الفصل السابع

البنيوي

الإجابة الجاهزة على السؤال: «مَن هو رولان بارت؟» هي: «بنيوي فرنسي.» ورغم أن أعظم معجبي بارت قد يُصِرُّون على أن البنيوية كانت مجرد محطة في مسيرته المهنية المتنوعة، وليست المحطة التي توصَّل فيها، أكثر من غيرها، إلى بلوغ صوته الخاص، فإنها أهم محطاته على الإطلاق؛ إذ إنها منبع تأثيره، ولحظة جنْيِ ثمار مشروعات ومواقف سابقة، ومنصة انطلاق لمغامرات قادمة، وعندما أضحتِ البنيوية مصدرًا للسلطة، استطاع بارت بسهولة أن يبتعد عنها بمسافة سمحت للبعض أن ينظروا إليه باعتباره «ما بعد بنيوي»، وهو ما ترتب عليه خلط كبير؛ ذلك أن ابتكار «ما بعد البنيوية» تطلَّب اختزال البنيوية إلى صورة كاريكاتيرية ضيقة، وجانب كبير مما تم التبشير به باعتباره «ما بعد بنيوي» كان في حقيقة الأمر حاضِرًا بوضوح في الكتابات البنيوية.

في مقال نُشر عام ١٩٦٧ في المُلحَق الأدبي لجريدة «تايمز»، عرَّف بارت البنيوية على أنها طريقة لتحليل المنتجات الثقافية تَجِد منبَعها في مناهج اللغويات («هسهسة اللغة»)، وفي «مقالات نقدية»، يوضح أنه «انكبَّ على سلسلة من التحليلات البنيوية كانت تهدف جميعها إلى تحديد عدد من اللغات غير اللغوية.» فمن خلال معالجتها للظواهر باعتبارها نتاجات لنسق مضمر من القواعد والتمييزات، تستمد البنيوية من اللغويات مبدأين أساسين؛ أولًا: أن الكيانات الدالة لا تمتلك جوهرًا، وإنما تتحدد من خلال شبكة من العلاقات، الداخلية والخارجية على السواء. وثانيًا: أن تفهُّم الظواهر الدالة يعني وصف نسق القواعد الذي يَجعَلها محتملة. فالتفسير البنيوي لا يسعى للبحث عن أسباب أو سوابق تاريخية، بل إلى مناقشة بنية ودلالة موضوعات أو أفعال معينة من خلال ربطها بالنسق الذي تعمل في إطاره.

وعلى ما يبدو، لم يكن في الستينيات سبب يدعو إلى التمييز بين البنيوية والسيميوطيقا. ففي معرض تعريفه «للفعالية البنيوية» في «مقالات نقدية»، يعلن بارت أن «الالتزام الجاد باستخدام مصطلحات الدلالة» كان هو العلامة المميزة للبنيوية، ونصح القراء المهتمين بالانتباه إلى من يستخدمون مصطلحات «دال» و«مدلول»، «التزامن» و«التعاقب»، لكن في النهاية، كان يُنظر إلى السيميوطيقا (أو السيميائية) باعتبارها حقلًا دراسيًّا — لدراسة أنساق العلامات بمختلف أنواعها — في حين استُخدمت كلمة «بنيوية» للإشارة إلى مزاعم وإجراءات الكتابات الفرنسية في الستينيات التي سَعَتْ إلى وصف البِنى المضمرة لمجموعة متنوعة من الأنشطة البشرية. «تهدف الفعالية البنيوية في مجملها» كما يكتب بارت، «سواء كانت تأملية أم شعرية، إلى «إعادة بناء» موضوع ما بهدف إبراز القواعد التي يعمل وفقًا لها.» ويختتم قائلًا: «الجديد في الأمر هو هذا النمط من التفكير (أو «الشعرية») الذي لا يسعى إلى إسناد معانٍ مكتملة إلى الكيانات التي يكتشفها بقدر ما يسعى إلى معرفة كيف يكون المعنى ممكنًا، بأي ثمن، وباستخدام أي وسائل.» وهو يحث طلاب الأدب على:

جعل هدفهم الأخلاقي، ليس فك شفرة معنى عمل أدبي ما، بل إعادة بناء قواعد ومحددات إنتاج هذا المعنى … فالناقد ليس مسئولًا عن إعادة بناء رسالة العمل، بل فقط عن إعادة بناء نسق العمل، تمامًا مثلَما أن عالم اللغويات ليس مسئولًا عن فك شفرة معنى الجملة، وإنما هو مسئول عن توضيح البنية الشكلية التي تسمح بنقل هذا المعنى.

«مقالات نقدية»

ولكي نفهَم الطريقة التي تعمل بها أكثر الأعمال الأدبية إمتاعًا وتجديدًا، علينا أن نعيد بناء أنساق القواعد التي تسعى تلك الأعمال إلى محاكاتها بطريقة ساخرة، أو إلى مقاومتها أو تقويضها.

بالإمكان تمييز أربع سمات للدراسة البنيوية للأدب؛ فأولًا: هناك محاولة لوصف لغة الأدب باستخدام مصطلحات مأخوذة من علم اللغويات، بهدف إبراز خصوصية البِنى الأدبية. فكثيرًا ما يوظِّف بارت مقولاتٍ لغويةً في مناقشته للخطاب الأدبي؛ وهو مهتم بوجه خاص بالتمييز الذي يُقِيمه بنفنيست بين الأشكال اللغوية التي تتضمن نوعًا من الإحالة إلى السياق (ضميرا المتكلم والمخاطَب، تعبيرات مثل: هنا، هناك، الأمس، وبعض أزمنة الفعل)، وتلك التي لا تتضمن أي إحالة. هذا التمييز يساعد بارت في تحليل بعض جوانب التقنية السردية، بيد أنه يستخدم مقاربة انتقائية للغويات لا تسعى إلى إنتاج شروحات لغوية منهجية كما يفعل بعض البنيويين.1

والمشروع الرئيسي الثاني هو تطوير «علم سرد» يهدف إلى إبراز مكونات السرد وتوليفاتها الممكنة في مختلف التقنيات السردية. فاستنادًا إلى أعمال مناصر المدرسة الشكلية الروسي فلاديمير بروب — الذي طور «أجرومية» للقصص الشعبية بهدف وصف أفكارها الأساسية وتوليفاتها المُمكِنة — انصبَّ اهتمام البنيويين الفرنسيين على خصوصية الحبكة، وطرحوا أسئلة حول عناصرها الأساسية، وكيفية التوليف بينها، وحول ماهية البِنى الأولية للحبكة، والطريقة التي يتم بها إنتاج وقع الاكتمال وعدم الاكتمال. وقد كتب بارت مقدمة طويلة لعدد خاص من مجلة «كوميونيكاسيون» حول هذا الموضوع («مقدمة للتحليل البنيوي للسرد» في كتاب «الصورة، الموسيقا، النص»)، كما تؤكد أعماله التالية على دَوْر بِنى الحبكة في تعزيز معقولية الكتابة والآثار التي يمكن أن تترتب عليها خلخلة التوقعات السردية. وقد كتب يقول: من المستحيل إنتاج سرد «دون الإحالة إلى نسق مضمر من الوحدات والقواعد» («الصورة، الموسيقا، النص»)، فقط بالعلاقة مع توقعات سردية اتفاقية يمكن للأبنية السردية أن تتسم بالشطط أو الخداع.

fig10
شكل ٧-١: بارت على مكتبه.

إضافة إلى الدراسة المنهجية للسرد، يسعى البنيويون إلى توضيح كيف أن المعنى يعتمد على شفرات تنتجها الخطابات السابقة لثقافة ما. كان إسهام بارت الأهم في هذا المشروع هو كتابه «ص/ز»، الذي سأناقشه بعد قليل. وأخيرًا، تروج البنيوية لتحليل دور القارئ في إنتاج المعنى والطريقة التي تنتج بها الأعمالُ الأدبية آثارَها من خلال مقاومتها لتوقعات القراء أو التطابق معها، هذه المسألة، التي طرحها بارت في مناقشته لأعمال روب جرييه، تتخذ شكلين اثنين في كتاباته اللاحقة؛ فأولًا: هناك الزعم بأن الكلمات — ومن ثَم الأعمال — تكتسب معنًى فقط من خلال علاقتها بأعراف خطابية وعادات قراءة ينبغي دراستها، إنْ أردنا أن نفهم البنية الأدبية؛ وهكذا يغدو القارئ مهمًّا باعتباره مستودع الأعراف، والوسيط الذي يتولَّى تطبيقها، تركز الشعرية على معقولية العمل وتستحضر القارئ ليس كشخص أو ذات، لكن بوصفه دورًا؛ أي تجسيدًا للشفرات التي تجعل القراءة ممكنة. وقد كتب بارت: «الأنا التي تتناول النص هي كثرة مؤلَّفة من نصوص أخرى، من شفرات لا نهاية لها، أو بصورة أدق، شفرت مفقودة (فُقد أصلها) … فالذات يتم تصورها بوجه عام على أنها امتلاء أُثقِلُ به النص، لكن هذا الامتلاء الزائف هو في حقيقته ليس إلا أثرًا لكل تلك الشفرات التي أتألف أنا منها، بحيث إن ذاتيتي، في التحليل الأخير، لها عمومية الصور النمطية» («ص/ز»). هذا القارئ يظهر أيضًا في زعم ثانٍ مفاده أن أكثر الأعمال الأدبية قيمةً أو إمتاعًا هي أكثرها قوة في تدريب القارئ، وتحدِّيه وشد انتباهه إلى الفعالية التنظيمية للقراءة، «إن ما يراهن عليه العمل الأدبي (في الأدب بوصفه عملًا) هو تحويل القارئ من مستهلِك للنص إلى منتِجٍ له.» لقد قادت البنيوية عملية ظهور القارئ كشخصية محورية في النقد، وإذا كان، كما يقول بارت، «مولد القارئ ينبغي أن يقابله موت المؤلف» الذي لم يَعُد يُنظَر إليه باعتباره مصدر المعنى وصاحب القول الفصل فيه، فإنه على استعداد لدفع هذا الثمن («هسهسة اللغة»).

إن المحاولة البنيوية لفهم الطريقة التي نفهم بها نصًّا ما، تقودنا إلى التفكير في الأدب ليس باعتباره تمثيلًا أو تواصلًا، بل كسلسلة من الأشكال تنتجها مؤسسة الأدب والشفرات الخطابية لثقافة ما. إن التحليل البنيوي لا يسعى إلى اكتشاف معانٍ مستترة؛ فالعمل الأدبي أشبه ببصلة، كما يكتب بارت، «تركيب من طبقات (أو مستويات، أو أنساق)، لا يحتوي جسدها، في النهاية، على قلب، أو نواة، أو سِرٍّ، أو مبدأ غير قابل للاختزال، لا شيء سوى عدد لا نهائي من الأغلفة، والتي لا تُغلِّف شيئًا سوى وحدة سطوحها الخاصة» («هسهسة اللغة»). فالتحليل البنيوي لا ينتج «شرحًا» للنص، لكنه ينطلق من رؤية مبدئية لمحتواه، وينخرط في لعبة الشفرات المسئولة عن توليد المعنى «لإبراز عناصرها، وتصوير تسلسلاتها، وأيضًا لاستشراف شفرات أخرى، سوف تظهر من منظور الشفرات الأولى.»2 وكما يقول في «موت المؤلف»:

في تعددية الكتابة، كل شيء ينبغي «فك قيوده»، لا «فك شفرته»؛ فبالإمكان تتبع البنية، التي «تسري» (مثل خيط في فردة جورب) في كل نقطة وكل مستوًى، لكن دون وجود لشيء تحتها؛ إذ علينا أن نحلق فوق فضاء الكتابة لا أن نخترقه، والكتابة تطرح المعنى بلا انقطاع، وتبدِّده بلا انقطاع، من خلال عملية استبعاد منهجي له. وبهذه الطريقة على وجه التحديد، يعمد الأدب (من الأفضل أن نقول الكتابة، من الآن فصاعدًا)، من خلال رفضه إسناد معنًى «سريٍّ»، ونهائيٍّ، للنص (وللعالم باعتباره نصًّا)، إلى إطلاق العِنان لنشاط يمكننا أن نصفه بأنه مضاد للاهوتية، نشاط ثوري بحق؛ لأن رفض تثبيت معنًى نهائي، هو في النهاية، رفض للإله وأقانيمه؛ العقل والعلم والقانون.

«هسهسة اللغة»
فك خيوط المعنى؛ هذا هو الأسلوب المميز لأكثر تحليلات بارت البنيوية طموحًا ورسوخًا، الذي يحمل العنوان «ص/ز»، وهو عبارة عن تحليل مفصَّل لرواية بلزاك القصيرة «ساراسين»، فمن خلال تفتيته النص إلى شذرات، يضع بارت يده على الشفرات التي تعتمد عليها تلك الشذرات، كل واحدة من تلك الشفرات عبارة عن معرفة ثقافية متراكمة تمكن القارئ من فهم التفاصيل باعتبارها إسهامات في وظيفة أو متتالية معينة. فشفرة «الفعل» عبارة عن سلسلة من نماذج الفعل تساعد القارئ على وضع التفاصيل في متتاليات الحبكة؛ فلأننا نملك صورة نمطية «للوقوع في الحب»، أو «الخطف»، أو «القيام بمهمة خطيرة»، نستطيع أن نضع التفاصيل في أماكنها وننسقها بطريقة مبدئية أثناء القراءة، و«الشفرة التأويلية» تتحكم في الغموض والتشويق، وتساعدنا في التعرف على مَواطن الغموض وترتيب التفاصيل كمساهمات محتملة في التوصل لحلول لها. وتزودنا «شفرة الشخصية» بنماذج نمطية ثقافية (نماذج للشخصية على سبيل المثال) تمكِّن القرَّاء من بناء الشخصيات عن طريق الجمع بين معلومات متفرقة. وتوجِّه «الشفرة الرمزية» عملية استنباط التأويلات الرمزية من التفاصيل النصية. أما ما يسميه بارت «الشفرة المرجعية» فيتم تقسيمها لاحقًا إلى سلاسل من الشفرات الثقافية، وأسهل طريقة لفهمها هو اعتبارها كُتيِّبات إرشادية تزودنا بالمعلومات الثقافية التي تعوِّل عليها النصوص.3 فعندما يكتب بلزاك أن الكونت لانتي «كان كئيبًا كإسباني ومملًّا كمصرفي»، فإنه يعوِّل على صور نمطية ثقافية. وعندما يكتب أنه لدى خروج ساراسين من المسرح الذي شاهد فيه زامبينيلا تُغنِّي، «غَمَرَه حزنٌ لا تفسير له»، فإن نماذجنا الثقافية للترجيح تجعلنا نفهم هذا باعتباره دليلًا على الوَلَه العميق، «ورغم أن هذه الشفرات مستقاة بالكامل من الكتب، فإنها تعمل من خلال عملية قلب مميزة للأيديولوجيا البرجوازية، التي تُحِيل الثقافة إلى طبيعة، كأساس للواقع، و«الحياة»» («ص/ز»).
وإذ يقوم بارت بتحديد الشفرات والتعليق على طريقة عملها في الأدب الكلاسيكي والحداثي، فإنه لا يسعى إلى تأويل «ساراسين» إلا بغرض تحليلها باعتبارها بناءً نصيًّا، نتاجًا لخطابات ثقافية متنوعة. وكما يكتب في «موت المؤلف»: «نحن نعرف الآن أن النص ليس سلسلة من الكلمات تحمل معنًى «لاهوتيًّا» مفردًا («رسالة» مؤلف-الله) وإنما هو فضاء متعدد الأبعاد، فيه تتمازج مجموعة متنوعة من الكتابات، لا تتمتع أيٌّ منها بالأصالة، ويتصادم بعضها ببعض، فالنص نسيج من اقتباسات مستمَدَّة من مصادر ثقافية لا حصر لها» («هسهسة اللغة»). وإذ يُولي انتباهه للعبة الاقتباسات تلك، فإنه يَصِف لنا، على سبيل المثال، الاستراتيجيات الساخرة للأدب المقروء، فمن السهل أن تصبح الشفرات المرجعية مثيرة للضجر بفعل امتثالها:

العلاج الكلاسيكي … هو التعامل معها بطريقة ساخرة من خلال وضع شفرة أخرى فوقها تُفصِح عنها بشيء من الحيادية … فعندما يكتب أن ساراسين «كان يأمل في غرفة شحيحة الإضاءة، منافس غيور، موت وحب … إلخ»، يمزج الخطاب هنا بين ثلاث شفرات متراكبة … توضح «شفرة العاطفة» ما يفترض أنه شعور ساراسين، وتُحول الشفرة «الروائية» هذا «الشعور» إلى أدب؛ فهي شفرة مؤلف ساذج لا يخامره أدنى شك في أن الروائي تعبير عادل (طبيعي) عن العاطفة، أما «الشفرة الساخرة» فتَلتَقِط «سذاجة» الشفرتين الأوليين؛ فعندما يضطلع المؤلف بالحديث عن الشخصية (الشفرة ٢) فإن الساخر يضطلع بالحديث عن المؤلف (الشفرة ٣) … ويكفي للحصول على … معارضة أدبية لبلزاك مؤلفة من مختارات من أعماله أن نأخذ تلك الشفرات المتراكبة خطوة أبعدَ، ما نتيجة تلك العملية؟ من خلال تقدمها المتواصل من مرحلة لأخرى، إلى ما لا نهاية، فإنها تؤسس للكتابة بكل ما تملكه من طاقة.

«ص/ز»
fig11
شكل ٧-٢: حلقة دراسية في الكلية العملية للدراسات العليا، ١٩٧٤.

تسمح الكتابة القرائية للقارئ بتحديد أي الشفرات لها الكلمة الأخيرة (مثلًا، الإشارة الضمنية، «هذه سخرية»)، ومع ذلك، يوظف مؤلف مثل فلوبير:

نبرة ساخرة مترعة بعدم اليقين، ويُضفِي على الكتابة شعورًا إيجابيًّا بعدم الارتياح؛ فهو يرفض أن يكبح لعب الشفرات (أو يفعل ذلك بطريقة سيئة)، والنتيجة (وهذا بلا شك هو الاختبار الحقيقي للكتابة) هي أننا لا نعرف أبدًا إن كان مسئولًا عما يكتبه أم لا (إن كان ثمة ذات وراء لغته)؛ ذلك أن جوهر الكتابة (معنى العمل الذي يشكل أساسها) هو الحيلولة دون الإجابة عن هذا السؤال: مَن الذي يتكلم؟

«ص/ز»
إن ما يقوم به بارت من تفتيت للنص سعيًا وراء الشفرات يمكِّنه من إنجاز قراءة لصيقة، وفي الوقت نفسه مقاومة الافتراض الذي تقوم عليه القراءة اللصيقة الأنجلو-أمريكية بأنه ينبغي توضيح مساهمة كل تفصيلة في تحقيق الوحدة الجمالية للكل. فبدافع من اهتمامه بالخواص «التعددية» للعمل، يرفض بارت البحث عن بنية موحدة شاملة، لكنه يطرح أسئلة حول الطريقة التي تعمل بها التفاصيل، والشفرات التي تنتمي إليها، ويبرهن على براعته في اكتشاف الوظائف.4 فالتفاصيل الوصفية المجانية في ظاهرها، على سبيل المثال، من خلال «إخفاقها في الارتباط بأي شفرة تسهم في تطوير الحبكة، أو توضيح شخصية، أو التشويق، أو توليد معنًى رمزي، تنتج «تأثير الواقع»؛ إذ إنها من خلال مقاومتها للمعنى تخبرنا بأن «هذا هو الواقع».»5

تكمن المفارقة التي ينطوي عليها كتاب «ص/ز» في أن مقولاته تحط صراحةً من شأن الأدب الكلاسيكي المقروء، الذي يُعَدُّ بلزاك رمزًا له، في حين أن التحليل الذي يقدمه يسبغ على رواية بلزاكية قصيرة تعقيدًا قويًّا ومثيرًا، يقوم «ص/ز» على التمييز بين القرائي والكتابي، بين كتابة كلاسيكية تنسجم مع توقعاتنا وكتابة طليعية لا نعرف كيف نقرؤها لكن ينبغي أن نصوغها أثناء قيامنا بفعل القراءة. ورغم إعلانه أن «المكتوب هو القِيمة التي ننحاز لها»، يتناول «ص/ز» قصة قرائية، لكن بدلًا من أن يكشف التحليل عما تتسم به أحداثها من إمكانية توقع مثيرة للضجر، فإنه يفتحها على مصراعيها، ويقدمها باعتبارها تأملًا بارعًا وماكرًا لشفراتها الخاصة وآليات إنتاج الدلالة في ثقافتها، «تمثل ساراسين ما يتسم به التمثيل ذاته من تشوش؛ الدوران المطلق العِنان للعلامات، والأجناس، والحظوظ.» إن ما يتضمنه «ص/ز» من إعلاء لشأن الأدب الطليعي، المقلقِل، من شأنه أن يساعد على خلق مناخ فكري يستطيع فيه عشاق بلزاك أن يحاولوا إنقاذ رواياته من القراءة الكلاسيكية المبجِّلة ومعالجة أعماله باعتبارها كتابة تستكشف إجراءات إنتاج الدلالة الخاصة بها، ويقدم بارت هنا تحليلًا نموذجيًّا في تأثيره؛ فالتحليلات البنيوية التي تقوم، بوجه عام، على التمييز بين أعمال تنسجم مع الأعراف وأعمال تخرق تلك الأعراف، تنتهي إلى اكتشاف ممارسة أدبية جذرية في أكثر المواضع تقليدية، وأبعدها عن التوقع؛ ومن ثَم إلى تقويض فكرة «التاريخ» الأدبي، إضافةً إلى التمييز المبدئي الذي يُقِيمه بارت، ويُعَدُّ هذا أحد الإنجازات الكبرى لبنيوية بارت (وقد يكون الهدف الخفي منها).

إن «ص/ز» هو خلاصة آراء بارت عن الأدب، ونقطة تلاقي عدد من المشروعات التي كثيرًا ما يُنظَر لها على أنها متناقِضة؛ فمن جهة، يكشف الكتاب عن نزوع لغوي علوي وعلمي قوي، إلى تفتيت العمل إلى مكوِّناته، والعنونة والتصنيف بروح عقلانية وعلمية. ومن خلال محاولة بارت توضيح الطريقة التي يَفهَم بها القراء الروايات، فإنه يساهم في الشعرية التي وضع خطوطها الرئيسية في كتاب «نقد وحقيقة»، غير أنه يستهلُّ «ص/ز» بما اعتَبَره هو وآخرون تخلِّيًا عن المشروع البنيوي؛ حيث يؤكد على أنه بدلًا من معالجة العمل الأدبي باعتباره تجلِّيًا لنسق مضمر، فإنه سيسعى لاستكشاف اختلاف العمل عن نفسه؛ مراوغته التي لا يمكن السيطرة عليها، والطريقة التي يتفوق بها على الشفرات التي يبدو أنه يستَنِد إليها، وحقيقة أن «ص/ز» قد اعتُبر مثالًا متطرفًا لكلٍّ من البنيوية وما بعد البنيوية توحي بأنه يتعين علينا النظر إلى هذا التمييز بعين الشك، وعلينا ألَّا ننسى أن المحاولات البنيوية لوصف شفرات الخطاب الأدبي اقترنت، منذ بدايتها المبكرة، بمحاولات استكشاف الطريقة التي تعمل بها الأعمال الطليعية، مثل أعمال روب جرييه، على إبراز تلك الأعراف، وخرقها، ومحاكاتها بطريقة ساخرة.

ثمة تباين، بطبيعة الحال، بين الطموحات العلمية للبنيوية، وبين نسخة ما بعد البنيوية، على سبيل المثال، المسماة «التفكيكية»،6 التي تتميز بسعيها لتوضيح الكيفية التي تعمل بها الخطابات على تقويض الافتراضات الفلسفية التي تعتمد عليها. بيدَ أنه من السهل السقوط في فخ المبالغة في أهمية هذا الفرق. فكثيرًا ما تستعين الكتابات البنيوية بنماذج لغوية من أجل تحويل بؤرة اهتمام التفكير النقدي من الذات إلى الخطاب، من المؤلِّف باعتباره مصدرًا للمعنى إلى أنساق أعراف تعمل داخل الأنساق الخطابية لممارسة اجتماعية ما. يُنظَر إلى المعنى باعتباره أثرًا لعمل الشفرات والأعراف؛ وفي بعض الأحيان أثرًا لخرق الأعراف. ومن أجل وصف تلك الأعراف، تطرح البنيوية مجموعةً متنوعة من العلوم — علم عام للعلامات، علم للأساطير، علم للأدب — باعتبارها أفقًا منهجيًّا لمجموعة متنوعة من المشروعات التحليلية. لكن في إطار كل مشروع منها، يتم التركيز عادة على عدد من الظواهر الإشكالية أو الهامشية التي تساعد على تحديد الأعراف التي تستبعدها، والتي تعتمد قوتها على تلك الأعراف. إن فكرة وجود علم أو «أجرومية» متكاملة للأشكال توفر أفقًا منهجيًّا للأعمال التي تركز عمليًّا على الملحون والجانح، كما في الدراسات الأنثروبولوجية عن التلوث والتابو، أو في دراسات ميشيل فوكو البنيوية عن الجنون والسجن. وبإمكاننا أن نذهب إلى أن فكرة وجود علم شامل تلعب بالنسبة إلى البنيوية الدور نفسه الذي تلعبه فكرة المساءلة الشاملة بالنسبة إلى بعض تيارات ما يُعرَف بما بعد البنيوية. فما من سبيل لتحقيق علم شامل أو مساءلة شاملة، بيد أن كلًّا منهما يمثل أمرًا حتميًّا يُنتِج تحليلات كاشفة حول طريقة عمل الخطاب. إن الفكرة القائلة بأن فكر بارت شهد في «ص/ز» تغييرًا جذريًّا بانتقاله من البنيوية إلى ما بعد البنيوية هي فكرة ساعَد هو نفسه على تعزيزها، بيد أن الاهتمامات التي تضمنها الكتاب كانت حاضرة بوضوح في جميع أعماله السابقة. وما يفوق كل ذلك أهمية هو التحول الذي حدث عندما أعلن بارت أنه مُتعِيٌّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤