الثورة

وفي اليوم التاسع من شعبان ١٣٣٤ الموافق ١٠ حزيران ١٩١٦، أعلنت الثورة العربية في مكة والطائف وجدة وينبع والوجه وسائر مدن الحجاز، وصدر البيان بذلك من لدن صاحب السيادة العظمى الشريف الحسين بن علي.

ابتدأت الأمة العربية تتحمل مسؤولياتها بنفسها وتسعى لإنقاذ حريتها واستقلالها بسلاحها وجهاد بنيها. وكانت في ذلك الوقت قارة على ذلك، فإن بلاد الشام بأجمعها وكذلك البلاد العراقية كانت مهذبة التهذيب الكافي عسكريًّا وإداريًّا وعدليًّا. وإن رجالات العرب كانوا في ذلك الحين يمارسون المناصب والمأموريات على اختلاف أنواعها ودرجاتها كالترك أنفسهم، ما عدا الوزارة فإن الأغلبية كانت تركية دائمًا. وكان الجيش العثماني الخامس في مركزه بدمشق، وكان الجيش الرابع في مركزه ببغداد وقوامه العرب. فالعرب سلكوا هذا المسلك في هذين البلدين وقبلوا التوظف لا التطوع فيهما.

أما من حيث الثقافة فمن الممكن أن يقال إن الانكشاف في التعليم بسوريا ولبنان ربما كان يفوق أي درجة في تركيا العثمانية نفسها، وسببه أن المدارس العثمانية في بلاد الترك كانت ملكية وعسكرية لإخراج موظفين، وكذلك مدرسة الحقوق والمدرسة الطبية، وفي الولايات لها فروع في درجة السلطاني، ولكن العرب كانوا يحصلون العلوم في مدارس أجنبية بسوريا ولبنان، وربما رحل بعضهم إلى أوروبا أو إلى أمريكا؛ لذا فنسبة التعليم في العرب بمدنهم وقراهم قد يكون بنسبة عشرة بالمائة زيادة على التحصيل التركي في مدن الأناضول وقراه، ومدن الروم ايلي وقراه أيضًا. هذه ملحوظة أحببنا إثباتها الآن كي نرى الفرق بين ذلك الزمان واليوم. ولا مرية في أنه كان حين ذاك تعادل أوجب ذلك التفاوت. فإن التحصيل الرسمي على الطراز العثماني — إذا أضيف إليه التحصيل الذاتي في ما ذكرنا من جهات — ضمن للعرب حين ذاك أفضلية الحال بالنسبة للوقت الحاضر الذي ليس فيه من التعليم إلا ما يروق سياسة الاستعمار. ومن هذا القبيل فقد أدخلت تعديلات جمة على مدارس التبشير الأميركية ومدارس الجزويت والمدارس العلمانية، فاصبح كل من درس وطلب العلم على هذا الشكل لا يدري عن تاريخه وقوميته أي شيء.

وإن هذا لمن أهم ما يجب تمحيصه والنظر في عواقبه، ولا سيما وأن الدول الاستعمارية تضع الشروط لنجاة البلاد من رباط الاستعمار، بأن تعقد هذه البلاد معها معاهدات ثقافية واقتصادية، والثقافة والاقتصاد هما كل شيء، بهما تبقى القومية مستقلة أو تنسخ في عوائدها ومعتقداتها والعياذ بالله. ومن هذا القبيل ما يقال الآن من أن عهدًا سيعقد بين فرنسا وروسيا على هذا الأساس، حفظنا الله من عواقب الحرص وتفضيل مصلحة الذات على الواجب نحو الأمة في عقائدها ووطنها وكرامتها.

أما الحركات في الحجاز، فقد استولى العرب على الحاميات التركية بمكة المكرمة في أول يوم، وبقي الجيش العثماني محصورًا في ثكنة جرول وقلعة جياد، وكان مَن بهذه القلعة من الجنود العثمانيين يضربون مكة بمدافعهم. وقد أصابت قنبلة البيت الشريف من فوق الحجر الأسود وأشعلت النار في الستار المبارك وقد أطفئت في الحال. وأصابت قنبلة أخرى أحد عقود الأروقة، ومن غريب التصادف أنها وقعت على اسم عثمان بن عفان فأزالته، وكانت هذه الإصابة من الأدلة على زوال دولة آل عثمان، وقد سقطت جدة في اليوم الثالث من الثورة، وقد سقطت قلعة جرول في اليوم التاسع وأُسر فيها ألف ومائتا جندي وضابط. وأما قلعة أجياد فقد هوجمت وأخذت عنوة بعد جرأة قائدها اليوزباشي كامل أفندي وضربه البيت الحرام. وفي جدة كان الأسطول البريطاني يساعد من البحر على ضرب الثكنات العسكرية بضربات تخويفية. وأما الطائف ففيه كانت الفرقة العثمانية النظامية التي يقودها الوالي والكومندان الفريق غالب باشا، وكان يقود القوات العربية المحاصِرة صاحب هذه المذكرات.

إننا نحب أن نتبسط هنا بعض الشيء. فإنه لما تقرر أن يكون اليوم التاسع من شعبان هو يوم النهضة، فقد أُمرت بالسفر إلى الطائف كي أقوم بأهم واجب في تلك الحركة وهو حصر فرقة عسكرية أقرب ما تكون من القوات العثمانية إلى مكة المكرمة مركز الحركة ومقر الشرافة وعاصمة الإسلام. فوصلت إلى الطائف في أول شعبان وليس معي سوى سبعين هجانًا، إذ أُرسلت كل القوات الهاشمية إلى المدينة المنورة مع الأميرين علي وفيصل.

وقد قابلني الوالي مقابلة معتادة وأخبرته أنني سأخرج لتأديب قبيلة البقوم، وأن الشريف لم يتعين بعد وقت طلوعه إلى الطائف حسب المعتاد. وكان الأمير على الطائف يوم ذاك شرف بن راجح بن فواز بن ناصر، يساعده الشريف حسين الجودي أحد شرفاء ذوي جود الله. وكنت أستند في حركة حصر الفرقة وأخذها، على العشائر المحلية: عتيبة بني سعد — منهم حليمة السعدية ظئر الرسول — والرئيس على هذه القبيلة وعلى من ينتسب إليهم من الثبتة الشيخ تركي بن هليل، وعلى الفخيذة الثانية من هذه العشيرة — عشيرة البطنين — ثم على هذيل الشفي أي السرات، ثم على ثقيف آل ساعد وآل منصور، ثم على عشيرة النمور، ثم على عشائر الروقة أهل الحرة، ثم مَن بقي ممن لم يلتحق بالقوات الهاشمية بالمدينة من عشيرة عتيبة من الكثمة والجوازي من الثبتة والعصرمة أهل ركبة والنفعة منهم أيضًا، ثم عشيرة وقدان وثمالة، ثم عشيرة البقوم وعشيرة ابن الحارث، وسبيع أهل الخرما وسبيع أهل رنية وأشرافهم.

وفي الاجتماع الذي وقع قبل الثورة بليال، وقد حضره كبار الأشراف والشيوخ بعد تمهيد قام به الشريف شرف، لم يتبعني سوى الشريف حمزة الفعر وآخر وهو شيخ آل بطنين من آل سعد، فإنهما أظهرا أشد النفور والخوف من نتائج هذه الحركة. ولقد كدت أن آمر بالقبض عليهما لولا خشية شيوع ما ينبغي كتمانه.

وكان الوالي يسكن بقرواء خارج سور الطائف، وكان يشتكي من مرض الكلية، فزرته مرتين. وكاد قائد الفرقة الميرالآي أحمد بك يزورني الليلة بعد الليلة. وكان أشد الرجال العسكريين البكباشي سليمان بك، فهو كثير الاختلاط بالناس وقديم بالحجاز، ولقد شعر بشيء مما سيقع. وقد قيل لي إن أحمد بك قائد الفرقة وسليمان بك هذا يقولان: نكاد نأخذ أسلحتنا بأيدينا حتى نرى الشريف عبد الله، فإذا رأيناه ذهب عنَّا كل شك. وفي اليوم الثامن من شعبان، وقد أزمعت الخروج فيه بدعوى غزوة البقوم، استدعاني الوالي، وكان لدى الشريف شرف بن راجح والشيخ عبد الله سراج مفتي مكة المكرمة، فقالا: لا تذهب فإنا نخشى عليك أن يلقى عليك القبض فقلت: بلى سأذهب، ففي عدم الذهاب ما يُخشى عقباه، ووعد الثورة لم يحن بعد. فركبت إليه ومعي أربعة: الشيخ فاجر بن شليويح أحد فرسان الروقة، والشيخ هوصان بن عصاي وهو أيضًا من شيوخ تلك العشيرة وأحد الرجال الذين أثق بهم، وأحد خواصي وهو هوصان بن عفار المقاطي، وفرج حامل المظلة الملكية. وتوجهت إلى دار الوالي بقرواء وتعمدت الدخول من الثكنة بالطائف مما أدهش الترك والعرب معًا، حيث قالوا: لو كانت الشوائع حقيقة لما مر بنا على هذا الشكل.

ولما أقبلت على دار الوالي، قلت لفرج: ابق عند الخيل، وقلت لهوصان بن عفار: كن على رأس الدرج، وقلت للشيخين فاجر وهوصان: قوما على باب الغرفة التي أنا بداخلها، فإن أراد الأتراك أن يلقوا القبض علينا، فعلي أنا القضاء على الوالي في الغرفة وعليكم أنتم القضاء على من يأتيكم من الدرج حتى نخرج. فقالا: اتكل على الله. فدخلت وجلست، وبعد أن رحب بي قال: إلى أين تذهب؟ قلت: كما تعلم أُمرت بأن أؤدب البقوم. فقال: ليس هذا بالوقت المناسب، فلو أخَّرت خروجك إلى حين لكان ذلك أنسب؛ وفي البلاد شائعات لا بد أنها لم تَخفَ عليك، إن الناس يقولون إن ثورة ستقع، وهذا أنت ترى أهل الطائف يرحلون بأمتعتهم وأطفالهم. فقلت: وماذا عليك من رحيلهم؟ إنني إن أخَّرت الغزو بعد شيوعه لأكد المخاوف هذا التأخير، وفي السفر تهدئة الخواطر وسيرجع الناس إلى محلاتهم، أما سبب هذه الحوادث فقول الناس عن مصادر تركية إنه سيقع تبديل في الشرافة وإن الشريف حيدر بن جابر قادم إلى المدينة؛ وقد تقوَّل بهذا رجال منهم سليمان بك، فقال: لِمَ تركتُ مكة وطلعتُ إلى الطائف؟ ليتني لم أفعل! فقلت: لا عليك.

ثم تناول مصحفًا شريفًا عنده، وقال لي: هل تعرف هذا؟ قلت: نعم كتاب الله، وهو مهدى إلى والدي مني، وهو كوفي الخط، وقد أهداه إلى دولتك، فقال: هل تشك في إسلامي؟ فقلت: معاذ الله أما الظاهر فإنك من خيار المسلمين ولا يعلم السرائر إلا الله. فوضع يده على الكتاب وقال: والله إني لمعكم ولست عليكم. فأصدقني الخبر عن هذه الشوائع. فقلت: شوائع الثورة؟ قال: نعم. فقلت: هي لا تعدو ثلاثة احتمالات: إما أنها مكذوبة، أو أنها عليكم وعلينا، أو أنها عليكم من الشرافة والناس، ولو كان هذا الأخير لما حضرت الآن بين يديك وقد تفعل بي ما تشاء. وعندئذ دخل أحمد بك قائد الفرقة وسليمان بك فارتخيا عليه وقالا ما لم أسمعه فانتهرهما فخرجا (وأخيرًا علمت — بعد أن وقعوا جميعًا بأسري — أنهما طلبا إليه أن يأمر بالقبض عليَّ) فقمت مودعًا فودعني وقال: لا تقطع الاتصال بي فقلت: ألست على اتصال بمكة بالتلفون؟ قال: بلى. فقلت: في هذا الكفاية، وقلت: سآمر قائمقام الطائف بأن ينادي بالأمان للناس حتى يرجع كل أحد إلى بيته، وفي هذا من التكذيب ما يكفي. فقال: هذا حسن وسأفعل أنا أيضًا.

فخرجت ووجدت أحمد بك وسليمان بك في الصفة، ومعهما الأميرالآي حيدر بك متصرف عسير السابق، فلم يحتفلوا بي وقد خرجت ولم أحتفل بهم. وبعد أن استوينا على ظهور خيلنا يممنا قصر شبرا، وبها العلم الهاشمي والقوات. ولقد وجدت الشريف حسين الجندي على وعد مني عند العكرمية، فقلت: اذهب الآن إلى الوالي وقل إنك تلقيت مني أمرًا بالمناداة بالأمان، ثم عد وابعث من يقطع أسلاك التلغراف من مركز معشي إلى الكر، وامنع كل من يسافر إلى مكة منع قتل وإبادة. ثم تحركت بالقوة إلى المركز الهاشمي للحركة، وهو عند سفح جبل سواقة على يسار الطريق للذاهب إلى مكة عن ناحية العرفية.

وفى تلك الليلة تلقيت مذكرة من الوالي غالب باشا هذا نصها:

إلى صاحب السعادة الشريف عبد الله بك، بعد توجهكم انقطعت الخطوط التلغرافية بين مكة والطائف، وإن الموظفين الذين أرسلوا لإصلاحه لم يعودوا، وقد شاعت الشوائع بأن المعتدين على الخطوط التلغرافية قد سجنوهم؛ ولذلك أطلب إليكم الرجوع حالًا إلى الطائف، فإن تأديب عشيرة البقوم ليست من الأهمية بشيء إزاء الحالة الراهنة.

فأجبته بالآتي:

حضرة صاحب السعادة الوالي والكومندان بالطائف، لقد تلقيت مذكرتكم ليلًا، ولم يبلغني خبر ما حصل على الخطوط التلغرافية. وإن وكيل قائمقام الطائف تحت أمركم لتنفيذ رغائبكم. أما أنا فسأكون بطرفكم بعد غد السبت إن شاء الله.

وفي ٩ شعبان كانت الثورة في البلاد الحجازية، ما عدا الطائف فإن الهجوم قد وقع عليه في الحادي عشر من شعبان، بسبب بعض النواقص. وفي ليلة السبت الحادي عشر من شعبان، في نصف الليل، ابتدأ الهجوم من الجبهة الشمالية التي كنت أدير حركتها بذاتي.

وكان الأتراك قد حكموا سور البلدة، وحفروا خندقًا من بستان الرياض متجهًا من الشرق إلى ناحية الغرب إلى مكان يسمى معشي، ثم انحرف إلى الجنوب إلى هضبة أم السكارى وبها أحد مراكزهم القوية وبها مدفعان، ثم انحرف خندقهم مشرقًا مرة أخرى إلى أن حاذى برج غلفة، ثم مال إلى الشمال وخالط وادي وج، ثم انحرف مشرقًا إلى الجنوب حتى اتصل بصفاة تسمى دقاق اللوز، ثم مال إلى الغرب مرة أخرى واتصل بالخندق الأساسي المار الذكر؛ وقد وصل هذا الخندق بخنادق فرعية تربط نواحيه الأربع بالمركز في خطوط متعرجة تحجب السائر فيها.

أما الهجوم فقد وقع بعنف شديد؛ وفي الجبهة الشمالية بالقلب كانت تتقدم الحملة البواردية الخواص وهم الرماة، يتقدمهم راقي بن عفار ثم مَن كان من الحملة من الثبتة الجوازي ومن الكثمة الغشاشمة والروانية ثم بنو سعد، عليهم جميعًا الشريف سلطان بن راجح: فعاد المهاجمون ببعض الأسرى والأسلاب.

وعند بزوغ الشمس ابتدأت المدفعية التركية كأشد ما يكون ترمي بحممها المهاجمين، ولم أدرِ لماذا لم يعزز القائد التركي المدفعية بهجوم من المشاة. هذا ولم يتمكن بنو سعد من الوصول إلى أهدافهم، فاضطروا إلى التراجع إلى نواحي شبرا، ثم انصرفوا بشيء من عدم الطاعة إلى بلادهم. وقد جاءني من قائدهم الشريف سلطان ما يفيد بذلك فأمرته بأن يتركهم. وانصرف همي إلى إنقاذ القسم من الرماة الخاصة الذين حجزوا في العكرمية وفي أسفل شرقوق — وهو جبل بين مسرة وشبرا — وفي تلك الأثناء كان إلى جنبي الشيخ فاجر بن شليويح والشريف حمزة الفعر، وإذا بالأتراك يحرقون قصور الإمارة السبعة بالنار، فقلت لمن معي: لا تَرهبوهم إنهم إنما أرادوا بهذا إخافتكم، ولو كانوا كما يقال لهاجمونا هجومًا معاكسًا؛ وهذه البيوت تبنى إن شاء الله في أسرع ما يمكن.

وطال الاشتباك وقل العتاد الذي لم يكن في درجة الكفاية، ولم يؤذن لأحد بأن يرمي إلَّا هدفًا معينًا مرئيًّا. وفي وقت الظهيرة وبعد أن اشتد الظمأ على أفرادي الخاصة، ابتدأ الهجوم من الشريف فهد بن شاكر من الناحية الغربية والجنوبية بعشائر النمور وهذيل وبني سفيان، ولقد كنا نسمع تكبيرهم وصياحهم. واتجه ضرب المدفعية إلى تلك الناحية، فتمكن عندها رجالي الخاصة من التراجع سالمين. فأمرت بتحصين جبل شرقوق، وأقمت بقصر شبرا قوة كافية، وانسحبت بالقوى العمومية إلى سواقه، وكان العتاد قد نفد بأجمعه.

ثم بعثت بأوامر مستعجلة إلى الشريف فهد بأن يكف قواته وأن يميل إلى طريق عقبة كرى، لئلا تخرج القوة من الطائف عامدة مكة. وأصبح همي الأول حجز هذه القوة للتغلب عليها، فإن ذلك لم يكن بالمتيسر في مدة وجيزة في قلعة حصينة كالطائف وبها فرقة نظامية. ففعل ما أردت. ولو خرج الوالي والقائد بقواته لكان وصل إلى مكة بسلام لنفاذ العتاد الحربي كليًّا.

وفي الوقت نفسه بعثت بكتب إلى العشائر التي تراجعت، أخبرتهم فيها بأن هجوم عشائر هذيل وثقيف والنمور أنقذ الموقف وأنَّا كرَرنا على الأعداء وحصرناهم؛ وطلبت إليهم الرجوع بعد أسبوع لنوزع عليهم السلاح الجديد ونقيد أسماءهم في دفاتر العطاء، مع تعيين ما يخص الرؤساء ومَن يليهم من الأفراد. فجاءتني الأجوبة بلبيك لبيك.

ثم أوقدت النيران في تلك الليلة على كل جبل مشرف على الطائف؛ وكثر الصياح الحماسي؛ ودقت الطبول، واستمر رمي البنادق أمهات الفتيل إلى الصبح، مما أوجب الوهم الشديد في قلوب الأتراك عن اجتماعات عشائرية. وعلى رأس الأسبوع وردت الأسلحة الجديدة وهي بنادق للمشاة شبيهة ببنادق مصنع استير، يقال إنها يابانية؛ وكانت بعيدة المرمى، شديدة الإصابة لا يخطئ بها مَن يرمي، إلا أنها ينفجر بعضها. وبعد أن وزعت هذه الأسلحة، ولحسن الحظ، هجم الأتراك على نواحي دقاق اللوز، وشهار، وحواية، لأخذ البيادر التي كانت بها حيث قرروا الدفاع. وصادف أن كانت هذيل وبنو سفيان عادوا من المعسكر بالأسلحة الجديدة، وكان خروج الأتراك انصب على عشيرة وقدان بدقاق اللوز وبقملة، فنشبت المعركة وردت هذه الهجمة الفاشلة بخسائر فادحة.

وفي تلك الليلة هاجمت بنو سفيان وهذيل هضبة أم السكارى ليلًا، وقضت على حاميتها، ثم استولت على مدفعين هناك للأتراك؛ وكان البيات في درجة فظيعة حيث لم تطلق بندقة واحدة، بل كان الهجوم بالخناجر والحراب، ولم ينجُ من الأتراك أحد. ولما حدث هذا تراجع الأتراك من هضبة أم الشيح، ومن شرقرق الذي كانوا استولوا عليه عنوة، إلى جبل أبي صحفة وخنادقهم القديمة، وتقدمت القوات العربية إلى مراكزها يوم بدء الهجوم. وقد استولى الحرس الأمامي على رسول من القائد التركي بالطائف إلى القائد التركي بمكة، ومعه رسائل موجهة بأوامر إلى القواد وإلى قائد القوة الإمدادية بالمدينة، يقول فيها إن الشريف الحسين قد أعلن العصيان، وإن قلعة الطائف والفرقة العثمانية تقاتل ببسالة ضد هجمات العرب الذين يقودهم الشريف عبد الله النجل الثاني للشريف، وإن مسؤولية هذه الحركة تقع على الشريف وأنجاله، ثم يقول: قاتلوا في مراكزكم ببسالة حتى ترد الإمدادات من الشام والمدينة المنورة، قاتلوا كما يقاتل هؤلاء العصاة واذكروا أسلافكم من آل عثمان، ولا تهابوا صولة هؤلاء العرب الذين تقدموا بأكمامهم البيض وسداريهم الحمر مستخِفِّين بالموت في سبيل أميرهم … قاتلوهم في سبيل السلطان والملة، واذا رأيتم راياتهم بألوانهم الأربعة من خضراء وحمراء وسوداء وبيضاء كالحية المدفونة فاسحقوهم بأقدامكم ولا توفروا منهم أحدًا.

وثبتت الحالة بين الحاصر والمنحصر متكافئة، إلى أن جاءت بطاريات جديدة جبلية من مكة ثم جاءت المفرزة المصرية ومعها أربعة مدافع جبلية نصف سريعة، وكان عليهم الأميرالآي سيد بك علي، وكانوا في بادئ الأمر كثيري الاحتيار ثم ألفوا. وبعد ذلك وصلت إلى القوة مدافع الهاوزر نصف بطارية، فحصل الرجحان في هذا الجانب. ولم أكن بالمسرف في الضرب حيث النتيجة معروفة والإبقاء على النفوس من الجانبين ملتزم لديَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤