القدوم إلى شرقي الأردن

ثم حدثت حوادث الشام وخرق فرنسا حرمة الحق والعهد وهجومها على سوريا والكارثة التي حلت بخروج الملك فيصل منها، ثم ما حدث على الوزراء السوريين الموالين لفرنسا في درعا وطلب أهل الإخلاص من أنصار القضية العربية في سوريا إرسال من ينوب عن الملك فيصل من الشخصيات الملكية في البيت الهاشمي.

وقد كنت حين ذاك لا أشتغل بوظيفة، فاستأذنت والدي وطلبت إليه أن يحملني تبعات هذه الحركة شخصيًّا، وألَّا تكون الوظيفة كمأمورية حجازية. فأذن لي وتوجهت من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ومنها بالخط الحديدي إلى معان فوصلناها بمشقة شديدة — لخراب الخط — بعد شهر. وكان الوصول بتاريخ ١١ ربيع الأول سنة ١٣٣٩ الموافق ٢١ تشرين الثاني سنة ١٩٢٠.

وقوبلت بحماس من أهل معان وباديتها. ووجدت هناك الأميرالآي غالب بك الشعلان (غالب باشا الشعلان) وكان هذا يقود فرقة الهجانة العثمانية في المدينة المنورة، ولطالما اصطدمت قواته بالمفارز العربية الهاشمية؛ ثم ترك المدينة إلى تركيا وعاد وثبت إخلاصه، وترقى إلى أن صار في رتبة أمير لواء في الجيش العربي رحمه الله. ووجدت هناك الرئيس عبد القادر الجندي (عبد القادر باشا الجندي الآن) والرئيس محمد علي بك العجلوني، والمرحوم خلف بك التل، وأحمد التل وغيرهم.

وفي ٢٥ ربيع الأول سنة ١٣٣٩ أصدرت المنشور الآتي:

إلى كافة إخواننا السوريين
سلام

لا أجد في نفسي أدنى ريب أو أقل شبهة، في أن أبناء الوطن السوري سيتلقون بياناتنا التالية بقلوب ملؤها التصديق والإخلاص. فليعلم أبناء سوريا أن ما أصابهم من الضياع المحزن، من اعتداء رجال الاستعمار الفرنسي على وطنهم ومبادرتهم بسرعة فظيعة غريبة لهدم عرشهم في أول سعيهم لتشكيل حكومتهم التي وضعت أساسها على سياسة الولاء والصداقة لكل الأمم على الإطلاق، قد أثر على حواس كل عربي على وجه الأرض. وفي الوقت نفسه نعلم علمًا يقينًا أنَّ أبناء سوريا الكرام هم من جملة المفاخر العربية وركن من أركان الجامعة القحطانية والعدنانية، لا يرضون بالذل ولا ينقادون إلى من جاء لإهانتهم في عقر دارهم، وأنهم لا يعذرون أبناء جنسهم إذا منعوا عنهم يد المعاونة والمدد في مثل هذه الآونة الخطيرة.

كل عربي يعلم أنكم يا أبناء سوريا تستنصرون وتستثيرون حميته، ليأتيكم مسرعًا ملبيًا مقبلًا غير مدبر. ومن حيث قد توالت علينا الدعوات وصمت آذاننا الصرخات، فها أنا قد أتيت مع أول من لبَّاكم نشارككم في شرف دفاعكم، لطرد المعتدين عن أوطانكم بقلوب ذات حمية وسيوف عدنانية هاشمية.

ليعلم من أراد إهانتكم وابتزاز أموالكم وإهانة علمكم واستصغار كبرائكم، أن العرب كالجسم الواحد إذا شكا طرف منه اشتكى كل الجسم. وأن الله سبحانه وتعالى لم يترك الأمة سدى بداد متفرقة مفتونة بالباطل مغرورة بالكذب وواهن القول.

ليعلم أبناء سوريا أن هؤلاء المعتدين قد عدوكم من جملة من أدخلوه تحت عار استعمارهم ووضعوهم في مصافِّ الزنوج والبرابرة، وظنوا أنكم لستم من ذوي الغيرات وأصحاب الحميات. كيف ترضون بأن تكون العاصمة الأموية مستعمرة فرنسية؟! إن رضيتم بذلك فالجزيرة لا ترضى، وستأتيكم غضبى، وإن غايتنا الوحيدة هي، كما يعلم الله، نصرتكم وإجلاء المعتدين عنكم.

وها أنا ذا أقول، ولا حرج، بأنني قد قبلت تجديد بيعة مليككم فيصل الأول عن الأكثرية الغالبة التي جددت تلك البيعة على يدي، وإنني سأعود إن أبقاني الله حيًّا إلى وطني يوم نزوح عدوكم من بلادكم، وعليَّ هذا اليمينُ بالشرف. وأمركم حينئذ لكم وبلادكم بين يديكم، متعكم الله فيها بالعز السؤدد والرفاهية والمجد.

أتينا لبذل المهج دونكم، لا لتخريب البلاد كما يُفترى علينا. وكفانا دليلًا صدق بلائنا في الله والجنسية والوطن، وتعريض النفس للأخطار والمحن؛ وما وضعه عليكم ذلك المستعمر من الضمانات المثقلة إثر اعتدائه عليكم لدليل لا يحتاج إلى دليل.

أتاكم ذلك المستعمر ليسلبكم النعم الثلاث (الأعيان والحرية والدكتورية).

أتاكم ليسترقكم فتكونوا غير أحرار.

أتاكم ذلك المستعمر ليأخذ منكم أسلحتكم فتكونوا غير ذكور.

أتاكم ليخيفكم بقوته وينسيكم أن الله بالمرصاد فتكونوا غير مؤمنين.

لذا ندعوكم للحياة والاجتماع والذب عن الوطن، وعدم الإصغاء لكل دسيسة تفل عزمكم وتبدد حميتكم.

وأستعين الله لي ولكم فيما نحن بصدده.

ثم كتبت للنواحي بأنني نائب ملك سوريا، ودعوت أعضاء المؤتمر السوري، للحضور إلى معان، وكذلك كل ضباط الجيش السوري ومجندوه طلبتهم للحضور إلى معان للقيام بالواجب. وتلقيت أجوبة من مشايخ البدو في الشمال غير مشجعة، وكذلك وردتني أجوبة من بعض كبار الضباط العرب يشترطون نقل حقوقهم التقاعدية على الحكومة الهاشمية بالحجاز فيما إذا أخفقت الحركات ضد فرنسا في سوريا، وقالوا إنه إذا قبلت الحكومة الهاشمية هذا يحضرون وإنه إذا لم تقبل الحكومة في الحجاز هذا الرجاء فإن عذرهم قد وضح.

ثم التحق بي إلى معان من الذوات المعروفين: عوني بك عبد الهادي، وكامل بك البديري، وذوات غيرهم يفدون ويرجعون. ولقد طلب منا المرحوم كامل بك البديري ثمانين ألف جنيه ليؤسس أقلام استخبارات ودعاية، وكذلك طلب نبيه العظمة مائة وعشرين ألف جنيه للغرض نفسه؛ بالطبع فإنني كنت لا أملك شيئًا مما يطلبون، وكان مركزي المالي في غاية الصعوبة.

أما عامة الشعب في سوريا فكانوا على حماس تام. ولقد لاح لي من هذا كله أن الحركة إن لم تكن مؤيدة بالمال، فإنها لا تقوم لها قائمة، وكان الظن مني أن الوطنية الحقة ستسوق الناس إلى دفع ما يملكون لحفظ أوطانهم وعزتهم القومية.

وكان موقفي بعيدًا عن التفاؤل الحسن، ولكن كان الأمر على خلاف ذلك في شرقي الأردن، فقد هرع الناس إليَّ يدعونني إلى عمان فكنت أجيبهم بأنني فاعل إن شاء الله. وكان البرد في ذلك العام في غاية الشدة فأصبت باليرقان.

أما المخابرة بيننا وبين الحجاز، فكانت تجري بواسطة المخابرات اللاسلكية، وأنه ذات ليلة عندما كانت محطة لاسلكي معان تطلب جدة، إذا بها تأخذ جوابًا على الموجة نفسها من ديار بكر، فحيَّت هذه تلك وتعارفتا وجعلتا الساعة العاشرة مساء موعدًا للتحية بينهما. فأخبرني بذلك غالب بك الشعلان، وفي الليلة التالية تلقيت من صديق لي يسمى عبد الله بك، وكان نائبًا عثمانيًّا عن ديار بكر يعرفني وأنا نائب عن مكة، فحيَّاني ببرقية خاصة. وكان الناس هناك يظنون أن ديار بكر ستلحق بالعراق، وكنت المسمى لملك العراق والمبايع له حين ذاك، فشكرته. وقال لي غالب بك الشعلان إنه يعرف مصطفى كمال باشا شخصيًّا يوم كانا جميعًا ضابطين في طابور عثماني بيافا، وإنه يستأذن في تحيته وإبلاغه سلامي، وتكليفه بأن تتعاون الحركة العربية مع الحركة التركية لنجاة الجهتين، فأذنت له ففعل؛ وقد تلقى الجواب من مصطفى كمال باشا بالشكر والامتنان وأن التعليمات اللازمة قد أعطيت إلى كازم قره بكر باشا المتوجه إلى الجنوب مع مجرى الفرات، وأن رموزًا جفرية للمخابرات سترسل بصورة خاصة.

وبعد هذا بليال علمت أن الأخ فيصل — رحمه الله — طُلب إلى لندن، وقد كان حين ذاك في كوما بإيطاليا. ثم تلقيت برقية من الوالد المرحوم يخبرني بأن حكومة فلسطين تشكو من امتناع الأهلين في شرق الأردن من دفع الضرائب، ويأمرني بألَّا أربك الحكومات المحلية فيما لها وعليها.

ثم تلقيت برقية من الأخ فيصل من لندن يقول لي فيها إنه قد قابل جلالة الملك جورج الخامس وإنه ذكرني له وقال إنه يعرف الكثير عني، وقال إن الملك وعد — وبالطبع كان الوعد حسب الأصول بموجب رضا الحكومة البريطانية حكومة جلالته — بأن القضية العربية ستوضع على بساط البحث مجددة، وأنه لا ينبغي العمل على ما يهيج الفرنسيين لذلك. وبعد هذا الشرح رجاني الأخ بلزوم الاعتدال وأنه سيوافيني بما يجد.

وقد حضر أخيرًا صبحي بك الخضرا ومعه رجال من حزب الاستقلال عملوا على تثبيط الهمم وألَّا تكون حركات ضد الإفرنج، فلم تكن له هناك قوة على ذلك. وأجبت الأخ بأنني عامل بما يقتضيه الظرف، غير مقيد بأي وعد، وأنه إذا وفق في عمله وعاد ظافرًا فسوف لا يجد من الأوطان إلا الرضا والشكران. وقد تم الاستعداد بعد ذلك لدخول شرق الأردن.

ومن ظريف ما وقع وأنا بمعان، ذلك الكتاب الذي تلقيته من مظهر بك رسلان متصرف السلط — مظهر باشا رسلان رئيس الوزراء بشرق الأردن مرة، ووزير التموين أخيرًا بسوريا وهو من أعيان حمص — يقول لي فيه:

إنه بلغ الحكومة الوطنية عزمكم على زيارة شرق الأردن، فإن كانت هذه الزيارة لمجرد السياحة فإن البلاد ستقابلكم بالترحيب، وإن كانت لأغراض سياسية فالحكومة ستتخذ كل الأسباب المانعة لزيارتكم.

فأجبته:

إنني سأزور شرقي الأردن زيارة احتلالية، وأنا عُينت من الحكومة العربية الملكية بسوريا، وإنني أنوب الآن عن جلالة الملك فيصل ويجب أن تعلم ذلك، وإنه لمن واجبك تلقي الأوامر من معان وإلا فسيعين غيرك محلك.

فركب القطار وزارني بمعان واعتذر، وصار أخيرًا من أصدق رجالنا في شرقي الأردن.

ثم إنه وقع أن علقت نشرات بعمان والكرك جاء فيها:

إنه بلغ الحكومة البريطانية ورود شرذمة من الحجاز لقتال فرنسا بسوريا، وإن الحكومة البريطانية غير راضية عن هذه الحركة. فالحكومة البريطانية تحتقر كل شخص يلتحق بهذه الشرذمة وتحذر الناس من الالتحاق بها.

وفي يوم الاثنين، في ٢٠ جمادى الثانية ١٣٣٩، غادرت معان في القطار إلى عمان، وقبل تحرك القطار من محطة معان، ألقيت على مودعي الكلمة التالية:

إنني الآن مودعكم، وأود ألَّا أرى بينكم من يعتزي إلى إقليمه الجغرافي، بل أحب أن أرى كلًّا منكم ينتسب إلى تلك الجزيرة التي نشأنا فيها وخرجنا منها؛ والبلاد العربية كافة هي بلاد كل عربي.

ومن أعجب الحوادث في تلك الأثناء، مقابلة الشيخ يوسف ياسين سكرتير جلالة الملك عبد العزيز لنا في الزيزاء — محطة في الطريق من معان إلى عمان — وقوله لنا:

أرجوكم أن تعودوا إلى معان، فإن المعتدين البريطان في شرقي الأردن قد انسحبوا إلى فلسطين، وأخلوا الطريق لفرنسا كي تخرجكم إن دخلتم.

وكانت يده ترتجف وهو متعلق بشباك عربة القطار، فقلت له: لا بأس عليك ولا خوف علينا. ثم دفعت يده من ملتزمها فانحط إلى الأرض.

وفي صباح الأربعاء ٢٢ جمادى الثانية ١٣٣٩ الموافق ٢ آذار ١٩٢١ — بعد أن أمضينا ليلة بالزيزاء — تحرك بنا القطار إلى عمان فوصلناها قبيل ظهر اليوم نفسه.

وقد وصل إليَّ بعمان كل شيوخ الطفيلة والكرك وشيوخ البادية؛ فمن الحويطات حمد بن جازي ومن معه، ومن شيوخ الشمال مثقال باشا الفايز وكافة الصخور وكافة أهل الشمال.

وفي اليوم التالي من الوصول إلى عمان — أي يوم الخميس — ألقيت خطابًا جاء فيه:

سروركم بنا وترحيبكم لنا واجتماعكم علينا أمر لا يستغرب. أنتم لنا ونحن لكم. وإنني لم أغفل كلمة مما جاء به خطباؤكم. ووطنيتكم أمر لا يخفى على الكون كله. وضالتكم المنشودة هي عبارة عن حقكم الذي تطلبونه. ويمكنني أن أقول بأن الله لا يترككم هكذا، وإني أقول لكم بأنه إذا جاء الوقت لاستعمال ما تستعمله الأمم من القوة، عند ذلك تثبتون بأنكم وجدتم ضعفاء، ولكن لا تموتوا بلا شرف.

فلا أريد منكم إلا السمع والطاعة. وما جاء بي إلا حميتي وما تحمله والدي من العبء الثقيل. ولو كان لي سبعون نفسًا بذلتها في سبيل الأمة، لما عددت نفسي أني فعلت شيئًا.

كونوا على ثقة بأننا نبذل الأنفس والأموال لأجل الوطن …

وقد قابلني في مقدمة الناس مستر كركبرايد ببزته العسكرية، وكان يومئذ يمثل بريطانيا بعمان، فحياني — وهو كركبرايد الصغير، الأخ الأصغر لصديقي المعتمد الحاضر — فكان يومًا مشهودًا.

وبعد الدخول جرى احتلال المنطقة الأردنية بكاملها. وكانت تصدر الأوامر من عمان. وكان الناس في فترة لا يزور أحد أحدًا، فالبلقاء للبلقاء وعجلون ولواؤها لعجلون وأهله، والكرك والطفيلة كذلك. فجمعنا كل هذه الأقطار، ووحدناها وزال الخلاف بينها.

ثم تلقيت برقية من جلالة الوالد يقول فيها:

إن وزير المستعمرات البريطانية المستر تشرشل موجود بالقدس، وربما طلب زيارة وادي موسى أو رغب في أن يدعوك إلى القدس ليراك، فإذا كان أحد الشقين من رغباته فأتم ذلك بكل إكرام ورعاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤