الفصل الأول

إلى داخل بلاد الكَم

كانت أليس تشعُر بالملل؛ فقد كان جميع أصدقائها إما في إجازةٍ أو يزُورون أقاربهم، وكانت السماء تمطر، ولذلك بقيت وحدها داخل المنزل تشاهد التليفزيون. حتى ذلك الوقت من بعد الظهيرة كانت قد شاهدت الجزء الخامس من حلقات مُسلسلة تمهيدية لتعليم لغة الإسبرانتو، وبرنامجًا عن العناية بالحدائق، وبثًّا سياسيًّا مدفوع الأجر، ولهذا شعرت أليس بمللٍ شديد.

نظرت إلى الأسفل نحو الكتاب المُلقى على الأرض بجوار كرسيِّها. كانت نسخة من كتاب «أليس في بلاد العجائب»، الذي كانت تقرؤه من قبلُ وأسقطته هناك عندما انتهت منه. تساءلت في نفسها بقلَّة حيلة وقالت: «لا أعرف لماذا يصعب عرض برامج مُمتعة وأفلام كارتون أكثر في التليفزيون. كم أتمنَّى لو كنت مثل أليس الأخرى؛ فقد كانت تشعر بالملل ثم ذهبت إلى أرضٍ مليئة بالكائنات المثيرة والأحداث العجيبة. ليتني أستطيع الانكماش بطريقةٍ ما والمرور عبرَ شاشة التليفزيون، ربما أجد حينها كل أنواع الأشياء الساحرة.»

حدقت بإحباطٍ في الشاشة، التي كانت في هذه اللحظة تعرض صورة رئيس الوزراء وهو يُخبرها كيف أنه مع وضع كلِّ الأشياء في الاعتبار، أصبحت جميع الأوضاع أفضل بكثير مما كانت عليه منذ ثلاث سنوات، حتى لو لم تبدُ الأمور دائمًا هكذا. وبينما تشاهد، تفاجأت نوعًا ما حين رأت صورة وجه رئيس الوزراء تنقسم ببطءٍ إلى سحابةٍ من نقاطٍ صغيرة لامعة مُتراقصة، بدت جميعها وكأنها تهرع نحو الداخل، كما لو كانت تدعوها إلى الدخول معها. قالت أليس: «ما هذا؟! أعتقد أنها تريد منِّي اللحاق بها إلى الداخل.» قفزت على قدميها وبدأت التحرك نحو التليفزيون، ولكنها تعثَّرت في الكتاب الذي طرحته بإهمالٍ على الأرض فسقطت لرعونتها.

عندما سقطت على وجهها أصابها العجب لرؤية أن الشاشة قد تضخَّمت للغاية ووجَدَت نفسها بين دوامة النقاط الصغيرة، تندفع معها بسرعةٍ إلى داخل الصورة. فكرت أليس: «لا أستطيع رؤية أي شيء بينما تندفع هذه النقاط من حولي وتدور في دوامات، فهذا بالضبط يُشبه أن يضيع المرء وسط عاصفة ثلجية. لماذا لا أستطيع حتى أن أرى قدميَّ. أتمنى لو استطعتُ رؤية حتى القليل. فمن الممكن أن أكون في أي مكان.»

في هذه اللحظة شعرت أليس باصطدام قدميها بشيءٍ ما صلبٍ ووجدت نفسها تقف على سطح مستوٍ وصلب. بدأت جميع دوامات النقاط من حولها تتلاشى، ووجدت نفسها محاطة بعدد من الأشياء غير محددة المعالم.

نظرت عن كثبٍ نحو أقرب الأشياء إليها ولاحظت جسمًا صغيرًا يصعد على خصرها. كان من العسير للغاية أن تتعرف على ماهيته، إذ ظل طوال الوقت يقفز جيئة وذهابًا، متحركًا بسرعة كبيرة مما جعل من الصعب للغاية رؤيته بوضوح. بدا هذا الجسم كما لو أنه يحمل عصًا ما أو ربما مظلةً مطوية، كانت مُنتصبة لأعلى في الهواء. عرَّفت أليس نفسها بأسلوب مهذب وقالت: «أهلًا، أنا أليس، هل تسمح لي أن أسألك مَن تكون؟»

قال الجسم: «أنا إلكترون؛ أنا إلكترون ذو لف مغزلي لأعلى. ويمكنك بسهولة تمييزي عن صديقي هناك، وهو إلكترون ذو لف مغزلي لأسفل؛ لذلك فنحن مُختلفان إلى حد ما.» تحدَّث بصوت خفيض وأضاف شيئًا يبدو مثل «فليحيَ الاختلاف!» أما بالنسبة إلى أليس فقد بدا الإلكترون الآخر شديد الشبه بهذا الإلكترون، إلا أن مظلَّته، أو أيًّا كان ما يحمله، كانت تشير إلى الأسفل نحو الأرض. كان من الصعب للغاية أيضًا الجزم بهذا يقينًا، وهذا لأن هذا الجسم الآخر كان يقفز جيئةً وذهابًا بسرعة أيضًا كالإلكترون الأول تمامًا.

الجسيمات على المستوى الذري تَختلِف عن الأشياء الكبيرة الحجم. فالإلكترونات ضئيلة الحجم للغاية ولا تبدو عليها أي ملامح مميزة، ما يجعلها جميعًا متماثلة تمامًا. تقوم الإلكترونات بدوران من نوع ما على الرغم من عدم قدرتنا على تحديد ما يدور فيها بالضبط. ومن الصفات المميزة والفريدة أن كل إلكترون يدور بالسرعة نفسها بالضبط، بصرف النظر عن الاتجاه الذي تختار قياس الدوران فيه. والاختلاف الوحيد بينها أن بعضها يدور في اتجاه والبعض في الاتجاه الآخر. ووفقًا لاتجاه دوران الإلكترونات يُمكِن تحديد ما إذا كان لفها المغزلي لأعلى أو لأسفل.

قالت أليس لأول شيءٍ تتعرف عليه: «من فضلك، هل يُمكنُك أن تتكرَّم وتقف ثابتًا في مكانك للحظة؛ إذ يصعب عليَّ رؤيتك بوضوح على الإطلاق؟»

قال الإلكترون: «أنا كريم للغاية، لكني أخشى من عدم وجود مساحة كافية لذلك، لكني سأُحاول.» حين قال هذا الكلام أبطأ من معدَّلِ اهتزازاته، لكن مع بطء حركته أكثر، أخذ في التمدُّد على جانبَيه وأصبح أكثر انتشارًا. والآن، على الرغم من أنه لم يعُد يتحرَّك بسرعةٍ على الإطلاق، فقد بدا ضبابيًّا وغير واضح المعالم، ولم تعدْ أليس تستطيع تحديد شكله تمامًا كما في السابق. قال وهو يلهث: «ذلك أفضل ما أَقدِر على فعله، أخشى من أنه كلما تحرَّكتُ بسرعة أبطأ زاد انتشاري في المكان. فهذا هو حال الأشياء هنا في بلاد الكَم؛ كلما صغُر الحيِّز الذي تشغلينه، تحتَّم عليكِ التحرك بسرعة أكبر. إنه أحد القوانين ولا يوجد ما أستطيع أن أفعله حيال هذا.»

واصل مُرافقُ أليس الكلام بينما بدأ مرةً أخرى في القفز بسرعة حولها: «في الواقع لا يوجد مكانٌ لإبطاء السرعة فيه هنا، فازدحام الرصيف يزيد؛ ما يُلزمني باحتواء نفسي أكثر.» بالطبع فإن المساحة التي تقف فيها أليس أصبحت مُزدحمةً للغاية؛ فقد أصبحت مليئةً بأجسامٍ صغيرة مكدَّسة، كلٌّ منها يتحرَّك بحماسٍ ذهابًا وإيابًا.

فكرت أليس: «يا لها من كائنات غريبة! لا أعتقد أني سأستطيع أبدًا رؤية شكلها الفعلي إن لم تقف ثابتةً لدقيقة، ولا يبدو أن ثمَّة فرصة كبيرة لحدوث هذا.» وبما أنها فيما يبدو لن تجد وسيلة تجعلها تُقلِّل من سرعتها، فقد جربت الحديث في موضوع آخر. تساءلت: «هل يُمكنُكم أن تخبروني من فضلكم أي نوع من الأرصفة هذا الذي نقف عليه؟»

ردَّ واحد من الإلكترونات مبتهجًا: «بالتأكيد رصيف محطة قطار.» (كان من الصعب جدًّا على أليس أن تحدِّد أيٌّ منهم الذي تحدَّث؛ فقد كانوا بالفعل جميعًا بعضهم يُشبهون بعضًا كثيرًا.) «سنستقل القطار المَوجي إلى الشاشة التي ترينها، وسيكون عليكِ تبديل القطارات وركوب قطار الفوتون السريع، على ما أظن، هذا إن أردتِ الذهاب إلى أبعد من هذا.»

سألت أليس: «هل تقصد شاشة التليفزيون؟»

صاح أحد الإلكترونات: «أجل، بالتأكيد، هذا ما أَقصده.» كادت أليس تُقسِم بأن هذا الصوت لم يكن ذات الإلكترون الذي تكلَّمَ للتو، لكن كان من الصعب للغاية التأكُّد من هذا. «هيا بسرعة! القطار وصَل وعلينا الركوب فيه.»

ينصُّ مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج على أنه لا يُمكن تحديد قيم دقيقة لموقع أيِّ جُسيم وسرعته. وهذا يعني أنه لا يُمكنُ لأي جُسيم أن يبقى ثابتًا في مكان معين؛ ذلك لأن الجسيم الثابت تكون له سرعة محدَّدة وهي الصفر.

من المؤكَّد أن أليس كانت تستطيع رؤية صفٍّ من مقصورات صغيرة موجودة أعلى الرصيف. كانت صغيرةً للغاية؛ وبعضُها كان خاليًا، وبعضها كان يَحتوي على إلكترونٍ واحد، في حين كان بعضُها يَحتوي على اثنين. كل المقصورات الخالية كانت تَمتلئ بسرعة؛ ففي الحقيقة لم يكن يبدو أن أيًّا منها قد بقيَ خاليًا. إلا أن أليس لاحظَت أنه لا تُوجد أي مقصورة تحتوي على أكثر من إلكترونَين اثنين. فحين كانا يَمران بجوار أيٍّ من هذه المقصورات فإن الإلكترونَين شاغلَيها كانا يَصرُخان: «لا مكان! لا مكان!»

سألت أليس مرافقَها: «بالتأكيد يُمكنك محاولة إقحام أكثر من اثنين في مقصورة، أليس كذلك؟ فالقطار مُزدحِم للغاية.»

«لا، لا يُمكن! فالقاعدة تقضي بعدم وضع أكثر من إلكترونين معًا أبدًا.»

قالت أليس في أسف: «أعتقد إذن أن علينا أن نستقلَّ مقصورتَين مختلفتَين.»

لكنَّ الإلكترون طمأنها: «لا توجد أي مشكلة بالنسبة إليكِ، لا مشكلة على الإطلاق! فبإمكانك الدخول في أي مقصورة تُريدينها، بكل تأكيد.»

ردَّت أليس: «أنا بالتأكيد لا أفهم السبب في حدوث هذا، فإن كانت المقصورة ممتلئةً تمامًا لدرجة عدم قدرتها على استيعابك، فبالتأكيد سيَصعُب دخولي فيها أيضًا.»

«على الإطلاق! فالمقصورات غير مسموح لها باحتواء أكثر من إلكترونين اثنين، ولهذا تكون تقريبًا جميع الأماكن المخصصة للإلكترونات قد شُغلت، لكنكِ لستِ إلكترونًا! ولا توجد أليس أخرى على متن القطار، ولذلك توجد مساحة شاسِعة لاستيعاب أليس واحدة في أي مقصورة.»

لم يكن هذا منطقيًّا من وجهة نظر أليس، ولكنها كانت تخشى من أن يبدأ القطار في التحرك قبل أن يجدا مقاعد لهما، ولهذا بدأت تبحث عن مكانٍ خالٍ يمكن أن يحمل إلكترونًا آخر. سألت مرافقها: «ماذا عن هذا المكان؟ فهذه مقصورة فيها بالفعل إلكترون واحد فقط، هل يُمكنك الدخول هنا؟»

قال بسرعة وقد بدا مرتعبًا إلى حد كبير: «بالتأكيد لا، فهذا إلكترون آخر ذو لفٍّ مغزليٍّ لأعلى. لا يُمكنني الوجود في المقصورة نفسها مع إلكترون ذي لفٍّ مغزلي لأعلى، يا له من اقتراح! إنه ضد مبدئي تمامًا.»

سألته أليس: «ألا تقصد أنها ضد مبادئك؟»

رد عليها في حنق: «أنا أعني ما قلته، فهذا ضد مبدئي أو بالأحرى مبدأ باولي، إنه يحظر على أي إلكترونَين منَّا أن يفعلا الشيء ذاته، بما في ذلك الوجود في المكان نفسه وأن يكون لهما اللفُّ المغزلي نفسه.»

الإلكترونات مُتماثِلة تمامًا وتتبع مبدأَ باولي للاستبعاد (انظر الفصل الخامس)، الذي يمنع وجود أكثر من إلكترون واحد في الحالة نفسها (أو اثنين منها، إذا ضمَمنا إلى ذلك اتجاهات اللف المغزلي المحتملة المختلفة).

لم تُدرك أليس في الواقع السبب في انزعاجه، لكنها نظرت حولها في عجالة كي تجد مقصورةً أخرى تُلائمه أكثر. نجحت في العثور على واحدة تحمل إلكترونًا واحدًا، ومن النوع ذي اللف المغزلي لأسفل. فقفز مُرافق أليس إلى داخل هذه المقصورة بسرعة بالغة. اندهشت أليس حين رأت أنه على الرغم من صغر المقصورة التي تبدو الآن مُمتلئة، فإنه بطريقةٍ ما ثمة مساحة كافية يُمكنها الدخول فيها بسهولة كبيرة.

وبمجرد استقرارهما داخل القطار انطلق في رحلته. كانت الرحلة خالية من الأحداث ولم تكن المناظر جميلة. لذا شعرت أليس بالفرح حين بدأ القطار يبطئ. فكَّرت أليس: «لا بد أن تكون هذه هي الشاشة، أتساءل عما سيحدث هنا.»

بمجرد نزولهما من القطار عند الشاشة وجدا هياجًا شديدًا في كل مكان. تساءلت أليس بصوتٍ عالٍ: «ما الذي يحدث هنا؟ لماذا يبدو الجميع ثائرين للغاية.» جاءت الإجابة عن تساؤلاتها من إعلانٍ بدا وكأنه قادم من الهواء المحيط بالمكان.

«إنَّ فوسفور الشاشة في الوقت الحالي متحمِّس للغاية بسبب الإلكترونات القادمة إليه، وسنَشهد انبعاثات الفوتون قريبًا، فلتكونوا مستعدين لمغادَرة إكسبريس الفوتون.» نظرت أليس حولها لترى إن كان باستطاعتها رؤية القطار السريع وقتَ وصوله حين رأت اندفاعًا لأجسام لامعة عبر الرصيف. حاصر الزحام أليس فأصبحت في وسطه، وحملوها معهم حيث تكدسوا جميعًا داخل مقصورة واحدة. فكَّرت أليس بينما كان هذا الحشد يُحيط بها، وقالت: «حسنًا، لا يبدو أنهم قلقون بشأن أي مبدأ، سواء كان مبدأ باولي أو غيره؛ فهؤلاء بالتأكيد ليسوا قلقين بشأن الوجود معًا في المكان نفسه. أفترض أن القطار السريع على وشك الانطلاق قريبًا، أتساءل إلى أين …»

«… سنصلُ في رحلتنا هذه المرة» أنهت حديثها هكذا وهي تخرج من القطار إلى الرصيف. قالت بعد هذا: «يا إلهي! لقد كانت رحلة سريعة بالتأكيد، فقد بدا كأنها لم تأخذ أي وقت على الإطلاق.» (كانت أليس محقة في ذلك تمامًا؛ فالرحلة في الحقيقة لم تأخذ أي وقت على الإطلاق، حيث إنَّ الزمن يتجمَّد فعليًّا بالنسبة إلى أي جسم يسافر بسرعة الضوء.) مرةً أخرى وجدت نفسها محاطةً بحشد من الإلكترونات، تَندفع جميعها مبتعدة عن الرصيف.

صاح أحدها نحوها بينما تندفع جميعًا مُبتعدة: «تعالَي معنا! علينا الخروج من المحطة الآن إن أردنا الذهاب إلى أي مكان.»

سألته أليس بتردُّد: «من فضلك، هل أنت الإلكترون نفسه الذي كنت أتحدث إليه من قبل؟»

أجابها الإلكترون وهو يُغادِر إلى ممرٍّ جانبي: «نعم أنا هو.» انجرفَت أليس مع حشود الإلكترونات وحُملَت عبر البوابة الرئيسية للمحطة.

قالت أليس: «أعترف أن هذا مزعج للغاية بالفعل؛ فقد فقدت الآن الشخص الوحيد الذي أعرفه على الإطلاق في هذا المكان الغريب ولا يُوجد مَن يفسر لي ما يحدث.»

قال صوتٌ يأتي من عند مستوى ركبتها تقريبًا، وكان صادرًا من أحد الإلكترونات: «لا تَقلقي يا أليس، سوف أُشير عليكِ إلى أين تذهبين.»

سألت أليس وهي مُتفاجئة: «كيف تعرف اسمي؟!»

«تفسير ذلك بسيط؛ فأنا نفس الإلكترون الذي كان يتحدَّث إليك من قبل.»

هتفَت أليس: «من غير المُمكن أن تكون نفس الإلكترون! فقد شاهدْتُ هذا الإلكترون وهو يذهب مُبتعدًا في اتجاه مختلف. ربما لم يكن هو ذلك الذي كنت أتحدَّث إليه من قبل؟»

«بكل تأكيدٍ كان هو.»

قالت أليس استنادًا إلى المنطق: «إذن لا يُمكن أن تكون أنت نفس الإلكترون، أنت تعرف، فلا يُمكن أن تكونا أنتما الاثنان إلكترونًا واحدًا.»

ردَّ الإلكترون: «بل يُمكننا هذا! فأنا وهو واحد؛ كلنا جميعًا نفس الإلكترون. كلنا الشيء نفسه تمامًا!»

احتجَّت أليس وقالت: «هذا سخيف، فأنت هنا بجواري بينما هُرع هو مُبتعِدًا نحو مكانٍ ما هناك؛ لذلك من غير المُمكن أن تكونا أنتما الاثنان الشخص نفسه، فلا بد أن يكون أحدكما مُختلفًا عن الآخر.»

صاح الإلكترون وهو يقفز لأعلى وأسفل من فرط إثارته: «على الإطلاق، فجميعنا متماثلون، ولا توجد طريقة على الإطلاق تمكِّنك من التمييز بيننا. ولهذا كما ترين هو لا بد أن يشبهني وأنا لا بد أن أشبهه.»

في هذه اللحظة بدأت كل الإلكترونات المحتشدة حول أليس تصرخ: «أنا هو نفسه!» «وأنا هو نفسه أيضًا!» «وأنا هو نفسه تمامًا!» «أنا أيضًا أُشبهك!» كان الصخب رهيبًا، فأغلقَت أليس عينَيها ووضعَت يديها على أذنيها حتى خفتت الضوضاء مرةً أخرى.

حين ساد الهدوء مرةً أخرى، فتحت أليس عينيها ورفعت يديها من على أذنيها. لم تجد أيَّ أثر لحشود الإلكترونات التي كانت تَتزاحم حولَها، ووجدت أنها تسير إلى خارج بوابة المحطة بمفردها تمامًا. وحين نظرت حولها وجدت نفسها في شارعٍ بدا للوهلة الأولى طبيعيًّا تمامًا. انعطفت يسارًا وبدأت تمشي على الرصيف.

وقبل أن تذهب بعيدًا مرَّت بجسم يقف مُكتئبًا أمام أحد المداخل ويُفتِّش في جيوبه. كان الجسم قصيرًا وشاحبًا للغاية. كان من الصعب تمييز ملامح وجهه بوضوح، تمامًا كحالِ جميع من قابلتْهم أليس مؤخَّرًا، لكن أليس رأت أنه ربما يبدو أقرب إلى شكل الأرنب. «يا إلهي! يا إلهي! لقد تأخرتُ كثيرًا ولا أستطيع العثور على مفاتيحي في أيِّ مكان، ولا بد لي من الدخول على الفور!» وبعدما انتَهى من هذا الكلام تراجَعَ عدة خطوات للخلف ثم ركض بسرعة نحو الباب.

لقد ركض بسرعة بالغة، حتى إن أليس لم تَستطع رؤيته في أي مكان محدَّد، ولكنها رأت بدلًا من ذلك خيطًا من صور بَعْدية أظهرت كل المواضع التي مرَّ بها على طول خطِّ سيره. امتدَّت هذه من النقطة التي بدأ منها حتى الباب، لكن بدلًا من أن تتوقَّف هذه الصور عند الباب كما توقعت أليس، استمرَّت عبر الباب، وتقلص حجمها فصار أصغر فأصغر حتى أصبح من الصعب للغاية رؤيتها. لم يكن لدى أليس رفاهية الوقت الكافي كي تُسجِّل هذه السلسلة العجيبة من الصور عندما ارتدَّ عائدًا بالسرعة نفسها، مخلفًا سلسلةً من الصور مرةً أخرى. هذه المرة انقطعَت فجأة بسبب زحف ذلك الشخص التعيس الحظ على ظهره في مجرى مياه الصَّرف. كان من الواضح أن ذلك لم يفتَّ في عضدِه بأي حال؛ فقد استجمَعَ نفسه ونهض وأسرع نحو الباب مجدَّدًا. مرةً أخرى ظهرت سلسلة من الصور البَعْدية، تتقلَّص في الحجم مع مرورها عبر الباب، ومرةً أخرى عاد وسقط طريحًا على ظهره.

ومع اندفاع أليس نحوه كرَّر هذا الفعل عدة مرات أخرى، فظلَّ يُلقي بنفسه على الباب ثم يسقط على ظهره. صرخَت أليس: «توقَّف، توقَّف … يجب ألا تفعل هذا، فلا بد أنك ستُؤذِي نفسك.»

توقف هذا الشخص عن الركض ونظر نحو أليس. «ماذا؟! أهلًا يا عزيزتي، أخشى أن عليَّ الاستمرار في فعل هذا. فأنا محبوس في الخارج ويجب أن أدخل سريعًا؛ لذا لا خيار أمامي إلا أن أُحاول أن أعبر هذا الحاجز وأصنع نفقًا فيه.»

نظَرَت أليس إلى الباب الذي كان ضخمًا وصلبًا، وقالت: «لا أعتقد أن لديك أدنى فرصة للعبور عبر هذا الباب عن طريق مجرد الركض نحوه. هل تُحاول كسرَه؟»

«لا، بالتأكيد لا! فأنا لا أريد تهشيم بابي الجميل. أريد فقط أن أعبر خلاله. ومع ذلك أخشى أنكِ مُحقَّة فيما تقولينه؛ فاحتمال نجاحي في المرور عبره ليس كبيرًا على الإطلاق، لكن عليَّ المُحاوَلة.» بمجرَّد أن انتهى من قول هذا الكلام توجَّه نحو الباب مرةً أخرى. تركتْه أليس إذ فقدت فيه الأمل، وابتعدت عنه في حين ظل هو يرتد إلى الخلف مرةً أخرى.

بعدما سارت أليس بضع خطوات لم تَستطِع مقاومة النظر إلى الخلف كي ترى إن كان بأيِّ حال من الأحوال قد تخلَّى عن جهوده ومحاوَلاته، ورأت من جديد سلسلة الصور تَندفِع نحو الباب وتتقلَّص في الحجم عند وصولها إليه، فانتظرت ارتداده عن الباب. في السابق كان الارتداد يأتي بعد هذا مباشَرةً، لكنه هذه المرة لم يَحدُث. فقد كان الباب لا يزال في مكانه ويبدو صلبًا ومهجورًا إلى حدٍّ ما، ولكن لم يكن يوجد أدنى أثر له. بعد مرور عدة ثوانٍ دون حدوث أي شيء، سمعت أليس أصواتًا صاخبةً لترابيس وأقفالٍ من وراء الباب ثم فُتح على مصراعيه. رأت مُرافقها المختفي وهو ينظر عبر الباب ويلوِّح لها. صاح قائلًا: «لقد حالفني الحظ بالفعل! ففي الواقع إن احتمال اختراق حاجز بهذا السُّمك في غاية الضآلة، ولهذا فأنا محظوظ بشكل مذهل إذ استطعتُ الدخول عبره بهذه السرعة.» أغلق الباب بضربة عنيفة وبدا أن هذا اللقاء قد انتهى عند هذا الحد، فسارت أليس في الشارع.

حين ابتعدَت أليس قليلًا عن هذا المكان وصلت إلى قطعة أرض خالية على جانب الطريق اجتمعَ فيها مجموعة من البنائين حول كومة من قوالب الطوب. افترضت أليس أنهم مجموعة من البنائين لأنهم كانوا يعملون على تفريغ المزيد من قوالب الطوب من على عربة صغيرة. فكَّرت في نفسها وقالت: «حسنًا، على الأقل يبدو أنَّ هؤلاء الناس يتصرَّفون بطريقة منطقية.» على الفور جاءت مجموعة أخرى تركض من إحدى الزوايا، وكانت تَحمِل ما بدا كسجادة ضخمة مَطوية وشرعوا في فردها في هذا الموقع. عند فردها، رأتها أليس مخطَّطَ بناءٍ من نوعٍ ما. من الواضح بالتأكيد أنه كان مخططًا كبيرًا للغاية؛ إذ غطَّى معظَم المساحة المتاحة. قالت أليس: «أعتقد أنه على الأرجح في نفس حجم المبنى الذي يُريدون بناءه، لكن كيف يتمكَّنون من بناء أي شيء إن كان مخطط البناء يشغل المساحة كلها بالفعل؟»

انتهى البنَّاءون من فرد المخطط في مكانه ثم عادوا إلى كومة قوالب الطوب. التقطوا جميعًا قوالب الطوب وبدءوا في رميها نحو المخطط، بأسلوب عشوائي تمامًا على ما يبدو. كان الأمر فوضويًّا للغاية؛ فبعضها كان يسقط في مكان ما، وبعضها في مكان آخر، ولم تكن أليس ترى هدفًا من هذا على الإطلاق. سألت شخصًا كان يقف على أحد الجوانب وبدا أنه لا يفعل شيئًا وافترضت أنه رئيس العمال: «ما الذي تفعلونه؟ أنتم تُكدِّسون قوالب الطوب معًا دون ترتيب، ألا يُفترَض بكم تشييد بناء؟»

تصفُ نظرية الكمِّ سلوك الجسيمات من حيث توزيع الاحتمالات، والرصد الفعلي للجسيمات الفردية يحدث عشوائيًّا في إطار هذا. قد تتضمن الاحتمالات عمليات محظورة كلاسيكيًّا، مثل اختراق الجسيمات حاجزًا رفيعًا من الطاقة.

أجاب رئيس العُمال: «بلى، بالتأكيد، يا عزيزتي. هذا صحيح، ولذلك فإن التذبذبات العشوائية ما زالت كبيرةً بما يَكفي لإخفاء هذا النمط، لكن بما أننا قد انتهينا من وضع توزيع الاحتمالات للنتيجة التي نسعى لتحقيقها، فسنصل إلى هدفنا، لا تخافي.»

شعرت أليس بأن استعراض التفاؤل هذا ليس مقنعًا، لكنها حافظت على هدوئها وظلَّت تُراقب سيل قوالب الطوب وهي تواصل السقوط في موقع البناء. وما أثار دهشتها أنها لاحظت تدريجيًّا، أن المزيد من القوالب تسقط في أماكن بعينها أكثر من أماكن أخرى، وأنها بدأت تستطيع رؤية ملامح شكل الجدران والمداخل. ظلَّت تشاهد بانبهار مع بدء ظهور شكل واضح للحجرات من رحم تلك الفوضى الأولى. صاحت أليس: «يا إلهي، يا له من أمر مذهل! كيف استطعتم فعل هذا؟»

ابتسم رئيس العمال وواصَل حديثه: «حسنًا، ألم أخبرك من قبل؟ فقد شاهدتِنا ونحن نضع توزيع الاحتمالات ونفرده قبل أن نبدأ. إنه يحدد مكان وضع قوالب الطوب ومكان عدم وضعها. يجب علينا فعل هذا قبل أن نبدأ بعملية وضع القوالب؛ إذ إننا لا نستطيع التنبُّؤ بالمكان الذي سيذهب إليه كل قالب حين نلقيه، كما تعرفين.»

قاطعته أليس: «أنا لا أفهم السبب في هذا! فأنا معتادة على رؤية قوالب الطوب توضع في مكانها الواحد تلوَ الآخر في خطوط مرتبة.»

«حسنًا، فإن هذا ليس الأسلوب المتبع في بلاد الكَم. فنحن هنا لا نستطيع التحكم في المكان الذي يذهب إليه كل قالب، فلا نتمكَّن من حساب إلا احتمال سقوطه في مكانٍ ما. هذا يعني أنه عندما يكون لديكِ عدد قليل من القوالب فقط فمن الممكن أن تذهب إلى أي مكان تقريبًا ويبدو أنها لا تتبع أي نمط على الإطلاق. ومع زيادة الأعداد تجدين القوالب بشكلٍ ما حيث يوجد احتمال لوجودها، وحيث يكون هذا الاحتمال أعلى، تجدين المزيد من القوالب. وحين يُوجد عدد كبير من القوالب المستخدمة فإن عملية البناء تَنجح في النهاية على أكمل وجه.»

وجدت أليس أن هذا كله شديدُ الغرابة، على الرغم من حديث رئيس العمال عن الأمر بدقة بالغة، مما جعل الأمر يبدو كما لو أن له منطقًا غريبًا. ولأن إجاباته جعلتْها مُرتبكةً أكثر من أي وقتٍ مضى، فلم تطرح المزيد من الأسئلة في هذا الوقت. لذلك شكرتُه على ما قدمه لها من معلومات، ومضت قُدمًا في الطريق.

بعد هذا بوقتٍ قصير مرَّت بجوار واجهة عرضٍ كان معروضًا فيها إعلان كبير:

هل أنت غير راضٍ عن حالك؟

هل تريد الارتقاء إلى مستوًى أعلى؟

نحن سنُساعدك في تحقيق هذا التحوُّل مقابل ١٠ إلكترون فولت فقط.

(العرض خاضع لقانون باولي الطبيعي للاستبعاد.)

صاحت أليس في يأس: «يبدو هذا كله مغريًا للغاية، أنا متأكدة، لكن ليست لديَّ أدنى فكرة عما تتحدث عنه، وإن تمكنتُ من سؤال أحدٍ ما فأنا متأكدة من أن الإجابة ستتركني في حالٍ أسوأ حتى مما أنا عليه الآن. فأنا لم أفهم حقيقة أي شيء مما رأيته حتى الآن. أتمنى لو أجد أحدًا ما يُعطيني تفسيرًا جيدًا لما يجري من حولي.»

لم تكن تدرك أنها تحدَّثت بصوت مرتفع حتى وجدت أحد المارة يجيبها ناصحًا: «إذا أردتِ أن تَفهمي بلاد الكَم فأنتِ بحاجة إلى أن تجدي أحدًا ما يشرح لك ميكانيكا الكَم، ومن أجل هذا عليك الذهاب إلى معهد الميكانيكا.»

صاحت أليس في فرح: «حسنًا، هل سيتمكَّنُون من مساعدتي في فهم ما يحدث هنا؟ هل سيَستطيعون تفسير كل الأشياء التي سبقَ أن رأيتها، مثل ذلك الإعلان في واجهة العرض هناك، وإخباري بالمقصود ﺑ «الإلكترون فولت».»

أجابها قائلًا: «أعتقد أن الميكانيكا ستَستطيع أن تقدم لكِ تفسيرًا لأغلب تلك الأمور، لكن بما أن الإلكترون فولت هو وحدة للطاقة فالأرجح أنه من الأفضل لكِ البدء بالسؤال عنه في بنك هايزنبرج، خاصةً أنه على الجانب الآخر من الطريق هناك.»

نظرت أليس إلى الجانب الآخر من الطريق إلى المكان الذي أشار إليه ورأت مبنًى كبيرًا بواجهة رسمية للغاية، من الواضح أنها صُمِّمت لتكون مبهرة. كان له رواق طويل بأعمدة حجرية وأعلى هذه الأعمدة كُتب بحروف كبيرة اسم المكان «بنك هايزنبرج». عبرت أليس الطريق، ارتقت الدرج الطويل ذا السلالم الحجرية والذي قادها إلى المدخل الشاهق الذي عبرتْه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤