الفصل الرابع

الناقد

رغم تعدد نشاطات بارت غير التقليدية، فقد كرَّس جزءًا كبيرًا من وقته للمهمة الأساسية للناقد، والمتمثلة في تفسير أعمال الكُتَّاب وتقييمها. كتب بارت العديدَ من المقدمات والتصديرات، لمؤلَّفات تجريبية معاصرة وأعمال فرنسية كلاسيكية، غير أن أهم أعماله كناقد تَندَرِج في فئتين: الكُتُب التي قدَّم فيها تحليلًا لمجمل أعمال كتَّاب من عصر سابق — ميشليه، وراسين، وساد — والمقالات التي دَافَع فيها عن الكتَّاب الطليعيين — بريخت، وروب جرييه، وسوليرز — ودافَع بحماس عن تصور معين لمهمة الأدب في العالم المعاصر.

لقد كان بارت دائمًا أستاذ المفاجآت، وكتابه المبكِّر عن ميشليه يُظهِر جانبًا من هذه الموهبة. وإذ يحتفي كتابه «الدرجة صفر» بالمشروعات الأدبية الحداثية الواعية بذاتها، فإن المرءَ يتخيل أن يتحول مؤلفه تاليًا إلى كامو أو بلانشو؛ وهما مؤلِّفان معاصران سَعَيَا لممارسة الأدب المناهض للأدبية الذي أتى على وصفه. وبدلًا من ذلك، اتجه بارت إلى جول ميشليه، وهو مؤرخ مشهور غزير الإنتاج من القرن التاسع عشر، وكاتب ذو أسلوب برَّاق ووطني غيور، ومعجب بالثورة الفرنسية وبعصور وسطى غامضة وآسِرة، أرَّخ لها في مجلدات عديدة من الكتابة التاريخية واسعة الخيال. ورغم أن كتابة ميشليه لا تحتوي على أيٍّ من قيود الوعي الذاتي التي يزعم بارت أنها تعجبه، فيبدو أنه أحد الكُتَّاب الذين يُكنُّ لهم بارت حبًّا عميقًا، إلى جانب كلٍّ من بروست وساد. وأثناء إقامته في المَصَحَّة، قرأ بارت جميع أعمال ميشليه — وهو إنجاز خارق — وقام بنسخ كل الجمل التي أعجبتْه أو تلك التي انطوتْ على تكرار لشيء لافت. «ومن خلال ترتيب تلك البطاقات، وهو ما يُشبِه قليلًا ما يَفعَله المرء بأوراق اللعب من باب التسلية، لم يكن بوسعي أن أتجنَّب التوصل إلى سِجل من التيمات» («إجابات»).

هذا السجل أصبح كتاب «ميشليه بقلمه» (١٩٥٤)، وهو كتاب يُعنَى بما أسماه بارت «الأسلوب» في كتابه «الدرجة صفر»: «شبكة منظمة من الهواجس» تتجلَّى بوضوح في عالم ميشليه ذي الخيال الخصب. فهو يستبعد أفكار ميشليه لصالح ما يسمِّيه «تيمات وجودية»؛ أي ما تتضمنه كتابته من استثمار كثيف في مواد وخواص متنوعة: الدم، الدفء، الجفاف، الخصوبة، الطراوة، الذوبان (فثمة مقطع شهير من كتابه «الثورة الفرنسية» يقابل فيه بين جفاف روبسبير وعقمه وبين الدفء الحيوي للدهماء). «فَلتُجرِّدْ ميشليه من تيماته الوجودية، ولن يتبقَّى لك سوى برجوازي صغير غير جدير بالاهتمام.»

fig5
شكل ٤-١: ملاحظات.

وفي حين أكد «الدرجة صفر» على المعاني الضمنية الأيديولوجية للشكل الأدبي، فإن «ميشليه» نأى بنفسه عن مثل تلك الأسئلة ليقدم وصفًا لعالم من الخواص والمواد المتبايِنة. وهكذا أخرج لنا بارت عملًا وثيق الصلة بالتطورات الراهنة في النقد الفرنسي؛ حيث ظهر نموذج لمناقشة أهمية الجواهر المادية للتفكير الشعري وغير الشعري من خلال «التحليل النفسي» الذي قدَّمه جاستون باشلار للعناصر الأربعة؛ التراب، والهواء، والنار، والماء. زعم بارت أنه لم يقرأ أعمال باشلار، وهو أمر محتمل تمامًا؛ لكن أعمال باشلار كان يُنظَر إليها كإسهام في مجال النقد الفينومينولوجي المتنامي، الذي تناول الأعمال الأدبية ليس كمنتجات ينبغي تحليلها بل كتجلِّيات للوعي؛ وعي أو خبرة بالعالم تدعو القُرَّاء للمشاركة فيها. فكتابا «دراسة في الزمن البشري» (١٩٥٠)، و«المسافة الداخلية» (١٩٥٢) لجورج بوليه كانا قد ظهرا حديثًا؛ ونشر جان ستاربونيسكي توًّا كتابه «مونتسكيو بقلمه» (١٩٥٣) في السلسة التي كان بارت يكتب لها، وفي العام التالي قام ألبرت بيجوين، وهو ناقد فينومينولوجي ينتمي إلى ما كان يُعرَف ﺑ «مدرسة جنيف»، بنشر كتابَيْن آخَرَيْن في هذه المجموعة (عن باسكال وبيرنانوس). والأهم من هذا كله، ربما، كتاب «الأدب والأحاسيس» لجان بيير ريتشارد الذي ظَهَر في الوقتِ نفسه ونَادَى فيه صراحةً بما يَبدو أنه الافتراض الأساسي لكتاب بارت عن ميشليه: «يبدأ كلُّ شيء في الإدراك الحسي؛ فالجسد، والأشياء، والحالات المزاجية تشكِّل جميعها فضاءً أوليًّا للذات»، وهنا في الشعور المادي، تولد الأشكال والتيمات والصور الأدبية.

لقد بدا «ميشليه بقلمه» جزءًا من موجة جديدة من النقد الفينومينولوجي، غير أنه في ضوء أعمال بارت اللاحقة، ثمة شيئان يَلْفِتان الانتباه بشدة؛ أولًا: استخدم بارت منهجًا مكَّنه من تحويل كتابة ميشليه إلى سلسلة من الشذرات المشهدية، وهو منهج لا يربط غايات الكتابة بالاستمرارية، وتطوير الحبكة، والبنية — كل الخصائص التي تميز بلا شك عمل ميشليه كمؤرخ — إنما بلذة الشذرات النصية، اللذة التي يجدها القارئ في الجمل الغريبة وما تحمله من صور. وثانيًا: تلك اللذة النصية، التي تقود بارت إلى الكتابة عن تلك النصوص وحولها، يتم ربطها بالجسد. فثمة صلة مفترضة بين الكتابة والخبرات الجسدية الخاصة بالمكان والمادة.

وفيما بعدُ، سيركز بارت بوجه خاص على العلاقة بين كتابته والخبرات الجسدية، كأن بإمكان الأحاسيس الجسدية أن تعمل كأصل أو كأساس.1 ورغم أن النقد الفينومينولوجي يُعنَى صراحةً بالخبرات أو «المظاهر» المتعلقة بالظواهر (العالم كما يَظهَر للوعي)، فإنه على ما يبدو يقود ممارسيه إلى التعامل مع الخبرة الجسدية التي طرحوها باعتبارها أساسًا طبيعيًّا من نوع ما. وتعود أكثر أعمال بارت تعقيدًا إلى ذلك الإحساس الأساسي السابق على الفكر، الذي يُعَدُّ أساسًا طبيعيًّا لها. وتعمد أكثر أعمال بارت حدَّةً وغزارة إلى محاربة هذا النوع من التعمية الذي يحوِّل الثقافة إلى طبيعة؛ وبالنظر إلى أعماله اللاحقة، التي تؤسس الكتابة استراتيجيًّا على الجسد، فإنه ينبغي أن نسأل إذا كانت هذه تعمية من النوع ذاته. إن كتاب «ميشليه بقلمه» يتنافى بوضوح مع التزامات بارت الأدبية والسياسية عام ١٩٥٤، ويستكشف مواقف سوف تعاود الظهور لاحقًا.

ورغم أن كتاب «مع راسين» يشبه كتاب «ميشليه بقلمه» في تركيزه على عالم يتسم بالخيال الجامح، فإنه لا يتضمن كتابةً فاتنة مؤلَّفة من جمل وشذرات، ولا وصفًا فينومينولوجيًّا يركز على المواد والخواص. فإذ يبدو بارت أقل اهتمامًا بلغة راسين وخياله منه بالعالم التراجيدي الذي تُسجَن فيه شخصياته، يشرع فيما أسماه «أنثروبولوجيا الإنسان الراسيني» باستخدام «لغة تحليل نفسي معتدلة». وإذ يتساءل عن نوع المخلوقات التي تسكن هذا العالم، يَضَع مسرحياته بعضها فوق بعض، ويتعامل معها باعتبارها تجسيدات متنوعة لنسق التراجيديا الراسينية، ويسعى إلى تحديد العلاقات الأساسية التي تولد مواقفها وشخوصها. كما يؤكد بارت بوجه خاص على تركيب مؤلَّف من ثلاث علاقات: القوة، والمنافسة، والحب، يمكن العثور عليه في أسطورة القطيع البدائي، كما يرويها فرويد وآخرون؛ فبعد أن تكاتَفوا معًا لقتْل الأب الذي كان يسيطر عليهم ويَمْنَعهم من اتخاذ زواجات لهم، يقوم الأبناء في نهاية المطاف بخلق نظام اجتماعي (تحريم زنا المحارم) للتحكم في المنافسة بينهم. «هذه القصة، حتى وإن كانت محض خيال، تمثل مجمل أعمال راسين المسرحية.» وإذا جمعتَ مسرحياته معًا مُشكِّلًا منها تراجيديا واحدة، «فستكتشف شخصيات هذا القطيع البدائي وأفعاله … يجد المسرح الراسيني اتساقه فقط على مستوى هذه الأسطورة الموغلة في القِدَم.» فتَحْتَ السطح «يقبع الأساس العتيق، هناك في متناول اليد.» وتستمد الشخصيات خصائصها من الموقع الذي تشغله في هذا التشكيل العام للقوى.

في «مقالات نقدية» زعم بارت أن الكاتب ينتج «إيحاءات بالمعنى؛ أشكالًا إنْ جاز القول، والعالَم هو الذي يقوم بمَلئها.» وهذا من شأنه أن يجعل من النقد فن الملء؛ أو ربما يمكننا القول — اتساقًا مع فكرة بارت عن الكاتب باعتباره مجربًا عامًّا — إن الناقد يجرِّب أشياءَ متنوِّعة لملء هذه الفجوات، مستخدمًا، في التجارب التي يُجرِيها على كاتب أو عمل أدبي، اللغات والسياقات المتاحة له. هكذا يقدِّم بارت لكتاب «مع راسين»: «دعونا نجرب على راسين، استنادًا إلى صمته، كل اللغات التي يوفرها لنا قرننا هذا.» إن راسين «صامت»؛ لأنه يخلق أشكالًا توحي بمعنًى لكن دون أن تحدِّده. فمسرحياته «موقع فارغ مفتوح على الدلالة إلى الأبد.» وإن كان هو أعظم كاتب فرنسي، فإن «عبقريته لا تكمن في أيٍّ من الفضائل التي صنعت شهرته بشكل متعاقب، وإنما تكمن بالأحرى في قدرته التي لا مثيل لها على جعل نصه متاحًا، ما يمكِّنه من البقاء إلى الأبد داخل مجال أي لغة نقدية.»

وإنها لجرأة محسوبة أن تطلق على هذه الأعمال الكلاسيكية الفرنسية العظيمة «موقعًا فارغًا»، شأنها شأن القرار بتجريب لغة التحليل النفسي على مؤلف يُنظَر إليه عادةً كذروة للنقاء، والاحتشام، والصنعة الواعية. والنتيجة، قراءة هجينة مُثيرة للجدل، تمتزج فيها بصعوبة مقاربات ثلاث يُعنَى بارت باستكشافها: الوصف الفينومينولوجي لعالم ذي خيال جامح، والتحليل البنيوي لنسق ما، واستخدام «لغة» معاصرة في إنتاج تفسيرات موضوعاتية لأعمال مفردة. لكن ما حدث هو أن وصف العالم الجامح الخيال فقدَ كثيرًا من شخصيته الفينومينولوجية عندما أصبح تناول «الأساس الموغِل في القِدَم» بنيويًّا، واتجه إلى البحث عن الاختلافات والعلاقات وليس عن الخواص؛ كذلك فإن المحاولة البنيوية لتناول المسرحيات باعتبارها نتاجًا لنسق من العلاقات الشكلية انحرفت عن مسارها نتيجةَ السعي لإنتاج قراءة موضوعاتية مدهِشة لكل مسرحية على حِدَة استنادًا إلى لغة الأسطورة والتحليل النفسي. إن «مع راسين» كتابٌ مُثيرٌ للجدل يستمد منه كل قارئ مجموعة من الأفكار حول راسين، وبَرهَنَ لجمهور واسع أن قراءة مؤلفات النقد الأدبي (أو على الأقل، أعمال «النقد الجديد»، كما كان يُطلق على النقد ذي النزعة النظرية) يمكن أن تكون تجربة آسِرة، بيدَ أنه لا يمثِّل نموذجًا سيعود إليه بارت أو غيره فيما بعدُ.

في كتاب «ساد/فورييه/لويولا»، حيث يعود بارت إلى تناول أعمال كاتب ما بوصفها نسقًا، ثمة جانبان من كتاب «مع راسين» يتم التأكيد عليهما وتحويلهما. فالفكرة المأخوذة من اللغويات، القائلة بأنه بالإمكان إنتاج «أجرومية» لأعمال أي مؤلف، واكتشاف عناصرها الأساسية وقواعد تأليفها، بدتْ كأنها تجلٍّ غير هام نسبيًّا للنزعة الاختزالية التي تَقِف وراء «حول راسين». وفي «ساد/فورييه/لويولا» تصل هذه المشابهة اللغوية إلى تمام تحققها: حيث يتم تناول الكتَّاب الثلاثة بوصفهم «محاسبين»، أو مبتدعي «لغات» خاصة. فالسرد المسهب لمغامرات ساد الجنسية، والمجتمع اليوتوبي الذي ابتدَعَه فورييه، ووصفات التدريبات الروحية لدى لويولا، تكشف جميعها عن النزعة ذاتها للتمييز، والتنظيم، والتصنيف؛ لقد اجتهدوا في تشييد أنساق محكمة البناء تقوم — شأنها شأن اللغة — بإنتاج الدلالة في المجالات التي صاغوها.

كتب بارت يقول: «ثمة أجرومية إيروتيكية لدى ساد، (أجرومية إباحية) بعناصرها الإيروتيكية الأولية وقواعد التوليف»، حيث تسعى الإيروتيكية السادية إلى «توليف أفعال فاحشة معينة وفق قواعد دقيقة، بغية أن تخلق من سلاسل ومجموعة الأفعال تلك «لغة» جديدة، لغة أفعال لا أقوال، لغة جريمة، أو شفرة جديدة للحب، لها نفس دقة وإحكام الحب العذري.» والوحدة الصغرى للشفرة الإيروتيكية هي الوضعية الجسدية، «أصغر توليف ممكن، حيث إنها تجمع فقط بين فعل ونقطة تطبيقه الجسدية.» وإضافة للأوضاع الجنسية، ثمة «مُشغِّلات» مثل الروابط العائلية، والمكانة الاجتماعية، والمتغيرات الفيسيولوجية. وبالإمكان أيضًا التوليف بين الوضعيات الجسدية لتكوين «عمليات» أو لوحات إيروتيكية مركبة، وعندما تُمنح العمليات تطورًا زمنيًّا، فإنها تصبح «أحداثًا». يتابع بارت قائلًا إن جميع تلك الوحدات:

تخضع لقواعد التوليف أو التركيب. وهي قواعد من شأنها أن تسمح بمنح اللغة الإيروتيكية قوانين شكلية مناظِرة «للبِنَى الشجرية» التي يستخدمها علماء اللغويات … ثمة قاعدتان أساسيتان في الأجرومية السادية؛ وهما عبارة عن إجراءات نظامية يستطيع السارد عن طريقها أن يحشد وحدات «معجمه» (الوضعيات الجسدية، الأشكال، الوقائع). القاعدة الأولى هي الشمول: في «عملية» ما ينبغي إنجاز أكبر عدد ممكن من الوضعيات الجسدية في وقت واحد. والقاعدة الثانية هي التبادلية؛ … حيث يمكن إبدال جميع الوظائف إحداها بالأخرى، وكل شخص يستطيع، وينبغي له، أن يكون بالتبادل، جلادًا وضحية، جالدًا ومجلودًا، آكل براز ومتبرزًا، وهكذا دوالَيْك. تلك القاعدة ذات أهمية محورية؛ أولًا: لأنها تَجعَل من الإيروتيكية السادية لغةً شكلية بمعنى الكلمة، تحتوي فقط على فئات أفعال وليس على مجموعات أفراد؛ ما يؤدِّي إلى تبسيط الأجرومية إلى حدٍّ بعيد. وثانيًا: لأنها تمنعنا من تقسيم الجماعة السادية وفق أدوار جنسية.

«ساد/فورييه/لويولا»
إضافة إلى اكتشافه دورًا نقديًّا أكثر أهمية للنموذج اللغوي، يُجري «ساد/فورييه/لويولا» تحولًا عميقًا على جانب آخر من كتاب «مع راسين». فقيام بارت في هذا الكتاب بتطبيق لغة الجنس أو التحليل النفسي على راسين وشخصياته يمكن أن يبدو محاولةً لصدم جمهور فرنسي لديه إيمان راسخ بالاحتشام الراسيني، بينما يوضح بارت في «ساد/فورييه/لويولا» أنه مهتم بوجه خاص بالنتائج المترتبة على إقامة تماسٍّ بين لغات متنافرة، كما هو الحال في الصرير الناجم عن الاحتكاك بين المصطلحات التقنية للغويات وبين المحتوى العنيف للخيالات الجنسية لدى ساد. تلك ليست سخرية من صروح ثقافية بقدر ما هي استكشاف للنتائج المترتبة على التوليف بين اللغات.2

يوضح «ساد/فورييه/لويولا»، شأنه شأن «ميشليه» و«مع راسين»، أن محاولة تجريب اللغات المعاصِرة في تناول أعمال مؤلف من عصر آخَر لا تهدف إلى جعل أعماله «وثيقة الصلة» عن طريق تبيان أن لديها ما تقوله بشأن مشاكلنا الراهنة. فهذا من شأنه أن يجعلها مشروعًا موضوعاتيًّا، يركز على سيكولوجية الحب لدى راسين أو آراء ميشليه السياسية. وعلى العكس من ذلك، فإن استخدام بارت للغات المعاصرة يؤكد بوجه عام على غرابة الكتابات التي يعالجها؛ مثل هواجس ميشليه، وعالم راسين الخانق، وهوس التصنيف لدى ساد وفورييه ولويولا. وكما يقول فإنه ليس واحد من الثلاثة الأخيرين «يمكن تحمله؛ فكل واحد منهم يمنح اللذة، والسعادة والتواصل استنادًا إلى نظام صارم، أو — ما هو أسوأ — استنادًا إلى نظام توليفات.» إن مؤلفات بارت التي تتناول هذه الأعمال لا تكتشف تيمات وثيقة الصلة، بل تسعى، خلافًا لذلك، إلى «سلخ النص» عن رؤاه ومقاصده — «الاشتراكية، الإيمان، الشر» لدى فورييه ولويولا وساد على الترتيب — و«السطو» على لغته، «بغية تفتيت نص الثقافة، والمعرفة، والأدب القديم، وبث معالمها في صيغ يستحيل التعرف عليها، مثلما يقوم أحدهم بإخفاء مسروقات.» إنه برنامج نقدي فريد من نوعه بكل تأكيد؛ فما يثير اهتمامه هو الغرابة وليس الألفة، ويجد متعته في الشذرات. إن بارت غير مَعنيٍّ، بصورة لافتة، بوصف معالم أو بنية أعمال مفردة، بل هو يسعى — من خلال السطو على لغة كتَّاب من الماضي — إلى استجلاء ممارسات الكتابة وتضميناتها فيما يتعلق بالمعنى والنظام بدلًا من تفسير وتقييم أعمال منتهية.

يَظهَر هذا أيضًا بوضوح في النشاط الأساسي الآخَر لبارت كناقد، المتمثل في دفاعه عن ممارسات أدبية طليعية بعينها. فقضيته الأولى هي الكتابة المسرحية، وهي عبارة عن استخدام اجتماعي لشكل أدبي اكتشفه في أعمال بريخت في الخمسينيات. ففي أثناء دراسته الجامعية، أسس بارت فرقة مسرحية لأداء المسرحيات الإغريقية، وبعد انتهاء الحرب ساهم في تأسيس مجلة «تياتر بوبيولير» التي شنَّت هجومًا على الدراما التجارية السائدة في ذلك الوقت ودعت إلى مسرح يعالج القضايا الاجتماعية والسياسية. وبينما نجح سارتر في ابتداع دراما سياسية، سعى بارت إلى تصور مسرح سياسي لا يقترن برؤية مبسطة للغة والشكل. وعندما أحضر بريخت فرقته المسرحية «مجموعة البرلينيين» إلى باريس عام ١٩٥٤، وجد فيه بارت ضالته. فكما يروي لنا، «شب حريق في جسدي» لدى مشاهدة عرض «الأم الشجاعة» وقراءة مقطع من مؤلفات بريخت عن المسرح في برنامج العرض المطبوع («نسيج الصوت»). وكما كتب عام ١٩٧١: «لايزال بريخت شديد الأهمية بالنسبة إليَّ، وتزداد أهميته؛ كونَه لم يتحول إلى موضة ولم يُفلِح بعدُ في أن يصبح جزءًا من الطليعة التي تؤخذ مأخذ التسليم. إن ما يجعله نموذجيًّا، ليس ماركسيته ولا جمالياته (رغم أن الاثنتين مهمتان للغاية)، إنما طريقته في الجمع بين الاثنين؛ أي التحليل والتفكير الماركسيين حول المعنى. فقد كان ماركسيًّا أمعن التفكير في وقع العلامات، وهو أمر نادر جدًّا» («إجابات»).

لقد قدَّم بريخت الممارسة الدرامية الجديدة التي كان بارت يبحث عنها وأمدَّه بمنظور نظري ساعَدَه في توضيح عيوب المسرح الغربي التقليدي. إن كتابات بارت عن الدراما على مدار السنين، حتى وإنْ لم تذكر بريخت صراحةً، إنما تعكس فكرة بريخت عن التغريب، وأطروحته الرئيسية القائلة بأن المسرح المؤثر لا يتطلب توحدًا عاطفيًّا مع الشخصيات الرئيسية بل الاحتفاظ بمسافة نقدية تمكننا من الحكم على مواقفهم واستيعابها. فالهدف في مسرحية «الأم الشجاعة»، كما يوضح بارت، هو «أن يبيِّن لهؤلاء الذين يؤمنون، مثل «الأم الشجاعة»، بحتمية الحرب؛ أن الحرب، على وجه الدقة، ظاهرة بشرية، وليست أمرًا محتومًا … ولأننا نرى «الأم الشجاعة» عمياء، فإننا نرى ما لا تراه … وندرك، ونحن في قبضة هذا الوضوح الدرامي الذي هو أكثر أشكال الإقناع مباشرة، أن «الأم الشجاعة» ضحية ما لا تراه، وهو عبارة عن شرٍّ يمكن إصلاحه» («مقالات نقدية»).

مثال آخر: إن توحد الجمهور مع مارلون براندو في فيلم «على رصيف الميناء» لإيليا كازان يُضعِف من القوة السياسية لهذا الفيلم؛ ذلك لأنه رغم أن الاتحاد الفاسد يُمنَى بالهزيمة، والزعماء يتم تقديمهم بشكل ساخِر، فإننا نتوحد في النهاية مع براندو عندما ينصاع لمشيئة أرباب العمل والنسق. وكما يكتب بارت:

نقع هنا على حالة ينبغي أن نطبق عليها منهج تبديد الأوهام الذي يطرحه بريخت وأن نفحص نتائج توحدنا مع الشخصية الرئيسية في الفيلم … فالطبيعة التشاركية لهذا المشهد هي ما تجعله، موضوعيًّا، مثالًا للتعمية … وفي مواجهة الأخطار المترتبة على تلك الآليات تحديدًا، يطرح بريخت منهجه في التغريب. فبريخت كان يطلب من براندو أن «يُظهِر» سذاجته؛ لكي يجعلنا نفهم أنه رغم أننا قد نتعاطف مع محنته، فإن الأهم من ذلك هو أن نَعِي أسبابها وطرق علاجها.

«أسطوريات»/«برج إيفل»

ثمة ثلاثة دروس أساسية يجدها بارت في أعمال بريخت؛ أولًا: ينظر بريخت إلى المسرح (ومن ثم إلى الأدب) من منطلق معرفي وليس عاطفي، ومن ثَم يؤكد على آليات إنتاج الدلالة. فهو يتحدى فكرة العرض الموحد، ويوضِّح لبارت «أنه يمكن فصل شفرات التعبير إحداها عن الأخرى، وتخليصها من الوحدة العضوية اللزجة التي حَبَسها فيها المسرح الغربي» («الصورة، الموسيقا، النص»). «إن مسئولية الفن الدرامي لا تتمثل في التعبير عن الواقع بقدر ما تتمثل في الدلالة عليه» («مقالات نقدية»). فلا ينبغي أن تسعى الديكورات، والأزياء، والإيماءات إلى أن تكون «معبِّرة بطريقة طبيعية.» فالدلالة على جيش باستخدام بضع رايات، أفضل من التعبير عنه باستخدام آلاف المجاميع.

ثانيًا: ينبغي أن يستغل المسرح اعتباطية العلامة، وأن يلفت الانتباه لصنعته الخاصة بدلًا من محاولة إخفائها. تلك هي النسخة البارتية من مبدأ «التغريب» البريختي. فالممثلون والممثلات الذين يؤدون عملًا لراسين ينبغي أن ينطقوا جُمَلَهم الحوارية باعتبارها أبياتًا شعرية بدلًا من أن يحاولوا جعل هذه اللغة الشكلية، المحكمة البناء، تبدو كأنها تعبير طبيعي عن حالات نفسية. يستشهد بارت بفكرة بريخت أنه ينبغي للممثل أن ينطق كلمات الدور الذي يلعبه، ليس كأنه يعيشه ويرتجله، بل ﮐ «اقتباسات». إنه معجب بمجموعة من الممارسات المسرحية المصطنعة بلا خجل، بدايةً من عروض مصارعة المحترفين التي وصفها في «أسطوريات» وحتى مسرح «الكابوكي» ومسرح «بونراكو» للعرائس في اليابان اللذين احتَفَى بهما في «إمبراطورية العلامات». وهو يوضح أن ثمة إمكانية سياسية لتبديد الأوهام في أي عمل درامي يستغني عن مسرح الشخصيات والحالات النفسية الباطنية لصالح مسرح مواقف وسطوح. فالممثلون والكُتَّاب والمنتجون عليهم أن يَعُوا شعار بريخت المفضل: أتقدم مشيرًا إلى قناعي.

ثالثًا: «يؤكد بريخت على المعنى لكن دون أن يملأه» («مقالات نقدية»). فتقنيات التغريب التي ابتكرها مصمَّمة لإنتاج «مسرح وعي، وليس مسرح فعل.» أو، لكي نكون أكثر دقة، مسرح «وعي باللاوعي، وعي باللاوعي السائد على خشبة المسرح، هذا هو مسرح بريخت»، يقود الجمهور إلى الوعي بالمشكلات لكن دون طرح حلول لها بطريقة دعائية. وحتى إن كان هذا لا ينطبق على مسرح بريخت، فهو البرنامج الذي يدافع عنه بارت في مجال الأدب، والذي لا ينبغي أن يسعى إلى إخبارنا بما تعنيه الأشياء بل إلى لفت انتباهنا لطرق إنتاج المعنى. ويصوغ بارت هذه الرؤية عندما يكتب عن المسرح، بلغة قوامها عدد من التعارضات الأساسية: السطح مقابل العمق، الخارج مقابل الداخل، الخفة مقابل الثقل، العلامة مقابل الواقع، المسافة النقدية مقابل التوحد العاطفي، القناع مقابل الشخصية، الانقطاع مقابل الاستمرارية، الخواء أو الغموض مقابل امتلاء المعنى، الاصطناعية مقابل الطبيعية. هل بإمكان الفاعلية السياسية أن تكون ذات لمسة خفيفة؟ تلك هي الإمكانية التي يبدو أن بريخت يقدمها لنا.

وفي ذات الوقت الذي «شبَّ حريق» في جسده بفعل بريخت، أصبح بارت نصيرًا متحمسًا للروائي آلان روب جرييه، الذي خصص له أربع مقالات في «مقالات نقدية». ويقول بارت: «إن ما كان يفتنني طَوَالَ حياتي هي الطريقة التي يستخدمها البَشَر لجعْل عالَمهم قابلًا للفهم.» وتستكشف روايات روب جرييه هذه العملية من خلال القيام بمحاولة بطولية، لكن مستحيلة، لمحو المعنى، ومن ثَم لفت انتباهنا إلى الطرق التي اعتَدْنا استخدامها لجعل الأشياء قابلة للفهم. وقد ذهب بارت في «الدرجة صفر» إلى أن تبنِّي كتابة ما — «طريقة لتصور الأدب»، «استخدام اجتماعي لشكل أدبي» — له نتائج ضمنية سياسية وأن التجريب الشكلي قد يكون نمط التزام، كما في المحاولة لكتابة أدب مناهِض للأدبية وإنجاز كتابة من الدرجة صفر. إن تمرد كامو ضد الأدب لم يمضِ بعيدًا؛ ذلك لأنه جعل من خلو العالم من المعنى «تيمة»؛ فالأشياء لا تزال تحمل معنًى؛ إذ إنها تدل على «العبث»، وهو الاسم الذي سرعان ما أطْلَقَه القراء والنقاد على كتابته. أما روب جرييه فقد بدا لبارت أنه يحاول القيام بشيء أكثر جذرية، في محاولته لتفريغ المعنى أو تعليقه عن طريق إحباط افتراضاتنا عن المعقولية وقطع الطريق على تحركاتنا التفسيرية المعتادة. إن ما تحفِل به رواياته من وصْف تفصيلي، عديم السبب، وشخصيات فارغة، وحبكات ملتبسة، يجعلها تبدو للوهلة الأولى غير قابلة للقراءة؛ أي مستغلقة وفقًا للافتراضات التقليدية عن الروايات والعالم؛ لكن بارت يرى في «رفضه للقصة، والحدوتة، وسيكولوجية الدوافع، ودلالة الأشياء» مساءلة قوية لطرقنا في تنظيم خبراتنا الحياتية.

وحيث إن … الأشياء مدفونة تحت المعاني المصنفة، وهي التي يستخدمها البشر، من خلال الإدراك، والشِّعر، والاستخدامات المختلفة في خلع المعنى على كل شيء، فإن عمل الروائي يكون ذا طابع تطهيري بمعنًى ما؛ فهو ينقي الأشياءَ من فائض المعنى الذي يخلعه عليها البشر دونما انقطاع. كيف هذا؟ من الواضح أن ذلك يتم عن طريق الوصف. وهكذا ينتج روب جرييه وصفًا للأشياء يكون هندسيًّا بما يكفي لتثبيط أي محاولة لاستنباط معنًى شعريٍّ، ومفصلًا بما يكفي لكسر سحر السرد.

«مقالات نقدية»

يؤكد هذا المقطع على أمرين؛ أولًا: ينظر بارت إلى كتابات روب جرييه، بما تتضمنه من وصف يحول دون استنباط معنًى، باعتبارها نصوصًا تتألف بكاملها من سطوح. لقد شكَّل العمق الداخلي، تقليديًّا، مجال عمل الرواية، التي تحاول الغوص في أعماق الشخصيات والمجتمعات، بغيةَ الوصول إلى عناصرها الأساسية، ثم اختيار التفاصيل بناءً على ذلك. ومن ثم فإن قراء روب جرييه الذين يحاولون تصور سيكولوجية ودوافع الشخصيات وتفسير التفاصيل لا يتوصلون إلى فهم عميق لنصوصه؛ وفي أفضل الأحوال يجعلون منها أشياء مبتذلة.

وثانيًا: يُثنِي بارت على روب جرييه لكونه يتبنَّى كتابةً «تكسر سحر السرد»، فالروايات تحتوي عادةً على قصص، وقراءة الرواية معناها تتبع خيط قصصي من نوع ما. بيد أن بارت يفاجئنا بأنه لا يُعِير القصةَ أي اهتمام، فهو معجب بديدرو، وبريخت، وأيزنشتاين، على سبيل المثال؛ لأن كلًّا منهم يفضِّل المشهد على القصة، واللوحة الدرامية على التطور السردي. إنه يحب الشذرات ويبتكر طرقًا لتفتيت الأعمال الأدبية ذات الاستمرارية السردية. لكنه وجد في روايات روب جرييه نصوصًا تقاوم التنظيم السردي. فغالبًا ما يكون من الصعب جدًّا تجميع الشذرات معًا لبناء قصة، ولمعرفة «ما يحدث بالفعل» والتمييز بين الذكريات، والهلاوس، وتدخلات السارد على سبيل المثال؛ ومن ثم، فإن القارئ الذي يُجاهِد لبناء حكاية ما يكتسب وعيًا بمقتضيات التنظيم السردي، لكن عندما ينجح بالفعل في تكوين سردية ما، فإنه يتجاهَل بذلك ما تتضمنه الكتابة من تحدٍّ للسرد ويخطئ الهدف.

هاتان الاستراتيجيتان؛ إلغاء العمق وخلخلة السرد، هما ما يثيران اهتمام بارت بوجه خاص. ومقالتاه المبكرتان — «الأدب الموضوعي» و«الأدب الحرفي» — اجتهدتا كثيرًا للترويج لفكرة روب جرييه الشيئي؛ المكرس قبل كل شيء للوصف الموضوعي اللاإنساني، للأشياء التي توجد ببساطة «هناك». لكن مع ازدياد أُلفة الجمهور برواياته، أصبح من الواضح أنه بإمكانهم، خاصةً عن طريق تخيل وجود سارد، فهمها وامتلاكها مجددًا باعتبارها أدبًا. ومن ثم، فإن أكثر الأوصاف ميكانيكية، وأكثر التكرارات أو الفجوات إرباكًا، تصبح مفهومةً عندما ينُظر إليها باعتبارها أفكار سارد مشوش العقل. فرواية «في المتاهة» يمكن قراءتها باعتبارها خطاب سارد يُعانِي من فقدان الذاكرة. وبدلًا من «الأدب الموضوعي» يكون لدينا أدب ذاتي، تَجرِي وقائعه بالكامل داخل عقل سارد مختلٍّ.

عندما طُلب من بارت أن يكتب مقدمةً لكتاب عن روب جرييه ارتكب مؤلفه بالضبط كل ما حذَّرتْ مقالات بارت منه، مثل إعادة بناء الحبكات، وافتراض وجود سارد، وتحديد أنماط رمزية وتقديم تفسيرات موضوعاتية؛ اتخذ بارت موقفًا جديدًا، فقد ذهب في «نقطة بشأن روب جرييه» إلى أن هناك نسختين من روب جرييه؛ فمن ناحية، هناك روب جرييه الموضوعي، ومن ناحية أخرى، هناك روب جرييه الإنساني، أو الذاتي. ويمكن قراءته بأيٍّ من الطريقتين، «ففي النهاية، هذا الالتباس هو المهم، هو ما يعنينا، وهو الذي يحمل المعنى التاريخي لمجمل أعمال مؤلف تبدو أنها ترفض التاريخ رفضًا باتًّا. ما هذا المعنى؟ إنه النقيض التام للمعنى؛ أي «سؤال». ما الدلالة التي تحملها الأشياء؟ ما الدلالة التي يحملها العالم؟» («مقالات نقدية»). «إن أعمال روب جرييه تصبح محنة للمعنى كما يفهمه مجتمع معين.» ويتبدَّى هذا في التغير الذي يطرأ على طريقة هذا المجتمع في التعاطي مع المعنى.

خلافًا لما يَعتَقِده كثيرون، لا تتمثَّل مهمة الأدب، كما كتب بارت في تصديره لكتاب «مقالات نقدية»، في التعبير عمَّا لا يمكن التعبير عنه؛ فهذا سيكون «أدبًا للروح» كما يسميه بارت بازدراء. بالأحرى، ينبغي أن يسعى الأدب إلى «نزع التعبير عما يمكن التعبير عنه»، وأشكلة المعاني التي نسبغها على الأشياء أو نفترض وجودها بصورة تلقائية. ومن ثَم يُعد روب جرييه حالةً نموذجية بالنسبة إلى بارت، والمقالات التي جمعها فيما بعدُ في كتاب «سوليرز كاتبًا»، تسند إلى فيليب سوليرز — وهو مبدع آخر في مجال النثر الطليعي — الدور نفسه المتمثل في محاولة «محو كتابة» العالم كما هو مكتوب أو مُدوَّن في خطابات سابقة. فالكاتب يناضل «لكي ينتزع لغةً ثانوية من حمأة اللغات الأولية التي يقدِّمها له العالم» («مقالات نقدية»). هذه اللغة — التي قد تكون مرتَّبةً، وقد تكون أنيقةً — يتخيلها بارت نظيفة وخفيفة، غير ممتلئة بالمعنى ولا تنوء تحت وطأته.

إن أخلاقيات اللغة تلك، ذات الأهمية المحورية في دفاع بارت عن الطليعة، قد تساعدنا في فهم سمة محيرة في كتاباته النقدية. فرغم رحابة ذائقته الأدبية — التي تشمل مؤلفين معاصرين ومؤلفين من الطراز القديم، ذوي أسلوب مقتضب وذوي أسلوب متدفق — فإنه لا يُبدِي أي اهتمام بالشعر. فهو لم يكتب قط عن الشعر، باستثناء راسين، الذي نادرًا ما يستوقفه شعره. ورغم أنه لا توجد نظرية شاملة تفسر إهماله هذا للشعر، فإن هناك العديد من الملاحظات العابرة، ويمكن للفصل الذي يحمل عنوان «هل هناك كتابة شعرية؟» في كتاب «الدرجة صفر» أن يلقيَ بعض الضوء على هذا الصمت المحير.

ثمة ملاحظات عديدة توحي بأن بارت يربط الشعر بالرموز، وامتلاء المعنى، وبمحاولات خلق علامات مُسبَّبَة وليست اعتباطية، ومن ثَم يرى فيه سمة الأدبية التي يحاول أبطال مثل بريخت، وروب جرييه، وسوليرز محاربتها. ومع ذلك، يأخذ بارت في «الدرجة صفر» خطًّا مختلفًا؛ حيث يذهب إلى أنه لا وجود ﻟ «الكتابة الشعرية»؛ ذلك لأن الشعر الكلاسيكي لا يعتمد على أي استخدام خاص للغة (فهو جزء من الكتابة الكلاسيكية الأشمل)، من ناحية، والشعر الحديث «لغة تتسم بميل عنيف للاستقلالية يقضي على أي رهان أخلاقي»، من ناحية أخرى. قد نتوقع أن نراه متحمسًا لما أسماه «خطابًا مليئًا بالفجوات والالتماعات، مليئًا بالغيابات والعلامات الشَّرِهة دون أي غايات ثابتة أو مستقرة.» غير أنه يمضي في الكتابة عن محاولات الشعر الحديث لتدمير اللغة واختزال الخطاب إلى «كلمات باعتبارها أشياء ساكنة.» كما يزعم في «أسطوريات» أن الشعر يسعى إلى بلوغ حالة ما قبل سيميوطيقية يستطيع من خلالها إبراز الشيء في ذاته.

وحيث إن بارت لا يُبدي أي ميل للاعتقاد بأن الشعر يقدم واقعًا مباشرًا بلا وساطة، وحيث إن الطموحات المشكوك في أمرها التي ينسبها للشعر تبدو شبيهة بطموحات روب جرييه «الشيئي»؛ فإن المرء يَمِيل إلى افتراض وجود شيء آخر، وأن ثمة قوًى أخرى في ممارسة بارت النقدية تَقِف وراء هذا الإهمال للشعر. ورغم أن «الدرجة صفر» ينحِّي الشعر جانبًا من خلال إنكار وجود «كتابة شعرية»، يمكننا أن نذهب إلى أن هناك بالفعل «كتابة شعرية» وأن معاني الثراء والكثافة وعمق المعنى التي تتضمَّنها هي من القوة بحيث تثبِّط أشد المحاولات صرامةً لإنتاج شعر مضاد للشعرية. فعندما نقرأ جملةً مثل «بالأمس ذهبتُ إلى المدينة وابتعتُ مصباحًا» باعتبارها شعرًا، فإننا نعوِّل على شفرات رمزية (الإضاءة، التجارة)، وافتراضات عُرفية عن المعنى من أجل خلق احتمالات ثرية للدلالة. (في حالة إذا ما كانت القصيدة تتكون من هذه الجملة المقتضبة فحسب، يمكننا العثور على معنًى في ظل غياب أي جُمَل أخرى.) وفي «إمبراطورية العلامات»، يكتب بارت أن الإنسان الغربي يَجِد في شعر الهايكو شكلًا أدبيًّا مغريًا؛ لأن بإمكانك تسجيل انطباع واحد لا غير «وأيًّا ما تكن جملتك، فإنها ستصوغ درسًا، وتحمل رمزًا، وستكون أنت شخصًا عميقًا، بكل سهولة، وكتابتك مليئة بالمعنى.» إن «كتابتنا الشعرية»، نحن الغربيين، تخلق إيحاءً بالوفرة الرمزية وتجعلنا نقرأ قصائد الهايكو على هذا الأساس (في حين يتصور بارت أن في اليابان اليوتوبيَّة التي يتصوَّرها تظَلُّ تلك القصائد خالية من المعنى). فمن الصعب على الإنسان الغربي الهرب من امتلاء الدلالة التي يتسم بها الشعر، في حين أن ضغط المعاني الرمزية تقلُّ وطأته في الأشكال النثرية المطوَّلة. ومن خلال استبعاد الشعر من كتاباته النقدية، يحاول بارت تخليص الشعر من ثراء المعنى الذي يقترن به.

fig6
شكل ٤-٢: بارت ممسكًا السيجار.

كذلك، فإن بارت يجعل من الشعر كبش فداء بطريقة أخرى؛ حيث يقول في ختام «أسطوريات»: «الشعر كما أفهمه، بطريقة شديدة العمومية، هو البحث عن معانٍ ثابتة للأشياء يستحيل تجريدها منها.» فهو يسمح للشعر أن يمثل له بطريقة أسطورية السعي لبلوغ طبيعة أو حقيقة ما قبل سيميوطيقية، بحيث يغدو بالإمكان طرد هذا المشروع من نطاق الأدب عن طريق تنحية الشعر جانبًا. يُمَيِّز سارتر في «ما الأدب؟» بين الشعر (اللعب باللغة) والنثر (استخدام اللغة لمناقشة أمور العالم)؛ بحيث يمكن إسقاط الألعاب اللغوية من الاعتبار عبر تجاهل الشعر. وفي حين أن منطلقات بارت في هذا الصدد مختلفة تمام الاختلاف — فالنثر بالنسبة إليه تجارب تُجرَى على اللغة، في حين يسعى الشعر لتجاوز اللغة أو تحطيمها — فإنه منخرط بنيويًّا في العملية ذاتها؛ فمِن خلال قيامه بمحاولة تحوطها الشكوك لإلصاق سمة أدبية عامة بالشعر حصرًا، فإنه يستطيع تجاهل هذه الخاصية بعزوفه عن التطرق للشعر.

ويبقى عامل واحد. في محاضرته الافتتاحية في كوليج دو فرانس، قال بارت: «الأدب بالنسبة إليَّ ليس مجموعة أو سلسلة أعمال، ولا حتى مجالًا تجاريًّا أو ميدانًا تثقيفيًّا، إنما هو تدوين معقَّد لآثار ممارسة: ممارسة الكتابة» («محاضرات»). وإذ يُولِي بارت اهتمامه للممارسات الكتابية بدلًا من الأشكال المكتملة، فإنه يَمِيل إلى إهمال السوناتا، على سبيل المثال، لصالح كتابات نثرية مطوَّلة يمكنه أن يقتطع منها كما يحلو له، ليُبدِع شذراتٍ يمكن حشدها في خطابه النقدي. فهو لا يستجلي أشكالًا كتابية محكمة البناء بل يحتفي بفعالية سيميوطيقية، وهذا بلا شك السبب في أن العديد من كتاباته عن الأدب تتخذ أشكالًا غير تقليدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤