الفصل الثالث

عالِم الأساطير

بين عامَي ١٩٥٤ و١٩٥٦، كتب بارت مجموعةً من المقالات الشهرية القصيرة بعنوان «أسطورة الشهر» في صحيفة «الأدب الجديد». وكما يقول: «كنتُ أستاء من رؤية الخلط بين الطبيعة والتاريخ الذي تعجُّ به الكتابات عن الواقع الراهن»، ومن خلال مناقشته لجوانب مختلفة من الثقافة الجماهيرية، سعى بارت إلى تحليل الصور النمطية الاجتماعية التي يتم تمريرها كأشياء طبيعية، ونزع القناع عن الأشياء التي «تُؤخَذ مأخَذَ التسليم» باعتبارها أوهامًا أيديولوجية. ويعتبر كتاب «أسطوريات»، الذي يضم تلك المقالات بالإضافة إلى مقالة ختامية طويلة بعنوان «الأسطورة اليوم»، أكثر كتب بارت إمتاعًا وأسهلها على الإطلاق، لكنه يطرح صعوبةً كبيرة: ما الذي يعنيه بارت ﺑ «الأسطورة»؟

في حالات كثيرة، عند قيامه بكشف المضامين الأيديولوجية لما يبدو طبيعيًّا، نجد أن كلمة «أسطورة» تعني وهمًا ينبغي فضْحُه. ومن الأمثلة الجيدة في هذا الصدد، معرض للصور الفوتوغرافية بعنوان «العائلة الإنسانية الكبيرة»، كتب عنه بارت يقول: «هدفه إبراز الطابع الكوني للممارسات الإنسانية في الحياة اليومية في جميع بلاد العالم»، وتبيان أن «الولادة، والموت، والعمل، والمعرفة، واللعب تفرض على الدوام أنماط السلوك ذاتها»؛ ومن ثَم رسم صورة للإنسانية بكلِّ تنوعاتها باعتبارها عائلةً كبيرة واحدة. فمن خلال استعراضها للتنوع الإنساني الذي تحتفي به بوصفه تنويعات في الملامح والسحنة، تحجب تلك الأسطورة الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتبايِنة تبايُنًا جذريًّا التي يُولَد البشر، ويعملون، ويموتون في ظلها. «كل شيء هنا … يهدف إلى كبْح الثقل الحاسم للتاريخ» عن طريق افتراض وجود طبيعة إنسانية مشتركة تحت الاختلافات السطحية في المظاهر، والمؤسسات، والظروف الإنسانية. ويذهب بارت إلى أن «الفكر التقدمي عليه أن يعمل دائمًا على قلب أطراف هذه الخدعة الموغِلة في القِدَم، وألَّا يتوقَّف عن كشط سطح «الطبيعة»، و«قوانينها» و«حدودها»، بغية الكشف عن «التاريخ» هناك وتقديم «الطبيعة» ذاتها بوصفها تاريخية، في نهاية المطاف.»

تمثِّل كل صورة من صور المعرض مشهدًا إنسانيًّا؛ ومن خلال جمعها معًا بهذه الطريقة، تكتسب الصور معنًى من المستوى الثاني؛ معنًى أسطوريًّا يرغب بارت في الكشف عنه. وبالمثل، تعمل الموضوعات والممارسات الأخرى، حتى أكثرها نفعية، بالطريقة ذاتها؛ حيث يَخلَع عليها الاستخدام الاجتماعي معنًى من الدرجة الثانية. فالنبيذ، على سبيل المثال، ليس مجرد شراب كغيره في فرنسا، وإنما هو «شراب-طوطم، يُضاهِي حليب البقرة الهولندية أو الشاي الذي تتناوله العائلة المالِكة البريطانية وسط طقوس احتفالية»، فهو يمثل «أساسًا لأخلاقية جماعية.» ففي نظر الفرنسيين «يمثل الإيمان بالنبيذ ممارسة جماعية إجبارية»، وتناوله طقسًا للدمج الاجتماعي. وعبر توليد معانٍ أسطورية، تسعى الثقافات إلى جعل أعرافها الخاصة تبدو كأنها حقائق من حقائق طبيعية.

إن فرنسا بأسرها، غارقة حتى أذنيها في هذه الأيديولوجية عديمة الاسم: صحافتنا، وأفلامنا، وأدبنا الجماهيري، وطقوسنا، وقضاؤنا، ودبلوماسيتنا، وأحاديثنا، وملاحظاتنا حول الطقس، ومحاكمات جرائم القتل، وحفلات الزفاف المثيرة للمشاعر، والمأكولات التي نحلم بها، والملابس التي نرتديها، كل شيء في الحياة اليومية يعتمد على تمثيل العلاقات بين الإنسان والعالم الذي تتبنَّاه البرجوازية وتجعلنا نتبنَّاه … فالأعراف البرجوازية تُعاش بوصْفِها القوانين الواضحة بذاتها لنظام طبيعي.

«أسطوريات»

لكن لو أصبح «كل شيء في الحياة اليومية» مجالًا لعمل عالِم الأساطير، فإن الأساطير ليست ببساطة أوهامًا ينبغي تبديدها، مثل أسطورة «العائلة الإنسانية الكبيرة». ورغم أن «المكانة المتميزة للنبيذ» أسطورة، فإنها ليست وهمًا على وجه الدقة. ويشير بارت إلى المعضلة التي تواجه عالِم الأساطير: «النبيذ شيء طيب من الناحية الموضوعية، لكن خيرية النبيذ أسطورة.» وعالِم الأساطير يُعنَى بصورة النبيذ؛ لا بخواصه ولا تأثيراته، بل بالمعاني من المستوى الثاني التي تخلعها عليه الأعراف الاجتماعية. فانطلاقًا من الأسطورة بوصفها وهمًا، سرعان ما ينتهي بارت إلى التأكيد على أن الأسطورة شكل من أشكال التواصل، «لغة»، نسقُ معنًى من الدرجة الثانية، شبيهٌ بالكتابة التي ناقشها في كتابه السابق. فبذاءات إيبير على سبيل المثال، تمتلك معنًى من الدرجة الأولى بوصفها علاماتٍ لغويةً، لكن ما يفوق ذلك أهميةً هو معناها الأسطوري: البذاءة كعلامة للثورة. ويقدم «أسطوريات» مثالًا آخر: فعندما يفتح طالبٌ كتابَ قواعد اللغة اللاتينية ويَجِد مقولةَ آيسوب عن الأسد الذي يُطالِب بالنصيب الأكبر (لأن اسمي أسد)، فإنه يجد المعنى اللغوي من المستوى الأول أقل أهميةً بكثير من المعنى من المستوى الثاني الذي تحمله الجملة «أنا مثال نحوي يشرح اتساق الإسناد.» ومن ثَم، يمكننا القول إن كل شيء في الثقافة يعطي مثلًا: فرغيف الخبز الفرنسي يُشير إلى الطابع الفرنسي.

وكما يؤكِّد بارت الآن، لم يكن «درجة الصفر» مجرد تمرين في مجال تاريخ الأدب، بل «كتاب عن أسطورة اللغة الأدبية، حيث قدمتُ فيه تعريفًا للكتابة بوصفها دالًّا للأسطورة الأدبية؛ أي شكلًا مملوءًا سلفًا بمعنًى [لغوي] يَتلقَّى من مفهوم الأدب السائد في عصره معنًى جديدًا» («أسطوريات»). ومهما يكن محتواها اللغوي، تُشِرِ الكتابةُ إلى موقفٍ تجاهَ الشكل الأدبي؛ ومن ثَم تجاه المعنَى والنسق، وتروج لأسطورة عن الأدب تكتسب من خلالها دورًا ما في العالم. فعبْرَ تقصِّيه للمعاني الضمنية لبعض الأنشطة الأقل رقيًّا، يساعد كتاب «أسطوريات» في توضيح كيف يمكن للأساطير الأدبية أن تكتسب أهميةً اجتماعية.

تتسم الموضوعات التي يوجِّه إليها بارت سهامه النقدية في هذه المقالات بالتنوع الشديد. فأحيانًا يركز انتباهه على بعض المنتجات التي تُسبِغ عليها حملاتُ الدعاية دلالاتٍ أسطوريةً. فنجده يكتب عن أحدث موديل للسيارة «ستروين»، وعن الصورة الذهنية للبلاستيك التي بدأت تَظهَر في الخمسينيات، أو عن السيناريوهات الدراماتيكية الفريدة التي تَلعَب بطولتها مساحيق الغسيل والمنظفات السائلة: فالمنظفات سوائل مطهِّرة «تقتل» الأوساخ والجراثيم، في حين أن مساحيق الغسيل مواد فعَّالة تتغلغل في الأنسجة لتزيل الأوساخ، وتخلص قطعة الملابس من عدو ماكر ومراوِغ؛ «أن تقول إن «أومو» ينظِّف في العمق، هو أن تفترض أن النسيج له عمق، وهو ما لم يخطر ببال أحد من قبلُ.» يناقش بارت فكرة العالم الذي يتحول إلى مزار مقدَّس في الدليل السياحي، وتناول الإعلام لأخبار العائلة المالكة، والأطباق الطائرة، ودماغ أينشتاين، وغيرها من الموضوعات الأسطورية. وبعد إبراز المعاني التي يُنظَر إليها كبديهيات، وتضخيمها بطريقة ساخرة أو تأمل معانيها الضمنية، يختتم بارت مقالاته بخلاصة موجَزة، تنتشلنا من براثن الأسطورة عبر الإشارة إلى المصالِحِ السياسية أو الاقتصادية التي تَقِف وراءها.

يأتي أبرع تحليلاته للمعاني الثقافية من المستوى الثاني في المقالة الافتتاحية لكتاب «أسطوريات»، التي تحمل عنوان «عالم المصارعة». فمن أجل إبراز التصنيفات والتمايزات التي تستخدمها الثقافةُ لإضفاء معنًى على السلوك، بإمكاننا أن نقارن بين ممارستين جسديتين متشابهتين مثل المصارعة والملاكمة، لتوضيح أن إنتاج معانٍ أسطورية مختلفة يستلزم فعليًّا وجود أعراف مختلفة. فبإمكاننا تخيل ثقافة تشترك فيها الرياضتان في أسطورة واحدة ويجري مشاهدتهما بالطريقة نفسها، لكن في ثقافتنا نحن ثمة فرق واضح في الروح يستلزم توضيحًا. فلماذا يُراهِن أحدُنا على مباريات الملاكمة ولا يُراهِن على مباريات المصارعة؟ لماذا سيبدو من الغريب أن يصرخ الملاكم ويتلوَّى من الألم، كما يفعل المصارع؟ لماذا يتم كسر القواعد في المصارعة باستمرار، ولا يحدث هذا في الملاكمة؟ تلك الفروق يتم تفسيرها من خلال مجموعة معقدة من الأعراف الثقافية تجعل من المصارعة عرضًا مسرحيًّا أكثر منها منافسة رياضية.

إن الملاكمة، كما يقول بارت، رياضة جانسينيَّة قوامها إظهار التفوق؛ حيث يتركز الاهتمام على النتيجة النهائية، والمعاناة الظاهرة يُنظَر إليها فقط كعلامة على هزيمة وشيكة. في المقابِل، فإن المصارعة ما هي إلا دراما ينبغي أن تكون كل لحظة من لحظاتها قابلة للفهم مباشَرة باعتبارها مشهدًا؛ والمصارعون أنفسهم شخصيات كاريكاتورية من لحم ودم تلعب أدوارًا أخلاقية، وتكمن أهمية النتيجة النهائية في هذا فقط؛ فيما تحمله من دلالة درامية. وهكذا، بينما في حالة الملاكمة تُفرَض القواعد على المباراة من الخارج، حيث تُشِير إلى حدودٍ لا ينبغي تجاوزها، فإنه في حالة المصارعة توجد القواعد بكاملها داخل نطاق المباراة، باعتبارها أعرافًا توسع من نطاق المعاني التي يمكن إنتاجها. فالقواعد موجودة لكي تُكسَر، حتى يكون بالإمكان تجسيد صورة «الوغد» بطريقة أكثر عنفًا وينخرط الجمهور في فورة غضب ثأري. فالقواعد تُكسَر بطريقة بادية للعيان (رغم إمكان حدوث ذلك من وراء ظهر حكم المباراة)، وأي كسر للقواعد لا يراه الجمهور سيكون بلا طائل. ينبغي تضخيم المعاناة؛ وبالفعل، كما يوضح بارت، ثمة تصورات معينة عن المعقولية والعدالة تشكل العوامل الأساسية التي تميز المصارعة عن الملاكمة وتجعل منها تلك الفرجة الباذخة والباعثة على الطمأنينة.

يعود انجذاب بارت للمصارعة إلى عدد من الأسباب؛ فهي تسلية شعبية وليست برجوازيةً؛ وهي تفضل المشهد على السرد، وتلتذُّ بالإيماءات المسرحية الدالَّة، وهي مُصطَنَعة بلا خجل، ليس فقط في علاماتها الدالة على الألم، والغضب، والمعاناة ولكن حتى في نتيجتها النهائية؛ فلا أحد سوف يُصدَم عندما يعرف أن المباريات ملفَّقة. وفيما بعدُ، في دراسته لأسطورة «الشرق» في كتاب «إمبراطورية العلامات»، يمتدح بارت الحياة اليومية في اليابان لما تتسم به من اصطناع؛ بقواعدها التفصيلية للسلوك، وتفضيلها للسطح على العمق، وعزوفها — على الأقل كما يراها الغربي — عن تأسيس ممارساتها على «الطبيعة». «لو أن ثمة «صحة» للغة، فإن أساسها هو اعتباطية العلامة. إن المُمْرِض في الأسطورة هو احتماؤها ﺑ «طبيعة» زائفة» («أسطوريات»).

تمتلك الأسطورة «حجة» جاهزة على الدوام؛ إذ يستطيع ممارسوها دائمًا إنكار وجود معنًى من الدرجة الثانية، ويزعمون أنهم يرتدون ملابس معينة؛ لأنها مريحة وعملية، وليس لأنها تحمل معنًى ما. بيد أن المعاني الأسطورية تمارس عملها رغم كل الإنكارات. ففي مثالٍ ذي طابع سياسي أوضح، يستشهد بارت بغلاف عدد من مجلة «باري-ماتش» يصور جنديًّا أسود يرتدي الزي العسكري الفرنسي ويؤدي التحية العسكرية، فيما عيناه شاخصتان إلى العلم. هذا هو المستوى الأول للدلالة؛ فالأشكال والألوان يتم تفسيرها بوصفها جنديًّا أسود يرتدي الزي العسكري الفرنسي. وعن هذا كتب بارت: «لكن سواء أكنتُ ساذجًا أم لا، فأنا أرى بوضوح تام ما يعنيه هذا بالنسبة إليَّ: أن فرنسا إمبراطورية عظمى، وأن جميع أبنائها، دونما أي تفرقة بينهم بسبب اللون، يخدمون بإخلاص تحت رايتها، وأنه لا يوجد رد على مَن يهاجمون استعمارًا مزعومًا أفضل من الحماسة التي يُبدِيها هذا الشاب الأسود في خدمة مضطهِديه المزعومين.» إن حقيقة وجود جنود سود بالفعل في الجيش الفرنسي تُضفي على هذه الصورة نوعًا من الطبيعية أو البراءة؛ فبإمكان المدافِعين عنها أن يزعموا أنها ببساطة صورة جندي أسود ولا شيء آخر، تمامًا كما يؤكِّد مَن يرتدون معاطف من الفراء أن ما يُهمُّهم هو فقط تدفئة أجسادهم. إن سوء الطوية الذي تنطوي عليه هذه الحجة المتكررة هو من أكثر الأشياء التي يستهجنها بارت في الأسطورة.

ثمة حقيقة مُربِكة تعمِّق نفوره بلا شك؛ إذ يتواطأ عالِم الأساطير مع ما يُهاجِمه، من خلال إبرازه ما يؤخذ مأخذ التسليم، وتوضيح المعاني الأسطورية. فعندما يقول بارت: إن السيارة الحديثة «هي المُعادِل الكامِل للكاتدرائيات القوطية العظيمة؛ أعني أنها الإبداع الأسمى لعصر؛ صمَّمها فنانون مجهولون بعاطفة مُتَّقِدة، ويستهلكها، من خلال الصورة إن لم يكن بالاستخدام، شعب بأكمله يمتلكها باعتبارها أشياء سحرية خالصة»، فإنه يقدم نقدًا لعصرنا، لكنه يساهم أيضًا في تعزيز الأسطورة. فقد أشار عام ١٩٧١ أن تحليل الأساطير وشجبها ليسا كافيين؛ وبدلًا من السعي لترويج استخدامٍ أكثر فائدة للعلامات، ينبغي تحطيم العلامة نفسها («الصورة، الموسيقا، النص»). وسواء أكان ذلك أكثر فاعلية أم لا، فإنه من المؤكد أننا نستطيع أن نستنتج مما حدث منذ نشر «أسطوريات» أن تبديد الأوهام لا يقضي على الأسطورة، لكنه، من قَبِيل المُفارقة، يمنحها حرية أكبر. ذات يوم، كان بالإمكان إحراج السياسيين باتهامهم بالعمل على ترويج صورة معينة لأنفسهم، لكن مع تزايد وتيرة عملية تبديد الأوهام، تقلص هذا الإحراج، واليوم يناقش معاونو المرشح علنًا كيف أنهم يحاولون تغيير صورة سيدهم. ومثال آخر، عندما تحدد المقالات الصحفية أشياءَ بعينها بوصفها علاماتٍ لأسلوب حياة معين، فإن هذا لا يدمِّر فاعليتها كأسطورة، بل يجعلها، بوجه عام، مرغوبةً أكثر. ويصف بارت كيفية عمل هذه الآلية الثقافية في مجال الأدب؛ فأشد التيارات المناهضة للأدب صرامةً لا تدمِّر الأدب، بل تتحوَّل هي نفسها إلى مدرسة أدبية جديدة. كما تعمل هذه الآلية نفسها في المجالات غير الأدبية؛ ففضح الطرق التي يستخدمها رئيس جمهورية في التلاعب بالأحداث بهدف خلق صورة لنفسه لا يؤدي إلى تحطيم هذه الصورة، بل إلى احتمالات جديدة لِمَعانٍ من المستوى الثاني؛ إذ يمكن النظر إلى قرار أو عمل رئاسي ما، ليس باعتباره علامة لسياسة معينة، أو حتى كمساهمة في خلق صورة له، بل كعلامة على أنه مَعْنيٌّ بصورته. إن الأسطورة مادة حية، ولعلها لا تُقهَر.

يدشن بارت في كتاب «أسطوريات» تقليدًا جديدًا في تبديد الأوهام، كان يأمل أن تكون له نتائج سياسية. فقد ذهب عام ١٩٥٣ إلى أن «تحليل الأساطير هو الوسيلة الفعالة الوحيدة التي تمكِّن المثقَّف من القيام بفعل سياسي.»1 ورغم أنه انحاز فيما بعدُ إلى الاستعاضة عن سخرية أو تهكم عالم الأساطير بنقد شامل للعلامة، فإن أعماله التي ظهرت في السبعينيات ظلت محتفظة بولع عالِم الأساطير بالمعاني من المستوى الثاني؛ وأضحتْ أساطير الحياة اليومية مصدرًا للكتابة بدلًا من أن تكون مناسبة لاتخاذ مواقف سياسية. وقد أشار في أحد الحوارات: «في الحياة اليومية، أشعر بنوعٍ من الفضول تجاه كل ما أراه وأسمعه، ولع فكري تقريبًا، ينتمي إلى مجال الروائي» («نسيج الصوت»).

والروائي، بحسب بارت، هو الرواية مطروحًا منها القصة والشخصيات؛ أي شذرات من ملاحظة ثاقبة، تفاصيل العالم بوصفها حوامل لمعنًى من المستوى الثاني. إن العين الروائية القادرة على الْتِقاط التفاصيل، التي تُضْفِي الحيوية على «أسطوريات»، تظهر مجددًا فيما بعدُ في تراكيب «شذرات من خطاب في العشق»، الذي يرسم صورة لأسطورة الحب — خطاب العشاق بوصفه مستودعًا للصور الثقافية النمطية — وفي التأملات حول الحياة اليومية في «بارت بقلم بارت». وهناك يذكر بارت، على سبيل المثال، أنه حتى الطقس محمَّل بمعنًى أسطوري من المستوى الثاني: ففي أثناء حديثه عن الطقس مع امرأة تعمل في مخبَز، قال لها: «والضوء جميل جدًّا.» لكنها لم تُجِب بشيء، وأدرك لحظتها أن لا شيء ذا طابع ثقافي أكثر من الطقس: «لقد أدركتُ أن «رؤية الضوء» ترتبط بحساسية طبقة اجتماعية بعينها؛ أو بالأحرى، بما أن هناك صورًا للضوء «نابضة بالحياة» فمن المؤكد أن امرأة المخبَز تستمتع بها، فإن ما يتحدَّد اجتماعيًّا هو «الغامض»، المشهد؛ المشهد بلا معالم، بلا موضوعات، بلا أشكال، مشهد الشفافية.» بإمكاننا إذن القولُ بأن الضوء جميل من الناحية الموضوعية، بيدَ أن جمال الضوء أسطورة، تتداخل مع أعراف جماعة ثقافية معينة. هذا هو الاكتشاف الذي يتوصَّل إليه عالِم الأساطير؛ أن أكثر الملاحظات «طبيعية» عن العالم تعتمد على شفرات ثقافية. وكما يقول باسكال، إن كان العُرف طبيعة ثانية، كما يتجلَّى هذا بوضوح في تلك الثقافات التي تَكتَسِب مَظهَر الطبيعة، فلعلَّ الطبيعة إذن عُرْف ثانٍ وحسب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤