لورنس!

ثم بعد نزولي العيص بأسبوع، وصلت قوة من الجيش الشمالي مركبة من سبعة وعشرين هجانًا ومعها الكبتن لورنس، أرسله الملك فيصل بقصد أن يدير حركات التخريبات الفنية على السكة الحديدية. ولم أكن بالفرح المسرور بقدومه حيث علمي بتأثيره المعاكس في العشائر المتعصبة. ولقد قال لي ابن لؤي الوهابي العقيدة: إنكم تقاتلون الترك بسبب أن الألمان استحوذوا على الترك، وهذا مَن يكون؟ إذا كانوا هم — يعني الألمان — أصحاب الأتراك فهؤلاء أصحابكم، فعلام القتال إذن؟!

وقال لي ناهس الذويبي: من هذا الأحمر القادم وماذا يريد؟! فأشعرتهم كلهم بأنه جاء لتهديم الخط وأنه مهندس وأنه يمثل إنكلترا حليفتنا وصديقتنا وأن الأمر ليس كما تظنون، بل إننا وهؤلاء اتفقنا على عدو لهم وعدو لنا؛ أما أعداؤهم فالألمان وأما أعداؤنا فهم الأتراك حين ذاك. وقلت: أتظنون أن هؤلاء يدفعون أسلحتهم وذخائرهم وأموالهم إليكم بدون أن يروا ما نوقعه في أعدائنا؟! لا يقول هذا إلا جاهل.

ومع أن هذا القول كان له التأثير، غير أن التبرم من وجوده كان جليًّا ظاهرًا. ولقد حاول هو الاتصال بالعشائر ولكن لم يستطع للحرس الذي أقيم عليه، خشية أن يدس له الترك بيننا مَن يعتدي عليه بقصد إفساد ذات البين. ولقد سلمت العشائر الجنوبية من الكثير مما لحق بعشائر الشمال، يوم أن أطلقت له الحرية في جيش الملك فيصل فأصبح — بما بذل من مال وما قال من أقوال — ملك العرب غير المتوج، وأنه صاحب الثورة، وأنه لولاه لما نال العرب أي شيء!

وفي الحق أنه كان المزهو بنفسه الغريب الطباع. ولقد دس إليَّ من يغريني بملك الحجاز، بحجة أن الوالد المرحوم عنود في فكره متمسك برأيه، فقلت لرسوله — وهو الآن حي يرزق — قل لصاحبك هذا: إن أبي سيدي وملكي وبعده الأخ الأكبر وبعده نجله، وسأكتفي أنا بلقبي إلى آخر أيامي، وأما هو فقد خدمني وخدم العرب أكبر خدمة بقوله إن والدك عنود متمسك برأيه، إذ يظهر أنهم يطلبون مَن لا رأي له من الناس كي يعمل لورنس ما يشاء.

وقد رأينا ما آلت إليه الشام. ففيه ما يدل على أن فكرة إزالة الناهض المرحوم والمنقذ المظلوم كانت قديمة، وأن المحاولة البريطانية في تمكين ابن سعود — الذي كانت بريطانيا متعهدة بألَّا تدعه ولا سواه من الأمراء العرب الذين لهم صلات بحكومة الهند أن يقفوا ضد الثورة العربية حتى تتم، وأنه لا ينبغي لصاحب الثورة أن يضمهم أو يلحقهم إلى الحركة العربية لأنهم تبع لحكومة الهند — غاية في الإتقان؛ فأعلنت بريطانيا حيادها عندما صال ابن سعود بوحوش الوهابية على الحجاز المقدس، وألزمت العراق وشرق الأردن بذلك الحياد إلزامًا إكراهيًّا. فأما شرق الأردن فقد بذل كل ما في وسعه لنجدة أم القرى ومركز الثورة العربية ومهبط الوحي، وأما العراق فقد ضن بما عليه. وفي هذا الشيء اليسير من أعمال لورنس ضد البيت الهاشمي.

ولم يكن هذا الموضع من المذكرات محلًّا لذكر هذه النبذة، ولكن حيث كان لقدوم لورنس إلى العيص هذه البادرة، جعلنا هنا محلًّا للاستهلال بما نعرفه عنه.

ولقد وجهنا قوة للتخريب وطرد الأتراك من محطة أبي النعم وجداعة والوقر وهدية، وكان هو من جملة الذين ساروا مع القوة لوضع المتفجرات التخريبية، فعاد وهو غير شاكر ما رأى، وأخذ يذم القوة ويقول بأنه كان في الإمكان عمل الشيء المؤثر، ولكن استعجلوا الرجعة. وفي ذلك اليوم نُسفت قاطرة وخرِّب قطار بأجمعه ودُمر حوالي أحد عشر كيلو مترًا من الخط الحديدي. إن هذا العمل لم يرُق لورنس، لأن الأمر لم يسر كما كان يريد. ولقد سافر الشريف حيدر من المدينة إلى لبنان بُعَيدَ هذه الضربة بأسبوع، وقبل أن نظفر به، كما رتب وقلنا سابقًا، أثناء نزهته ببئر عروة. أما لورنس فقد نفرت في جسده دمامل وخراجات أزعجته، فاستأذن وعاد. ولقد كنت معه مُكرمًا لطيفًا معترفًا بثمين مساعداته غير راض عن تدخلاته فيما لا يعنيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤