الفصل التاسع

المُعَلِّمُ

(١) شخصية المُعلم وأثرها في المُتعلم

شخصية المعلم لها أثر عظيم في عقول التلاميذ ونفوسهم، إذ يتأثرون وهم في تلك السن الصغيرة بمظهره وشكله، وحركاته وسكناته، وإشاراته وإيماءاته، وألفاظه التي تصدُر عنه، وسلوكه الذي يبدو منه. والطفل أشد تأثرًا بغيره من الناس من الشاب، وأسرع في كسْب الكلام والحركات والتقاطها عن الذين يتصِل بهم من الكبار، الذين نمَت عقولهم، وصلُبَ عودهم، وأصبحوا أقدرَ على التمييز والنقد والاختيار.

والوقت الذي يقضيه الطفل في الكُتَّاب يستغرق معظم النهار، فهو يذهب إليه مع الصباح الباكر، ولا ينصرف إلى آخِر اليوم.

فالصبي يتصِل بالمعلم، إلى جانب صِلته بغيره من الصبيان، أكثر من الصلة بآبائه وأهله. ومِن الطبيعي أن يكون تأثير المعلم في نفوس الصبيان أقوى وأشد وأعمق من تأثير أهله، فهو الذي يُقدِّم إليهم الغذاء العقلي والديني، وهو الذي يُطبِّعهم على العادات، ويثبت فيهم آداب السلوك، وما يترتب على ذلك من نشوء الصبيان وهم يحملون في أنفسهم الآراء التي طبعوا عليها في صِباهم، ويصعب فيما بعد التحوُّل عنها.

ومما يؤيد تأثُّر الصبيان بشخصية المُعلمين ما رواه الجاحظ١ من كلام عقبة بن أبي سفيان لمُؤدب ولدِه قال:

«ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بَنِيَّ إصلاح نفسك، فإن أعيُنَهم معقودة بعينك، فالحَسَن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت.»

كما فَطِنَ إخوان الصفا إلى تأثير المُعلم التأثير الشديد في صبيان المسلمين.

وقد سادت في المُعلمين شخصية علمية وخلقية عُرفت عنهم واشتُهروا بها، وسرَت منهم إلى الصبيان بطريق الإيحاء والمُحاكاة مما هو فطري في النفس الإنسانية؛ فالإيحاء التأثير الذي ينتهي إلى قبول الآراء واعتقادها والعمل بها، والمحاكاة التشبُّه بغيره في الحركات والإشارات والسلوك على وجه العموم.

ولم تكن شخصية المُعلم بارزة في العلم بحيث تسمو به إلى مرتبة الأدباء أو الشعراء أو النُّحاة أو الفقهاء. فهو يحفظ القرآن، وما يتَّصِل بالقرآن من العلوم الضرورية لفَهمه وحُسن نطقه.

ولو بلغ مُعلم الكُتَّاب منزلة علمية سامية، مع سعة الذهن، ونفاذ الفكر، وقوة العارضة، لتطلَّع إلى مرتبة اجتماعية أسمى من مرتبة المُعلمين في الكتاتيب. فقد كان الحجاج بن يوسف على ما هو مشهور مُعلمًا في الطائف، ثم أصبح من الحكام البارزين، والخطباء المفوهين، وترك صناعة التعليم في الكتاب إلى غيرها.

والمُعلمون على ما ذكر الجاحظ على ضربَين: منهم رجال ارتفعوا عن تعليم العامة إلى تعليم أولاد الخاصة، ومنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصة إلى تعليم أولاد الملوك أنفسهم المُرشحين للخلافة. فكيف نستطيع أن نزعم أن مثل علي بن حمزة الكسائي، ومحمد بن المستنير الذي يُقال له قُطْرب وأشباه هؤلاء الرجال يُقال لهم حمقى، ولا يجوز هذا القول على هؤلاء، ولا على الطبقة التي دونهم. فإن ذهبوا إلى معلمي كتاتيب القرى فإن لكل قوم حاشية وسِفلة، فما هم في ذلك إلا كغيرهم.٢
لم يتكلم القابسي في رسالته على مُعلمي الخاصة، بل قصر الكتابة والنصيحة والحُكم على مُعلمي الكتاتيب الذين يتَّصِلون بأولاد العامة. وهؤلاء هم الذين ذاع عنهم الحمق فقيل في أمثال العامة: «أحمق مِن مُعلم كتَّاب.» وفي قول بعض الحكماء: «لا تستشيروا مُعلِّمًا.»٣

وقد انتصر الجاحظ لمُعلمي الخاصة، ويُعرَفون بالمؤدِّبين، فهؤلاء منزلتهم غير منكورة ثم أنصف بعد ذلك مُعلمي الكتاتيب فأبعد عنهم ذلك الوهم الذائع عنهم والحُمق اللاصِق بأغلبيتهم.

وقد اعتمد الأستاذ خليل طوطح على هذا الجانب السيئ الذي ذكره الجاحظ عن المُعلم، فحكم على مُعلمي الصبيان جميعًا بالحُمق وقلة العقل، وأرجع السبب في ذلك: «إلى احتقار العرَب للمِهَن التي لا تظهر فيها أعمال الرجولة كالفروسية، وإلى ما أظهره بعض المُعلمين من صِغَر النفس والمَسكنة وسخافة العقل والغطرسة على الصغار وضربهم بالعصا وإذاقتهم آلام الفلقة.»٤

ولمَّا كان وَصْف المُعلمين هذا الوصف غير صحيح، فالتعليل المذكور لا أساس له. وإلى جانب ذلك فليس صحيحًا أن العرب احتقروا جميع المِهَن التي لا تظهر فيها أعمال الرجولة كالفروسية؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان الفقهاء والأدباء والشعراء وأصحاب المِهَن العقلية والدينية مُحتقرين عند العرب، والواقع يُخالف ذلك.

أما ارتكاب المُعلمين ما يُخِل بالكرامة، ففي كل طائفة، كما يقول الجاحظ، أشرافها وسِفلتها، فلا يدفعنا ذلك إلى إطلاق الحُكم على الطائفة بأسرِها بسوء الخلق، وصَغار النفس والحمق.

ويتَّصِل الحمق بالعقل كما يتصِل بالسلوك، بل هو بالعقل والتدبير، والرأي والتفكير، أشد التصاقًا، وأكثر صِلة. ذلك أن العمل يرجع في الغالب إلى اضطراب الرأي وعمى البصيرة، ووضع الشيء في غير مَوضعه الصحيح، وفساد التطبيق.

وقد يحفظ المرء القرآن، ويُردِّده حرفًا بحرف، ولفظًا بلفظ، وآية بآية، ومع ذلك لا يُجيد التصرُّف والتمييز، ويخلو من الحِكمة والسداد.

ليست شخصية المُعلم العقلية إذَنْ في حفظ القرآن، بل في العمل بما جاء فيه، وفهم أسراره ومَعانيه بمعرفة العلوم التي تُعين على هذا الفهم.

وقد عقد القابسي المُوازنة بين مُعلم ومُعلم، وفاضَلَ بينهما في العِلم، ورفع الأكثر علمًا على صاحبه في الكسب إذا اشتركا في التعليم.

فالاختلاف القريب لا يُوجِد التفاضُل في الجعل. مثل: «أن أحدَهما يكون رفيع الخط والآخر ليس كذلك.»

ويقع التفاضُل إذا كان أحدهما لا يُحسِن إلا القرآن والكتابة، والآخر يعرف إلى جانب ذلك الشكل والهجاء وعِلم العربية والنحو والشِّعر، ٦٩-أ.

ومن هذا نرى أن المُعلمين في عصر القابسي كانوا على ضربَين: بعض لا يعرف إلا القرآن والكتابة، وبعض آخر تتَّسِع ثقافته لمعرفة علومٍ أخرى غير القرآن، فترتفع منزلته العلمية، وإذا وُضِع في ميزان المادة الصحيح عند أصحاب الفلسفة المادية، كان أوفر أجرًا وأكثر جُعلًا.

فالميزان الذي تُقاس به الشخصية العلمية عند القابسي هو معرفة القرآن ومعرفة النحو والعربية وأيام العرب والشِّعر.

ولكن القابسي لم يذكر الطريقة التي نحكم بها على معرفة المعلم وثقافته، بحيث نُجيز له التعليم.

ولم تكن هناك إجازة يُشترط أن يحصُل المُعلم عليها ليكون صالحًا للتعليم حتى يُرخَّص له بمزاولة المِهنة. «فمَن عَلِمَ من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يُجِزْه أحد. وعلى ذلك السلَف الأوَّلون، والصدر الصالح. وكذلك في كل علم، وفي الإقراء والإفتاء، خلافًا لِما يتوهَّمه الأغبياء من اعتقاد كونها شرطًا. وإنما اصطلح الناس على الإجازة لأن أهلية الشخص لا يَعلمها غالبًا من يريد الأخذ عنه من المُبتدئين ونحوهم لقصور مقامهم عن ذلك.»٥

أما اشتراط حصول المعلم على إجازة لتعليم القرآن، فإنما جاء بعد العصر الذي عاش فيه القابسي، أي بعد القرن الرابع، وهو دليل على شعور المجتمع بوجود كثيرٍ من المُعلمين غير أهل للقيام بالتدريس.

ثم تطورت الأحوال إلى ما هو أبعد من ذلك، نعني: «اعتياد مشايخ القراء من امتناعهم عن الإجازة إلا بأخذ مالٍ في مقابلها، وهذا لا يجوز إجماعًا … وليست الإجازة مما يُقابَل بالمال، فلا يجوز أخذه عنها ولا الأجرة عليها.»٦

فالشخصية العلمية على النحو الذي ذكره القابسي، أقلها أن يكون صاحبها حافظًا للقرآن عارفًا بالخط والكتابة، وترتفع شخصيته مع تزوُّد المعلم بعلوم العربية والنحو والشِّعر.

وشخصية المُعلم الدينية لا شكَّ فيها؛ لأنه يحمل القرآن وهو أصل الدين. والمُعلم يُقيم الصلاة ويُعلمها الصبيان، وهو على مذهب أهل السُّنَّة، ولا مطعن في دينه من هذه الناحية خصوصًا من جهة الجمهور.

وشخصية المُعلم الخلقية مُستمدَّة إلى حدٍّ كبير من شخصيته الدينية؛ لأن من يحفظ القرآن ويُقيم شعائر الدين أقرب من غيره إلى العمل الصالح.

(٢) عيوب المُعلمين

على أن القابسي لم ينصَّ على رذائل في أخلاق المُعلمين طالَبَ بإصلاحها. إنما ذكر الواجب على المُعلم، وضرورة انصرافه إلى عمله، وعدم الانشغال عن تعليم الصبيان بأي شيءٍ من الأشياء؛ لأنه يتناول أجرًا عن عمله، فلا بدَّ له من وفاءِ ما استُؤجِر عليه. ومن واجب المُعلم أيضًا ألا يطلُب فوق أُجرته من الصبيان شيئًا كهدية أو طعام.

وسنفصِّل الأحوال المختلفة التي ذكرها القابسي عن المُعلمين في انشغالهم عن التعليم، وفي طلبهم الهدايا، ومنها يتبيَّن أن النقائص الخلقية التي قد تقع من بعض المُعلمين إنما ترجع لأسباب مادية.

والقابسي يَعتبرها من النقائص؛ لأنه قرَّر أن يتناول المُعلم الأجر على التعليم، فالتطلُّع إلى ما هو أكثر من الأجر المُشترط عليه إسراف في الطمع، وإخلال بالعقد.

وقد نهى سحنون أن يطلُب بعض المُعلِّمين هدايا من الصبيان؛ لأنه: «لا يحلُّ للمُعلم أن يُكلِّف الصبيان فوق أجرته شيئًا من هدية أو غير ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة.» ٦٢-أ.

ومن العادات المذمومة أن يبعث المُعلمون صبيانهم إذا تزوَّج رجل أو وُلِدَ له «فيَصيحون عند بابه ويقولون: أستاذنا … بصوتٍ عالٍ. فيُعطَون ما أحبُّوا من طعامٍ أو غير ذلك، فيأتون مُعلمهم، فيأذن لهم يتبطَّلون بذلك نصف يوم أو ربع يوم بِغَير أمر الآباء. وهذا شديد الكراهية، لعلَّ صاحب التزويج أو أبا المولود لا يُعطي ما يعطي إلا تقية من أذى المُعلم أو أذى صبيانه، أو من تقريع بعض الجهَّال، فيصير المُعلم من ذلك إلى أكل السُّحت، ولا يفعل هذا إلا مُعلم جاهل.» ٦٢-أ.

وقال في موضع آخر: «ولا يحلُّ للمُعلمين أن يأمروا الصبيان أو يكلفوهم إحضار طعام أو غيره، وإن قلَّ قدره، كالحطَب وغيره، من بيوت آبائهم.» ٦٦-أ.

ومن الوصف السابق يتَّضِح لنا سلطان المُعلم على الصبيان، وقوة شخصيته وخضوع الصبيان لأمره، إلى درجة أنَّ القابسي يَعُد صبيان المعلم جزءًا منه، إذا وقع منهم الأذى فهو المسئول عنهم.

ومن هذا الوصف لسلوك المُعلم تتَّضِح لنا صفحة من صفحات التاريخ، وجزء من التقاليد التي سادت في القرن الرابع.

ولا نُحِب أن نسوِّغ هذه الأفعال للمُعلمين، ولكننا نقول: إن الشعب مسئول عن إفسادهم في هذه الناحية، إذا اعتبرنا الطلَب نوعًا من الفساد الخُلقي. ذلك أن عادة الطلَب والسؤال جاءت من جهتَين: الأولى العطية على الختمة، والثانية عطية الأعياد. وقد جرَتْ عادة الناس أن يُعطوا في الحالتَين: فرحًا بختم أولادهم القرآن وابتهاجًا بقدوم الأعياد.

رُوِيَ أن سحنون قضى بسبعة دنانير في ختمة البقرة.٧
وحكى ابن الدباغ أن عبد الله بن غانم الرعيني — قاضي القيروان عام ١٧١ — دخل عليه يومًا ولد صغير له من المكتب فسأله عن سورته فقال: حوَّلني المعلم من سورة الحمد. فقال له اقرأها، فقرأها. فقال له تهجَّها، فتهجَّاها. فقال له أبوه: ارفع ذلك المقعد فرفعه، فإذا تحته دنانير دون العشرين وفوق العشرة، فقال له: ارفعها إلى مُعلمك، فرفعها إليه فأنكرها المُعلم على الولد، وظنَّ بعض الظن، وحملها إلى عبد الله بن غانم. فقال له عبد الله كالمُعتذِر: لعلك رددتَها استقلالًا لها! فقال المعلم: ما أتيتُ لهذا، وإنما ظننتُ ظنًّا. فقال له القاضي: أتدري ما علَّمْتَه يا مُعلم؟ كل حرف منها خير من الدنيا وما فيها.٨

وقد أجاز الفقهاء أيضًا العطية في الأعياد. قال القابسي: «عطية العيد لا يُقضى بها إلا أن يتطوعوا، من شاء منهم فعل، ومن شاء لم يفعل.» ٧٣-ب. ويقول ابن حبيب الفقيه المالكي: «وفِعْل ذلك حسَن من فعله، وتكرُّمٌ من آباء الصبيان لمُعلميهم، ولم يزل ذلك مُستحسنًا في أعياد المسلمين.» ٧٣-ب.

ثم أوجب الفقهاء العطية في العيدين، نزولًا على العرف السائد؛ فالأصل في الحُكم عدم القضاء بالعطية في العيد إلا إذا تطوَّع الآباء. ولكن للعادات حُكم آخر، لذلك أوجب القابسي العطية في الأعياد. أو كما يقول: «وكذلك المُسلمون عندي في هذه العادات، إذا كانت مُستحسنة في الخاصة، فانتشارها على وصفِنا يوجبها.» ٧٤-أ.

وروى المالكي: «أن الأمراء من بني الأغلب كانوا يأتون جامع القيروان ليلة نصف شعبان وليلة نصف رمضان، ويُعطون فيها من الصدقات كثيرًا ثم يخرجون في حشمهم وأهل بيتِهم وخدمتهم من الجامع إلى المدينة، فيزورون دور العُبَّاد والعلماء والكتاتيب والمدارس، فيوزعون عليهم الأموال والعطايا الجسيمة.»٩

فالخاصة كما نرى هم الذين بدءوا بتقديم العطايا إلى المُعلمين، وتبعهم في ذلك العامة، وما زال الأمر كذلك إلى أن أصبح من العادات الثابتة في المجتمع، التي يحترمها المشرعون ويأخذون بها في أحكامهم.

فإذا رأى المعلمون أن يطلبوا الهدايا في مناسبات أخرى غير الأعياد كالزواج والميلاد وغير ذلك، فالجمهور هو الذي شق لهم طريق العطية في العيدين، بل في: «رمضان وفي القدوم من سفر.» ٧٤-أ. وأجاز القابسي كل ذلك.

ومما يُعاب على المعلم أن ينصرف عن التعليم، فيشغل نفسه، أو يشغل الصبيان بغير طلب العلم. وقد أفاض القابسي القول في ذكر هذه الأحوال الشاغلة للمعلم.

فلا يجوز للمعلم أن يرسل الصبيان في حوائجه. سُئل سحنون هل يُرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض، فقال: «لا أرى ذلك إلا أن يأذن له أولياء الصبيان في ذلك، أو يكون الموضع قريبًا لا يشغل الصبيان في ذلك.» ٦٣-أ.

وعن سحنون: «ولا يجوز للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكونوا في وقتٍ لا يعرضهم فيه، فلا بأس أن يتحدث وهو في هذا ينظر إليهم، ويتفقدهم.» ٦٣-ب.

ولا بأس أن ينظر المعلم في كتب العلم في الأوقات التي يستغني الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتابة، وأملى بعضهم على بعض ٦٤-أ.

ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا ما لا بدَّ منه؛ لأنه أجير لا يدَع عمله ويتتبع الجنائز والمرضى.

وشهود النكاحات وشهادة البياعات لا تجوز، هي مثل شهود الجنازة وعيادة المريض أو أشد ٦٥-ب.

وإن كانت عنده شهادة والسلطان عنه بعيد، في سيره إليه شغل عن صبيانه فله عُذر في تخلُّفه عن أدائها. وإن سافر سفرًا بعيدًا أو خيف بُعد الغريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث فلا يصلح له ذلك.

وإذا غلب النوم على المعلم، فيغالبه إن استطاع في وقت التعليم.

فهذه كلها صفات خُلقية تتصل بالعمل في الكتَّاب ووجوب الانصراف إلى التعليم.

وجماع هذه الصفات يندرج تحت عنوان واحد هو واجب المعلم نحو عمله.

هذا الواجب — الذي ينبغي أن يكون — شيء والواقع شيء آخر.

قال صاحب (مفتاح السعادة): «ينبغي أن يكون تعليمه (أي المعلم) لوجه الله تعالى، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رسمًا ولا عادةً، ولا زيادة جاه ولا حرمة، وإنما يريد ابتغاء مرضاة الله، والامتثال لأوامره، والاجتناب عن نواهيه، ويريد نشر العلم، وتكثير الفقهاء، وتقليل الجهلة، وإرشاد عباد الله إلى الحق، ودلالتهم على ما يصلحهم في النشأتين، وإظهار دين الله، وإقامة سنة رسول الله، وتشييد قواعد الإسلام، والتفريق بين الحلال والحرام، ويكون مُخلصًا في ذلك راغبًا في الآخرة.»١٠
وعن شيخ الإسلام أبي زكريا الأنصاري في بيان شروط تعليم العلوم وتعلُّمها: «أن يقصد به ما وُضع ذلك العلم له، فلا يقصد به غير ذلك كاكتساب مال أو جاه أو مغالبة خصم أو مكابرة.»١١
وفي مقدمات ابن رشد: «يجب على طالب العلم ألا يريد بتعلمه الرياء والسمعة ولا غرضًا من أغراض الدنيا.»١٢

وقد فصَّل الغزالي في (الإحياء) و(ميزان العمل) وظائف المُعلم بما لا يخرج عن ذلك. وقد ذكر كثير من الفقهاء قبل ذلك ما ينبغي أن يكون عليه المعلم، وكلهم مجمعون على أن المعلم لا ينبغي أن يطلب سمعة أو جاهًا أو مالًا أو مصلحة.

أما الواقع فيختلف عما ينبغي أن يكون؛ ذلك أن المعلم في القرن الرابع كان يطلب المال ليعيش، أو السمعة ليرتفع قدره، لهذا كان يشتغل عن التعليم بالنظر في كتب العلم، وكتابة الرسائل للناس، وشهود النكاحات والبياعات والصلاة وراء الجنائز وما إلى ذلك.

ولم يكن الحال كذلك في الصدر الأول للإسلام؛ لأن الروح الديني الصادق كان مُتغلغلًا في الصدور، فتيًّا في القلوب، حتى إذا تقدَّمت العصور بالمسلمين شُغلوا كثيرًا بالأمور الدنيوية.

وقد أشار السيوطي كما سبق أن ذكرنا إلى امتناع بعض المشايخ من إعطاء الإجازة إلا بالمال. ولم تُقرَّر هذه العادة إلا في عصر متأخر عن عصر القابسي.

فشخصية العلم الخلقية كانت مُتصلة إذَن اتصالًا وثيقًا بالحالة الاقتصادية السائدة في المجتمع. واختلال الميزان الاقتصادي بين الطبقات الرفيعة والدنيا، هو الذي أدى مع الزمن إلى تحول المُعلمين وغيرهم من أصحاب الصناعات الدينية والعقلية إلى البحث عن المادة، والانصراف عن العِلم الصحيح، والروح الديني الحق.

ولم يكن القابسي مُغاليًا في التطلع نحو المُثل العُليا البعيدة التحقيق، بل أجاز الأجر للمعلم، ووافق على قبوله العطية في الأعياد كما جرَت به العادة.

ولكنه لم يقبل أن تمتدَّ يد المعلم إلى غير أجره المشترط عليه. ولذلك وضع قواعد الجزاء على اشتغال المُعلم عن التعليم.

أما الاشتغال الخفيف الذي لا يؤثر في مصلحة الصبيان فقد أجازه: «مثل الذي يكون في حديثه في مجلسه … فهذا وما أشبهه يَقلُّ خطبه، ويخفُّ قدره، فيتحلل من آباء الصبيان مما أصاب ذلك إن كان الأجر من أموالهم.»

وإن كان الأجر من أموال الصبيان، فلا بأس أن يُعوِّضهم من وقت عادة راحته ما يجبُر لهم ما نقصَهم من حظوظهم باشتغالهم ذلك.

وإن مرض أو عليه شغل: «فهو يستأجر لهم مَنْ يكون فيهم بمِثل كفايته لهم، إذا لم تطُل مدة ذلك. كذلك إن سافر سفرًا قريبًا؛ اليوم واليومين وما أشبههما، يُقيم من يوفيهم كفايته لهم. وكذلك إذا لم يستطع مُغالبة النوم، فليقُم فيهم مَنْ يخلفه عليهم.» ٦٥-أ، ٦٦-أ.

هذا التعويض ملحوظ فيه مصلحة الصبيان، وتقديم المقابل المادي الذي يتناسب مع إخلال المُعلم بواجبه. وميزان المادة أصدق الموازين. وملحوظ فيه الرفق بالمعلم إذا كان عنده عُذر في تخلُّفه عن التعليم، ولا يخلو إنسان عن الأعذار الطارئة والظروف العارضة كالمرض وغيره. وملحوظ فيه احترام شخصية المُعلم، بوضع الأمور في موضعها الصحيح، حتى يكون قدر المعلم محفوظًا مهيبًا.

بهذا تستقيم شخصية المعلم العلمية والدينية والخلقية وتخلو من الشوائب، فلا تؤثر أثرًا سيئًا في نفوس الصبيان الذين يتَّصِل بهم. وصلاح المعلم فيه صلاح الصبيان؛ لأنه القدوة لهم والمثل الأعلى بالنسبة إليهم.

الحقيقة أن شخصية المُعلم في القرن الرابع كانت قوية تبسط ظلها على المجتمع بأسره، خصوصًا في القرى والأقاليم النائية عن العواصم، حيث يعتبره أهل الجهة التي يقوم فيها بالتعليم أكثرهم ثقافةً، وأسماهم منزلةً، وأشدهم معرفةً بالدين.

وسلطة المعلم على الصبيان ظلٌّ لشخصيته.

وقد كانت سلطة المعلم عظيمة القدر كبيرة الأثر، أجازها القابسي للمُعلمين واعترف بها لهم.

والمعلم يستمد هذه السلطة من الوالد، إذ يقوم مقامه، ويحل محله في تربية الأبناء وتثقيفهم: «لأنه هو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عمًا لا يصلح لهم، والقائم بإكراههم على مِثل منافعهم، فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حُسن رفقِه بهم، ولا من رحمته إيَّاهم، فإنما هو لهم عِوض من آبائهم.» ٥٤-أ.

وجميع المُربِّين في الإسلام ينظرون إلى المعلم هذه النظرة الروحية. قال صاحب (مفتاح السعادة) عند الكلام على الوظيفة الثانية للمعلم: «أن يجري المتعلم منه مجرى بنيه.»١٣
والوظيفة الأولى للمعلم المُرشد عند الغزالي هي الشفقة على المُتعلمين وأن يُجريهم مجرى بنيه.١٤

فإذا تقرَّرت السلطة للمعلم فهو مسئول عن الصبيان؛ لأنه لا مسئولية لمن لا سلطة له، فالمعلم صاحب سلطة وصاحب مسئولية، ويجب عليه حسن رعاية الصبيان لأن: «نظره فيمن التزم النظر له من الصبيان رعاية يدخل بها في قول الرسول: «كلكم راعٍ وكل راعٍ مسئول عن رعيته».» ٥٣-أ.

والقابسي حين يُقرر للمُعلم هذه السلطة العظيمة التي تساوي في مقدارها سلطة الوالد، إنما يرمي إلى فائدة الصبيان أنفسهم، من جهة ثقافتهم العقلية، ورياضتهم الخلقية؛ لأن المُعلم إذا شعر بنقصٍ في سلطته عجز عن حكم الصبيان، وخرجوا على طاعته، وامتنع عليه أن يدفعهم إلى الامتثال لأمره. أما إذا باشر السلطة الكاملة التامة فإنه يأمر فيطاع، وينصح فيسمع.

ولا يستطيع المُعلم أن يعتذر عن فساد النتيجة في التعليم والتأديب بنقص سلطته، فهو مسئول عن صبيانه في تحصيلهم للدرس وسلوكهم المهذب.

ولهذا صح عقاب المعلم ومحاسبته على أعماله لأنه يتحمل المسئولية المُستمدة من السلطة.

فإذا نقص حذق الصبي حتى ينتهي إلى ما يُسمى تعلمًا، في إجادته ومعرفته بالشكل والهجاء والنظر في المصحف، ويُملي على الصبي فلا يتهجَّى، ويرى الحروف فلا يضبطها ولا يستمر في قراءتها، فإن هذا المعلم يُعتبر مُفرِّطًا إذا كان يُحسن التعليم، ومُغرِّرًا إذا كان لا يُحسن التعليم.

وهو مسئول سواء فرَّط أو غرَّر.

ثم ذكر القابسي آراء العلماء في مثل هذا المعلم فقال: «إنه يستأهل الأدب لتفريطه فيما وَلِيَه، وتهاونه بما التزمه، وأن يُمنع من التعليم. وهو صواب إذا كان شأنه التفريط أو الغرور بتعليمه وهو لا يحسن.»

ورأي بعضهم «أن مثل هذا المُعلم يستأهل اللوم والتعنيف والغلظة والتأنيب من الإمام العدل.» ٧٢-أ.

فالقابسي لا يتهاون مع المعلم المقصر في أداء واجباته، ويفرض عليه جزاءً أدبيًّا وماديًّا، قد يصِل من الشدة إلى درجة منع المعلم من التعليم. والجزاء المادي يتصل بنقص أجر المُعلم المتفق عليه أو عدم دفعه، فإذا أُخرج الصبي من عند مُعلم إلى معلمٍ آخر ولم ينَلْ عند الأول «من التعليم شيئًا له منفعة.» فالجُعل كله للثاني، وقَلَّ ما يناله الأول.

ومسئولية المعلم ظاهرة أيضًا في العقوبات التي يوقعها على الصبيان إذا خرجت على الحدود المشروعة.

فهو مسئول عن الألفاظ القبيحة التي تصدُر عنه في ساعة الغضب، ويجب عليه الاستغفار عنها والاستعاذة منها.

وإذا تعدَّى المعلم في ضربه: «فهذا إنما يقع من المعلم الجافي الجاهل.» وفي وصف المعلم بالجفاء والجهل كفاية في عقابه على قسوته وخروجه على الحدود.

ومسئولية المعلم شديدة إذا أدى الضرب إلى إلحاق الضرر بالصبي، وقد نظر الفقهاء في مثل هذه الأحوال، ووضعوا العقوبة التي تُفرَض على المعلم في كل حالةٍ منها.

سُئل مالك عن معلم لو ضرب صبيًّا ففقأ عينه أو كسر يده، فقال: إنْ ضربه بالدِّرَّة على الأدب، وأصابه بعودها فكسر يده أو فقأ عينه، فالدية على العاقلة إذا فعل ما يجوز.

فإن مات الصبي فالدية على العاقلة بالقسامة، وعليه الكفارة.

فإن ضربه باللوح أو بعصًا فقتلَه، فعليه القصاص؛ لأنه لم يُؤذَن له أن يضربه بعصًا ولا بلوح.

فسلطة المعلم تُبسَط على الصبيان في تعليمهم وفي تأديبهم. وهو مسئول عن حُسن تعليمهم وكمال تأديبهم؛ لهذا مُنح المعلم حرية، إلا تكن مُطلقة، فهي حرية واسعة.

وتقييد حرية المعلم ينشأ من جهاتٍ كثيرة.

فهو مُقيد بالمناهج الموضوعة لا يستطيع أن يتركها إلى غيرها. بل لقد نصَّ الفقهاء على إبعاد بعض المواد من المنهج والنهي عن تدريسها، كالشِّعر الذي يكون فيه الهجاء أو العزل.

وهو مُقيد في التأديب بشروط إذا تجاوزها أصبح مسئولا، ويُحاسب على ذلك حسابًا أدبيًّا وماديًّا.

فليس له أن يضرب إلا بالدِّرَّة لتكون رطبةً مأمونة، فإذا ضرب بعصًا أو بغير ذلك كان مسئولا. وحدُّ الضرب ثلاث ضربات، وإذا أراد أن يزيد عليها فعليه أن يستشير ولي أمر الصبي وأن يستأذنه في زيادة الضرب.

والقيد الشديد هو استشارة أولياء أمور الصبيان والرجوع إليهم. ذلك أن المعلم يستمدُّ سلطته من آباء الصبيان، ولهؤلاء أن يستردُّوا هذه السلطة إذا شاءوا. وقد أوجب القابسي على المعلم أن يرجع إلى ولي أمر الصبي في أمورٍ كثيرة تخصُّ عمله وحضوره إلى الكُتَّاب وغيابه عنه، وإدمانه البطالة، وعقابه، إلى غير ذلك من الشئون التي تعرض للصبيان في الكتاتيب.

واستشارة أولياء الأمور، وإبلاغهم أحوال أبنائهم في دراستهم وأخلاقهم يدل على التعاون الواجب بين البيت والمدرسة، وفي هذا التعاون فوائد كثيرة تعود على التلميذ بالخير.

مثال ذلك أن الصبي إذا هرب من الكُتَّاب وتعوَّد البطالة، فإن المعلم إذا سأله عن علة غيابه أخبرَه أنه في البيت، على حين يعتقد أبوه أنه موجود في الكُتَّاب، والحقيقة أنه لا يُوجَد في البيت، ولا في الكُتَّاب، بل يلهو ويعبَث ويلعب في الأزقة والشوارع. فإذا بادر المُعلم بإخبار الآباء عن غياب أبنائهم عرف هؤلاء ما يعمل الصبيان فيعاقبونهم ويردعونهم ويعملون على التزامهم الذهاب إلى الكُتَّاب.

وفي حالة الصبي الأبله الذي لا يستفيد من الدرس «ولا يحفظ ما عُلِّمَ، ولا يضبط ما فُهِّمَ.» على المعلم أن يُعرِّف الآباء بمكان هذا الصبي من فقد الفهم. فإذا رضي الوالد أن يترك ابنه في الكُتَّاب، فإنه يدفع الأجر على حيازته لا على تعليمه.

ولا شك أن الصبيان في حاجةٍ إلى الرقابة؛ لأن سِنَّهم الصغيرة لا تسمح بالحرية المُطلقة التي يشعر فيها الإنسان بالمسئولية ويحمل تبعاتها. والرقابة الدقيقة يجب أن تصدر عن البيت والكُتَّاب معًا، حتى لا يجد الصبي ثغرةً ينفذ منها إلى الإهمال في الحفظ، والإقبال على العبث، فتضيع الفائدة المنشودة.

فالمعلم مسئول عن التلاميذ أمام أولياء أمورهم.

وتقع عليه هذه المسئولية لأنه يتناول أجرًا على قيامه بالتعليم، فينبغي أن يُوفِّي عمله مقابل ما يأخذ من أجر.

(٣) أجر المعلم

وقضية أجر المعلم من القضايا التي دار حولها النزاع خلال العصور المُتعاقبة، واختلف المفكرون والفلاسفة وأهل الرأي في قَبول المعلم الأجر أو عدم قبوله.

وأشهر مَن امتنع عن تناول الأجر سقراط الفيلسوف اليوناني.

عاش سقراط في عصر السفسطائيين، وهم طائفة من المُعلمين كانوا يعلمون الشباب البلاغة والبيان والجدل والفلسفة ويتناولون أجورًا على دروسهم؛ وخالفهم سقراط فكان يُعلِّم الشباب ولا يأخذ أجرًا. وكان يُعلِّم في كل مكان وُجد فيه، في الأروقة والشوارع والميادين والطرقات.

وهناك أسباب فلسفية على أساسها امتنع سقراط عن أخذ الأجر، ذلك أن الفضيلة يستمدُّها صاحبها من النفس، ويستطيع أن يصِل إلى ذلك العلم بالتأمُّل، ولا يمكن أن تُعلَّم الفضائل، فلا يستحق المعلم بناء على ذلك أجرًا.

ولا شك أن سلطان المُعلم على تلميذه يكون أقوى وأكثر إيحاءً، ويكون التلميذ أدنى إلى قبول آراء المُعلم إذا عفَّ عن أخذ الأجر؛ إذ تكون الصلة بينهما روحية معنوية، لا تدخُل المادة في علاقة بعضها ببعض فتُفسدها.

ومن المعروف أن تعليم القرآن والدين في صدر الإسلام كان تطوعًا، وهكذا ذكر القابسي في رسالته. ولمَّا انتشر الإسلام، وأصبح من العسير وجود مَنْ يُعلم للمسلمين أولادهم «ويحبس نفسه عليهم ويترك التماس معايشه.» «صلح للمُسلمين أن يستأجروا من يكفيهم تعليم أولادهم، ويلازِمهم لهم.»

فالأجر إذَنْ ضروري في نظر القابسي، ووجه الضرورة: «أنه لو اعتمد الناس على التطوُّع، لضاع كثير من الصبيان ولمَا تعلَّم القرآن كثير من الناس، فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية التي تثبت أطفال المسلمين على الجهالة.» ٣٣-أ.

والروح الذي دفع المسلمين في صدر الإسلام إلى القيام بتعليم القرآن والكتابة تطوُّعًا، هو ذلك الروح الديني الذي استغرق النفوس، فملأ القلوب وعمَّرَها بالإيمان، مما أدى إلى هذه الفتوحات العظيمة في التاريخ، والتي لا يمكن تفسيرها إلا بقوة الإيمان وشدة اليقين.

فلمَّا استقرَّ المسلمون في الممالك التي فتحوها وتحوَّل أهلها إلى الإسلام، واطمأنَّت النظم الإسلامية، وركد الروح الأول الدافع إلى الفتح والغزو ونشر الدين وتحويل الأمم إلى الإسلام، اضطُر المسلمون إلى تنظيم أمر التعليم الذي يخص أبناءهم فنشأت الكتاتيب، وظهرت مع ظهورها الحاجة إلى تحديد العلاقة بين المُعلم والتلميذ، وبين المُعلم والنظام المدرسي والعلوم التي يقوم بتدريسها.

وأهم هذه العلوم: القرآن، فهو المحور الذي يدور عليه التعليم في الكُتَّاب، وهو السبيل في ظهور الكتاتيب، وهو همزة الوصل بين المُعلم والتلميذ.

ثم برزت مُشكلتان: الأولى أخذ الأجر على تعليم القرآن، وهل يجوز ذلك أو لا يجوز. والثانية قبول المُعلم الأجر على علومٍ أخرى غير القرآن.

وهنا نرى أن قضية أجر المُعلم عند المسلمين تختلف عن مثلها عند سقراط؛ فقد آثر سقراط الامتناع عن تناول الأجر لغايةٍ خلقية وإنسانية وروحية، فعنده أن الوصول إلى الحقيقة، ثم نشرها وإذاعتها بين الناس لا يتم على الوجه الصحيح الذي نصِل فيه إلى الحقيقة الخالصة، إلا إذا ابتعد المُعلمون عن شوائب المادة.

أما المسلمون فلم يكن همُّهم الوصول إلى الحقيقة والبحث عنها؛ لأن القرآن كتاب الله المُنزَّل على عباده فيه جماع الحقائق وغاية المعارف. ومَنْ أراد الوصول إلى الحق فليحفَظ القرآن ويَعِ ما فيه. فهل يؤجَر مَنْ يُعلِّم القرآن؟

فمسألة الأجر نشأت عن علةٍ دينية وعن تعليم القرآن بالذات.

وقد اختلف الفقهاء فيما بينهم على أخذ الأجر على تعليم القرآن. ولكل فقيهٍ وجهة نظر يعتمد عليها في الحكم. وقد كانت هذه المسألة موضع خلافٍ شديد؛ لأنها تمسُّ القرآن وهو أقدس الأشياء عند المسلمين، ولهذا السبب أفاض القابسي في عرض وجهات النظر المُختلفة وانتهى إلى ترجيح رأي القائلين بجواز أجر المعلم.

والذين يكرهون أخذ الأجر على تعليم القرآن يعتمدون على حُججٍ ثلاث:
  • الأولى: «أن القرآن يُعلَّم لله، فلا ينبغي أن يُؤخَذ عنه عِوض.» وهذه الحجة دينية تُطالب المعلمين أن يُعلموا في سبيل الله.
  • والثانية: «أن أئمة المسلمين في صدر الأمة، ما فيهم إلا مَنْ قد نظر في جميع أمور المسلمين بما يُصلحهم في الخاصة والعامة، فلم يَبلُغنا أن أحدًا منهم أقام معلمين يُعلمون للناس أولادهم من صغرهم في الكتاتيب، ويجعلون لهم على ذلك نصيبًا من مال الله.» ٣٢-ب.

    وهذه حجة تعتمد على التقاليد الموروثة، وعلى العادات التي كانت تصدر عن السلف الصالح. وأعمال أئمة المسلمين حجة على غيرهم وأصل من أصول الدين.

    وعلى هاتَين الحُجَّتَين اعتمد الغزالي في تحريم الأجر حيث قال في الوظيفة الثانية للمعلم المرشد: «أن يقتدي بصاحب الشرع فلا يطلُب على إفادة العلم أجرًا، ولا يقصد به جزاءً ولا شكورًا، بل يُعلِّم لوجه الله تعالى وطلبًا للتقرُّب إليه، ولا يرى لنفسه مِنَّةً عليهم، وإن كانت المنَّة لازمة لهم.» إلى أن قال: «فانظر كيف انتهى أمر الدين إلى قومٍ يزعمون أن مقصودهم التقرُّب إلى الله تعالى بما هم فيه من عِلم الفقه والكلام، والتدريس فيهما وفي غيرهما، فإنهم يبذلون المال والجاه ويتحمَّلون صفات الذل في خدمة السلاطين لاستطلاق الجرايات … فأخسِسْ بعالِمٍ يرضى لنفسه بهذه المنزلة، ثم يفرح بها، ثم لا يستحي من أن يقول غرَضي من التدريس نشر العلم تقرُّبًا إلى الله تعالى ونُصرةً لدينه.»١٥
  • والحجة الثالثة: حديث القوس الذي يُنسَب إلى الرسول عليه السلام. وسنة الرسول هي الأصل الثاني من أصول الفقه بعد كتاب الله.

ونذكر هذا الحديث لأهميته كما جاء في رسالة القابسي: «عن عبادةَ بن الصامت: علَّمتُ ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى لي رجل منهم قوسًا. فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. لآتين رسول الله فلأسألنَّه. فأتيته فقلت: يا رسول الله رجل أهدى لي قوسًا ممَّن كنت أُعلِّمه الكتاب؛ القرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. فقال: إن كنتَ تُحب أن تكون طوقًا من النار فاقبَلْها.» ٣٩-أ.

ويُعلِّق ابن حبيب على هذا الحديث بقوله: «وتأويل هذا النهي أن ذلك كان في مبتدأ الإسلام، وحين كان القرآن قليلًا في صدور الرجال، غير فاشٍ ولا مُستفيض في الناس. وكان الأخذ على تعليمه يومئذٍ، وفي تلك الحال، إنما كان ثمنًا للقرآن. أما بعد أن صار فاشيًا في الناس، قد أثبتوه في المصاحب، وصارت المصاحف وما فيها مُباحة للجاهل والعالِم، وللقارئ وغير القارئ، غير محجوبة ولا ممنوعة، ولا مطلوبة إلى قومٍ دون قوم، ولا مخصوص بها قوم دون غيرهم، فإنما الإجارة على تعليمه إجارة البدَن المُشتغِل بذلك، وليس ثمنًا للقرآن.» ٣٩-ب.

وبهذا أخرج ابن حبيب المسألة من الأجر على القرآن إلى الأجر على الاشتغال بالتعليم، فتحلَّل من القرآن بأن يكون الأجر ثمنًا للقرآن.

وهذا تحليل غريب في بابه؛ لأنه مع افتراض أن الأجر الذي يتناوله المُعلم إنما يأخذه عِوضًا عن الوقت الذي يشغله، والمجهود الذي يبذله، فإن هذا لا يعني أن الشيء الذي يُعلمه هو القرآن، وأنه هو الأصل في التعليم.

أما القابسي فإنه يجعل لحيازة الصبي في الكُتَّاب أجرًا، ولتعليمه أجرًا آخر، وذلك كما قال عن المعلم الذي يحفظ الصبيَّ الأبله الذي لا يستفيد، ويأخذ أجرًا على حَوْزه لا على تعليمه. فإجارة البدن المُشتغل بالتعليم من الأمور المُتَّفَق عليها، ويبقى أجر القرآن والتعليم.

وقد وقف القابسي من حديث القَوس موقفًا يختلف عن موقف ابن حبيب، ذلك أنه لم يقبَل الحديث ويعمل على تخريجه وتأويله ذلك التخريج الغريب الذي رأيناه، ولكنه شكَّ في صحة الحديث فقال: «ولو ثبتت صِحة نقل حديث القوس على ما ذكر.» ٣٩-أ.

وشكَّ القرطبي أيضًا في حديث القوس فقال: «وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المُغيرة بن زيادة المَوصلي عن عبادة بن نسي، عن الأسود بن ثعلبة عنه؛ والمغيرة معروف بحمْل العلم، ولكن له مَناكير هذا منها. قاله أبو عمر عبد البر. ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العِلم، لكنه عن عبادة من وجهَين؛ ورُويَ عن أُبَي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أُبي، وهو منقطع، وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل.»١٦

والذين يجيزون الأجر يعتمدون على أحاديث الرسول أيضًا. منها حديث «أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله.» وفي حديث الرقية: «أن بعض أصحاب النبي رقَوا ملدوغًا بالقرآن واشترطوا جُعلًا، وسألوا النبي في ذلك فقال: «اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا.» فالحديث يُجيز أخذ الإجارة على كتاب الله ممَّن ينتفع به.» ٣٦٠-ب.

إنما الأجر المعيب أن يكون للتكسُّب بالقرآن كما في الحديث: «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تُراءوا به، ولا تسمعوا به.»

هذا ولا يرى أئمة المسلمين بأسًا بأخْذ الإجارة على التعليم. وقد جرى المسلمون على ذلك وأجازوه، «وذكروا ذلك عن عطاء بن رباح، وعن الحسن البصري، وعن غير واحدٍ من الأئمة الصالحين.» ٣٤-ب.

وهذا يدحض حُجة القائلين بعدَم جواز أخْذ الأجر اعتمادًا على ما كان يعمل السلف الصالح.

عن مالك: «كل مَنْ أدركتُ من أهل العلم لا يرى بأجْر المُعلمين — مُعلِّمي الكُتَّاب — بأسًا.»

وعن ابن وهب في مُوطَّئه: «سمعتُ مالكًا يقول: لا بأس بأخذ الأجر على تعليم القرآن والكتابة.»

«وفي المُدوَّنة أن سعد بن أبي وقاص قدم برجل من أهل العراق، وكان يُعلِّم أبناءهم الكتابة والقرآن بالمدينة، ويُعطونه على ذلك الأجرة.»

وعن مالك: «لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشتراط شيئًا كان حلالًا له جائزًا.»

وبذلك حلَّ القابسي مشكلة أخذ الأجر على تعليم القرآن، وأجاز ذلك كما أجازه جميع أئمة المذهب المالكي.

وبقِيَت المشكلة الثانية وهي أخذ الأجرة على تعليم غير القرآن؛ فهي موضع خلافٍ بين فقهاء المالكية.

ذلك أن مالكًا لا يُجيز الأجر على غير القرآن والكتابة، حيث أجاب عن أجر الشِّعر كما يأتي: «أما الاستئجار على تعليم الشِّعر لولده فقال فيه ابن القاسم، قال مالك: لا يُعجبني هذا.» ٤٣-أ.

وسحنون من رأي مالك وابن القاسم ٤٤-ب.

أما ابن حبيب فقال: «لا بأس بإجارة المُعلم على تعليم الشِّعر والنحو والرسائل وأيام العرب وما أشبه ذلك من عِلم الرجال وذوي المروءات.» ٤٤-ب.

وإذا علِمنا أن ابن حبيب كان فقيه الأندلس، فليس لنا أن نعجَب إذا أجاز تعليم الشِّعر وأخْذ الأجرة عليه، فالأندلس بيئة الجمال والفن والشِّعر.

ويرى القابسي أن وجه الخلاف في الأجر عند الفقهاء: «إنما هو في إفراد المُعلم بالإجارة على غير القرآن والكتابة. فأما ما كان من معاني التقوية على القرآن من الكتابة والخط فما اختلفوا فيه.» ٤٣-أ.

وهذا يدلنا على حقيقتَين: الأولى الحث على تعليم القرآن ولهذا أجازوا الأجر، والثانية منع تعليم شيء غير القرآن، حتى لا ينصرف الناس إلى هذه العلوم عن القرآن نفسه. ولهذا السبب نصح القابسي بالاقتصاد في تعليم الشِّعر حتى: «لا يغلِب الشِّعر على الإنسان فيصدَّه عن ذكر الله والقرآن.» ٤٦-أ.

فالقرآن هو الهدف الأول والأخير من التعليم، وفي سبيل تعليمه ونشره أجازوا أخذ الأجرة.

وقد لخَّص السيوطي في (الإتقان) الكلام في الأجر فقال: «أما أخذ الأجرة على التعليم فجائز. ففي البخاري: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله».» وقيل إن تعيَّن لم يَجُزْ، واختاره الحليمي. وقيل لا يجوز مُطلقًا لحديث أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه: علَّم رجلًا من أهل الصفَّة القرآن فأهدى له قوسًا، فقال له النبي إن سرَّك أن تُطوَّق به طوقًا من نارٍ فاقبلها.

وفي (البستان) لأبي الليث: «التعليم على ثلاثة أوجه، أحدُها للحسبة ولا يأخذ به عوضًا؛ والثاني أن يُعلم بالأجرة؛ والثالث أن يُعلم بغير شرط فإن أُهدِيَ إليه قبل. فالأول مأجور وعليه عمل الأنبياء، والثاني مُختلَف فيه والأرجح الجواز، والثالث يجوز إجماعًا لأن النبي كان معلمًا للخلق وكان يقبل الهدية.»١٧
ولخَّص طاش كبري زاده آراء الفقهاء الذين أجازوا أخذ الأجرة على التعليم، ثم قال: «وقيل لا يجوز مُطلقًا وهو مذهب أبي حنيفة. إلا أن المتأخِّرين من أصحابه قالوا لا بأس في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وللتدريس، لظهور التواني والتكاسل في هذا الزمان. ولو منع ذلك لانسدَّ الباب.»١٨

وهذا هو رأي القابسي في جواز أخذ الأجرة على التعليم لضرورة تعليم القرآن، حتى لا يضيع من الصدور فينشأ أبناء المسلمين على الجهالة.

ويرى خليل طوطح: «أن كبار الأئمة أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن. وإن أجازوه على تعليم القرآن، فلا رَيب أنهم لم يُحرِّموا على تعليم بقية المواضيع المدرسية.»١٩

وقد كان الأجر على غير القرآن موضع خلافٍ بين الفقهاء كما رأينا، ولذلك كان إطلاق القضية على النحو الذي ذكرَه طوطح في كتابه غير صحيح.

وقد وضع القابسي قواعد الشرط بين المُعلم وآباء الصبيان على الأجر، حتى لا يقع الخلاف بينهم.

ويختلف الشرط على التعليم باختلاف البلاد وعاداتها. وقد أجاز الفُقهاء جميع الأحوال الخاصة بالشرط على الأجر، فقد يكون مُشاهَرَة أو مُساناة أو بأجلٍ مُعيَّن.

وقد تكون الأجرة على أجزاء القرآن التي يستكمل الصبي حِفظها، وذلك حسب عادة البلد، واشتهار أداء الناس في ذلك، مثل الجُعل في لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا (البينة) وفي عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (النبأ) وتَبَارَكَ (الملك) وإِنَّا فَتَحْنَا (الفتح) و«الصَّافَّاتِ» و«الْكَهْفِ» ٧٣-أ.

ولا بأس بالأجر عن سورةٍ واحدة. «جاء رجل إلى مالك قال: علَّمْت رجلًا سورة بالأجر. قال: لا بأس.» ٧١-أ.

وإذا كان الأجر المُتفَق عليه بحذقة جزءًا مُعينًا من القرآن، فلا يجوز التوقيت بأجَلٍ مُسمى؛ «إذ يُخشى أن يُوقِّت وقتًا ضيقًا لا يبلُغ الصبي حذقة ما اشترط تعلُّمه.»

فإذا انتهى الأجل ولم يكن الصبي قد استكمل الحذقة: «فيكون له أجر مِثله فيما علمه في تلك السنة.» ٥١-ب.

ويأخذ المُعلم أجر الختمة زيادةً على أجر التعليم المُشترَط عليه. والختمة في الأصل أن يستكمل الصبي حفظ القرآن. وقد جرَتِ العادة بدفع أجر الختم. قال مالك: «وحق الختمة واجب؛ اشترطها المُعلم أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدنا.» ٤٧-أ.

ومقاربة الختمة عند سحنون إذا بلغ الثُّلثَين أو جاوز ذلك. وقيل عند الثلاثة أرباع أبين: «وعنده أنه إذا لم يبلغ إلا لسورة يونس أنه لا يُقضى له بشيء.» ٧٥-أ.

وتجب الختمة في حالتَين، ولا يُقضى بها في حالة:
  • (١)

    أن يستظهر الصبي القرآن حفظًا من أوله إلى آخره، وقدْر ما فهمه والصبي ممَّا علَّمَه المُعلم ٧٠-أ.

  • (٢)

    أن يكون الصبي استكمل قراءة القرآن في المصحف نظرًا، لا يخفى عليه شيء من حروفه مع ما فهمه الصبي مما ينضاف إلى ذلك من ضبط الهجاء والشكل وحُسن الخط ٧١-أ.

  • (٣)

    إن كان الصبي لم يتعلَّم، يُملى عليه فلا يتهجَّى، ويرى الحروف فلا يضبطها فلا يستحق المُعلم شيئًا إلا إذا كان الصبي أبله.

وإذا تعلَّم الصبي عند مُعلمٍ بعضَ القرآن، ثم خرج من عنده إلى مُعلم آخر يستكمل عنده الختمة، فالأجر يكون بينهما بمِقدار ما علَّم كل منهما نصفًا ونصفًا، أو ثلثًا وثلثَين، أو ربعًا وثلاثة أرباع.

فإذا كان المعلم الأول قد بلغ من تعليم الصبي إلى مقاربة الختمة نظرًا أو استظهارًا، حتى بلغ من الحذقة في ذلك إلى الاستغناء عن المُعلم، وكان خروجه إلى الثاني لا يريد علمًا في تعليمه إلا أن يكون له شيء في إمساكه وحياطته للصبي، فالجُعل كله للأول أو ينقص منه قليل ٨٥-أ.

أما إذا تعلَّم الصبي عند الأول، ثم أُخرج من عنده، ولم ينَلْ من التعليم شيئًا له فيه منفعة، لعِوَج قراءته في سورةٍ يسيرة تعلَّمها، ولا خطَّ ولا هجاء، فالجُعل كله للثاني، وقَلَّ ما يناله الأول … ٨٥-ب.

وأما سحنون فقال: «إن عَلَّمَه الأول إلى يونس فالختمة للثاني، وإن جاوز ذلك إلى ثلثَين أو زاد على ثُلثَين لم يُقضَ للثاني بشيء.»

وتُفسَخ الإجارة إن مات المُعلم أو مات الصبي أو مات أبو الصبي.

فإن مات المُعلم، فهو يستأجِر من ماله مَنْ يعلم مكانه، وله من الإجارة بحسب ما علَّم من الأجل ٧٨-أ.

وإذا مات الصبي، فللمُعلم من الإجارة بحسب ما علَّم.

وإن مات الصبي، يأخُذ المُعلم من تركة الميت إن كان للصبي مال ورِثَه، وإن لم يكن له مال، فللمُعلم أن يفسخ الإجارة إلا أن يشاء أن يتطوَّع ٨٧-ب.

وإذا نزل بقوم ما يضطرُّهم إلى الرحيل، فرحل بعضهم إلى مكان وبعضهم إلى مكان آخر، أو رحل بعضهم وثبت بعضهم في البلدة فالحُكم في الأجر يكون كما يأتي:
  • (١)

    إذا كان قد عاقدهم على المُشاهرة شهرًا بشهر أو سنة بسنة، فالحُكم فيه أن يتركوه متى شاءوا، ويترك تعليمهم متى شاء. والحُكم بينهم فيما قد علَّم لهم.

  • (٢)

    إن كان قد عاقدهم على سنةٍ بعينها أو أشهر بأعيانها، ورحلوا مُضطرين فليس عليه أن يتبعهم في السفر، بل ينتظر عودتهم ويكمل باقي مدة التعليم ٨٨-ب.

  • (٣)

    إن كان رحيلهم طوعًا، فليس لهم أن ينقُصوا إجارته ٧٦-ب.

وشركة المُعلِّمَيْن أو أكثر جائزة، إذا كانوا في مكان واحد لسببَين:

الأول: «لأن لهم في ذلك ترافقًا وتعاونًا.» والثاني: «أن يمرض بعضهم، فيكون السالِم مكانه حتى يفيق.» ٦٨-أ.

ويشترط مالك في شركة المُعلِّمَين أن يستوي علمهما، فلا يكون لأحدهما فضل على صاحبه في علمه. فإن كان أحدهما أعلم من صاحبه، فإنه يتناول أجرًا أكثر من الأقل علمًا.

ولا تصح الشركة على مذهب ابن القاسم، إذا استؤجر أحدهما لتعليم النحو والشِّعر والحساب وما أشبه واستؤجر الآخر لتعليم القرآن والكتابة. وهذا هو مذهب مَنْ يكره الإجارة على تعليم غير القرآن والكتابة ٦٩-أ.

والمعلم هو الذي يَستأجِر مكان الكُتَّاب، بيتًا كان أو حانوتًا.

أما إذا استؤجر المعلم على صبيان معلومين سنة معلومة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المعلم لأنهم هم أتوا بالمُعلم إليهم وأقعدوه لصبيانهم ٦٦-ب.

وإذا أراد المعلم الانتقال بالكتاب إلى موضعٍ آخر، فإن كان المكان الجديد لا مضرَّة فيه على الآتين منه، ولا مشقَّة ولا خوف على الصبيان، فلا مانع من الانتقال.

فإن كان فيه مضرَّة على واحد منهم فليس للمعلم أن ينتقل من مكانٍ على التعليم فيه وقعت الإجارة ٨٧-أ.

بهذا نرى أن القابسي فصَّل الأحوال المختلفة التي تعرِض لعلاقة المعلم بالتلميذ من ناحية الأجر، وحكَم في كل منها حكمًا يستند إلى الحق والشرع والمصلحة، حتى يسوَّى النزاع بين المُعلمين وآباء الصبيان، لتستقرَّ الأمور وتجري في مجراها السليم.

وفي الحكم بالأجر إنصاف للمُعلمين، وإنصاف للجمهور، وإنصاف للتعليم نفسه.

فالقابسي ينظر إلى الواقع، ولا يتطلَّب المُثل العليا العسيرة المثال.

فهو يريد مُعلمًا ورِعًا تقيًّا، مُخلصًا في عمله وفي دينه وفي سلوكه، يقوم من التلاميذ مقام الوالد من الولد، فيأخذ الصبيان بالشفقة والرحمة، والسياسة والحكمة، ويبصرهم أحوال دينهم، ويحفظهم كتاب الله وسنة رسوله، حفظًا للدين من الضياع. ولم يضنَّ القابسي على المعلم في سبيل ذلك بالأجر لحفظ المعاش، والكسب الضروري للحياة.

١  البيان والتبيين، ج٢، ص٥٣.
٢  الجاحظ: البيان والتبيين، ج١، ص٢٠٨.
٣  البيان والتبيين، ج١، ص٢٠٨.
٤  التربية عند العرب، ص٣٨، ٣٩.
٥  الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج١، ص١٧٨.
٦  الإتقان، ج١، ص١٧٨.
٧  آداب المُعلمين لابن سحنون، ص٥١.
٨  معالم الإيمان، ج١، ص٢٢٨.
٩  رياض النفوس للمالكي، مخطوط، نقل عنه الأستاذ حسن حسين عبد الوهاب في مقدمته لكتاب آداب المُعلمين لابن سحنون. [وقد طبع منه الجزء الأول سنة ١٩٥١م، حسين مؤنس].
١٠  مفتاح السعادة، طاش كبري زاده، ج١، ص٣٣.
١١  اللؤلؤ النظيم للأنصاري.
١٢  مقدمات ابن رشد، ص١٦.
١٣  مفتاح السعادة، طاش كبري زاده، ج١، ص٣٤.
١٤  إحياء علوم الدين للغزالي، ج١، ص٤٩.
١٥  الإحياء للغزالي، ج١، ص٤٩، ٥٠.
١٦  كتاب التذكار في أفضل الأذكار، لمحمد بن أحمد القرطبي المفسر المتوفَّى سنة ٦٧١ﻫ ص١٠٦.
١٧  الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج١، ص١٧٨.
١٨  مفتاح السعادة، ج٢، ص٢٦١.
١٩  التربية عند العرب: خليل طوطح، ص٤٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤