الفصل الرابع

الكتاتيب في الإسلام

نُريد أن نقصُر الكلام على التعليم الأوَّلي أو التعليم في الكُتَّاب، ولا شأن لنا بأنواع التعليم الأخرى؛ لأن المؤلِّف لم يتناولها بالبحث. ولم يكن القابسي مُشَرِّعًا في هذا الفن، بل مُؤرِّخًا وصفَ ما انتهى إليه حال تعليم الصبيان في عصره، من قعود مُعلم في الكتَّاب يذهب إليه الصبيان فيحفظون عليه القرآن، ويتعلمون القراءة والكتابة وبعض النحو والعربية والحساب. وكان الحال كذلك في القرن الثالث الهجري كما وصف ابن سحنون في كتابه، وهو الكتاب الذي اعتمد عليه القابسي كثيرًا.

والتعليم ظاهرة اجتماعية، يخضع — كغيره من الظواهر الاجتماعية — لقوانين الحياة من النمو والازدهار، والتراجُع والموت.

ولم تنشأ الكتاتيب منذ ظهور الإسلام؛ فالمعروف أن بلاد العرب في عهد النبي لم يكن فيها تعليم مُنتظِم، والمشهور أن العرب أُميُّون. ولو أن هناك أخبارًا تدل على غير ذلك.

والجديد في الكُتَّاب هو صيغته الديمقراطية التي يسَّرَت للصبيان قاطبةً قسطًا من التعليم. وهو بهذه الصورة لم يكن معروفًا منذ ظهور الإسلام. لذلك نعود إلى الوراء لنرى متى وكيف بدأ انتشار التعليم في الكتاتيب على الصورة المذكورة عند القابسي. عن ابن حزم:١ «مات رسول الله والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من مُنقطَع البحر المعروف ببحر القُلزم مارًّا إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى مُنقطَعِه، مارًّا إلى الفرات ثم على ضِفَّة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم. وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما لا يعرِف عدده إلا الله كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلَي طي وريبة وقضاعة والطائف ومكة. كلهم قد أسلم وبنَوا المساجد، ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلةٍ لأعرابٍ إلا قد قرئ فيها القرآن في الصلوات وعُلِّمَه الصبيان والرجال والنساء وكُتِب.»٢ ثم قال بعد قليل: «ثم مات أبو بكر وَوَلِيَ عمر فَفُتِحَت بلاد الفرس طولًا وعرضًا، وفُتِحَت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها، ولم يَبْقَ بلد إلا وبُنيَت فيه المساجد، ونُسِخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن، وعَلَّمَه البيان في المكاتب شرقًا وغربًا.»٣

في تاج العروس قصة يتَّضِح منها أن الكُتَّاب كان موجودًا في زمن عمر بن الخطاب، قال في صدد كلمة أبجد: «ويُذكَر أن عمر بن الخطاب رضِيَ الله عنه لقِيَ أعرابيًّا فقال له: هل تُحسِن أن تقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فاقرأ أُمَّ القرآن. قال: والله ما أُحْسِنُ البنات فكيف الأم؟ قال: فضربه. ثم أسلَمَهُ إلى الكُتَّاب، فمكث فيه، ثم هرب وأنشأ يقول:

أتيتُ مُهاجرين فعلَّموني
ثلاثة أسطرٍ مُتتابِعاتِ
كتابَ اللهِ في رَقٍّ صحيح
وآيات القرآن مُفصَّلاتِ
فخطُّوا لي أبا جادٍ وقالوا
تعلَّم صعفصًا وقُرَيِّشاتِ
وما أنا والكتابة والتَّهَجِّي
وما حظُّ البنينِ مِن البناتِ

ونستدل من كلام ابن حزم ومن القصة السابقة على أن ظهور الكتاتيب أو المكاتب ليتعلَّم فيها الصبيان كان في عصر الفتوحات الإسلامية العظيمة، وهي الفرس والشام ومصر وجزيرة العرب كلها. أما قبل ذلك فقد كان الإسلام لا يزال يُجاهد في نشر العقيدة في جزيرة العرب التي كان مركزها مكة ثم المدينة. على حين كان الفرس على حضارةٍ تخالف الحضارة الإسلامية، وأهل الشام ومصر يتَّبِعون الحضارة الرومانية.

فماذا كان حال التعليم في بلاد العرب وفي الفرس وفي الشام ومصر؟

أما في داخل بلاد العرب فكانت معرفة الكتابة قليلة جدًّا. عن البلاذري في (فتوح البلدان): «دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلًا كلُّهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان …»٤
وعن البلاذري أيضًا: «كان الكُتَّابُ بالعربية في الأوس والخزرج قليلًا وكان بعض اليهود قد عَلَّمَ كُتَّاب العربية، وكان تَعلُّمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدَّة يكتبون.»٥ وذكر ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) قول أُبيِّ بنِ كعب: «لقد قرأتُ القرآن وزيد هذا غلام ذو ذُؤابتَين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب.»٦ كل هذا يدل على أن مَن يعرف الكتابة من العرب كان بضعة نفر. ثم إنَّ النبي كان أُميًّا لا يعرف الكتابة. والثابت في كتب السيرة أن النبي افتدى أسرى بدر، فمن لم يكن له فداء أمرَه أن يُعلِّم عشرةً من أبناء المسلمين الكتابة. وفي هذا العمل إيحاء للمسلمين يُبين اتجاه النبي إلى مَحبة التعليم ونشره.

ونخلُص من هذا إلى أن الإسلام حين ظهر في عهد النبي، لم تكن في بلاد العرب كتاتيب مُنتشرة، يذهب إليها الصبيان. وأن الذين عرفوا القراءة والكتابة هم بضعة نفَرٍ من الطبقة الرفيعة، تعلَّموا الكتابة بحُكم صِلتهم بغيرهم من الدول المجاورة كالفرس والروم، ولحاجتهم إليها في التجارة. وذلك في مكاتب مُعظم الروايات تدل أنها كانت لليهود.

(١) المدارس في فارس

كيف يتعلم الصبيان في فارس؟ أكانوا يذهبون إلى مدارس أو كتاتيب يتلقَّون فيها القراءة والكتابة ومبادئ العلوم حتى إذا فتح العرب بلاد الفرس وجدوا أمامهم هذه النُّظم فنقلوها عنهم، أم أن نظام الكتاتيب نظام إسلامي ابتكرَهُ المسلمون؟

كان الفرس أهل حضارة زاهرة يعلو مُستواها بكثيرٍ عن الحضارة العربية. وكان العرب أهل بداوة لا نستطيع أن نصِفَهم بالحضارة. لذلك لمَّا أخضع المسلمون الفرس والروم، اضطرُّوا إلى اقتباس نظُمهم في الإدارة والحضارة، فكانت الدواوين تكتب بالفارسية أو الرومية.

وظلَّت الدواوين تكتب بغير اللغة العربية إلى أيام هشام في الدولة الأموية. «وكان أكثر كُتَّاب خرسان إذ ذاك مجوسًا، وكانت الحسابات بالفارسية، فكتب يوسف بن عمر وكان يتقلَّد العراق في سنة أربع وعشرين ومائة إلى نسر بن سيار كتابًا أنفذَهُ مع رجلٍ يُعرَف بسليمان الطيَّار يأمُره ألا يستعين بأحدٍ من أهل الشرك في أعماله وكتابته.»٧ ويتَّضِح من هذه القصة أن صناعة الكتابة ظلَّت بالفارسية في يد الفرس حتى الصدر الأول من المائة الثانية.
وقد ظلَّت الدواوين بالفارسية حتى عصر عبد الملك بن مروان. عن الجهشياري: «ولم يزل بالكوفة والبصرة ديوانان أحدهما بالعربية لإحصاء الناس وأُعطياتهم، وهذا الذي كان عمر قد رسمه، والآخر لوجوه الأموال بالفارسية. وكان بالشام مثل ذلك أحدهما بالرومية والآخر بالعربية. فجرى الأمر على ذلك إلى أيام عبد الملك بن مروان.»٨

وليس غريبًا أن تظل الدواوين في أيدي كتبة الفرس باللغة الفارسية طول هذه المدة؛ لأن العرب كانوا يجهلون هذه النظُم الإدارية لبَدَاوتهم، ولا بدَّ من فترة انتقالٍ يتم فيها تعلُّم العرب هذه الصناعة، وتعريب الفرس. ثم نسأل: أكانت الكتابة عامةً في جميع الفرس أم خاصة بطبقةٍ مُعينة؟

الواضح من التاريخ أن نظام الطبقات كان شائعًا في فارس: «وكان رسمُ ملوك الفرس أن يلبس أهل كلِّ طبقةٍ في خدمتهم لبسة لا يلبِسُها أحد مِمَّن في غير تلك الطبقة، فإذا وصل الرجل إلى المَلِكِ عُرِفَت بلبستِهِ صناعتُه، والطبقة التي هو فيها.»٩
ويؤيد ما جاء عن شيوع نظام الطبقات ما نُترجِمه عن الأستاذ أكبر مظاهري١٠ حيث قال: «ويتعلَّم الطفل مِهنة أبيه إذ كان النظام الاجتماعي في إيران يقضي بتوزيع الناس في طوائف فهم يتوارَثون المِهَن عن آبائهم.» وفي ذلك يقول الفردوسي: «لم يسمع أحد أن صانع أحذيةٍ أصبح كاتبًا. فالطفل يتبع مِهنة أبيه، فإذا كان زارعًا فإنه يُعلِّم ابنه الزراعة، أو صانعًا فإنه يُعلِّمه صنعته، أو كاتبًا فإنه يُعلِّمه الكتابة والخط، والكاهن يُعلِّم ابنه المعارف المُقدَّسة، والجندي يُهيئ ابنه لمَعيشة الحرب.»١١

أما أبناء الأشراف فيتلقَّون طائفةً من المعارف على أيدي مُرَبٍّ أو اثنين ولا يذهبون إلى المدرسة الأوَّليَّة التي تُخصَّص لهم، وفيها يتعلمون العلوم المقدسة والآداب والموسيقى والرياضة البدنية واستعمال السيف.

وإذا كان هناك تمييز في التعليم المهني والاجتماعي، فالجميع مُتساوون في شيءٍ واحد هو التعليم الديني.١٢

ويتعلَّم الطفل مبادئ الدين عن أبيه. فإذا لم يتسنَّ للأب أن يُعلمه لضيق الوقت، فليُرسِله إلى أقرب مَعبد حيث تُوجَد المدرسة، ليتعلم القواعد الدينية، والتاريخ المُقدس، والتقويم، وأسماء الشهور والأيام، والأدعية، والواجبات الدينية.

وطريقة التعليم هي أسئلة وأجوبة، وإليك نماذجَ منها:

أيها الطفل مَنْ تكون؟ من أين جئنا وإلى أين نذهب؟ أتنتسِب إلى يزدان أم إلى أهرمن؟ أإِلى خالقٍ خَيِّر أم شرير؟ ما الخير والشر؟ … إلخ.

ويحفظ الطفل الإجابات عن هذه الأسئلة عن ظهر قلب، وتُفسَّر هذه الإجابات شيئًا فشيئًا بعد الاطلاع على أسرار الدين.

وتُعنى الأم بطفلها حتى سِنِّ الخامسة، فتُعلِّمه الخير والشر،١٣ ويهتمُّ الإيراني اهتمامًا كبيرًا بالتربية، لذلك يُعلم ابنه آداب السلوك ويبث فيه بعض التعاليم الخُلُقية ليُصبح رجلًا شريفًا. وحينما يكبُر الطفل يُعلمه حرفة. ولا يعلم الأب ابنه شيئًا له غرَض عمَلي.

ونستنتِج من هذا أن التعليم في فارس كان مقصورًا على طبقةٍ مُعينة هي طبقة الكتاب والأشراف، أما عامة الشعب من زُرَّاع وصُنَّاع فعِنايتهم بالمهنة. أما التعليم الديني العام، فلم يكن الغرَض منه التعليم لذاته، أو معرفة القراءة والكتابة، بل تلقين أسرار الدين الفارسية، وهي ديانة ثَنَوية تُخضِع العالم لإلهَين أحدُهما للخير والثاني للشر. وكان الأطفال يتلقَّون هذه المبادئ في داخل المعابد، ولم تكن هناك مدارس مُنفصلة عنها. ولم يكن الأطفال يتلقَّون مبادئ القراءة والكتابة؛ لأنها مخصوصة بطبقة الكتَّاب.

لهذا لم تعرِف الفرس نظام الكتاتيب. لأن الكُتَّاب في الإسلام مكان يتعلَّم فيه الصبيان الكتابة والقراءة إلى جانب القرآن الكريم، على حين كانت الكتابة صِناعة خاصة بطبقةٍ مُعينة عند الفرس. والمدارس الدينية مُختلفة في نوعِها عن الكتاتيب لأنها مُلحَقة بالمعابد، وأساس التعليم فيها هو معرفة الطقوس الدينية ومزاولتها.

(٢) المدارس في الشام ومصر

وننظُر الآن إلى البلاد التي كانت خاضعة للروم وهي الشام ومصر لنرى أكان فيها نظام لتعليم الصبيان يُشبه الكتاتيب. ونقصد بهذا النظام أنه عام لجميع أفراد الشعب، وأنه مُنفصل عن المساجد، وأن الصبيان كانوا يتعلَّمون فيه القراءة والكتابة.

في الوقت الذي فتح فيه العرب هذه البلاد، كانت الحضارة السائدة فيها مُضطربة منقسمة على نفسها، خاضعة لتيارات مختلفة مُتعارضة. فإلى جانب حضارَتَي الرومان واليونان الوثنيتَين، جاهدت المسيحية للقضاء عليهما، ومع ذلك احتفظت المسيحية بكثيرٍ من تراث الرومان والإغريق.

ولمَّا تدهورت الدولة الرومانية الغربية وعاصمتها روما، غزا الجرمان روما، ولم تكن قبائل الجرمان على شيءٍ من الحضارة. فهدَموا المدن، وذوت الحضارة وعفَتْ آثارها، وأصبحت الكتب نادرة، وتمَّ التدهور تدريجيًّا، حتى إذا كان القرن السادس الميلادي انعدمت الثقافة وقُبِرت المدارس الرومانية. وكانت الحاجة ماسَّةً إلى قوم مُثقفِين للقيام بشئون الحكومة، فصالت الكنيسة وحدَها في الميدان وقامت بالتعليم، ولكنها قصَرتْهُ على مقدار حاجتها منه.١٤

ومن أبرز أسباب سقوط الحضارة الرومانية الترَف الذي ساد الحاكِمين بعدما أصابوا من أسلاب الدول المغلوبة على أمرها، لذلك انصرفوا إلى الملاذِّ والاستمتاع بمباهج الدنيا. وركَنوا إلى حياة الكسل والترَف. ومن قبل ذلك قضى الرومان على الحضارة الإغريقية بالسيف، وانتقلت الثقافة اليونانية من أثينا إلى الإسكندرية في القرنين الأول والثاني للميلاد، وظلَّت زاهرةً زمنًا، ثم تدهورت لِمَا أصاب العالَم من انحطاط.

ووجد الناس في المسيحية الدِّين الذي يلتئِم مع نزعات النفس الجديدة، فهو دين يدعو إلى تطهير النفوس من الأدران، وإلى الزُّهد في الحياة المادية التي سئمها الناس.

ولكن المسيحية لمَّا انتشرت أولًا في الشرق، ثم في آسيا الصغرى والإسكندرية وأثينا، اصطدم رجالُها بعقول أهل الفلسفة الإغريقية الذين لا يُقنِعهم الإيمان المسيحي فحسب، وإنما يُريدون أن يفهموا الديانة فهمًا عقليًّا مُنظمًا كما يفهمون النظُم الفلسفية. من أجل ذلك اضطر القساوسة المَسيحيون إلى التسلُّح بالأدلة العقلية العميقة للردِّ على انتقادات هؤلاء القوم، وهذا هو السبب في نشأة مدرسة الإسكندرية وغيرها للبحث في أساس الديانة المسيحية.١٥

وفي أيام المسيحية الأولى انصرف المسيحيون إلى تطهير أنفسهم من أدران العالَم المليء بالشرور، ولم يتَّصِلوا بالحكومة على أي وجه، كما لم يكن بين الكنيسة والدولة صِلة. فلمَّا قويَ نفوذ الكنيسة وأصبحت دولةً داخل الدولة، برز فيها رجال عُرفوا بالدهاء السياسي فجعلوا للكنيسة نفوذًا مَدنيًّا إلى جانب النفوذ الديني.

ولم تُعجِب هذه السياسة كثيرًا من المسيحيين الزاهدين في النظر إلى الأمور الدنيوية والاتصال بالعالَم المملوء بالآثام والشرور. فانصرفوا إلى الصحراء والجبال والغابات، واتَّخذوا من الكهوف والمَغاور مأوًى يحميهم من رذائل الناس. وتتلخَّص مبادئهم في المعيشة الأخوية، والزُّهد عن العالَم والفقر والعفَّة والطاعة وشغل البدن بأشقِّ الأعمال حتى تصفو الروح وتسمو. ويعيش الأعضاء في خلوةٍ فلا يجتمعون إلا عند تناول الطعام والدعاء.

هذا هو بدء الرهبنة في الشرق، وانتشرت منها إلى الغرب في أوائل القرن الرابع الميلادي، وبلغَت الأوْج في القرن الخامس.١٦

والرهبنة هي الجانب المُتطرف في الدين المسيحي.

وهي ردُّ فعل لحياة الترف والاستمتاع التي سادت في ذلك العصر.

هذا ما كان من شأن المسيحية في الشرق، تسلح بعض رجالها بعلوم اليونان والرومان للدفاع عن مبادئ العقيدة المسيحية، ونزل البعض الآخر إلى ميدان السياسة لتعليم المذهب المسيحي الذي قُدِّر له الانتصار حتى أصبح دينًا رسميًّا للدولتَين، واعتصم فريق منهم بالزُّهد والرهبنة في الصوامع والأديرة.

ونشأ في الغرب صراع بين المسيحية وبين الشعوب المُتبربرة، تغلَّبت فيه المسيحية كما تغلَّبَت في الشرق. ولكن الشعوب الجرمانية كانت فتية مملوءة بالحياة، طافحة بالطموح، فكيف قبِلَت المسيحية التي تنادي بالحرمان والزهد؟

في القرون الوسطى تناقُض كبير بين الحياة الواقعية التي يقبل فيها الناس على اللَّذَّات، وبين الحياة المثالية التي تُصوِّرها الأخلاق المسيحية بما فيها من تضحيةٍ وزهد وقسوة في المعيشة وتقييدٍ لأسباب الحياة.

ومع ذلك فهناك جانب في المسيحية اتفق مع مطامع المسيحيين. هو دين العامة والبسطاء والفقراء. وقد سمَتِ المسيحية بفضيلة التواضُع ونشدت بسطة القلب والعقل. ولمَّا كان الجرمان شعبًا في دَور الطفولة فهُم أهل بساطة وتواضُع، وهم أيضًا فقراء لأنهم كانوا يعيشون عيشة البداوة، لذلك قبِلوا مع السرور هذا المذهب الجديد الذي يُمجِّد الفقر والبساطة.

وقد حارب الجرمانيون الحضارة الوثنية الرومانية كما حاربها المسيحيون. وهذا يُفسِّر لنا المودة التي توثَّقَت عُراها بين الكنيسة والمُتبربرين، وكيف وجدت المسيحية أرضًا خصبة بين الشعوب الجرمانية. والسِّر في هذا يرجع إلى أن مبادئ المسيحية حقَّقتْ آمالهم، ووجدوا فيها الراحة الخُلُقية التي لم يعثروا عليها في مكانٍ آخر.

ومن ناحية أخرى كانت أصول المسيحية ترجع إلى جذورٍ يونانية ورومانية لم يكن من السهل التخلص منها. ولا يغيب عن بالنا أن المسيحية نشأت ونمَتْ في العالم الروماني، فحملت معها — برغم إرادتها — كثيرًا من حضارة الرومان ووثنيَّتِهم. وكانت لُغة المسيحيين هي اللغة اللاتينية في الغرب واليونانية، ثم السريانية في الشرق.

وكانت غاية المسيحية الخلاص بالإنسان من الإثم والنجاة به من الرذيلة، وقد خشِيَت إقبال الناس على دروس آداب الرومان واليونان وفنونهم وعلومهم، وهي ثقافة في مجموعها لا دينية قد تصْرِف الناس عن الإيمان الصحيح.

وقد عجزت الكنيسة عن التخلُّص من ثقافة الرومان واليونان؛ لأن اللغة اللاتينية والإغريقية هُما اللغتان المُقدَّستان اللتان صُبِغت بهما عقائد الدين.

وأين يتعلَّم الناس اللغة اللاتينية واليونانية إن لم يتَّجِهوا نحو آداب الرومان واليونان. وديانة الرومان واليونان شعائر عملية مُمتزِجة بالأساطير، على عكس المسيحية القائمة على نظام يتركَّب من مجموعةٍ من العقائد. وليس المسيحي مَسيحيًّا لأنه يُقيم بعض الشعائر الدينية فحسب، بل لأنه يؤمن بعقيدةٍ خاصة ويعتقد في آراء مُعينة.

وسبيل تعلم الشعائر الدينية قد يُكتَفَى فيه بالقليل من التدريب، أما اعتناق الآراء فلا يتمُّ إلا بواسطة التعليم سواء اتجه هذا التعليم إلى العقل أو إلى القلب. لهذا السبب اصطنعت المسيحية منذ نشأتها طريقةَ التعليم والوعظ. ولكن التعليم لا بدَّ أن يستند إلى أساسٍ من الثقافة، ولم تكن هناك ثقافة إلا ثقافة الرومان واليونان اللاتينيين، فاضطرت المسيحية إلى اصطناعهما، ثم إن المُعلم أو الواعظ يحتاج إلى دلالة اللسان وسِحر البيان وقوة الحجَّة والإقناع والبصَر بأحوال الناس، والمعرفة بتاريخ البشر. ولم تكن هذه المعارف المختلفة موجودةً إلا في آثار الأقدمين. وكانت حاجة المسيحيين شديدة إلى هذه الثقافة لفَهم الكتابات المقدسة فهمًا جيدًا، فلا بدَّ من التبحُّر في اللغة والتمكن منها، ولا بدَّ من معرفة التاريخ لتحديد الحوادث في سجل الزمان. وكانت الحاجة إلى البلاغة أشدَّ لأنها سلاح المؤمن الذي يدفع به أخطاء الرذيلة.

تلك هي الضرورات التي ألجأت الكنيسة إلى افتتاح المدارس لتعليم هذه الألوان المختلفة من الثقافة.

ونشأت باكورة هذه المدارس في أحضان الكنائس والأديرة. وكان الطلبة يُنفقون حياتهم منذ الصغر في الأديرة لإعدادهم لحياة الكهنوت. وهي حياة زُهد وتقشُّف يسودها طابع الروح المسيحي.

وتمتاز هذه المعيشة المسيحية عن تصوُّف الهنود. فالبوذية ترمي إلى فَناء الفرد ليصِل إلى معرفة الحقيقة الكاملة. أما المسيحي فلم يكن يسعى إلى خلاص نفسه فقط، بل إلى خلاص الإنسانية كلها. لهذا السبب لم ينصرِف الرهبان في عُزلتهم إلى التأمُّل فقط، بل كانوا ألسنةً تذيع العقيدة وتُبشِّر بالدين. ولهذا السبب أيضًا ظهرت المدارس في داخل الأديرة تُهيئ الطلبة إلى معيشة الدير.

ولم يجد المسيحيون حرَجًا في قبول جميع الصبيان من كل طبقة وصناعة يبثُّون فيهم الدين والعلم.

هذه المدارس الكنسية هي الخلية الأولى التي تفرَّع منها بنيان التعليم في أوروبا، فنشأت عنها الجامعات والكليات. ومن هذا يتَّضِح لنا السرُّ في احتضان الكنيسة للمدارس، وفي خضوع التعليم للدين.

ولم يخلُ المنهج الذي كان مُتبعًا في تلك المدارس من تناقُضٍ في نظامه، فهناك علوم مدنية تُدرَّس إلى جانب مبادئ الدين؛ لأن عنصر الدين مُستمَد من المسيحية، والجانب المدني مُشتق من الحضارة القديمة.

والجديد الذي جاء مع هذه المدارس المسيحية هو لزوم الطلبة أُستاذًا بعينه ومكانًا بعينه. ذلك أن الطالب في الأزمنة القديمة كان يتلقَّى العلم على مُدرِّسِين مُختلفِين لا رابطة بينهم، فهو يذهب إلى مُعلم اللغة يتلقَّى عليه قواعد النحو والبيان، وإلى عازف القيثارة يتعلم منه الموسيقى، وإلى مُعلم الخطابة يتعلَّم فن الفصاحة، وهكذا. لذلك كان الطالب يحشد فنونًا من المعرفة لا صِلة بينها.

أما المدارس المسيحية فلأنها انتظمت في مكانٍ ثابت واحد فإنها خضعت لتأثيرٍ واحد، واتجهت وجهةً خلقية واحدة.

وممَّا يميز هذه المدارس أيضًا الصِّلة الدائمة بين الأستاذ وتلاميذه؛ لأن معيشة التلاميذ كانت معيشةَ رهبنة داخل الدير.

ولمَّا كان التلميذ في اليونان والرومان يتلقَّى علومه على مُدرِّسين مُتباينِين لا تجمعهم صلة، وكان كل مدرسٍ يقوم بالتعليم في داره على طريقته الخاصة، لهذا تنافرَتِ المعرفة في ذهن التلاميذ ولم تتَّجِه إلى هدفٍ واحد. فواحد يُعلمه القراءة، وآخر يُقوِّم لسانه، وثالث يُلقنه الموسيقى، ورابع آداب السلوك، بينما المدرسة المسيحية تتعهَّد التلميذ تعهُّدًا كاملًا. ولم يكن التلميذ في حاجةٍ إلى مُبارحة المدرسة، فهو يجد فيها كلَّ ما يطلُب، ويقضي فيها حياته، يأكل وينام ويؤدي طقوسه الدينية. وهذا النظام الداخلي من أخصِّ مُميزات هذه المدارس الكنسية. بهذا خضع التلميذ لتأثيرٍ واحد وانصرف نحو تيَّارٍ واحد.

وكان الغرض من التعليم قديمًا تزويد الأطفال بمعلومات مُعينة، الغاية منها أن تكون زينة يتحلَّى بها الطفل ليرفع منزلته الشخصية بين أترابه، كما كان الحال في روما والمدن الإغريقية. وكان من السهل أن يتلقَّى الطفل هذه المعلومات أو العادات من مُدرسين مُختلفين؛ إذ كان الغرَض أن يتزوَّد الطفل بحلية خارجية، لا أن تطبع شخصيته في أعماقها. أما المسيحية فعلى العكس من ذلك؛ فَطِنَتْ إلى أن إعداد المسيحي الصحيح لا يتمُّ بتزويده ببعض الآراء أو العادات، بل بطبعه بطابعٍ عامٍّ يصوغ العقل والإرادة فيرى العالم في ضوء هذه التعاليم. فالمسيحية استعداد نفساني لا ينشأ إلا بتربيةٍ خاصة. ولا يتوصَّل إلى هذه التربية إلا إذا عاش الأطفال في بيئةٍ اجتماعية واحدة يُلازمونها زمنًا طويلًا، حتى تنزل منهم التعاليم المنشودة منزلةَ الطبع. وهذا هو السِّرُّ في معيشة التلاميذ معيشةً داخلية واحدة.١٧

•••

ونخرج من هذا العرض بالنتائج الآتية:
  • (١)

    حلَّت المدارس المسيحية مكان التعليم اليوناني والروماني، وذلك بعد جهاد طويل.

  • (٢)

    كانت المدارس الكنسية مُلحقة بالأديرة والكنائس والمعيشة فيها داخلية.

  • (٣)

    الغرض من هذا التعليم هو التأثير في الشخصية، وطبْعُها بالطابع المسيحي، وإعداد التلاميذ لحياة الرهبنة.

  • (٤)

    لم تكن هذه المدارس عامة لجميع أفراد الشعب، بل اقتصرت على طبقة الكهنوت.

ومن الواضح أن هذا النوع من التعليم يختلف عن الكتاتيب الإسلامية؛ فالكتاتيب الإسلامية عامة لجميع أفراد الشعب، ولم يكن من الضروري وجودها بالمساجد، ولم يكن يعيش الصبيان فيها معيشة داخلية. ولم تكن صِلة مُعلم الكتَّاب بالصبيان صِلة الراهب بتلاميذه يقتحِم شخصياتهم ليطبعها بطابع المسيحية. ذلك أن مُعلم الكُتَّاب مُلقِّن ومُرشِد وليس واعظًا يسعى إلى بثِّ آراءٍ مُعينة، فهو يُعلمهم القراءة والكتابة، ويُحفِّظهم القرآن الكريم، وهو الجزء الأساسي من تعليمه.

ولو أن المسلمين أخذوا نظام الكتاتيب عن الفرس والروم، ونقلوها عنهم، لظهرت منذ بدأت الدعوة الإسلامية. ولكن الواقع يدلُّنا على أنها لم تظهر إلا بعد تمام الفتوحات، وبعد دخول الناس في الإسلام. من أجل ذلك قُلنا إنها قد نمَتْ وتطوَّرت مع نمو الإسلام وانتشاره.

أما في عهد النبي فكان تعليم الدين الإسلامي شاملًا للجميع، صبيانًا ورجالًا ونساءً. وكان الغرض منه أن يحفظ الناس شيئًا من القرآن، وأن يتعلَّموا ما يلزمهم في العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الفرائض الإسلامية. واتبع المُسلمون كافة السُّبل في الوصول إلى نشر دعوتهم فعملَّوا في دورهم، وفي المساجد، وفي كل مكان. ولم يفُتْهُم الحث على تعلُّم الكتابة.

ولمَّا انقضى هذا الدور الأول في نشر الدعوة بكافة الطرُق، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وكثُر عدد المسلمين، وأصبحت غالبية السكان على الدين الإسلامي، انصرفوا عن نشر الدين إلى النظر في أمور المعاش وإلى تنظيم الدين وضمان العبادة الصحيحة. ويقتضي النظام الاجتماعي أن يكون البدء في تعليم الأجيال عن طريق تربية الأطفال حتى إذا شبُّوا أصبحوا مَطبوعِين بطابع الجيل الجديد.

وقد تطوَّع المسلمون الأوائل بالتعليم بدافع الروح الجديد. فلمَّا انتشر الإسلام تعذَّر أن يقوم التعليم على التطوُّع، وظهرت صناعة التعليم، وتناول المُعلمون الأجر، وأفتى الفقهاء بجواز ذلك.

وكان بعض المُعلمين يقوم بمهمَّتِه في المساجد، ولكن عبث الصبيان الصغار الذين لا يتحفَّظون من النجاسة جعل الفُقهاء يمنعون تعليم الصبيان في المسجد، فظهرت الكتاتيب مُنفصلة عن المساجد، وخاصَّةً بتعليم الصبيان.

١  ذكرْنا هذا النص من قبل، ونُعيده مرة أخرى لأهميته.
٢  ابن حزم، ج١، ص٦٦.
٣  ابن حزم، ج١، ص٦٧.
٤  البلاذري، ص٦٧.
٥  البلاذري، ص٤٥٩.
٦  ابن أبي الحديد، ج٤، ص٤٥٩.
٧  الوزراء والكتاب للجهشياري، ص٦٧.
٨  الوزراء والكتاب للجهشياري، ص٣٨.
٩  الوزراء والكتاب للجهشياري، ص٣.
١٠  La Famille Iranienne aux temps ante-Islamiques, par Mazaheri, Paris 1938 rabKA YLA.
١١  ص١٧٢.
١٢  ص١٧٥.
١٣  ص١٦٨.
١٤  Cubberly, History of Education p. 116.
١٥  Cubberly, p. 93-94.
١٦  Cubberly, p. 98–100.
١٧  L’ Evolution Pédagogique en France-Durkheim Ch. I & II.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤