أسس النهضة

وبعد الأوبة إلى الحجاز، كان الشريف يضع أسس النهضة. ولقد كانت الأوبة من عسير بسبب الخلاف الذي قام بينه وبين القائد والمتصرف سليمان باشا؛ فإن الباشا المذكور قال إنه لا يستطيع الائتمار بما يشير إليه الأمير، لأنه لم يتلق من الباب العالي أي أمر بهذا؛ وقال إن العساكر النظامية التي وصلت مع الشريف واللواء مصطفى نشأت باشا، يجب أن تكون تحت أمره، إلى أن تأتي الإشارة من الباب العالي موضحة الحقيقة.

فعلى هذا، ولما رأى بعينه من مثلة في قتلى العرب، ومن أفعال جبارة وقعت من الجيش العثماني وقواده؛ ترك أبهى وعاد إلى الحجاز بالقوات الهاشمية، عن طريق الشرق، حيث مرَّ بوادي شهران ووادي بيشة، وقد ترك رنية إلى الشرق وسار مع أعلى حرة تربة، ونزل وادي كرى. وبناحية الشرق من هذا الوادي، تكون قرية تربة، وقصر رمادان الذي أبيدت فيه القوى المصرية في حركة الوهابية الأولى، ثم بها وقعت الهزيمة على الجيش الشرقي الهاشمي الذي كنت أقوده بذاتي يوم تربة.

ثم توجه إلى وادي كرى، وقد ترك ديار غامد البدو إلى يساره. ثم أصحر عندما بلغ جنوب ركبة في الخمرة، وهو ماء على حد سهل من جبل، حيث تلتقي حدود ابن الحارث وغامد وعتيبة. وبذلك المحل جاء المستقبلون من الطائف ومعهم الشريفان عبدالله بن زيد بن فواز وشرف بن راجح بن فواز، وجاء من الخرمة خالد بن لؤي، الخارج على قومه أخيرًا، وغالب بن لؤي، ورؤساء العشائر بأجمعهم. ثم توجه مغربًا إلى الطائف، فمر بوادي النفعة، وهو واد به النخل الكثير الفاخر. ثم مضى في طريقه، مارًّا بوادي ليَّة، وبها قدم (مكتوبي الولاية الكاتب الأول) موفدًا من الوالي، والميرالآي أحمد بك موفدًا من الكومندان منير باشا. وكان المكتوبي أسرَّ إليه — أي إلى الأمير — بأنَّ الشريف ناصر بن محسن — أحد ذوي غالب — أشاع الهزيمة عن الجيش العثماني والشريف، وأنه يقال إن الشريف قد قتل، إلى غير هذا من الإرجاف.

ولما وصل إلى الطائف، في اليوم الثاني، وإذا في مضارب المستقبلين هيئة الحكومة، ومعهم ناصر بن محسن هذا؛ فلما رآه أمر بإخراجه إخراجًا عنيفًا، فقال الوالي: عفوًا يا سيدي فإنه قد جاء معي. فقال: وإن كان قد جاء معك؟! فقال الوالي: أنا ممثل السلطان، وهذه المعاملة تحقير للسلطان نفسه. فأجاب على الفور: هل تركتم ناحية من السلطان لم تحقروها؟ أنا ممثل السلطان هنا لا أنتم. ثم التفت إلى قاضي مكة وإلى القومندان منير باشا، فسأل عنهما، ثم فتش الجند وركب إلى دار الإمارة. وقد التفت إلينا، وهو يصعد الدرج وهو يقول: ربما أن ما فعلته لم يرقكم. فلم يجب أحد بكلمة. فقال: أنا عالم بما لا تحبون، ولا ضير، فعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم.

وبعد ثلاثة أيام وردت برقية من الصدر الأعظم يقول فيها:

لقد بلغت المسامع السنية المعاملة الشديدة التي وقعت من ذاتكم الهاشمية على الشريف ناصر بن محسن، الذي هرع لاستقبالكم مع عطوفة حازم بك والي الحجاز، وإن الرغبة السلطانية منصرفة إلى استدعاء الشريف المومى إليه إلى مقامكم السامي وتلطيفه وإرضائه.

فأجاب:

بما أن الأسباب الموجبة لما نال الشريف ناصر بن محسن من زجر وإخراج، لا تتعلق بي شخصيًّا، فأنا لا أرى أن عليَّ إظهار الندم على ما فعلت؛ وإن ما أشاعه المومى إليه من أخبار اضمحلال القوى التي كانت معي وإبادتنا، لم يقصد منه إلا إيجاد حركة ثورية هنا أيضًا؛ فهو يستحق ما وقع عليه. وقد بلغني الخبر من مكتوبي الولاية، ثم جاء به الوالي، وهو يعرف ذلك، وما في هذا من المداهنة والفساد ليس من خلقي.

فجاء الرد على الفور من الصدر الأعظم يقول فيه:

إن الباب العالي لا يستطيع غض النظر عن ما في كسر الرغبة السنية التي تبلغتموها بالبرقية السابقة، التي نؤيدها بهذه، مردفين انتظار جلالة السلطان النتيجة.

فأجاب على الفور:

إنني، مع كرامتي لنفسي، الرجل الذي يعتبر قاعدة الثاني بعد ولي العهد في المكانة؛ ولا أظن أن الرغبة السنية تقصد الحط من هذا المركز القديم. والباب العالي — الذي لا يستطيع غض النظر عن نفوذ الذات السنية — كيف يوجه هذ التهمة الشائنة إلى رجل لم ينفض بعد غبار السفر عن رجله في مجد السلطان؟! وإن الباب العالي حر في ما يجب أن يفعله.

فسكت الباب العالي.

وهلَّ شهر رمضان، وكانت القطيعة بين هيئة الدولة والإمارة طول الشهر. وفي ليلة العيد، جاء قائد الجندرمة عثمان بك إلى دائرة الأنجال، وقال للمرحوم الملك علي: لقد وردت برقية إلى الوالي في أن يزور الذات الهاشمية معتذرًا، فهل يقبله سيدنا؟ فقلنا: لا شك، ولكن تفضل اعرض عليه ذلك. وبعد الاستئذان، ولما مثل بين يديه، قال له عثمان بك: كيف حالك وما سبب انقطاعك؟ فقال له: أما أنا، فكما تعلم الدولة أنني إن عجزت عن المحافظة على حقوقي، فإنني أعجز عن حفظ حقوقها. فتقدم عثمان بك وقبَّل يده وعرض عليه ما جاء به، فقال: مرحبًا به، وهو زميلي السابق، إذ كنا جميعًا في دائرة الداخلية لشورى الدولة؛ وليكن الاجتماع غدًا في مصلى العيد، ثم يأتي بمعيتي إلى دار الإمارة، ثم نزور الولاية والقيادة كالمعتاد، فإن هذا أليق وأجمل. فوقع ذلك كما أراد.

ثم أعقبت هذا وثبة إيطاليا على طرابلس الغرب، فأبدل الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا بالصدر الأعظم سعيد باشا، المعروف بشابور سعيد. فأبرق إليه الأمير يقول:

أرجو أن تلاحظوا البرقيات المتبادلة بين الصدارة والإمارة، من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا، وبها تفاصيل الحادث.

فكان أن نقل الوالي حازم بك، عزلًا، إلى ولاية بيروت، بعد ثمان وعشرين ساعة. وعندها قال لنا: لو طأطأت رأسي لما أرادوا لما رفعت ذلك الرأس أبدًا.

وعلى ذكر الوالي حازم بك، أقول إن الصدر السابق إبراهيم حقي باشا كان يلتزمه. وقد قال له حقي باشا يوم وداعي له، وأنا قاصد إلى الحجاز، عندما طلبني المرحوم الوالد لأكون بالخدمة في ذلك المغزى: إن سفير بريطانيا العظمى يشتكي من سعود بن عبد العزيز بن سعود (المشهور بالعرافة) وتنزيل والدك، بأنه بسبب المساعدات المتوالية له من سيادة الشريف، يخرب على أمير نجد عبد العزير بن عبد الرحمن الفيصل، وإن هذا الأمير له صلة عهد بحكومة الهند، وإنه يطلب كف يد المذكور عن هكذا حركات. فقال الصدر الأعظم: أقبل أيادي الأمير، وأرجوه ألَّا يفتح علينا باب إشكال مع بريطانيا، فأنا على غير استعداد لمجاراته، ومسألة الكويت لا تزال نصب الأعين …

وهكذا كانت مجريات الحال منذ ذلك الحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤