مُقدِّمة الطبعة الثانية
الترجمة بين ثقافة الوضع وثقافة الموقف
تقول حكمة صينية: «من لا يقارن لا يعرف.» وإذا كانت المقارنة ضروريةً لتعرف الذاتُ موقعها من الآخر، ووقع خطوها في تفاعلها وتنافسها مع هذا الآخر، ومن أجل بناء نفسها؛ فإنها الآن أكثر ضرورةً في ظِل شرط وجودي عالمي جديد، تداخلت فيه العلاقات بين الأمم والجماعات والأفراد، بحيث يقال: إن الوجود الاجتماعي على الصعيد العالمي وداخل المؤسسات وفيما بينها أضحى وجودًا شبكيًّا، بحيث لا يمكن لمجتمع أن يبني ذاته تأسيسًا على رصيده الذاتي، أو بمعزل عن الآخر، أو عالةً عليه، مستهلكًا للفكر والتكنولوجيا.
لهذا اعتمدت في كتابي على المقارنة لاستبيان حقيقة وضعنا، واخترت الترجمة مؤشرًا على موقفنا من المعرفة؛ لكي نقارن بين حالنا وحال غيرنا ممن يخطون على عتبة عصر جديد يسمى عصر المعلوماتية، أو الثورة المعرفية. عصر يمثِّل طَورًا جديدًا في سُلم التطور الارتقائي للبشرية، يكاد يماثل مرحلة اختراع الكتابة، وستكون له تجلياته الفيزيقية والعصبية والنفسية والاجتماعية. طَور ربما يكون حدًّا فاصلًا بين نوعَين من البشر، بحيث يُخلف وراءه من هم أدنى مستوًى، وأعجز عن المُلاحقة والتكيف.
والمجتمعات — أو لنقل الثقافات الاجتماعية — في رأيي صنفان، والتصنيف ليس قدرًا أبديًّا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار؛ أقول صنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف.
ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخي الموروث. والمعرفة عندها — أو قل العلم الأسمى — لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد، وأقوال الأولين، والأمل عود على بدء، ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد. والزمان امتداد متجانس، فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم فهو بداية التاريخ وغايته.
وثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار عزم على التغيير والتجديد، وفهم مجريات الأحداث والظواهر، وتراكم متجدِّد متطور لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثم تطور وارتقاء مطرد للهُوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هُوية مجهولة في غيابات التاريخ.
ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادة من خارجها. وثقافة الموقف تخوض غمار لُجَج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب، تأسيسًا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.
نتحدث عن تراثنا التاريخي في الترجمة باعتزاز، وننسى أن نقارن، وننسى الفعل الاجتماعي، وننسى الإنسان. الفعل هو الوجود الاجتماعي المشروع، أو هو أساس شرعية الوجود، والإنسان هو الغاية والهدف والشهادة على هذا الوجود.
تراثنا التاريخي في الترجمة يؤكد أن ما كان في لحظة من الزمان كان عظيمًا بكل مقاييس زمانه، ولكنه مضى مثل سحابة صيف. ولم نسأل: لماذا؟ وتراثنا التاريخي في الترجمة يشير إلى أن جملةَ ما تُرجِم على مدى أربعة عشر قرنًا لا يتجاوز عشرة آلاف كتاب. ولا نسأل: لماذا؟ ولا: كيف يستقيم هذا مع العظمة التي نزهو بها على امتداد قرون الخَواء الفكري أو الأنوميا الاجتماعية؟ تراثنا التاريخي في الترجمة يؤكد أنه بعد أن انقشعت سحابة الصيف كفت المجتمعات العربية عن الأخذ وعن العطاء في إطار المعرفة والفكر والإبداع. وعاشت مع تراث فكري مكرور غلَّفته أساطير، ووجود اجتماعي ثقافي متجانس. وكفت عن الفعل الاجتماعي الإنتاجي الإبداعي، وانعكس هذا في العلوم والفكر واللغة.
ظلت المجتمعات العربية حبيسة ثقافتها التقليدية إلى أن حلَّ القرن التاسع عشر، وظهرت مصر على ساحة الفعل الاجتماعي أو النهضة والتحديث. واقترن هذا بنشاط فكري وعلمي وتعليمي، وأضحت الترجمة أساسًا متكاملًا مع هذا النشاط الاجتماعي الهادف. وظهرت أيضًا «متصرفية لبنان» التي كانت رائدةً في مقاومة التتريك، وتأكيد دور اللغة العربية والترجمة إليها. وتراوح نشاط الترجمة بين صعود وهبوط في اتساقٍ مع حركة الفعل الاجتماعي التجديدي النهضوي.
وبعد أن انتصف القرن العشرين، ومع تصفية الاستعمار، واكتشاف النفط، ظهرت المجتمعات العربية دولًا ذات كِيانات مستقلة، وبزغت حركات ترجمة وليدة وناهضة في عدد منها، بينما لا يزال البعض الآخر بغير اسم على خريطة النشر. وجدير بنا الإشادة بدور لبنان والكويت.
والكتاب دراسة نقدية مقارنة، لسبر غور حياتنا الثقافة والفكرية، من خلال مؤشر الترجمة وواقع حالها، مع مقارنة بالآخرين في مسيرتهم الحضارية. ودعوت إلى أن نقرأه وعيوننا على المستقبل وتحدياته، وليس على الماضي فقط، حتى لا نخطئ التمييز بين تحول حضري بلغناه بفضل إنتاج الغير، وتحول حضاري أخطأنا الوعي بأسسه.
وحاولت أن نرى صورتنا من خلال الآخر ومقارنةً به، لا تمجيدًا له، وإنما استنفارًا لقوى التحدي الكامنة عند أُولي العزم.
والكتاب يقول: إن موقفنا من الترجمة هو تعبير عن موقفنا من المعرفة إنتاجًا إبداعيًّا، وتحصيلًا لها من كل مصادرها المتعددة المتباينة، والتزامًا بمنهجية الإنتاج والتحصيل في ضوء عقل ناقد. ويقول الكتاب من واقع الإحصاءات: إننا منصرفون عن القراءة، وعن المعرفة الحضارية العلمية المعاصرة، وإننا لا نزال نعيش عصر الشفاهة. ركونًا إلى وجود فرد له الهيمنة حاضرًا، أو من ماضيه البعيد، نظن به الحكمة المتفردة، وامتلاك ناصية المعرفة، فيه الكفاية، وله الأمر، وتعطيل لفكر الإنسان العام.
والكتاب يقول: إن شروطًا وجودية تحكم حياتنا الثقافية صرفتنا عن الإنتاج المعلوماتي، والإبداع الفكري، والتنسيق المعرفي، ووأدت فينا الفضول والنهم لتحصيل معارف الآخرين، واكتساب أسباب وأُسس الحضارة وتوطينها. وبتنا نعيش عيالًا على الآخر في إنتاجه الثقافي والمعرفي، مستهلكين تابعين؛ ولذلك لسنا طرفًا في حوار أو صراع الحضارات.
وتعطلت أو انحسرت الترجمة كنشاط اجتماعي، وهي إحدى أدوات تمكين المجتمع من التفاعل مع الجديد في العلوم والفنون والإنسانيات قرينة الإبداع المحلي، ولكننا نصرخ من موقع الضعف والخَواء. الغزو الثقافي يتهدد الهُوية، بينما الهُوية ليست: من أكون؟ بل: ماذا أفعل؟ ليست الهُوية ذكرى ماضٍ تاريخي، بل انخراط إيجابي في الفعل الحضاري. والترجمة قوة تحرير، وأداة تمكين، وشرط للاستقلال، وليست أبدًا عونًا لغزو فكري حين يتلقاها عقل فاعل ناقد.
تُفيد الإحصاءات الواردة في الكتاب أن البلدان العربية تحتلُّ موقعًا شديد التدني، ليس فقط بالنسبة لدول المركز المنتجة مرحليًّا للمعارف، بل وبالنسبة لبلدان الأطراف المجاهدة لاحتلال موقع متقدم على صعيد التحدي الحضاري. العالم العربي كله وتعداده يناهز ۲۷۰ مليونًا يُترجم ما لا يزيد عن ٤٥٠ عنوانًا، وانخفض إلى أقل من ذلك بعد أن كفَّ العراق عن الفعل إثر الاحتلال الأمريكي. والملاحظ أنه من بين هذا العدد لا تحتل العلوم، ولا تحتل الكتب التي تصوغ عقلًا علميًّا وعلمانيًّا، إلا نسبةً ضئيلة جدًّا، تصل عند الدول العربية المنتجة للترجمة إلى ٢٫٥ بالمائة. هذا بينما إسبانيا وتعدادها ۳۸ مليون نسمة تُترجم أكثر من عشرة آلاف عنوان سنويًّا، وتُترجم السويد وتعدادها ٩ ملايين نسمة ۲٥۰۰ عنوان سنويًّا، منها ألف عنوان تقريبًا أعمال أدبية، وألف عنوان دراسات غير أدبية؛ أي علمية، و٥۰۰ عنوان من كتب الأطفال (تتس روك: المستعرب والمترجم والأستاذ بجامعة أوسلو السويد). وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية تُترجم تراث البلدان الأخرى لتكون هي بنك أو مصدر المعلومات للعالم، وفق الصياغة الأيديولوجية التي تراها هي، ومن ذلك كتبٌ عن الطب في مصر الفرعونية، وعن التراث الإسلامي.
وأشار الكتاب إلى جهود اليابان التي وصلت بها إلى ما هي عليه الآن.
عمدت اليابان، منذ مطلع القرن، إلى الاتفاق مع أهم دور النشر العالمية لترجمة أعمالها، وصدورها باللغة اليابانية في ذات الوقت الذي تصدر فيه بلغتها الأصلية. وكانت اليابان تُترجم في مطلع القرن أكثر من ۱۷۰۰ عنوان في السنة، ويتجاوز العدد الآن ٣٥ ألف عنوان. إنه نهَم التحصيل لإنجازات العصر. ولم تفقد اليابان هُويتها، بل تعزَّزت.
ويشير الكتاب إلى أن إنتاج إسرائيل في الترجمة يعادل إجمالي إنتاج البلدان العربية، هذا على الرغم من أن المجتمع الإسرائيلي متعدد الألسنة، إضافةً إلى العبرية. وأسست إسرائيل عام ۱۹٥۹م برنامجًا للترجمة العلمية تُنفِّذه مؤسسة هي أكبر مؤسسة حكومية متخصصة ضمَّت عام ۱۹٦۷م عدد ۲٥۰ مترجمًا متفرغًا، و١٤٤٠ مترجمًا متعاونًا من الخارج (د. صفاء محمود عبد العال، التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة ۲۰۰۲م).
وحتى نقرن هذا بإصدارات الكتب تأليفًا وترجمة، ونَصيب الفرد منها؛ نجد الآتي:
إصدارات الكتب لكل مليون في أوروبا عام ۱۹۹۱م هي ۸۰۲ عنوان.
إصدارات الكتب لكل مليون في العالم العربي عام ۱۹۹۱م هي ۲۹ عنوانًا. المشكلة هي كتاب وقارئ.
ويدعو الكتاب إلى تعريب نشاط الترجمة على الرغم من ضآلته.
وأعني بذلك أن يكون المنطَلَق عربيًّا نهضويًّا في إطار استراتيجية قومية للتطوير الحضاري، شاملة كل مناحي الحياة؛ إذ الملاحَظ أن قدرًا كبيرًا من نشاط الترجمة إنما تديره وتنظِّمه وتموِّله مؤسسات دبلوماسية أجنبية، وما عداه نشاط عَفْوي لا يخضع لخطة.
مرةً أخرى الفجوة بيننا وبين العالم المتقدم فجوة معرفية حضارية؛ أعني فعالية اجتماعية على صعيد حضارة العصر، في إبداع وإنتاج المعارف وتوظيفها. وأضحت الهُوَّة أكثر اتساعًا مع الثورة العلمية التكنولوجية التي تقتضي إعادة تشكيل الأساس المادي للمجتمعات، وبناء الإنسان. العصر الجديد يتميز بتسارع تكثيف وتراكم إنتاج المعلومات، تأسيسًا على تكنولوجيا توليد المعرفة، ومعالجة المعلومات، والاتصال الرمزي. وهنا المعلومات قوة منتجة للمعلومات والمعارف، مع مزيد من التعقد في معالجة المعلومات.
إن قوةً عُظمى سقطت؛ لأنها عجزت عن دخول عصر المعلوماتية، ليس فقط من حيث الإنتاج والتوظيف، بل من حيث القيم، وإعادة تشكيل البِنية الدينامية، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقة مع السلطة، ودور الإنسان العام. ومن أهم هذه القيم ثقافة الحرية والابتكار، وثقافة إدارة جديدة لعلاقات المجتمع. ولعل مسألة إعادة هيكلة النظام الرأسمالي هي وجه لمخاض أزمة ميلاد جديد في الغرب.
لهذا كان الفصل الختامي من الكتاب دعوةً إلى إنشاء مؤسسة عربية للترجمة تتضافر فيها الجهود. وأن تكون هذه المؤسسة دِعامةً من دِعامات بِنية متكاملة لاستراتيجية تحول حضاري شامل لكل مجالات الحياة؛ العلم المؤسسي، والتعليم، والإعلام، والسياسة، والتنشئة الاجتماعية … إلخ، وهذه دعوة قديمة دعت إليها جامعة الدول العربية، ولم ترَ النور؛ لغياب فعل التحول الحضاري الشامل. وأرى أن تنطلق الدعوة من جديد، وتظل مفتوحةً لكل مَن آمن بالخط العام للتطوير الحضاري.