الوحدة العربية وكيف مزقت

وسوريا وكيف ضاعت، وسوريا ورئاسات الدولة فيها وجمهورياتها، وفلسطين وأحزابها وصهيونيتها وسبب ضياع الحجاز من أجلها، وسوريا واستقلالها الأخير المزعوم وحالتها اليوم

مزقت الوحدة العربية بسبب الانتدابات، وكانت مساعي منوري سوريا في عهد الدستور العثماني طلب إدارة لامركزية، وبالطبع فإن دعاتهم جعلوا مركز دعايتهم في أوروبا باريس وفي الشرق مصر. ونظرًا للضغط التركي كان العطف على هذه المزاعم في كل بلد عربي مرئيًّا ظاهرًا، فجاءت الحرب العامة فاستغلت وقامت الثورة العربية.

ولما تبين أن الحركة العربية ثابتة، جاء سايكس وبيكو إلى جدة ومعهما الملك فيصل، فكان ما تذاكروا فيه — مما خفي عليَّ إلى الآن — غير ما كتب إليَّ الوالد عنه وأنا بوادي العيص، وهو قوله: «حضروا فأبدوا لنا ما أرادوا فأجبناهم بما ألهمنا الله وقد عادوا وعاد أخوك».

فمنذ ذلك الحين والجيش الشمالي العربي الذي يقوده الملك فيصل، كان ينال كل مساعدة وتأييد من الإنكليز والفرنسيين؛ وباقي جيوش الثورة في الحجاز كانت لا ينالها من المطر إلَّا الرشاش. وتبين أن هذه الجهود تنصرف لإيجاد قوة تسند جيش اللنبي من يمينه، وتبيين أن المحادثة كانت لإيجاد سوريا مستقلة عن الحجاز، وإيجاد دولة عراقية مستقلة عن الحجاز أيضًا.

وبعد أن جلت الجيوش العثمانية عن بلاد الشام إلى ما وراء حلب، ظهر عيانًا أن سفر الأمير فيصل إلى أوروبا باسم رئيس الهيئة العربية في مؤتمر الصلح إنما هو أمر ظاهر، والحقيقة هي أنه كان يعمل بين لندن وباريس للاتفاق على إيجاد مملكة سورية مستقلة عن الحجاز؛ وإن الأمر لظاهر، فإن في إنزال الراية العربية عن بيروت في أول أيام الهزائم التركية ما يشير إلى صحة ما ذهبنا إليه.

فهذه السياسة هي التي مزقت وحدة العرب وملك العرب. فلما تم ذلك وكانت البلاد ترغب شيئًا، والذين يريدون الرئاسة والحكم يعجزون عن الحصول على ذلك الشيء وهو استقلال البلاد الحقيقي، جاء التبلبل والتردد مع عدم الاستعداد، وعملت العصابات ما أشير إليها.

ثم لما وقعت الواقعة دخلت فرنسا وفر المترئسون، وهكذا سقطت سوريا وجاء الرجال الذين ترأسوها تحت إمرة المفوضين السامين الفرنسيين من رؤساء الحكومة ورؤساء الجمهوريات إلى أن حلت الحرب الأخيرة، فهزمت فرنسا واستسلمت، وجاءت حكومة فيشي وسيطرت، وجاءت اللجان الألمانية الإيطالية، واضطرت إنكلترا إلى التدخل لسلامة نفسها قبل كل اعتبار، فأدخلت معها ديغول ومن معه، فكان للإنكليز فرنسا وللألمان فرنسا أخرى. أما العرب فهم ينتظرون مصيرهم مستسلمين، ولقد وقع ما كان ينتظر.

وبعد أن تم إخراج فرنسا الفيشية قيل إن ميدان الحرب بعد عن الشرق الأوسط، وأن لا مانع من إعادة الحياة الدستورية إلى سوريا ولبنان مع الاعتراف باستقلالهما؛ وقد جرى ذلك تحت ضمانة بريطانيا كما يعرفه الناس.

وكانت الانتخابات وجاء البرلمان السوري وجاءت الجمهورية الحاضرة، ثم حصل ما حصل بين هذه الجمهورية وفرنسا، وتدخلت إنكلترا لتأمين الأمن فكبلت أيدي الفرنسيين وأرخت الحبل بيد الحكومة السورية، على أن يكون في لندن مؤتمر لحل المشكلة؛ وهذا يعني أن الإشكال لا يزال في طريق الحل، وأن إنكلترا كانت أوصت الطرفين بالتقارب، وأنها تريد نفاذ استقلال سوريا ولبنان، ولا تنكر مركز فرنسا الممتاز في البلدين.

أما فلسطين فلا تزال تتخبط تحت شهوات أحزابها. فالعرب في تأخر واليهود كل يوم يستزيدون أرضًا يملكونها. ولقد أدهشني ما رأيت بينما أنا في طريقي من جنين إلى اللد، من مستعمرات اليهود؛ فالساحل كله من حيفا إلى يافا أصبح بأيديهم، وقد عمروا تلك الرمال واستخرجوا مياهها وأحيوا مواتها وجعلوها جنات عدن وألجأوا العرب إلى الجبال القاحلة. ولا تزال الأحزاب العربية تناضل عن الشخصيات الذين على أيديهم خربت البلاد، بعد أن كان لمساعي هؤلاء التأثير الكبير في سقوط الدولة الهاشمية في الحجاز. لأن الدفاع السلبي غير المتقن الذي اتبعه جلالته تحت تضييقهم قد أدَّى إلى سقوط الحجاز. وفي كل هذه الأمور العِبر.

أما الجامعة العربية ومركزها بمصر، فهو أمر خطير للغاية. اسم كبير ودعاية عريضة طويلة، واجتماع ممثلين ليس لهم من الاتصال بالرغائب القومية ولا بوسيلة من الوسائل، وكل دولة من دول الجامعة مرتبطة بدولة أجنبية كبيرة لا تمكنها من التصرف خارج الالتزامات المتعهدة بها، والأمم العربية وملوكها في منعزل عن ذلك؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وإننا نثبت هنا ما كنا أوصينا به توفيق باشا أبو الهدى ثم سمير باشا الرفاعي لدى سفرهما إلى مصر للمشاورة في مسألة الوحدة العربية.

إلى فخامة رئيس وزرائنا توفيق باشا أبو الهدى

تعليمات خاصة بمسألة الوحدة العربية:
  • (١)

    قد أطلعكم فخامة نوري باشا على ما يجب مما كان أساسًا للمذاكرة بين الرئيسين المصري والعراقي في صدد الوحدة.

  • (٢)

    إن ما اطلعنا عليه مما جرى بين رفعته وفخامته هو غاية ما يمكن ضمن تلك الدائرة.

  • (٣)

    شرق الأردن تؤيد هذه المساعي المحمودة بكل تصميم.

  • (٤)

    عني المرحوم الملك حسين بالبلاد العربية تلك البلاد التي تحدها من الغرب الحدود المصرية والبحران الأبيض والأحمر، ومن الشمال الولايات التركية ومن الشرق الحدود الإيرانية مستثنية الإمارات والسلطنات التي لها صلات عهدية بحكومة الهند وهي الأمير ابن سعود (يومئذٍ) وأمير البحرين وسلطان مسقط وسلاطين حضرموت ولحج. أما ولاية اليمن العثمانية ومتصرفية عسير وولاية الحجاز وإمارة شمر، وهي إمارة الرشيد ومركزها حائل، فكلها ضمن البلاد العربية المقصودة، ولا يخرج من هذا إلا أولئك الأمراء والسلاطين الذين لهم صلات عهد بالهند كما جاء آنفًا، ومستعمرة عدن البريطانية والنواحي الست.

  • (٥)

    لقد جاء في التحفظات البريطانية ذكر الساحل الغربي من بلاد الشام كمرسين وأضنه، وقد رضي المرحوم باعتبار مرسين وأضنه ليستا بعربيتين محضًا.

  • (٦)

    وبما أن البلاد الفلسطينية والسورية ساحلًا وداخلًا كانت الهدف من الثورة، فهي القضية التي ينبغي إذن الخروج منها بوحدة شاملة أو باتحاد تعاهدي؛ فبالمعنى الأول جعل المجموع حكومة واحدة بصبغة وفق ما جاء في قرار المؤتمر السوري ٢ تموز ١٩١٩ والمبلغ للدول ذات العلاقة يومئذ من لدن الحكومة الفيصلية، وبالمعنى الثاني اتحاد تعاهدي يبقي الحكومات الإقليمية كما هي ويضمها في أمور تتعين لربط أجزائها بعضها ببعض تحت رئاسة واحدة.

  • (٧)

    إن الاتحاد المعمول به اليوم والمرتكز على مصر والعراق لا يكون محكمًا قبل أن تتحد البلاد الشامية (سوريا الكبرى) أو أن توحد، وإذا بقيت هذه البلاد منقوصة السيادة تحت انتدابات أجنبية أو تشتت محلي، فأمر تمشيها مع مصر والعراق يكون من الضعف وعدم التماسك بصورة تجعلها تعجز عن القيام بما يجب عليها في هذا المضمار.

  • (٨)

    من المعتقد أن بريطانيا العظمى والأمم المتحدة على أثر عهد الأطلنطي وبنتيجة ما أثبتته الحرب الحاضرة لا بد أن تكون قد عزمت هي ومن معها على تصحيح غلطات الحرب السابقة وعلى بناء الديموقراطية بناء صحيحًا يجعل الأمم الشرقية في منزلة الاستقلال والشرف القومي والاستعداد، واصلة إلى الكفاءة الجديرة بالاعتماد عليها لحفظ السلام العام على طول الساحل الشمالي لأفريقيا والساحل الغربي لفلسطين وسوريا. ولذلك فالمعتقد أن أمر الوحدة متى عولج بطريقة صحيحة متساندة من العراق ومصر بعد الإصرار الكلي على وحدة سوريا أو اتحادها، سوف لا يجعل هناك مصاعب يواجهها العاملون على الاتحاد العربي إزاء إنكلترا أو أميركا. أما الانتداب الفرنسي فموقف فرنسا الحاضر هو بنفسه يقرر أن قيام فرنسا بعبء كهذا مرة أخرى ليس من الممكنات، وأن عرب سوريا الكبرى مصممون على وصولهم إلى حقوقهم في بلادهم، وتلك الحقوق هي الاستقلال والوحدة والاتحاد، وإن هذه النتيجة ضرورة حيوية عسكرية للعراق ولتركيا ولمصر في آن واحد.

  • (٩)

    أما القضية الفلسطينية فقد أعلنت بريطانيا العظمى سياستها فيها في الكتاب الأبيض الذي لم تنقضه إلى اليوم، وليس بد من إدخال فلسطين في الاتحاد أو الوحدة، وأن هذا الإدخال لا يتنافى مع أي حل كان قد قدم من أية لجنة بريطانية أوفدت لهذا أو من أي مؤتمر عربي قدم اقتراحاته في هذا الصدد، ومن الممكن الاعتماد على قرارات مؤتمر لندن بهذا الشأن أو على مقررات المؤتمر البرلماني العالمي العربي الذي عقد بمصر.

    وأما لبنان فلا مانع من جعل الخيار له في الوحدة أو الاتحاد مع كل هذه البلاد العربية واحتفاظه بما يريد من شكل وكيفية، على أن مسألة لبنان الكبير هي من جملة الحقوق السورية التي لا ينبغي إغفالها. وأما السودان فهي كما معروف مصرية بريطانية. وأما شمال أفريقيا فمن المستحسن التوسل للتفاهم مع حضرة صاحب الجلالة السلطان لمراكش ومع حضرة صاحب العظمة باي تونس. أما ليبيا وطرابلس فأمرهما حتى يحين الحين، وإن الأمل في أن سيكون لليبيا كيان عربي مشكوك فيه. وأما مصر فمع كون اسمها مصر، فهي من أمهات البلاد العربية وهي الكنانة وهي التي لها من الصلات القديمة والروابط القومية ما لا يمكن التبرؤ منه والعياذ بالله.

    فالبلاد العربية ترحب بالاتحاد بهذا القطر العزيز بكل قواها، وتشيد بذكر الساعين إليه وعلى الأخص زعيمها المحترم.

  • (١٠)

    إن أمير شرق الأردن يؤيد بكل جهده مساعي مصر والعراق ويصر على أن على مصر والعراق السعي لوحدة سوريا أو اتحادها قبل أي اتحاد عربي آخر.

فلتكن مذاكرات فخامتكم مع رفعته على هذا الأساس، وإننا ننيركم بهذه التعليمات ونترك مسألة ما يمكن أن يتجدد من أبحاث إلى فطنتكم ورويتكم المعروفتين.

حاشية: فيما يتعلق بنجد والحجاز واليمن، أرى ألَّا يلح عليهما فيما لا يستأنسان به، مع جعلهما على وقوف عما يجري فيما لا يعده العراق ومصر ومن معهما سرًّا لا يزال.

رغدان في ٢٣ شعبان ١٣٦٢ الموافق ٢٤ آب ١٩٤٣

عزيزي سمير باشا

هذه تعليمات لفخامتكم فيما يتعلق بمهمتكم في مؤتمر وزراء الخارجية العرب بمصر:
  • (١)

    اقرؤوا السلام دولة ماهر باشا والنقراشي باشا وليعلما أنني محتفظ لدولته ولمعاليه بأرق شعور المودة وأحاسيس الأخوة.

  • (٢)

    أُقدر تمام التقدير الشعور العام العربي بخصوص الوحدة العربية وقد نظرت باهتمام إلى البروتوكول الذي هيأه مؤتمر الإسكندرية، ومن المعلوم أن الوحدة العربية إذا حصلت تكون الأساس المتين للعرب في آسيا وأفريقيا وفي البلاد الإسلامية كتركيا وإيران والأفغان. إن هذه الوحدة متى اقترنت بالحرية والسيادة والعسكرية غير المقيدة كانت خير عون للديمقراطيات في كل موقف وفي كل أزمة، وإذا قلنا الديمقراطيات فنحن نعني بها أي دولة قديمة ديمقراطية لها أغلبية كبرى من التبعة المسلمين، تلك الحكومات التي مشت مع التاريخ الإسلامي من القرن المسيحي السابع إلى اليوم.

  • (٣)

    من المعلوم أن النهضة العربية عند نجومها، كانت البلاد العربية موحدة بمجموعها خديوية مصر بالنظر لسلطة السلطان العثماني، وليست هناك حواجز جمركية أو موانع تتعلق بجوازات السفر، وقد كانت وحدة تعليمية.

  • (٤)

    إنه لما جاء الدستور العثماني وتسلطت فرقة الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية ومشت نحو تتريك العناصر وإخراجها عن صبغتها القومية وعدم الاعتداد بمرامي الشريعة السمحة المحمدية، والثورات في اليمن وعسير، والمطالبة في سوريا بإدارة لا مركزية، كل هذه الدوافع ساقت العرب إلى الرغبة في الانفصال عن هذا الجسم العتيق الواهي، وكانت النهضة وهي الحركة العربية الثانية التي تلت حركة محمد علي باشا والي مصر الذي وصل بجيوشه إلى قونيا لهذا الغرض نفسه.

  • (٥)

    فإن كانت الحركة الأولى جرت إلى حيازة مصر العزيزة ما حازته من تخلص من تلك اليد، فإن الحركة الأخيرة العربية أدت إلى عين النتيجة نفسها في البلاد، ولم يكن يتصور أن هذه الحركة تجر إلى تفتت وتفريق يقع علي أثر انتهاء الحرب العظمى السابقة، ذلك التفرق الذي تسعون جميعًا اليوم لجمعه.

  • (٦)

    ومن هذا يفهم أن الأمر دقيق وخطير، ولكن نعتقد بحسن النية في الجميع. فالبيت الهاشمي الذي تزعم هذه الحركة التي لها صلة غير منفكة بتاريخ محمد علي باشا الكبير وبتاريخ الشريف محمد بن عون صديق ورفيق محمد علي باشا، يضع نصب عيون اعتباركم مسؤولياتها في تحقيق مراميها. ونلفت الأنظار إلى حالة التقسيمات الحاضرة لتنظروا إليها بعين حقيقتها. وليست البلاد العربية اليوم حرة بعيدة عن الأيدي والأنظار التي لها مقاصدها الكبرى اليوم غير ما كانت عليه قبل عصر المطامع في الغاز والمعابر إلى البحار الكبرى، يجعل هذا الشرق في دقة ورقة مخيفتين. فإذا رأينا إلى ما لمصر من إدارة وتشكيلات، وما للعراق كذلك من وحدة وتهيئة، لا نرى هذا في الحجاز ونجد ولا في سوريا بأجمعها؛ وإن لمصر من المعلومات والأخبار عن حالة الأمة الحجازية ما يغنينا عن الشرح، ولديها أيضًا من الأخبار والمعلومات عمَّا للقضية الصهيونية والانتداب الفرنسي بسوريا ما يغنينا عن الإشارة إلى ذلك. وإن لكل بلد من المجموعة الأفريقية وآسيا من المسائل المعلقة غير المحلولة ما يلفت النظر. والوقت ليس بوقت تشكيك، بل هو وقت ائتلاف وتضامن نزيه يوجب الاعتراف بما هنا وهناك من أدواء قومية وأجنبية واجبة الإصلاح. لذلك تتقدمون إلى المؤتمر وأنتم على علم من هذا لنقله إلى رئاسة الوزارة ووزارة الخارجية بمصر، وأن الاعتقاد في أن مصر تقف موقف الأخ المحايد الجامع الناس للخير، وهذه فكرة العراق الشقيق، والسلام عليكم.

رغدان في ٢٩ صفر ١٣٦٤ الموافق ١٢ شباط ١٩٤٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤