بوادر الثورة

وبعد ذلك كانت تجري المخابرات مع الأحزاب العربية بالشام، بواسطة المرحوم الأخ فيصل؛ وتُرِك تعيين زمن الثورة إلى العرب. فجاء الصيف وتحرك الركاب الأميري إلى الطائف، وقد حضر الأمير فيصل من الشام والأمير علي من المدينة، وانتهى كل شيء كما يجب عمله بالطائف، وتقرر زمن الثورة بعد مضي الصيف والشتاء. وعاد الأمير فيصل إلى الشام والأمير علي إلى المدينة. وفي هذه المدة استعدت الأفكار العربية للحركة، بسبب انقطاع موارد البحر والغلاء وعدم الرخاء، وأن ليس للعرب في متابعة هذه الحرب إلا نتيجة واحدة، وهي أنهم سيبقون تحت ربقة الحكم إن ظفر الترك والألمان أو انتصر الفرنسيس والبريطان. وكان لا بد من إعلان الحركة العربية والتخلص بالحرب من عواقب الاستكانة لتحكم الغير.

ولم تجب إسطنبول مطالب والي اليمن ومتصرف عسير مما طلباه من نقود، وكذلك فعلت بالحجاز. ثم تغلغلت الجيوش الإنكليزية في العراق، وتجاوزت حدود ولاية البصرة في طريقها إلى بغداد. ثم هُزِمَ أحمد جمال باشا بالترعة المصرية.

على أنه قبل أن يتم أي عمل أو قرار مع الإنكليز، كان قد طلب المرحوم — بواسطة الأمير فيصل إلى أحمد جمال باشا — ألَّا تكون البلاد العربية مضغوطًا عليها، وأنه لا بأس من بر الدولة بوعدها للسوريين في منحهم الإدارة اللامركزية التي طلبوها. وقد صادف هذا الطلب اشمئزازًا من أحمد جمال باشا، وألح في إرسال المجاهدين من الحجاز. ثم بعد ذلك، وفي أثناء وجود الأمير فيصل بالشام، زار أنور باشا وزير الحربية ووكيل القائد العام سوريا وفلسطين، وزار المدينة المنورة. وقد أهدى الأخ المرحوم الملك فيصل — باسم والده — لكل واحد منهما سيفًا مرصعًا، وقد كتب على كل سيف منهما اسم المُهدِي والمُهدَى اليه، فتقبلا الهدية بسرور وعادا إلى الشام.

ثم أقبل الصيف، وجاء الطلب مرة أخرى بإرسال المجاهدين، وجاء الطلب بإعلان الجهاد المقدس في أقطار الإسلام من مكة باسم الخليفة على روسيا وإنكلترا وفرنسا؛ فأجاب الأمير بأنه:

لأجل إعلان الجهاد وإرسال المجاهدين ينبغي إرضاء العرب بما تتوق إليه نفوسهم من الوصول إلى حقوقهم، وإن أول ذلك إعلان العفو العام عن المجرمين السياسيين ومنح سوريا إدارة لا مركزية وكذلك العراق، واعتبار الشرافة بمكة معترفًا لها بحقها الموروث والمتفق عليه من عهد السلطان سليم وأن تكون وراثية فمقابل هذا تقوم الأمة العربية بواجبها عن إخلاص، وأنه سيبعث بالمجاهدين إلى الأمير فيصل بالشام، وأنه سيبعث أحد بنيه إلى الجبهة الأخرى بالعراق، بعد أن يقضي على أي زعامة غير موالية بشرقي الحجاز، وإن على الدولة التأثير على ابن رشيد بأن ينضم إلى الجهاد، وأنه بدون هذا لا يستطيع التقدم بالأمة العربية في حرب نصح بألَّا تثار وألَّا تشهر، وأنه سيكتفي بوظيفة الدعاء للدولة بالنصر والظفر.

ولقد جاء الرد على هذه البرقية من الصدر الأعظم سعيد حليم ومن وكيل القائد العام أنور باشا، وهذا نص ترجمتها:

إن التحدث في مثل ما بينتموه عن الحرب والعرب ليس من حقوقكم، وإن من بالشام من المجرمين سينالون الجزاء العادل، وإن ما بينتموه لا تكون نتيجته بحقكم مسرة؛ وعليه فسوف لا ترون نجلكم فيصل بك مرة أخرى قبل أن تبعثوا بالمجاهدين إلى الجبهة كما وعدتم، وإن لم تنفذوا هذا فكما قلنا فالنتيجة بحقكم لا تكون خيرية.

وقد أتيت بهذه البرقية للوالد، بعد أن حللت رموزها، وهو في الخارجة بمكة ليلًا وأنا بيدي حامل الشمعة فقدمتها إليه، قال اقرأها، قلت لا أقرأها، فتناولها ووضع المنظرة على عينيه، وبعد أن تلاها نظر إليَّ وقال: أيهددني؟! ثم قال:

سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك أم حمار
ثم قال: اكتب الجواب للصدارة ووكالة القيادة العامة:

ليس لي ما أقوله سوى النصيحة الأخيرة في برقيتي وبها ضمان انحياز العرب إلى صفوفكم بقلوبهم. أما ابني فيصل فلم أبعثه إليكم وأنا أعتقد أني أراه مرة أخرى فافعلوا ما شئتم.

وبعد يومين وردت البرقية التي هذا نصها من الصدر الأعظم:

بعد التأمل رأينا شكر سيادتكم على أجوبتكم، فإذا بعثتم بالمجاهدين إلى الشام فقد أشعرنا جمال باشا ليذاكر نجلكم السامي الشريف فيصل بك فيما يتعلق بالمجرمين السياسيين.

فأجابه:

إنني ممتن على تلطفكم بالجواب. أما المجاهدون فأصروا على عدم السفر إلا إذا حضر فيصل ليأخذهم، فإن كانت الرغبة حقيقية فابعثوا به ليستصحبهم.

فجاء الرد على الفور:

سيتوجه الشريف فيصل بك إلى المدينة ليستصحب المجاهدين ويعود بهم إلى الشام، وإنا لنرجو أن تسترجعوا نجلكم السامي الشريف علي بك من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة لعدم امتزاجه مع المحافظ.

فأجاب على الفور بأنه:

عند وصول الشريف فيصل بك سيترك الشريف علي بك المدينة المنورة.

ولما وصل الأخ فيصل إلى المدينة، وكان فخر الدين باشا قائد القوى السفرية قد حضر إليها بقواته، وكانت القوى العربية مهيأة بالمدينة، تقرر استدعاء الشريف علي بك إلى مكة، فودع فخر الدين باشا والمحافظ وخرج إلى بئر الماشي — وهي على طريق مكة — وخرج معه أخوه فيصل لوداعه. ولما وصل إلى بئر الماشي، كتب إلى جمال باشا — وكان ذلك اليوم الثامن من شعبان:

إن المطالب العربية المعتدلة قد رفضت من جانب الدولة العثمانية؛ وبما أن الجند الذي تهيأ للجهاد سوف لا يرى عليه أن يضحي لغير مسألة العرب والإسلام، فإذا لم تنفذ الشروط المعروضة من شريف مكة حالًا فلا لزوم لبيان قطع أي علاقة بين الأمة العربية والأمة التركية، وإنه بعد وصول هذا الكتاب بأربع وعشرين ساعة ستكون حالة الحرب قائمة بين الأمتين.

وبعد مضي ساعات كان الخط الحديدي بين الشام والمدينة يشلَّع ويهاجم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤