الفصل الحادي عشر

خاتمة

كتب الأستاذ كارا دي فو في كتابه «مذهب الإسلام»: «لا يجد الإنسان في الشرق الإسلامي ذلك الذوق الفطري للتعليم، ولا المَيل للبحث عن المناهج العقلية، ولا الرغبة في التقدم في أمثال هذه المسائل.

ولم يهتم الإسلام بأمر الطفل، وكذلك لم تحفل به المسيحية. والطفولة عند المسلمين بسيطة، ويبدو أنها سعيدة. ولا نجد في القرآن إلا آيات قليلة جدًّا تتعرض لهذا الموضوع. فالكتاب المُنزَّل لا يشمل إلا بعض الآيات الخاصة بالواجب نحو اليتامى وحمايتهم. هذا والسِّيَر التاريخية المتعلقة بالطفولة نادرة في الأدب الإسلامي. وقد أُلِّفت رسائل جليلة في التربية باللغة العربية خلال القرون الوسطى، ولكنَّ المؤلفين لها من المسيحيين العرب. وقد أهمل المفكرون المسلمون هذا الموضوع بعض الشيء. وأثر الابتكار فيما أضافوه ضئيل. وقد عرفوا الآثار التي ألَّفها المسيحيون، أو التي درسها المسيحيون، مثل الكتاب المؤلَّف في التربية والمنسوب إلى أفلاطون، والغالب أن يكون من مدرسة فلوطرخس، وهو الكتاب الذي قام بترجمته أحد المسيحيين.»١

والأستاذ كارا دي فو من المُستشرقين الذين تُعد كتبهم الفلسفية عمدة في البحث. ولعل له عذرًا في الحكم على المسلمين بإهمال شأن تربية الأطفال وتعليمهم؛ لأنه لم يقع على كتب إسلامية توضح معالم هذا الفن عند المسلمين.

ولو وقع الأستاذ كارا دي فو على رسالة القابسي المخطوطة لغَيَّر من رأيه، وخفَّف هذا الحكم الذي يَنسِب إلى المسلمين الجهل بموضوع التربية، خصوصًا تربية الأحداث والصبيان، ثم الاعتماد التام على المسيحيين من العرب، وما قاموا بترجمته في هذا الفن عن اليونانية وغيرها.

وقد تبيَّن لنا أن المسلمين ألَّفوا في التربية كتبًا مستقلة، منها كتاب ابن سحنون ويرجع تاريخه إلى القرن الثالث الهجري، ومنها كتب مُتأخرة عن هذا التاريخ بعضها مطبوع وبعضها لا يزال مخطوطًا، وقد أشرْنا إلى هذه الكتب في الفصل السابق الخاص بآراء العرب في التربية والتعليم؛ وإلى جانب ذلك نجد فصولًا كثيرة مُتناثرة خلال مؤلفات الفقه، وكتب الفلسفة وموسوعات الأدب، تتحدَّث عن تعليم الصبيان، وتصف أحوالهم، وتُبين أحكام التعليم.

وهذه الكتب والرسائل والشذرات أغلبها إسلامي بحت، يغلب عليه الروح الإسلامي، وعلى الأخص ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه.

ورسالة القابسي تُزيل الوهم الذي علق بالأذهان من أن المسلمين لم يُعنَوا بتعليم الصبيان، وتثبت أن المُسلمين ابتكروا في التربية آراءً جديدة لم يصطنعوها عن العرب المسيحيين، أو ينقلوها عن التراجم اليونانية واللاتينية التي قام النقَلَة من المترجمين بتقديمها إلى العالَم العربي.

وهذه الرسالة دليل على تأصُّل الميل إلى فن التعليم، والاهتمام بالطفل، والاشتغال بالبحث والتنقيب، والتفكير في المسائل من جميع أطرافها وزواياها، رغبةً في التقدُّم والرقي.

فإذا نظرنا إلى رسالة القابسي في أحكام المُتعلمين، وأحوال المُعلمين والمتعلمين، من جهة ما جاء فيها من آراء مُفصلة وحل للمشكلات المعضلة، وتسجيل لجميع الأمور التي تخصُّ التعليم والتأديب، فالرسالة عظيمة القدْر بالِغة الأهمية.

وإذا نظرنا إلى القابسي كأحد المُربِّين في الإسلام، فهو صاحب رأي، وصاحب رسالة ترفع اسمه إلى قائمة قادة التربية، ولا سيما إذا عرفنا أنه عاش في القرن الرابع الهجري، أي في صميم القرون الوسطى، التي يعدُّها المؤرخون من عصور الظلام والتأخُّر في حياة العالم.

ذلك أن الميزان الذي يُقاس به قاعدة الفكر وزعماء الرأي هو سبقهم للزمان، والتقدُّم في سبيل الرُّقي لبني الإنسان. وطريق الرُّقي هو الطريق الذي يُميز عالمًا عن آخر، ويرفع المفكرين إلى قوائم المجد والتخليد.

ومن الآراء التي تجعلنا نضع القابسي في سجل المبرزين، المناداة بالتعليم الإلزامي، فهذا الرأي من أدلة التقدُّم، ولم تأخذ به الحضارة الحديثة إلا في عصور مُتأخرة، ولا تزال الدول تنادي به عاملة على نشر التعليم بجميع الوسائل، ليتزوَّد من نور المعرفة جميع أفراد الأمة.

والذين قصروا التعليم على طبقة معينة، وحرموا أغلب الشعب من نعمة المعرفة إنما كانوا ينظرون إلى مصلحة طبقتهم؛ لينعموا بالسلطان والثروة والجاه، لأن العِلم يُفتق الأذهان، ويبصر الإنسان بحقوقه وواجباته، ويدفعه إلى المُطالبة بهما.

وهذه هي الأنانية المُتأصِّلة في النفوس.

وقد برزت إلى العالم أفكار جديدة، تحمل في طيَّاتها روح الإيثار والخير للإنسانية كافة، ليشارك الناس في الحقوق وليتمتَّعوا بالحرية والإخاء والمساواة.

إن حرمان فريقٍ من الناس التعليم، هو القتل الأدبي. لأنك تقبُر العقول، وتطمس الأذهان، ولعلَّ هذه العقول إذا زالت عنها غشاوة الجهل أن تتفتَّق عن الخير والحق، والعمل الصالح للإنسانية بما لا يستطيع أن يفعله أبناء الأغنياء.

وقد عادت الدول الإسلامية إلى نوع من الأرستقراطية الحادة، خصوصًا في العصور المتأخرة، حيث انطوت الطبقة الرفيعة على نفسها، وعلت على العامة علوًّا كبيرًا. ولم يكن الحال كذلك في صدر الإسلام، ولا تتَّفِق هذه النزعة مع الروح الصحيح للإسلام. والدليل على هذه الأرستقراطية هو اتخاذ الأمراء ومن شاكلهم المُؤدِّبين لأبنائهم حتى لا يختلطوا بأبناء العامة في الكتاتيب، وقد أشار إلى ذلك الجاحظ في (البيان والتبيين) كما ذكرنا عند تقسيمه المُعلمين قِسمَين؛ قسمًا يعلم أبناء الملوك والأمراء، وقسمًا يعلم أبناء السُّوقة. وأشار ابن سينا في (كتاب السياسة) إلى هذه النزعة أيضًا، فلم يُقرَّها، وآثر لمصلحة التعليم وفائدة الطفل أن يشترك مع غيره من الصبيان.

أما القابسي فإنه خاطب الجمهور، وفكر في مصلحته، ونظر في فائدة أبنائه، وأهمل الكلام على الأمراء والأشراف، فلا نجد إشارة إلى هؤلاء المؤدبين الذين يَصحبون أولاد الملوك لتعليمهم وتأديبهم.

ونحن نميل إلى الاعتقاد أن القابسي أهمل الحديث عن المؤدِّب الخاص قصدًا؛ لأنه لا ينزله منزلة الاعتبار، ولا يُريد أن يعترف له بالوجود، حتى يتعلَّم أبناء المسلمين جميعًا في مكان واحد، ويتلقَّوا المعرفة عن مُعلم واحد، فلا تتَّسِع الهوة بين الطبقات، وتسود النزعة الإسلامية الصحيحة.

ومما يدل على صحة الرأي الذي ننسبه إلى القابسي، ما ذكره عند الكلام على أجر المُعلم من أن بعض الصبيان يدفع أجرًا أكثر من غيره، وأن بعض الصبيان يُقدِّم للمعلم هدايا لا يستطيع غيرهم أن يُقدِّمها، وأن هذا الاختلاف في الجُعل ينبغي ألا يترتَّب عليه اختلاف في التعليم، بل على العكس ينبغي أن تكون مُعاملة المعلم للصبيان على قدم المساواة. ومن الطبيعي أن هؤلاء الذين يدفعون أجورًا عالية، إنما هم من أبناء الأغنياء لا الفقراء، وفي هذا الدليل على افتتاح أبواب الكتاتيب لجميع الصبيان على السواء، من غير اختصاص الموسرين بالمؤدِّبين على انفراد.

فالقابسي حين يطالب بتعليم أبناء المسلمين جميعًا، القادر منهم وغير القادر، والمُوسِر والمُعسِر، بل المُعدِم، وحين يقدم إليهم لونًا واحدًا وثقافة واحدة لا يخصُّ بها أحدًا دون أحد، إنما يجري في طريق التقدُّم العقلي، ويشرف على الإنسانية من سماء العدل والحق والخير.

وهذه هي الديموقراطية في التعليم. فكما أن هناك ديموقراطية سياسية تتناول الحقوق والواجبات، وتفسح المجال للحرية والمساواة، فكذلك هنالك ديموقراطية عقلية تفتح الأبواب لجميع الناس لينهلوا من بحور العِلم التي لا تغيض. وقد كان مذهب أهل السُّنَّة مذهب الجمهور، فكان أنسب المذاهب إلى عقولهم، وأقربها إلى الديموقراطية.

وقد أشارت السيدة أسماء فهمي، وكذلك خليل طوطح، في رسالتيهما إلى الروح الديموقراطي البارز في التعليم عند العرب.

هذه الديموقراطية هي التي أوحت إلى القابسي أن يُقرر تعليم البنات، بالرغم مما يعترض تعليمهنَّ من عقبات ناشئة عن المجتمع الإسلامي وشدته، في النظر إلى علاقة الرجل بالمرأة، وغيرة المسلمين على العِرض، وما جاء في القرآن من عقابٍ شديد للزاني والزانية. ولا ننسى أن روح المحافظة على المرأة هي التي أدَّت إلى الحجاب الشديد في أواخر عصور المسلمين.

والفرق بين التعليم الإلزامي كما يُقرِّر القابسي وبين التعليم الإلزامي الذي ساد الدول التي أقرَّتْه منذ القرن التاسع عشر الميلادي، هو أن الدولة الحديثة مُكلفة بالتعليم، ومُلزمة بافتتاح المدارس التي تسمح بتعليم جميع أفراد الدولة ذكورًا وإناثًا. فالتعليم واجب على الدولة، ومن جهةٍ أخرى فهو حق من حقوق الأفراد، عليهم أن يُطالبوا به، وأن يُقدِّموا أبناءهم لتلقي التعليم في المدارس التي تُنشئها الدولة. وإذا امتنع أحد عن تعليم أبنائه، حلَّ به العقاب لمُخالفته هذا الواجب. على حين أنَّ إلزام القابسي للتعليم إلزام ديني أدبي لا إلزام قانوني، لهذا لم يضع القابسي عقابًا لمن يترك ابنه دون تعليم، بل ترك هذا الوالد لعقاب الله وضميره وجزاء المجتمع فقال: «لو ظهر على أحد أنه ترك أن يُعلم ولده القرآن تهاونًا وبذلك لجُهِّل وقُبِّحَ ونُقِّصَ حاله، وَوُضِعَ عن حال أهل القناعة والرضا.»

وقد سُئل القابسي عن «رجل امتنع أن يجعل ولده في الكتَّاب هل للإمام أن يجبره؟ وكيف إن كان له أب وله مال ولا يُبالي ذلك، فهل للإمام أن يسجنه أو يضربه على ذلك أم ليس ذلك؟» وفي هذا شعور أهل ذلك الزمان بمسئولية إهمال الطفل، ومحاولة تقرير قاعدة العقوبة لمن يتخلَّف عن أداء هذا الواجب. ولكن القابسي لم يستطع فيما أجاب به السائل، أن يُقرِّر هذه العقوبة؛ لأن منهجه الفقهي لا يبيح أن يُقرِّر أمرًا ليس له نصٌّ في الدين.

وإذا كانت الحكومات الحديثة تُنفق من مال الدولة الشيء الكثير على التعليم بإقرار نواب الأمة المُمثلين لها لفائدة الأمة، فقد نصح القابسي بتعليم أبناء المسلمين غير القادرين على الإنفاق على التعليم، ودفع أجر المُعلم، بأن يقوم بيت مال المسلمين بالإنفاق عليهم.

وقد تطوَّرت الفكرة فيما بعد إلى نظام الأوقاف التي يحبسها المُوسِرون على المدارس ضمانًا لحياتها، واستمرارًا لوجود التعليم.

وليست فكرة التعليم العام، أو تعليم البنات هما الفكرتان الوحيدتان الموجودتان عند القابسي، مما يجعلنا ننظُر إليه باعتبار أنه مُفكر ينشد الرقي والتقدُّم، بل هناك آراء أخرى كثيرة ترفع القابسي إلى درجات المُفكرين البارزين، وتسمو به إلى منزلة المصلحين.

من ذلك رأيه في طُرق الحفظ التي ينبغي أن يصحبها الفهم، وهو من الآراء الصائبة الصحيحة. ثم التثبُّت مما يحفظ الصبي فلا ينقله المعلم من سورة إلى سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.

وفي طرق التربية والتأديب، نجد كثيرًا من الإشارات الدالة على البصر بشئون الصبيان وحُسن سياستهم.

من ذلك الحذَر من الصبيان إذا بلغوا سِن الاحتلام، وعدم الجمع بين الذكور والإناث بعد سِن الطفولة.

ومن ذلك اتخاذ العريف ليعاون المُعلم، مما يفيد الصبي في حياته من جهة الاعتماد على النفس، وتكوين الشخصية، ويتصِل بذلك أن يقوم الصبي بأعمال تُفيده في تخريجه مثل كتابة الرسائل للناس، وإملاء الصبيان بعضهم على بعض.

وقد فصَّلنا هذا كله عند الكلام على صِلة الدين بالتعليم وعلى التربية الخلقية والعقاب وطرق التعليم، فلا نعود إليه.

وإنما نُحب أن نُعلل هذه الآراء لبيان المصادر التي استقى منها القابسي أحكامه في التعليم، لنرى أكان مُبتكرًا لم يسبقه أحد، أم مُلخصًا لمن تَقدَّمه، أم ناقلًا عن شيوخه، مُقلدًا لهم؟

والقابسي قد فصَّل القول في موضوع التعليم من جميع نواحيه، فكتب عن التلميذ والمعلم، والمناهج التي يتلقَّاها الصبي، وطرق التعليم والتأديب، ومكان التعليم، وهذا التفصيل يصِف أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري في شمال إفريقية.

ولا نستطيع أن نتَّخِذ هذا الوصف عنوانًا على التربية الإسلامية في جميع العصور، وعند جميع المفكرين المسلمين. وقد اتضح لنا عند الكلام في الفصل السابق عن التربية عند المسلمين اختلاف آراء المُفكرين فيما يختصُّ بأغراض ووسائل التعليم. فالغزالي يختلف عن ابن مسكويه، وابن سينا يختلف عن ابن خلدون، وهؤلاء يختلفون عن إخوان الصفاء، وهكذا.

وقد نجد بعض الآراء المشتركة العامة عند المسلمين جميعًا، أخذوا بها في جميع العصور، مثل البدء بتعليم القرآن، والنص على تعلُّم القراءة والكتابة، وأخذ المُتعلمين بالشفقة لا بالشدة.

ومع ذلك فهناك اختلاف في طريقة التعليم في المشرق والمغرب، كما ذكر ابن خلدون في مُقدمته، وهو خلاف على هذه المسائل العامة الأولية المُختصَّة بتعليم الصبيان.

وإذا نزلنا إلى ميدان التفاصيل المتعلقة بالتعليم، فإننا نجد الخلاف كبيرًا بين أصحاب المذاهب. فابن مسكويه يرى أن الغرض من التعليم هو الوصول إلى الحق والخير والجمال؛ وإخوان الصفا يرغبون في تنشئة الناس على مذهبهم الفلسفي وعقيدتهم السياسية؛ والغزالي يُمهد إلى معرفة الله بطريق التصوف، ومجاهدة النفس ورياضتها.

والأمثلة كثيرة على هذه الاختلافات الجزئية، وعلى الأغراض العامة.

لهذا كان من الخطأ أن ينظُر الباحثون في التربية الإسلامية جملةً، دون تحديد الجهة التي تقوم بالتعليم وتعمل عليه، ودون تحديد العصر الذي ساد فيه هذا اللون من التعليم.

وجميع الذين كتبوا عن التربية الإسلامية لم ينتبهوا إلى هذا التمييز الواجب في الآراء، من حيث تحديدها في الزمان، وصِلتها بالأشخاص.

وأهم هؤلاء الباحثين المُتأخِّرين، ونذكرهم بحسب ترتيب أبحاثهم في الزمن، هم: خليل طوطح، والسيدة أسماء فهمي، والدكتور إبراهيم سلامة، والدكتور أحمد شلبي.

وإحدى رسائل هؤلاء الباحثين لا تزال مطبوعة على الآلة الكاتبة، ولم تنشرها صاحبتها وهي السيدة أسماء فهمي.٢ وقد أشرنا إلى بعض آرائها في كتابنا هذا كما سبق.

وجميع هؤلاء الباحثين ينظرون إلى المسائل في تطوُّرِها التاريخي، ولكنهم لا ينتقلون من مرحلة الوصف إلى المرحلة التالية من مراحل العلم وهي مرحلة التفسير.

والتفسير الصحيح للآراء الإسلامية المُختلفة في التعليم هو أن نردَّها إلى المذاهب العقلية التي كان أصحاب هذه الآراء التعليمية يعتنقونها من جهة، ثم ملاءمة هذه الآراء لحالة المجتمع من جهة أخرى.

أي أن التفسير ينصرِف إلى ناحيتَين: ناحية عقلية، وناحية اجتماعية.

وعلى هذا الأساس الجديد الذي نُطالب به، والذي لم يسبقنا إليه أحد من الذين عالجوا الكتابة عن التربية عند المسلمين، تستقيم النظريات التعليمية وتُرَد إلى أصولها الصحيحة، ويتضح لنا السر في اختلاف مذاهب التعليم والتأديب في الممالك الإسلامية المختلفة في الشرق والغرب، وفي العصور المختلفة، وفي عقول المفكرين.

وخلاصة هذا الرأي الجديد الذي نقول به: أن أهل السُّنَّة كانت لهم طريقة خاصة في التعليم، وللفلاسفة طريقة أخرى، وللمتصوفة طريقة ثالثة، بل أكثر من هذا أن كل مفكر له طريقة خاصة في التعليم تتلاءم مع مذهبه، وتتفق مع مجموع آرائه.

وليس هذا غريبًا في شيء؛ لأن التربية تُعتبر جزءًا من المذهب الفلسفي النظري أو العملي الذي يتصوره ويعتقده المرء في الحياة. ومن الطبيعي أن يعمل أصحاب المذاهب المختلفة على نشر مذاهبهم وإذاعتها في الناس، وتنشئة الأجيال الجديدة عليها، بطريقةٍ من طرق التعليم؛ لأن من طبيعة الإنسان إذا اعتقد الحق أن يذيعه في الناس، ويَحمِلهم على المشاركة فيه.

وهذا ما فعله أفلاطون قديمًا، حين تكلَّم في جمهوريته عن التربية ليطبع الناس على آرائه، ويصلح المجتمع.

وهذا ما فعله روسُّو، وسبنسر وغيرهما.

أي أن صاحب الفكر الجديد إذا أراد أن يضمن لآرائه الذيوع بين الناس، بطريقةٍ عملية تحمل الناس على اعتناق آرائه، فإنه يصف طريقة التعليم المُلائمة لهذه الآراء.

والتعليم الذي يذكره القابسي في رسالته، جزء من مذهب أهل السُّنَّة وعقيدتهم الإسلامية، والرسالة تُبين الطريقة التي رأى أهل السُّنَّة أن يتبعوها في التريبة، لتعليم الأجيال الناشئة على مذهبهم، حتى يشبُّوا على اعتقاد آراء أصحاب الحديث، وأهل السُّنَّة.

وكان القابسي فقيهًا مُحدِّثًا، ثقة في علوم الحديث، فهو يمثل هذا المذهب.

هذه الصلة بين القابسي وبين مذهب أهل السُّنَّة من ناحية، وبين مذهب أهل السُّنَّة وطريقة التعليم من ناحية أخرى، هي السر الذي نستطيع أن نفسر به الآراء المذكورة في رسالته.

وقد درجنا على هذا المنهج خلال ما قدَّمنا من بحث، والتزمْنا هذه الطريقة في كل ما عالجناه، وبذلك تيسَّر لنا أن نفهم السر في اختلاف آراء المفكرين فيما يتصل بالتعليم.

ولما كان المعلمون في الكتاتيب هم من أهل السُّنَّة، شب الناس بالفعل على طريقتهم وتشبَّعت بها عقولهم، وتطبعت نفوسهم، وصَعُب الانصراف عنها، وأصبح المسلمون ينظرون إلى الحياة من خلال هذا المنظار. وبذلك ساد مذهب أهل السُّنَّة، وأصبح هو صاحب الغلبة في أغلب الأقطار الإسلامية.

أما الناحية الثانية التي بها تُفَسَّر الآراء التعليمية فهي نِسبتها إلى المجتمع الذي ظهرت فيه هذه الآراء، ما دام التعليم مظهرًا من مظاهر الحياة الاجتماعية.

وهذا يقتضي منا أن ننظر هل كانت الآراء التعليمية واقعية أم مثالية؟ فإذا كانت واقعية فإنها تصف ما هو كائن فعلًا في المجتمع، وتُعَد في هذه الحالة ظلًّا للحياة الاجتماعية. وإذا كانت مثالية، فإنها لا تتعدَّى عقول الذين نادَوا بها، ولا تُمثل حقيقة المظهر الاجتماعي.

وقد كان القابسي واقعيًّا يصِف ما كان يجري في المجتمع الإسلامي في القرن الرابع الهجري.

ولم يكن الحال كذلك في الآراء التي بسَطَها كثير من المُفكرين في الإسلام، ونضرب في هذا الصدَد المثَل بما ذكره الغزالي عند الكلام على الأجرة فقد نصح بالتعفُّف عن تناول الأجر تشبُّهًا بالرسول، وبما ينبغي أن يكون، ولم يكن هذا هو الواقع، حيث كان المُعلمون يأخذون الأجور على التعليم، ولم يتحقَّق رأي الغزالي لمخالفته طبائع الأشياء، وإغراقه في التطلُّع إلى الغايات الروحية.

لهذا كان من الخطأ أن يذكر الباحث الرأي التعليمي على أنه يُمثل التربية عند العرب، دون أن يحدد هل أخذ الناس بهذا الرأي واتبعوه، أو بقي مسطورًا في بطون الكتب.

ولمَّا كان القابسي واقعيًّا، فإننا نستطيع اتخاذ رسالته في التعليم مرآة صادقة، تُصوِّر ناحية مُهمة من النواحي الاجتماعية للمسلمين في القرن الرابع، وهي تعليم الصبيان، وحياة المعلم في الكتَّاب، ومناهج التعليم والطرق التي كان يتبعها.

والنظر إلى المُجتمع يُفسِّر لنا كثيرًا من الاتجاهات في التربية، ويفسر لنا التطوُّر الذي حدث في التعليم منذ صدْر الإسلام حتى الآن.

كان التعليم في فجر الإسلام تطوُّعًا لقوة الروح الديني، وتغلبه على النزعات المادية، فلما فترت هذه الروح أخذ المعلمون الأجور، ولما فسد المجتمع تطلَّع المُعلم إلى ما هو أكثر من الأجر، وقد رأينا كيف أجاز القابسي أن يتناول المُعلم الهدايا في المواسم والأعياد كما جرت به العادة. فالقابسي يخضع لروح المجتمع، وينزل على أحكامه.

كذلك كانت بطالة الصبيان تجري على عادة الناس.

فالتفسير الصحيح لشئون التربية والتعليم يقتضي الرجوع إلى المجتمع الذي يشكل حالة التعليم، تبعًا للتيارات التي تسوده وتُوجهه.

فإذا كان المُعلم في الكُتَّاب ينصرف إلى حفظ القرآن حتى يبلغ بالصبي الختمة، فلم يكن هذا العمل من إيحاء قادة الفكر، أو من رغبة المعلم نفسه، بل هو اتجاه الجمهور وتيار المجتمع. وقد بلغ من فرح الآباء بحفظ أبنائهم القرآن، أنهم كانوا يدفعون فوق أجر المعلم أجرًا آخر للختمة احتفالًا بهذه المناسبة السعيدة.

ولم يمتنع المسلمون عن تعليم الحساب، وأجاز القابسي تعليم الحساب، ولكن أولياء الصبيان لم يطالبوا بتعليم أبنائهم الحساب، بل وضعوا نصب أعينهم شيئًا واحدًا هو أن يحفظ أبناؤهم القرآن.

ولا شك أنَّ تقدُّم المجتمع وتطوره يرجع إلى حدٍّ كبير إلى الآراء الجديدة التي يطلُع بها المفكرون على الناس. فإذا أثرت هذه الآراء أثرها خرج المجتمع على التقاليد الموروثة، وخلعها عنه، وسار في الطريق الجديد. فالجمود هو المحافظة على التقاليد، والتجديد هو التحوُّل إلى شيء جديد.

فإذا اتخذنا عصر القابسي وآراءه في التعليم أساسًا لما كان يجري في القرن الرابع الهجري، فإننا نستطيع أن نشرف على القرون التي سبقته، وعلى القرون التي جاءت بعده، فنرى كيف تقدَّم التعليم إلى ذلك العهد، وكيف سار بعد ذلك.

ولا شك أن التعليم سجَّل منذ القرن الأول في الإسلام حتى القرن الرابع تقدُّمًا كبيرًا.

ففي حياة النبي كان التعليم نادرًا في الجزيرة العربية، وفي الفرس والشام ومصر نفسها. وكان عدد الذين يعرفون الكتابة والقراءة قليلًا جدًّا، ثم بدأت الكتابة تنتشِر بإيحاء النبي وتشجيعه. ثم ظهرت الكتاتيب فكانت مظهرًا للحياة الاجتماعية عند المسلمين، ثم احتاج الناس إلى تنظيم العلاقة بين المُعلم والصبي، بما يتفق مع الشريعة الإسلامية المُطبَّقة في العالم الإسلامي؛ فأدلى الفقهاء بالأحكام الشرعية التي تفصِل فيما قد ينشأ من نزاع بين المُعلم وآباء الصبيان على الأجر، وما قد يُصيب الصبي من أشرار إذا وقَّع المعلم العقاب عليه، والفقهاء هم المختصُّون بالتشريع في المسائل الجزئية التي لم يرِد فيها نص في القرآن. واجتمع كثير من هذه الأحكام على مرِّ الأيام؛ جمعها ولخَّصها وضمَّها في كتاب واحد أبو الحسن القابسي، الذي ألَّف رسالته في نهاية القرن الرابع. وبذلك تُمثل هذه الرسالة أحوال التعليم في ذلك القرن، وتُمثل التطور الذي حدث في هذا الفن منذ صدْر الإسلام حتى ذلك الوقت؛ لأن القابسي نفسه تتبع ذلك التطوُّر في أبحاثه، كما يتضح لنا من النظر في رسالته.

وقد لحق تعليم الصبيان في الكتاتيب بعد القرن الرابع كثيرٌ من التغيير، لم يكن في سبيل التقدُّم، بل في سبيل الجمود.

وأهم المظاهر التي استُحدِثت على الكتاتيب هي اعتماد أكثرها على أوقاف المُوسِرين. وفيما عدا ذلك بقي المنهج ثابتًا وهو تعليم القرآن والكتابة. وبقِيَت الألواح في أيدي الصبيان للكتابة فيها، وبقيت العصا أداة التأديب في يدِ المُعلم.

والخلاصة أن تفسير حالة التعليم في عصر من العصور يقتضي النظر إلى آراء المُربين، وصِلة آرائهم بالمذاهب العقلية التي يعتنقونها، ويقتضي النظر إلى حالة المجتمع الذي تفرَّع عنه التعليم كمظهرٍ من الحياة العقلية.

فإذا طبَّقْنا هذين المبدأين على الغرض التعليمي كما جاء عند القابسي، باعتبار أن الغرَض من التعليم هو النقطة التي تلتقي عندها جميع شئون التربية، ومنها تتفرَّع أحواله المختلفة، فإننا نجد أن القابسي كان يقصد إلى غرضٍ ديني، وكذلك كان المجتمع يريد. لهذا اقتصر التعليم في الكُتَّاب على القرآن والكتابة في الغالِب.

وقد يتبع هذا الغرض الديني غرض آخر، أو أغراض أخرى، ولكنها تابعة بالضرورة لهذا الغرض الديني.

فإذا قُلنا إن القابسي يطلُب تهذيب الأخلاق، فتعليم الدين يحمِل في طياته التهذيب الخلقي، وإذا قُلنا إنه يطلب نشر العلم، فالديانة الإسلامية تتوجَّه إلى الجميع؛ وفي سبيل تعليم الدين وخصوصًا الصلاة وهي عماد الدين، وجب التعليم وحفظ القرآن.

ولم يكن المجتمع يطلُب من الغايات إلا الغاية الدينية، ولهذا السبب اهتمَّ الآباء اهتمامًا شديدًا أن يختم أبناؤهم القرآن، وكان أغلب الصبيان ينصرِفون، بعد حياة الكُتَّاب، إلى تعلُّم حرفة أو صناعة لكسب المعاش.

هذا هو الغرض الذي نتلمِسه من رسالة القابسي التي تصف حالة التعليم في الكتاتيب في القرن الرابع.

وقد لخَّص خليل طوطح أغراض التربية في أربعة: الأول ديني؛ والثاني اجتماعي، لأن العلم: يرفع صاحبه كما قال صاحب «جامع بيان العلم»: اطلبوا العلم فإن كنتم ملوكًا برزتُم، وإن كنتم سُوقة عشتم؛ والثالث التلذُّذ العقلي، كما قال صاحب «كشف الظنون»: مَنْ تعلَّم علمًا للاحتراف، لم يأتِ عالمًا، إنما جاء شبيهًا بالعُلماء. والعلوم ليس الغرَض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق؛ والرابع غرض مادي.٣
واعتمدت السيدة أسماء فهمي على ما جاء في كتب الزرنوجي وابن عبد البر والغزالي وطاش كبري زاده وخلافهم، وقسَّمت أغراض التربية عند المسلمين إلى ثلاثة أقسام: الأول ديني، والثاني ثقافي، والثالث نفسي.٤

ولو اتبع هذان المؤلِّفان الطريقة التي آثَرْنا اتباعها في تفسير التربية وهي نسبة الآراء إلى أصحابها، ثم النظر إلى صِلتها بالمذهب العقلي، وعلاقة الآراء بالمجتمع الواقعي لغيَّرا من تفسيراتهما.

ولم تكن الأغراض من التعليم واحدة في جميع العصور الإسلامية، فغاية التعليم في القرن الأول تختلف عنها في القرن الرابع، عنها بعد ذلك.

ولم يكن المسلمون يقصدون إلى غرضٍ نفسي أو مادي أو عقلي في صدْر الإسلام، بل كان كل هَمِّهم خدمة الدين والعمل على إذاعته وتثبيته في القلوب.

والقابسي في القرن الرابع يريد أن يكون وفيًّا للسلف الصالح، مُتبعًا لآثارهم، مُقتفيًا خطواتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. فهو يريد أن يُعلِّم أبناء المسلمين القرآن والكتابة لمعرفة الدين، وإذا كان قد اضطر إلى التعديل من طريقة السلَف، فهو تعديل يتلاءم مع أحوال المجتمع المُتغيِّرة؛ ولهذا أوصى بأجر المعلم، بتعليم النحو والعربية والشِّعر.

ولا شك أن آراء القابسي كانت مناسبة للعصر الذي عاش فيه، وقد تكون مُتقدمة على عصر أيضًا.

ولهذا السبب لا نستطيع أن نحكم على رسالة القابسي في ضوء علم التربية الحديث؛ لأن العلوم الحديثة كلها لم تُبعَث إلا بعد عصر النهضة، بعد أن اتخذ العقل منهجًا جديدًا في التفكير. هذه المناهج الجديدة هي التي شقَّ طريقها «بيكون» و«ديكارت» في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين؛ و«بيكون» صاحب المنهج التجريبي، و«ديكارت» رسول المنهج العقلي الرياضي، الذي يبني الحقائق بعد الشك في القديم، فلا يُقيم إلا ما كان واضحًا جليًّا لا سبيل إلى الشك فيه.

وقد أصبحت العلوم الطبيعية والاجتماعية تعتمد في البحث على المشاهدة والتجربة، وابتعدت عن ميدان الاعتقادات الموروثة. ثم وضع العلماء طرُق التجريب الواجب اتباعها كما بسطها جون ستيوارت مِلْ.

وبدأ علماء النفس والتربية والاجتماع يُطبقون هذه المناهج التجريبية — التي ثبت أنها الطرق الوحيدة المُوصِّلة إلى العلوم الطبيعية — على الأبحاث النفسية والاجتماعية والتعليمية. ولم يتمَّ إخضاع هذه العلوم للتجارب إلا حديثًا جدًّا، ولا يزال العلماء في أول مراحل هذه التجارب.

وفي ذلك يقول جول بايوه في كتابه «سقوط التعليم» الذي تعرَّض فيه للأسباب التي تعمل على فشل التعليم في فرنسا: إن أول هذه الأسباب هو عدَم اتباع التجارب؛ وقد عقد في ذلك الفصل الأول من الكتاب، جاء فيه أن القرون الوسطى حاربت التجارب، وأن «روجر بيكون» الذي سار في طريق التجريب واستحدث اكتشافات كيميائية اتُّهم بالسحر، ثم عُذب وقُبضَ عليه مرَّتين، مما دعا إلى عدم التشجيع في ميدان التجارب.

وتبع ذلك في فجر النهضة حتى القرن التاسع عشر روح تجريب قوي، أدَّى إلى انتصار العلوم التجريبية، واستقرار العلوم الطبيعية على أساس صحيح.

إلى أن قال: «ولكن في غمار هذه الحركة العظيمة الباهرة، لم تتأثر مناهج التعليم. ولا تزال التربية في الوقت الحاضر في مثل هذه الحالة التي كان الطب عليها قبل تقدُّمه.»٥

فإذا كان هذا المؤلِّف ينتقِد نظم التعليم في فرنسا في الوقت الحاضر؛ لأنها لا تستنِد إلى التجارب العلمية، فالقابسي معذور إذا لم يتبع هذه التجارب منذ ألف عام، وهو الذي عاش في صميم القرون الوسطى التي حقَّرَت التجريب كل الاحتقار.

وقد سجلت النهضة الحديثة في التعليم ظهور مدارس جديدة، أساسها الاعتماد على نفسية الطفل ونموِّه ومراعاة ميوله وغرائزه واستعداده؛ فمدارس «منتسوري» تعطي الطفل الحرية في التنقُّل لأن السكون مُضرٌّ بهم، كما تعمل على تدريب حواسهم، وتربي الطفل عن طريق اللعب. وطريقة «دالتون» تلقي جانبًا كبيرًا من المسئولية على التلميذ، فهو الذي يُحصِّل ويدرُس، ووظيفة المدرس الإرشاد والتوجيه فقط، حيث يقوم بتفسير ما يشكل على التلاميذ، ويُكسب المدرسة جوَّ دراسة. وطريقة المشروع، والتعليم عن طريق النشاط، وهذه الألوان الجديدة من المدارس، الغرض منها إعداد الفرد للكفاح في المجتمع، بتكوين شخصيته تكوينًا يجعله يعتمد على نفسه في تحصيل المعاش، وذلك بما يتفق مع صبغة المجتمعات الحديثة التي طغت عليها موجة المادية، وأصبح الناس يتهالكون على تحسين معيشتهم المادية.

ومراعاة ميول الطفل من الاتجاهات الحديثة في التربية، خصوصًا بعد أن نادى روسُّو في كتاب «إميل» بالنظر إلى حياة الطفل نظرًا يختلف عن النظر إلى حياة الرجل.

أما الاتجاه الآخر الحديث، فهو إعداد الطفل ليعيش في المجتمع عيشة تلائم مَطالب المجتمع. لهذا السبب تختلف الدول في طرُق تعليمها تبعًا لاختلاف غاياتها في الحياة. وكثيرًا ما يضحي المُربون بالميول النفسية في سبيل تحقيق أغراض الدولة ومطالب المجتمع. فالدولة التي ترغب في الحرب تُعِدُّ الطفل من صِغَره، لحياة النظام والطاعة والخضوع، والخشونة والشدة والصبر والجهاد.

فإذا رجعنا إلى القابسي ونظرنا إلى آرائه التعليمية، فإننا نجد أنه يراعي المجتمع، ويُعِد الصبيان إلى حياة تلائم البيئة التي عاش فيها، ولكنه لا يراعي ميول الصبيان النفسية.

فإذا كان القابسي قد أهمل النظر إلى الحياة النفسية للطفل، فالعيب يقَع على العصر بأسره، لا على القابسي وحده.

ومن هذه العيوب منْع الصبيان من اللعب، مع أن اللعب ضروري لنموِّهم

ومن هذه العيوب إهمال التربية الجسمية إهمالًا تامًّا، وهي ناحية لم يرجع لها المُربون إلا في العصور الحديثة، حيث وجَّهوا الاهتمام إلى تربية الجسم بالألعاب الرياضية المختلفة المناسبة لكل مرحلةٍ من مراحل نمو الطفل.

وقد كانت أمة اليونان قديمًا تُعنى بالرياضة البدنية عناية عظيمة. ولم يغِبْ عن نظر المسلمين قيمة الرياضة البدنية فحثُّوا على تعلُّم السباحة وركوب الخيل وغير ذلك من الرياضيات التي تُنشِّئ الأطفال على الرجولة والفروسية. ولكن مُعلم الكُتَّاب لم يكن مخصوصًا بمثل هذه التربية، واختصَّ بتعليم القرآن وتهذيب العقل والخُلق.

على أن القابسي وضع أُسس التربية بحيث تُلائِم المجتمع وحاجة العصر الذي كان يعيش فيه. وقد ساد في ذلك العصر الروح الديني، فجاءت طريقة القابسي في التعليم موافقةً لهذه البيئة كل الموافقة، حيث يتعلَّم الصبيان المسلمون القرآن والكتابة والنحو والعربية والشِّعر، ويتعودون القيام بالعبادات الإسلامية المختلفة، فيترُك الصبي الكُتَّاب وهو عارف بالديانة الإسلامية علمًا وعملًا.

١  La Doctrine de L’Islam-Carra de Vaux. Paris 1909 p 194.
٢  تشغل الآن عميدة معهد التربية للمُعلمات، وقد طُبِعت رسالتها باللغة العربية، ولكنها ليست ترجمة حرفية لها. أما الدكتور أحمد شلبي فقد طبع رسالته سنة ١٩٥٤م بدار الكشاف في بيروت، وعنوانها «تاريخ التربية الإسلامية» واتجه فيها اتجاهًا اجتماعيًّا عامًّا.
٣  خليل طوطح، ص١٠٢–١٠٤.
٤  في الفصل الرابع من كتاب السيدة أسماء فهمي «مبادئ التربية الإسلامية» أن هذه المبادئ تبلُغ ستة، مبدأ ديني، وخلقي، وتدريبي، وتثقيفي، ومهني، وعلمي، ص٧٠–٨٠.
٥  La Faillite de L’Enseignement—Jules Payot, Paris 1937. p 14-15.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤