تصدير هذه الطبعة

عندما توفيَ رولان بارت عام ١٩٨٠، كان شخصيةً جليلةً في المشهد الثقافي والنقدي؛ إذ كان حضوره طاغيًا، وتعليقاته على كل ما هو موجود بالساحة حاضرة، وكان قامة سامقة في طليعةٍ أحدثت تحوُّلًا جذريًّا في ميدان العلوم الإنسانية بوجه عام والدراسات الأدبية بوجه خاص، لكن بعد مرور عشرين عامًا على وفاته، أضحت مكانته أكثر غموضًا. ماذا يعني بارت لنا اليوم؟ أي نوع من المؤلفين هو؟ وأي قوة فكرية يمثلها لنا؟ لعل السؤال الذي يتعيَّن علينا طرحه، بالأحرى، هو: على أي وجه ينبغي لنا أن نقرأ كتابات بارت، ولماذا؟ لقد قامت دار سيويل — دار النشر التي تولَّت نشر أعمال بارت لفترة طويلة — بإصدار أعماله الكاملة في طبعة من ثلاثة مجلدات ضخمة تضم آلاف الصفحات، وهو ما جعل المئات من مقالاته القصيرة وكتاباته المتفرقة متاحةً شأنها شأن أشهر مؤلفاته. كان كتابه الأخير «الغرفة المضيئة»، وهو عبارة عن مقال ذاتي شديد الخصوصية ومثير للجدل عن التصوير الفوتوغرافي؛ كثيرًا ما يتم الاستشهادُ به وإطراؤه ومناقشته. أما كتابه المبكر «أسطوريات» فهو عمل تأسيسي في ميدان الدراسات الثقافية ونقطة مرجعية في النقاشات حول طبيعة هذا الميدان البحثي. إضافةً إلى ذلك، فإن العديد من كتبه ومقالاته التي ظهرت بين هذين العملين — «ص/ز» و«متعة النص» بوجهٍ خاصٍّ — يُدرَّس ضمن مقررات النقد الأدبي والنظرية الأدبية في الكليات والجامعات. فهل بارت مُنَظِّر أدبي؟ باعتباره مثليًّا لم يُعلِن صراحةً قطُّ عن ميوله الجنسية، ولم يترك لنا سوى بضعة نصوص قصيرة نُشرت بعد وفاته تتناول حياتَه الجنسية، فإن بارت قد أثار أيضًا اهتمامَ العاملين في ميدان الدراسات حول المثليين والمثليات. وتظل سيرته الذاتية «بارت بقلم بارت» عملًا مثيرًا وفاتنًا بصورة استثنائية، فهو أحد أكثر الكتب إمتاعًا حول مغامرات الفكر والكتابة. ثمة حاجة الآن إلى تقييم بارت وإسهاماته أكثر من أي وقت مضى، حتى وإن كان ذلك فقط من أجل الإجابة عن السؤال: على أي وجهٍ ينبغي لنا أن نقرأ كتابات بارت؟

لقد وُضع هذا الكتاب في الأصل من أجل سلسلة «أساتذة معاصرون» التي تصدرها دار نشر «فونتانا»، وظهر عقب رحيل بارت بفترة قصيرة. وهو يتضمن تحليلًا لإنجازاته ويقدِّم قراءات مختلفة لكتابات بارت إلى أولئك الذين قد يجدونه مفيدًا وجذابًا ومحفزًا للذهن. تغطي أعمال بارت — أنماطه وأمزجته — نطاقًا شديد الاتساع حيث إن كل شخص سيجد فيها شيئًا يثير اهتمامه، بيد أن السؤال الرئيس هو: إلى أين يقودنا بارت؟ وما الذي سينتج عن جاذبيته؟ أُجريت بعض التعديلات البسيطة فقط على النص الأساسي من أجل هذه الطبعة الجديدة، لسببين اثنين؛ الأول: أنني لا أزال مؤمنًا بمعظم ما أقوله هنا حول بارت، والثاني: أن الإفراط في إدخال تعديلات على النص الأصلي من شأنه المخاطرة بإنتاج نص مشوش تختلط فيه أصوات فترتَيِ الشباب والنضج ويتصارع بعضها مع بعض. وعلاوةً على بعض التوضيحات البسيطة، أضفتُ بعض المعلومات المتعلقة بالسيرة الذاتية، لكن الأهم أني أضفت فصلًا ختاميًّا حول مصير كتابات بارت بعد وفاته ونقاشًا حول ما يمثله لنا من قيمة خاصة في يومنا هذا.

إيثاكا، نيويورك
يونيو ٢٠٠١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤