو كل سنة، وأما إن كان على غير شرطٍ فما أُعطِيَ قَبِلَ، وما لم يُعْطَ لم يسأل شيئًا، فله أن يفعل ما شاء، إذا كان أولياء الصبيان يعلمون تضييعه فإن شاءوا أعطَوه على ذلك، وإن شاءوا لم يُعطوه.

ما جاء في القضاء بعطية العيد

قلت: فعطية العيد يقضي بها؟ قال: لا، ولا أعرف ما هي إلا أن يتطوَّعوا بها. قال: ولا يحلُّ للمُعلم أن يُكلِّف الصبيان فوق أُجرته شيئًا من هدية وغير ذلك، ولا يسألهم في ذلك، فإن أهدَوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف، فإن لم يفعلوا فلا يضربهم في ذلك، وأما إن كان يُهدِّدهم في ذلك، فلا يحلُّ له ذلك؛ أو يُخليهم إذا أهدَوا له، فلا يحلُّ له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية، وهو مكروه.

ما ينبغي أن يُخلِّي الصبيان فيه

قلت له: فكم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ قال: الفطر يومًا واحدًا ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام، والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذن لهم خمسة أيام.

قلت: أفيُرسِل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ قال: لا أرى ذلك يجوز له إلا أن يأذن له آباؤهم أو أولياء الصبيان في ذلك، أو تكون المواضع قريبةً لا يشتغل الصبي في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب الصبيان ويُخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا.

قال: وأُحِب للمُعلم ألا يولي أحدًا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفًا منهم إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعرَف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس بذلك، وأن يُعينه فإن ذلك منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك، ولْيَلِ هو ذلك بنفسه، أو يستأجر مَنْ يُعينه، إذا كان في مثل كفايته.

ما يجب على المُعلم من لزوم الصبيان

ولا يحلُّ للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكون في وقتٍ لا يعرضهم فيه، فلا بأس أن يتحدَّث وهو في ذلك ينظُر إليهم ويتفقَّدهم.

قلت: فما يعمل الناس من «الأفلام»٨٩ عند الختم، ومن الفاكهة يُرمى بها على الناس هل يحل؟ قال: لا يحلُّ لأنه نهبة، وقد نهى رسول الله عن أكل طعام النهبة.

قال وليلزم المُعلم الاجتهاد وليتفرَّغ لهم، ولا يجوز له الصلاة على الجنائز، إلا فيما لا بدَّ له منه ممَّن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عمله ولا يتبع الجنائز ولا عيادة المرضى.

وينبغي له أن يجعل لهم وقتًا يُعلمهم فيه الكتاب، ويجعلهم يتجاوزون٩٠ لأن ذلك مما يُصلحهم ويخرجهم؛ ويبيح لهم أدب بعضهم بعضًا، ولا يجاوز ثلاثًا، ولا يجوز له أن يضرب رأس الصبي ولا وجهه، ولا يجوز له أن يمنعه من طعامه وشرابه إذا أرسل وراءه.

قلت: فهل ترى للمُعلم أن يكتب لنفسه كتب الفقه أو لغيره؟ قال: أما في وقت فراغه من الصبيان فلا بأس أن يكتب لنفسه وللناس، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب، وأما ما داموا حوله فلا، ولا يجوز له ذلك؛ وكيف يجوز له أن يخرج مما يلزمه النظَر فيه لما لا يلزمه؟ ألا ترى أنه لا يَجوز له أن يُوكِل تعليم بعضهم إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم؟

قلت: فيأذن للصبي أن يكتُب إلى أحد كتابًا؟ قال: لا بأس به، وهذا مما يُخرِّج الصبي إذا كتب الرسائل. وينبغي أن يعلمهم الحسابَ، وليس ذلك بلازِمٍ له إلا أن يُشترط ذلك عليه، وكذلك الشِّعر، والغريب، والعربية، والخط وجميع النحو؛ وهو في ذلك مُتطوِّع.

وينبغي له أن يُعلمهم إعراب القرآن وذلك لازم له، والشكل، والهجاء والخط الحسَن، والقراءة الحسنة، والتوقيف، والترتيل، يلزمه ذلك. ولا بأس أن يُعلِّمهم الشِّعر مما لا يكون فيه فحش من كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجبٍ عليه.

ويلزمه أن يُعلمهم ما عَلِمَ من القراءة الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إنْ أقرأهم لغيره إذا لم يكن مُستبشعًا مثل «يَبْشُرُك» و«وُلْدُهُ» و«حِزْمٌ على قريَةٍ» ولكن يُقرِئها «يُبَشِّرُك» و«وَلدُه» و«حَرامٌ على قَرْيَةٍ» وما أشبه هذا، وكل ما قرأ به أصحاب رسول الله .

وعلى المُعلم أن يكسب الدِّرَّة والفلقة، وليس ذلك على الصبيان. وعليه كراء الحانوت وليس ذلك على الصبيان. وعليه أن يتفقدهم بالتعليم والعرض ويجعل لعرض القرآن وقتًا معلومًا مثل يوم الخميس وعشية الأربعاء، ويأذن لهم في يوم الجمعة، وذلك سُنة المُعلمين منذ كانوا لم يُعَب ذلك عليهم.

ولا بأس أن يُعلِّمهم الخُطب إن أرادوا، ولا أرى أن يُعلمهم ألحان القرآن؛ لأن مالكًا قال: لا يجوز أن يقرأ القرآن بالألحان، ولا أرى أن يُعلمهم التحبير؛٩١ لأن ذلك داعية إلى الغناء وهو مكروه وأن يُنهى عن ذلك بأشدِّ النهي. قال: وقال سحنون: ولقد سُئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمع فيها للقراءة، فقال بدعة، وأرى للوالي أن يناههم عن ذلك ويُحسِن أدبهم.

وليعلمهم الأدب فإنه من الواجب لله عليه النصيحة وحفظهم ورعايتهم.

وليجعل الكُتَّاب من الضحى إلى وقت الانقلاب. ولا بأس أن يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن ذلك منفعة لهم، وليتفقَّد إملاءهم. ولا يجوز أن ينقلهم من سورةٍ إلى سورة، حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها، إلا أن يُسهِّل له الآباء. فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصيٌّ، فإن كان دفع أجر المُعلم من غير مال الصبي إنما هو من عنده، فله أن يُسهل للمُعلم كما للأب، وإن كان من مال الصبي يُعطي الأجرة، لم يجُز أن يُسهِّل للمُعلم أن يُخرجه من السورة حتى يحفظها كما علمت، وكذلك إن كان الأب يُعطي من مال الصبي؛ قال وأرى ما يلزم الصبي من مؤنة المُعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته.

قلت: فالصبيُّ يدخل عند المُعلم وقد قارب الختمة هل له أن يقضي له بالختمة وقد ترك الأول أن يُطالبه؟ فقال: إن كان أخذ عنه من المَوضع الذي لا يلزمه الختمة للأول أو لو قام مثل أكثر من الثلث من «يونس» و«هود» ونحو ذلك فالختمة لازمة له؛ لأن الأول حينئذٍ لو قام لم يُقضَ له بشيءٍ، وأما إن كان دخوله عنده في وقت لو قام عليه الأول لزِمَتْه الختمة لم يُقضَ للداخل عنده بشيء؛ لأن الأول كأنه إنما تركها لأبيه أو للصبي إلا أن يتطوَّع لهذا بشيء، وأستحسن إن تطوَّع لهذا بشيءٍ استحسانًا، وليس بقياس.

قلت: أرأيت لو أن والده أخرجه وقال: لا يختم عندك وقد قارب الختمة، وإنما كانت الأُجرة على شهر؟ فقال: أقضي عليه بالختمة ثم لا أبالي أأخرَجَه أم تركه. قلت: فما يقول إن قال: ابني لا يعلم القرآن، هل تجِب عليه الختمة؟ فقال: إن قرأ الصبي القرآن في المصحف وعرف حروفه وأقام إعرابه، وجبتْ للمُعلم الختمة، وإن لم يقرأه ظاهرًا، لأنه قلَّ صبيٌّ يستظهر القرآن أول مرة. قلت: فإن كان أخطأ في قراءة المصحف؟ فقال: إن كان الشيء اليسير، والغالب عليه المعرفة، فلا بأس.

قال سحنون: ولا يجوز للمُعلم أن يرسِل الصبيان في حوائجه، وينبغي للمُعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك: حدَّثنا عنه عبد الرحمن قال: قال مالك: يُضربون عليها بنو عشر ويُفرَّق بينهم في المضاجع؛ قلت: الذكور والإناث؟ قال: نعم.

قال سحنون: ويلزَمه أن يُعلمهم الوضوء والصلاة؛ لأن ذلك دينهم، وعدد ركوعها وسجودها والقراءة فيها والتكبير وكيف الجلوس والإحرام والسلام، وما يلزمهم في الصلاة والتشهُّد والقنوت في الصبح، فإن من سُنَّة الصلاة ومن واجب حقِّها الذي لم يزل رسول الله عليها، حتى قبضه الله تعالى صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم الأئمة بعدَه على ذلك لم يُعْلَمُ أحد منهم ترك القنوت في الفجر رغبةً عنه، وهم الراشدون والمَهديُّون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم على ذلك، ومَنْ تبعهم رضي الله عنهم أجمعين.

وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله، ويُعِّرفهم عظمته، وجلاله، ليَكبُروا على ذلك. وإذا أجدب الناس واستسقى بهم الإمام، فأحب للمُعلم أن يخرج بهم مَنْ يعرف الصلاة منهم، وليبتهِلوا إلى الله بالدعاء، ويرغبوا إليه، فإنه بلغَني أنَّ قوم يونس صلى الله على نبينا وعليه، لمَّا عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم فتضرَّعوا إلى الله بهم.

وينبغي أن يُعلِّمهم سُنَن الصلاة مثل ركعتي الفجر والوتر وصلاة العيدَين والاستسقاء والخسوف، حتى يُعلمهم دينهم الذي تعبد الله به، وسُنة نبيهم . قال: ولا يجوز للمُعلم أن يُعلم أولاد النصارى القرآن ولا الكتاب.

قال: وقال مالك: ولا بأس أن يكتُب المُعلم الكتاب على غير وضوء؛ ولا بأس على الصبي إذا لم يبلُغ الحُلم، أن يقرأ في اللوح على غير وضوء، إذا كان يتعلَّم، وكذلك المُعلم. ولا يمَسُّ الصبي المصحف إلا على وضوء، وليأمُرهم بذلك حتى يتعلَّموه. قال: وليتعلَّموا الصلاة على الجنائز والدعاء عليها فإنه من دينهم، وليجعلهم بالسواء في التعليم، الشريف والوضيع، وإلا كان خائنًا. وسُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد. قال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة ولم يُنصَب المسجد للتعليم. قال مالك: ولا أرى أن يُنام في المسجد ولا يُؤكَل فيه إلا من ضرورة، ولا يجد بدًّا منه مثل: الغريب والمسافر والمحتاج الذي لا يجد موضعًا.

قال محمد: وحدَّثني سحنون، عن عبد الله بن نافع، قال سمعتُ مالكًا يقول: لا أرى لأحدٍ أن يقرأ القرآن وهو مارٌّ على الطريق، إلا أن يكون مُتعلمًا. ولا أرى أن يقرأ في الحمَّام.

قال مالك: وإذا مرَّ المُعلم بسجدة وهو يقرؤها عليه الصبي، فليس عليه أن يسجد؛ لأن الصبي ليس بإمام، إلا أن يكون بالغًا، فلا بأس أن يسجدها، فإن تركها فلا شيء عليه لأنها ليست بواجبة. وكذلك إذا قرأها هو، فإن شاء سجد، وإن شاء ترك: ألا ترى أن عُمرًا قرأها مرةً على المنبر، فنزل فسجد، ثم قرأها مرة أخرى، فلم يسجد وقال: إنها لم تُكْتَب علينا.

قال مالك: وكذلك المرأة إذا قرأت السجدة على الرجل، لم يسجد الرجل معها؛ لأنها ليست بإمام. وقال رسول الله للذي قرأ عليه: كنتَ إمامًا، فلو سجدتَ سجدتُ معك.

قال سحنون: وأكره للمُعلم أن يُعلِّم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهم.

وسُئل سحنون عن المُعلم: أيأخذ الصبيان بقول بعضهم على بعض في الأذى؟ فقال: ما أرى هذا من ناحية الحُكم، وإنما على المؤدِّب أن يؤدبِّهم إذا آذى بعضهم بعضًا، وذلك عندي إذا استفاض عِلم الأذى من الجماعة منهم، أو كان الاعتراف، إلا أن يكون صبيانًا قد عرفهم بالصدق فيقبل قولهم ويُعاقِب على ذلك، ولا يجاوز في الأدب كما أعلمتُك، ويأمرهم بالكفِّ عن الأذى، ويردُّ ما أخذ بعضهم لبعض، وليس هو من ناحية القضاء. وكذلك سمعتُ من غير واحد من أصحابنا، وقد أُجيزت شهادتهم في القتل والجراح فكيف بهذا؟ والله أعلم.

ما جاء في إجارة المُعلم ومتى تجِب

قال محمد: وكتب شجرة بن عيسى إلى سحنون يسأله عن المُعلم يُستأجَر على الصبيان يعلمهم، فيمرض أحد الصبيان أو يُريد أبوه أن يخرج به إلى سفرٍ أو غيره. فقال: إذا استؤجِر سنةً معلومةً فقد لزِمَت آباءهم الإجارة خرجوا أو أقاموا. وإنما تكون الإجارة ها هنا تقضي على حال الصبيان لأن منهم الخفيف والثقيل، وقد يكون الصبي له المؤنة في تعليمه ومِنهم مَنْ لا مؤنة على المعلم فيه، ففي هذا ينظر.

قال: وقال سحنون: انتقض ما ينوب أباه من إجارة في باقي الشرط ولا يلزمه ذلك، وكذلك إن مات الأب انتقض ما بقي من الإجارة وكان ما بقي في مال الصبي، قال محمد: مثل الرضاع إذا استأجر الرجل لولده مَنْ يُرضعه ثم مات الأب أو الصبي، فإنَّ عبد الرحمن روى عن مالك: أن الإجارة تنتقض، ويكون ما بقي في مال الصبي إن كان له مال، ويكون ذلك موروثًا عن الميت، وإن مات الصبي أخذ الأب باقي الإجارة، وروى أشهب عن مالك أن تلك العطية نفذت للصبي، فإن مات الأب كانت للصبي، وإن مات الصبي كان ما بقي موروثًا عن الصبي كأنه ماله، وكذلك أُجرة المُعلم مثل هذا، والله أعلم. قال محمد: وهذا قولي، وهو القياس.

قال سحنون: وقد سُئل بعض علماء الحجاز — منهم ابن دينار وغيره — أن يَستأجر المُعلمَ الجماعة وأن يفرض على كل ولدٍ ما ينوبه، فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة ولا بدَّ للناس منه، وهو أشبه. وقال: وهو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدَين من رجُلَين، لكل واحدٍ عبْد، وإنما ذلك بمنزلة البيع؛ وعبد الرحمن لا يُجوِّز هذه الإجارة؛ لأنه لا يجوز ذلك في البيع. والله أعلم.

قال: ولا بأس للمُعلم أن يشتري لنفسه ما يُصلحه من حوائجه إذا لم يجد مَنْ يكفيه. ولا بأس أن ينظُر في العِلم في الأوقات التي يستغني الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتاب وإملاء بعضهم على بعض، إذا كان ذلك منفعةً لهم، فإن هذا قد سَهَّلَ فيه بعض أصحابنا.

وسُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا، فقال: إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك إذا كان للصبي في ذلك منفعة. وسمعتُه يقول: تنازع المُغيرة بن شعبة وابن دينار — وكلاهما من علماء الحجاز — عن صبي يختم القرآن عند المُعلم فيقول الأب: إنه لا يحفظ، فقال المُغيرة: إذا كان أخذ القرآن كله عنده وقرأه الصبي كله نظرًا في المصحف وأقام حروفه، فإن أخطأ منه اليسير الذي لا بدَّ منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبتْ للمُعلم الختمة، وهو على المُوسِع قدره وعلى المُقتر قدره، وهو الذي أحفظ من قول مالك.

وقال ابن دينار: سمعت مالكًا يقول: تجب للمُعلم الختمة على قدر يُسر الرجل وعُسره، يجتهد في ذلك وليُّ النظر للمسلمين.

وأرى أنه إذا تنازع الأب والمُعلم في الصبي، أنه لا يعلم القرآن، فإنه إذا قرأ منه نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مفردًا وجبت له الختمة، قضيتُ له بها، ولا أُبالي ألَّا يقرأ غير ذلك؛ لأنه لو لم يأخُذه عنده، لم يسأل هذا المُعلم عنه. وأجمعوا جميعًا على أنه إذا أخذ عنده الثلث إلى سورة البقرة أن الختمة واجبة، إذا عرف أن يقرأه كما وصفتُ لك، ولا يُسأل عن غير ذلك مما لم يكن أخَذَه عنده.

وسُئل عن المُعلم يُستأجر على تعليم الصبيان فيموت، فقال: إذا مات انفسخت الإجارة، وكذلك إذا مات أحد الصبيان انفسخ من الإجارة بقدْر ما بقي من إجارة مثل الصبي، وقد قيل إن الإجارة لا تنفسِخ وأن على المُعلم فيما له مقاصَّة في التعليم، وعلى أبي الصبي أن يأتي بمَن يُعلمه تمام السنة، وإلا كانت له الإجارة كاملة.

قال محمد: الأول كلام عبد الرحمن وعليه العمل، وإنما ذلك بمنزلة الراحلة بعينها، إذا هلكت انفسخ الكراء، ولا يجوز أن يأتي بمثلها، ولا يُشتَرَط عليه ذلك. والله أعلم.

وسمعته يقول: قال أصحابنا جميعًا — مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمُعلم الختمة ولو استُؤجِر شهرًا شهرًا، أو على تعليم القرآن بأجرٍ معلوم، ولا يجب له غير ذلك. وقالوا: إذا استظهر الصبيُّ القرآن كله كان له أكثر في العطية للمُعلم ممن إذا قرأه نظرًا، وإذا لم يتهجَّ الصبيُّ ما يُملى عليه، ولا يفهم حروف القرآن، لم يُعْطَ المُعلم شيئًا، وأُدِّبَ المُعلم ومُنع من التعليم إذا عُرف بهذا، وظهر تفريطه.

ما جاء في إجارة المصحف وكتُب الفقه وما شابهها

قال سحنون: قلت لابن القاسم: أرأيت المصحف أيصحُّ أن يُستأجَر ليُقرأ فيه؟ فقال: لا بأس به لأن مالكًا قال: لا بأس ببيعه. ابن وهب عن ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عمارة بن عرفة عن ربيعة قال: لا بأس ببيع المصحف، وإنما يُباع الحبر والورق والعمل.

ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر أن ابن مصيح كان يكتب المصاحف في ذلك الزمان ويبيعها. أحسَبُه قال في زمان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولا ينكر عليه أحد؛ ولا رأيتُ أحدًا بالمدينة يُنكر ذلك. قال: وكلهم لا يرَون به بأسًا.

قال: ولا أرى أن تجوز إجارة كتُب الفقه؛ لأن مالكًا كرِه بيعها، لأن فيه اختلف العلماء؛ قوم يُجيزون ما يُبطل قوم. قلت: فقد أجزتُم إجارة الحُر وهو لا يحلُّ بيعه، فكيف لا تُجيزون إجارة كتب الفقه؟ فقال: لأن الإجارة في الحُر معلومة؛ خدمته تُملَك. وإنما في كتب الفقه القراءة، والقراءة لا تُملَك.

قال محمد: لا أرى بأسًا بإجارتها وبيعها إذا علمَ مَن استأجرها واشتراها.

قال محمد: لا بأس أن يَستأجر الرجل المُعلم على أن يُعلم أولاده القرآن بأجرة إلى أجل معلوم، أو كل شهر. وكذلك نصف القرآن أو ربعه أو ما سَمَّيا منه. قال: وإذا استأجر الرجل مُعلمًا على صبيان معلومين، جاز للمُعلم أن يُعلم معهم غيرَهم إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجِر لهم. قال: وإذا استؤجر المُعلم على صبيان معلومين سنةً، فعلى أولياء الصبيان كراء مَوضع المُعلم. قال: وإذا قيل للمُعلم عَلِّمْ هذا الوصيف ولك نصفه لم يجُز ذلك. قال: وإذا أدَّب المعلم الصبي الذي يجوز له فأخطأ ففقأ عينه، أو أصابه فقتله، كانت على المُعلم الكفارة في القتل، والدِّية على العاقلة إذا جاوز الأدب، وإذا لم يجاوز الأدب، وفعل ما يجوز له، فلا دِية عليه، وإنما يضمن العاقلة من ذلك ما يبلغ الثلث، وما لم يبلغ الثلث ففي ماله.

قال: ولا بأس بالرجل يَستأجر الرجُل أن يُعلِّم ولده الخط والهجاء، وقد كان النبي يُفادي بالرجل يُعلِّم الخط. قال: ولا أرى أن يجوز بيع كتُب الشِّعر ولا النحو ولا أشباه ذلك، ولا يجوز إجارة من يُعلم ذلك. قال مالك: ولا أرى إجارة مَنْ يُعلم الفقه والفرائض. قال: وقال سحنون: وإذا ضرب المُعلم الصبي بما يجوز له أن يضربه إذا كان مِثله يقوى على مثل ذلك فمات أو أصابه بلاء، لم يكن على المُعلم شيء غير الكفارة إنْ مات، وإن جاوز الأدب ضمن الدِّية في ماله مع الأدب، وقد قيل على العاقلة مع الكفارة. فإن جاوز الأدب فمرض الصبي من ذلك فمات، فإن كان جاوز ما يُعلَم أنه أراد به القتل أقسم وقتلَه به الأولياء، وإن كان لم يجاوز ما يُرى أنه أراد به القتل إلا على وجه الأدب، إلا أنه جهِل الأدب، أقسم واستحقُّوا الدِّية قِبَل العاقلة، وعليه هو الكفارة. فإن كان المُعلم لم يَلِ الفعل وإنما ولِيَه غيره، كان الأمر على ما فسَّرتُ لك، ولا شيء على المأمور؛ وإن كان بالغًا، فمن أصحابنا مَنْ رأى الدِّية على عاقلة الفاعل وعليه الكفارة، ومنهم من رأى الدِّية على عاقلة المُعلم، وعلى الفاعل الكفارة، والله أعلم. قال: وسمعتُ سحنون يقول: لا أرى للمُعلم أن يُعلم أبا جاد وأرى أن يتقدَّم للمُعلمين في ذلك؛ وقد سمعتُ حفص بن غياث يُحدِّث أن أبا جاد أسماء الشياطين ألقَوها على ألسنة العرب في الجاهلية فكتبوها؛ قال: وسمعتُ بعض أهل العِلم يزعُم أنها أسماء ولد سابور ملك فارس أمر العرب الذين كانوا في طاعته أن يكتبوها، فلا أرى لأحدٍ أن يكتبها، فإنَّ ذلك حرام. وقد أخبرَني سحنون بن سعيد، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قوم ينظرون في النجوم يكتبون «أبا جاد» أولئك لا خلاق لهم.

قال: وسُئل مالك عن مُعلمٍ ضرب صبيًّا ففقأ عينه، أو كسر يده. فقال: إنْ ضُرب بالدِّرَّة على الأدب وأصابه بعودها فكسر يده، أو فقأ عينه، فالدِّية على العاقلة إذا عمل ما يجوز له، فإن مات الصبي فالدِّية على العاقلة بقسامةٍ وعليه الكفارة. وإن ضربه باللَّوح أو بعصا قتلَه فعليه القصاص؛ لأنه لم يؤذَن له أن يضربه بعصًا ولا بلوح.

قلت: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشِّعر والنحو وهو مثل القرآن، فقال: كره ذلك مالك وأصحابنا. وكيف يُشبه القرآن والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعِلم أمر قد اختلف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شكَّ فيه. والفقه لا يُستظْهَر مثل القرآن فهو لا يُشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه.

كمل كتاب «آداب المُعلِّمين» محمد بن سحنون عن أبيه رضي الله عنهما.

كتبه لنفسه عبيد الله، الراجي سَعة فضل الله ورحمته محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البري المُرادي غفر الله له ولوالديه.

١  الناشر.
٢  «الحمد لله وحده من عواري الزمان ومَنِّ المنَّان على فقير عفو ربه الكريم الغفار …» (المحرر).
٣  بالله. (المحرر).
٤  لعلها المعافري كما جاء في ترجمته عند كثيرين.
٥  يقصد «بالصحيح» الحديث الصحيح.
٦  في الأصل «ما».
٧  كذا في الأصل.
٨  كذا بالأصل. ولعلها: أيها، أو فيا.
٩  لفظ «أحد» ساقط في الأصل، والحديث هو رواية البخاري بلفظه.
١٠  أخذتُم يمينًا وشمالًا أي: مِلتُم أو انعطفتم.
١١  في الأصل الذي، ولعله، تحريف من الناسخ.
١٢  كذا بالأصل. والصواب أن ليس زائدة.
١٣  الحديث بلفظه رواه البخاري ومسلم.
١٤  في صحيح البخاري بلفظه.
١٥  في صحيح البخاري.
١٦  في البخاري بلفظه كتاب فضائل القرآن.
١٧  في صحيح البخاري بلفظه.
١٨  في الأصل «غية». ولعله محرف عما أثبتناه.
١٩  في صحيح البخاري مع تغييرٍ في اللفظ (كتاب الجنائز، وكتاب التهجد)، ويثلغ أي: يشدخ ويكسر، ويتدهده: يتدحرج.
٢٠  في صحيح البخاري بلفظه.
٢١  في صحيح البخاري بلفظه.
٢٢  صحيح البخاري بلفظه.
٢٣  صحيح البخاري بلفظه.
٢٤  في الأصل (إنه).
٢٥  أي التفوُّق في الحفظ، وبرز الرجل: فاق أصحابه.
٢٦  الحزب: المِقدار الذي يقرؤه الطالب من القرآن.
٢٧  أي الأغنياء — والدثر المال الكثير (القاموس).
٢٨  الحديث مختلف في لفظه في مسلم والبخاري.
٢٩  بلفظه في صحيح البخاري.
٣٠  روايتا البخاري بلفظه.
٣١  رواية البخاري بلفظه.
٣٢  رواية البخاري مع تغييرٍ في اللفظ.
٣٣  رواية مُسلم مع خلافٍ طفيف في اللفظ.
٣٤  في الأصل «فقد» وهو تحريف.
٣٥  الحديث في البخاري ومسلم، مع خلاف يسير في اللفظ.
٣٦  في صحيح مسلم.
٣٧  مَحَّط الوتر أمَرَّ عليه الأصابع ليُصلحه (القاموس).
٣٨  في الأصل: كيف يصلح أن يُؤخَذ (منها) عليها عوض.
٣٩  رواية البخاري.
٤٠  رواية البخاري.
٤١  كذا بالأصل، ولعلَّها بقاؤه.
٤٢  هذين أي مَنْ قرأ للرياء والسُّمعة.
٤٣  جماعة كانوا يُلازمون مسجد المدينة للعبادة.
٤٤  في الأصل: مُستشنع.
٤٥  ورد في البخاري.
٤٦  ورد في البخاري وأبو داود وابن ماجه.
٤٧  ورد في البخاري ومسلم.
٤٨  ورد في البخاري ومسلم.
٤٩  هو علي أبو الحسن ابن مسرور الدباغ.
٥٠  أبا جاد: الأبجدية الهجائية. (المحرر).
٥١  التغبير: رفع الصوت بالقراءة.
٥٢  يقصد التوراة. والمصحف: ما جمع من الصحف بين دفَّتي الكتاب المشدود.
٥٣  كتاب في فِقه مالك لابن المواز.
٥٤  «ما» ساقطة من الأصل وبها يستقيم المعنى.
٥٥  كذا بالأصل.
٥٦  كذا بالأصل، ولعلها يُجيزه.
٥٧  في صحيح البخاري.
٥٨  في صحيح البخاري.
٥٩  في صحيح البخاري.
٦٠  في صحيح البخاري.
٦١  كذا بالأصل.
٦٢  الرعية: أي التربية.
٦٣  خاره على صاحبه خيرًا: فضَّله، والخيار اسم من الاختيار، وخايرَه فخاره خيرًا: كان خيرًا منه [اللسان]، وخايره في الحظ مخايرة: غلبه، وتخايروا في الحظ وغيره إلى حُكم فخاره: كان خيرًا منه.
٦٤  أي يتعدى.
٦٥  كذا بالأصل، ولعلها ابتعد.
٦٦  الإجانة والإنجانة … وأفصحها إجانة واحدة الأجانين، وهي بالفارسية إكانة. قال الجوهري: ولا تقُل إنجانة [لسان العرب] والإنجانة قصعة تشبه المطهرة.
٦٧  الدرة: العصا الصغيرة أو السوط.
٦٨  يريد: لا يشترط أن يؤدي.
٦٩  في الأصل: منها، ولعلَّه تحريف عما أثبتناه.
٧٠  في تاج العروس: الأخطار هي الأحراز، واحِدُها خطر. ولعلَّه يريد بالأخطار ما يُقدِّم أولاد الكُتَّاب في الأعياد إلى مُعلِّمهم من هدايا موضوعة في أحراز أي صُرَر.
٧١  يريد أن هدية العيد «واجبة» لانتشارها بين الناس.
٧٢  النيروز أول يوم في السنة الجديدة عند الفرس.
٧٣  عيد يُقام في فارس في شهر سبتمبر [عن قاموس ستبنجاس]. والأصل في لفظ مهرجان بالفارسية الخريف.
٧٤  القصوف: الإقامة في الأكل والشرب واللهو.
٧٥  في الأصل فعل.
٧٦  في الأصل الغرر، وهو تعبير فُقهاء المالكية، ومعناه التغرير أو الغرور.
٧٧  كذا في الأصل، ولعلها «فليلقن».
٧٨  كان: ساقطة بالأصل.
٧٩  بياض بالأصل.
٨٠  عاقلة الرجل: قرابته من قبل الأب.
٨١  القود: القصاص.
٨٢  كذا في كتاب آداب المُعلمين لابن سحنون.
٨٣  كذا في كتاب آداب المُعلمين لابن سحنون.
٨٤  ودت: أي أدَّت الدية.
٨٥  أي ثلاثة أشهر (المحرر).
٨٦  في صحيح البخاري.
٨٧  في صحيح البخاري.
٨٨  في الصحيحين.
٨٩  قوله «الأفلام» — كذا بالأصل — وهو إما أن يكون لفظًا منحوتًا من الحروف المفتحة بها سورة البقرة يعني: الم، أو هو تصحيف عن «الأعلام» وعلى كل حالٍ فقد بطل العمل بهذه العادة في القيروان وفي بقية الديار الإفريقية عمومًا ولا ندري إن كانت جارية في غيرها مما أثبته الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب. ونحن لا نوافقه على ذلك ولعلَّها الإغلام نسبة إلى الغلام، أو الإعلام؛ أو الأخطار كما وردت في رسالة القابسي.
٩٠  قرأتها في رسالة القابسي يتخايرون؛ وهذه القراءة أليق.
٩١  التحبير والحبرة في اللغة كل نغمةٍ حسنة مُحسَّنة (تاج العروس). وفي حديث أبي موسى: لو علمتَ أنك تسمع لقراءتي لحبَّرتُها لك تحبيرًا، يريد تحسين الصوت وتحزينه (النهاية لابن الأثير، ج١، ص٢٢٦) [تعليق الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، وقراءتنا لهذه اللفظة التغيير، والمغيرة الذين يقرءون القرآن بألحان].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤