مع الصدر الأعظم سعيد باشا

سافرت إلى إسطنبول، ورأيت الجرائد ذكرت عن زيارة اللورد كيتشنر إياي، وردي الزيارة له، تحت عناوين (ماذا يجري في مصر) فقالت:

إن الشريف عبد الله بك، نجل أمير مكة الشريف حسين باشا، ينزل ضيفًا على الخديوي. وفي هذه المرة أقيمت له حفلة غداء رسمية حضرها وزير الخارجية المصرية، وكانت الموسيقى الخديوية تلحن ألحانًا معينة أثناء الغداء. وقد زار اللورد كيتشنر الشريف عبد الله بك، ورد هذا الزيارة للورد. وقد حج الخديوي كما هو معروف. فيا هل ترى ماذا يجري بين سمع الحكومة وبصرها؟!..

فذهبت إلى الصدر الأعظم سعيد باشا، وبحثت له عن تقولات الجرائد، وقلت له: لم أرد الزيارة إلا بعد أن استأذنت المندوب السامي العثماني بمصر، محمد رؤوف شريف باشا. فقال: لا تحفل بتقولات الجرائد.

وهذا الرجل له من المقدرة ما يوجب الحيرة. فلقد زرته أثناء حرب إيطاليا والدولة العثمانية بطرابلس الغرب، فلما سمع بوجودي في داره طلبني فدخلت عليه، وهو مصاب بالعنكز — جدري الماء — وهو في سن الشيخوخة؛ فلما أقبلت عليه استوقفني، فوقفت ولا أدري ماذا يريد، وإذا به يضع يديه على ذراعي الكرسي وينهض يرتعد، حتى قام واقفًا؛ وحين ذاك أشار إليَّ أن أتقدم، فدنوت منه وقال: لولا ما بي لقبلت يدك. وجلس وأمرني بالجلوس، وكان يلبس ثوبًا وعليه فرو من الألمي وعلى رأسه طاقية، أشعث اللحية والشارب داخل بعضهما في بعض، وقد أخرج من فيه أسنانه الصناعية، وكان إذا تكلم كانت الكلمات تخرج منه أشبه بطبطة الماء يسقط في الماء، وقال: الحال كما ترى ولا معين له من رفقائي؛ وهذه إحدى خطيئات الأصول النيابية، في جعل الوزراء من الأعضاء المنتخبين الذين لا خبرة لهم في شيء. ثم وضع يده على زر الجرس، ولما حضر القائم على الخدمة، طلب رئيس الكتاب ومعه كاتبان آخران، فحضر الجميع، وأمرهم أن يكتبوا ما سيمليه عليهم من برقيات. وابتدأ يملي على الثلاثة، فأملى على الأول:

ولاية بيروت العلية:

علمت من وزارة الحربية الجليلة بهجوم الأسطول الطلياني على المدفعية العثمانية «عون الله» الراسية في ميناء بيروت، وضربها بالمدافع قبل أن تتم مدة الإنذار المعطاة لها، وهي نصف ساعة، وتحطيم المدفعية المشار إليها وإغراقها وإغراق المدمرة «برق سطوت» معها، وأن المدينة ودار البلدية أصيبتا بخسارة، وأن هناك قتلى وجرحى من الأهلين، وأن الغوغاء هاجمت المخازن العسكرية فنهبت الأسلحة والعتاد، وأن المدينة في فوضى، وعليه ينبغي الاجتماع حالًا من طرفكم، بقناصل الدول المتحابة، والمخابرة مع قائد المركز، ليخابر المشيرية بالشام، لجلب خمسة طوابير من الرديف، لإعادة الأمن حالًا، واسترجاع الأسلحة والعتاد من الأهلين. وأن مسؤولية ما وقع عائدة عليكم حتى تتبين حقيقة الحال. ولقد علمت أن لا علم لدى وزارة الداخلية بكل ما جرى، وفي هذا مزيد الأسف.

وأملى على الثاني:

وزارة الخارجية الجليلة:

لقد هاجم الأسطول الإيطالي المدفعية العثمانية الملكية «عون الله» والمدمرة «برق سطوت» داخل ميناء بيروت، وأغرقهما قبل أن تتم مدة الإنذار المعطاة لهما، وهي نصف ساعة، وقد تضررت مدينة بيروت غير المحصنة بالقصف الواقع. وإن الحكومة السنية تحتج لدى الحكومات المتحابة على هذه المعاملة غير القانونية، مستندة على مقررات مؤتمر لاهاي. وبلغوا هذا الاحتجاج إلى السفراء العثمانيين لدى الدول العظمى، كما يجب أن تبلغوا سفراء الدول العظمى بذلك الاحتجاج هنا.

ثم أملى على الثالث:

وزارة الحربية الجليلة:

أشكركم على سرعة إخباركم بحادث بيروت. بلغوا المشيرية بالشام تهيئة خمسة طوابير من الرديف وسوقها إلى بيروت، لتعيد الأمن وتسترد الأسلحة والعتاد المأخوذة من مخازن الجيش.

وكان يملي هذه البرقيات الثلاث، على الكتبة الثلاثة، في آن واحد، بحيث إنه حينما ينتهي أحدهم من الجملة ألحقه بتالية؛ وهكذا بالتناوب، وهو في حالة المرض. ثم أخذ هذه الأوامر الثلاثة ووقعها وقال: خذوا صورها منها.

ثم قيل له: إن عاصم بك وزير الخارجية هنا. فقال: ليدخل. فدخل وجلس وقال: لدي معروضات يا سيدي — ونظر إلى ناحيتي يشير إلى لزوم سرية المحادثة — فقال: أقدم إليك يا حضرة الوزير، الشريف عبد الله بك مبعوث مكة المكرمة ونجل الشريف الأمير، فإنه يحرس أسرار الدولة مثلي ومثلك، فقل ما تشاء. فشكرت الصدر، وتظاهرت بأنني أحب النظر إلى الشارع، فقمت إلى الشباك، ثم تسللت خارجًا إلى الصفة، وتركتهما وشأنهما. فلما خرج وزير الخارجية، ورآني بالصفة احمرَّ وجهه، ثم قبَّل يدي وقال: إن شاء الله أزورك ببيوك دره، بقصركم الجميل. وخرج ودخلت، وبعد أن أتممت مهمتي مع الصدر خرجت.

هذه لمعة عن رجال ذلك العصر وأحواله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤